الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ فِيما تَقَدَّمَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ هَمَّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكم أيْدِيَهم فَكَفَّ أيْدِيَهم عَنْكُمْ﴾ (المائِدَةِ: ١١) فَذَكَرَ تَعالى أنَّ الأعْداءَ يُرِيدُونَ إيقاعَ البَلاءِ والمِحْنَةِ بِهِمْ لَكِنَّهُ تَعالى يَحْفَظُهم بِفَضْلِهِ ويَمْنَعُ أعْداءَهم مِن إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِمْ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لِأجْلِ التَّسْلِيَةِ وتَخْفِيفِ هَذِهِ الأحْوالِ عَلى القَلْبِ ذَكَرَ قِصَصًا كَثِيرَةً في أنَّ كُلَّ مَن خَصَّهُ اللَّهُ تَعالى بِالنِّعَمِ العَظِيمَةِ في الدِّينِ والدُّنْيا فَإنَّ النّاسَ يُنازِعُونَهُ حَسَدًا وبَغْيًا، فَذَكَرَ أوَّلًا قِصَّةَ النُّقَباءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وأخْذِ اللَّهِ تَعالى المِيثاقَ مِنهم، ثُمَّ إنَّ اليَهُودَ نَقَضُوا ذَلِكَ المِيثاقَ حَتّى وقَعُوا في اللَّعْنِ والقَساوَةِ، وذَكَرَ بَعْدَهُ شِدَّةَ إصْرارِ النَّصارى عَلى كُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ بَعْدَ ظُهُورِ الدَّلائِلِ القاطِعَةِ عَلى فَسادِ ما هم عَلَيْهِ، وما ذاكَ إلّا لِحَسَدِهِمْ لِمُحَمَّدٍ ﷺ فِيما آتاهُ اللَّهُ مِنَ الدِّينِ الحَقِّ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ قِصَّةَ مُوسى في مُحارَبَةِ الجَبّارِينَ وإصْرارِ قَوْمِهِ عَلى التَّمَرُّدِ والعِصْيانِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ أنَّ أحَدَهُما قَتَلَ الآخَرَ حَسَدًا مِنهُ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَبِلَ قُرْبانَهُ، وكُلُّ هَذِهِ القِصَصِ دالَّةٌ عَلى أنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ، فَلَمّا كانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ أعْظَمَ النِّعَمِ لا جَرَمَ لَمْ يَبْعُدِ اتِّفاقُ الأعْداءِ عَلى اسْتِخْراجِ أنْواعِ المَكْرِ والكَيْدِ في حَقِّهِ، فَكانَ ذِكْرُ هَذِهِ القِصَصِ تَسْلِيَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى لِرَسُولِهِ ﷺ لَمّا هَمَّ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ أنْ يَمْكُرُوا بِهِ وأنْ يُوقِعُوا بِهِ آفَةً ومِحْنَةً. والثّانِي: أنَّ هَذا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكم رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكم كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (المائِدَةِ: ١٥) وهَذِهِ القِصَّةُ وكَيْفِيَّةُ إيجابِ القَصاصِ عَلَيْها مِن أسْرارِ التَّوْراةِ. والثّالِثُ: أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِما قَبْلَها، وهي قِصَّةُ مُحارَبَةِ الجَبّارِينَ، أيِ اذْكُرْ لِلْيَهُودِ حَدِيثَ ابْنَيْ آدَمَ لِيَعْلَمُوا أنَّ سَبِيلَ أسْلافِهِمْ في النَّدامَةِ والحَسْرَةِ الحاصِلَةِ بِسَبَبِ إقْدامِهِمْ عَلى المَعْصِيَةِ كانَ مِثْلَ سَبِيلِ ابْنَيْ آدَمَ في إقْدامِ أحَدِهِما عَلى قَتْلِ الآخَرِ. والرّابِعُ: قِيلَ هَذا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ حِكايَةً عَنِ اليَهُودِ والنَّصارى ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ (المائِدَةِ: ١٨) أيْ لا يَنْفَعُهم كَوْنُهم مِن أوْلادِ الأنْبِياءِ مَعَ كُفْرِهِمْ كَما لَمْ يَنْتَفِعْ ولَدُ آدَمَ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ بِكَوْنِ أبِيهِ نَبِيًّا مُعَظَّمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. الخامِسُ: لَمّا كَفَرَ أهْلُ الكِتابِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ حَسَدًا أخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِخَبَرِ ابْنِ آدَمَ وأنَّ الحَسَدَ أوْقَعَهُ في سُوءِ العاقِبَةِ، والمