الباحث القرآني

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ الْآيَةَ. وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا التَّنْبِيهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ ظُلْمَ الْيَهُودِ، وَنَقْضَهُمُ الْمَوَاثِيقَ وَالْعُهُودَ كَظُلْمِ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ. الْمَعْنَى: إِنْ هَمَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ بِالْفَتْكِ بِكَ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ قَتَلُوا قَبْلَكَ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ، وَالشَّرُّ قَدِيمٌ أَيْ ذَكِّرْهُمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَهِيَ قِصَّةُ صِدْقٍ، لَا كَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لِمَنْ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ. وَاخْتُلِفَ فِي ابْنَيْ آدَمَ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَا لِصُلْبِهِ، كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- ضَرَبَ اللَّهُ بِهِمَا الْمَثَلَ فِي إِبَانَةِ حَسَدِ الْيَهُودِ- وَكَانَ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ، فَتَقَرَّبَا بِقُرْبَانَيْنِ وَلَمْ تَكُنِ الْقَرَابِينُ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا وَهْمٌ، وَكَيْفَ يَجْهَلُ صُورَةَ الدَّفْنِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَقْتَدِيَ بِالْغُرَابِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا ابْنَاهُ لِصُلْبِهِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا، وَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ، وَكَانَ قُرْبَانُ قَابِيلَ حزمة من سنبل- لأنه كان صَاحِبَ زَرْعٍ- وَاخْتَارَهَا مِنْ أَرْدَأِ زَرْعِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً طَيِّبَةً فَفَرَكَهَا وَأَكَلَهَا. وَكَانَ قُرْبَانُ هَابِيلَ كَبْشًا- لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ غَنَمٍ- أَخَذَهُ مِنْ أَجْوَدِ غَنَمِهِ. "فَتُقُبِّلَ" فَرُفِعَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَرْعَى فِيهَا إِلَى أَنْ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ. فَلَمَّا تُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا- قَالَ لَهُ قَابِيلُ حسدا: أنه كَانَ كَافِرًا- أَتَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ يَرَاكَ النَّاسُ أَفْضَلَ مِنِّي! "لَأَقْتُلَنَّكَ" وَقِيلَ: سَبَبُ هَذَا الْقُرْبَانِ أَنَّ حَوَّاءَ عَلَيْهَا السَّلَامُ كَانَتْ تَلِدُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرًا وَأُنْثَى- إِلَّا شِيثَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهَا وَلَدَتْهُ مُنْفَرِدًا عِوَضًا مِنْ هَابِيلَ عَلَى مَا يَأْتِي، وَاسْمُهُ هِبَةُ اللَّهِ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِحَوَّاءَ لَمَّا وَلَدَتْهُ: هَذَا هِبَةُ اللَّهِ لَكِ بَدَلَ هَابِيلَ. وَكَانَ آدَمُ يَوْمَ وُلِدَ شِيثُ ابْنَ ثَلَاثِينَ [[في ج وى: ثمانين.]] وَمِائَةِ سَنَةٍ- وَكَانَ يُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ الْأُنْثَى مِنَ الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ أُخْتُهُ تَوْأَمَتُهُ، فَوَلَدَتْ مَعَ قَابِيلَ أُخْتًا جَمِيلَةً وَاسْمُهَا إِقْلِيمِيَاءَ، وَمَعَ هَابِيلَ أُخْتًا لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاسْمُهَا لِيُوذَا، فَلَمَّا أَرَادَ آدَمُ تَزْوِيجَهُمَا قَالَ قَابِيلُ: أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، فَأَمَرَهُ آدَمُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ، وَزَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّقْرِيبِ، قال جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمِ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ أَنَّ آدَمَ حَضَرَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ جَعْفَرِ الصَّادِقِ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ مِنِ ابْنِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ آدَمُ لَمَا رَغِبَ عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَا كان دين آدم إلا يكن النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهَبَطَ آدَمَ وَحَوَّاءَ إِلَى الْأَرْضِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَدَتْ حَوَّاءُ بِنْتًا فَسَمَّاهَا عَنَاقًا فَبَغَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ بَغَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهَا مَنْ قَتَلَهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ لِآدَمَ قَابِيلَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ هَابِيلَ، فَلَمَّا أَدْرَكَ قَابِيلُ أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ جِنِّيَّةً مِنْ وَلَدِ الْجِنِّ، يُقَالُ لَهَا: جَمَّالَةٌ فِي صُورَةِ إِنْسِيَّةٍ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى آدَمَ أَنْ زَوِّجْهَا مِنْ قَابِيلَ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ. فَلَمَّا أَدْرَكَ هَابِيلَ أَهْبَطَ اللَّهُ إِلَى آدَمَ حُورِيَّةً [[في ج وى: حوراء.]] فِي صِفَةٍ إِنْسِيَّةٍ وَخَلَقَ لَهَا رَحِمًا، وَكَانَ اسْمُهَا بَزْلَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا هَابِيلُ أَحَبَّهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى آدَمَ أَنْ زَوِّجْ بَزْلَةَ مِنْ هَابِيلَ فَفَعَلَ. فَقَالَ قَابِيلُ: يَا أَبَتِ أَلَسْتُ أَكْبَرَ مِنْ أَخِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكُنْتُ أَحَقَّ بِمَا فَعَلْتَ بِهِ مِنْهُ! فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّكَ آثَرْتَهُ عَلَيَّ. فَقَالَ آدَمُ: "فَقَرِّبَا قُرْبَانًا فَأَيُّكُمَا يُقْبَلُ قُرْبَانُهُ فهو أحق بالفضل". قلت: هذه القضية عَنْ جَعْفَرٍ مَا أَظُنُّهَا تَصِحُّ، وَأَنَّ الْقَوْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُزَوِّجُ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ لِجَارِيَةِ تِلْكَ الْبَطْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً﴾ [[راجع ج ٥ ص ٢.]]] النساء: ١]. وَهَذَا كَالنَّصِّ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٢ ص ٦٢ فما بعدها.]]. وَكَانَ جَمِيعُ مَا وَلَدَتْهُ حَوَّاءُ أَرْبَعِينَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي عِشْرِينَ بَطْنًا، أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ إِقْلِيمِيَاءُ، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ الْمُغِيثِ. ثُمَّ بَارَكَ اللَّهُ فِي نَسْلِ آدَمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَمُتْ آدَمُ حَتَّى بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ- مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلَدَتْ بِنْتًا وَأَنَّهَا بَغَتْ- فَيُقَالُ: مَعَ مَنْ بَغَتْ؟ أَمَعَ جِنِّيٍّ تَسَوَّلَ [[في ى: نزل بها.]] لَهَا! وَمِثْلُ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: وَفِي قَوْلِ هَابِيلَ "قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" كَلَامٌ قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ قَابِيلُ: "لَأَقْتُلَنَّكَ" قَالَ لَهُ: وَلِمَ تَقْتُلُنِي وَأَنَا لَمْ أَجْنِ شَيْئًا؟، وَلَا ذَنْبَ لِي فِي قَبُولِ اللَّهِ قُرْبَانِي، أَمَا إِنِّي اتَّقَيْتُهُ وَكُنْتُ عَلَى لَاحِبِ [[لاحب: واضح.]] الْحَقِّ وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. قَالَ ابْنُ عطِيَّةَ: الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى هُنَا اتِّقَاءُ الشِّرْكِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَهُوَ مُوَحِّدٌ فَأَعْمَالُهُ الَّتِي تَصْدُقُ فِيهَا نِيَّتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَأَمَّا الْمُتَّقِي الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ فَلَهُ الدَّرَجَةُ] الْعُلْيَا [[[من ك وهـ وج وز وى.]] مِنَ الْقَبُولِ وَالْخَتْمِ بِالرَّحْمَةِ، عُلِمَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَنَّ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقْلًا. وَقَالَ عَدِيُّ [[في ك: علي.]] بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ: قُرْبَانُ مُتَّقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّلَاةُ. قُلْتُ: وَهَذَا خَاصٌّ فِي نَوْعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بها ورجله التي يمشي بها ولين سألني لأعطينه ولين استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شي أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الموت وأنا أكره مساءته).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب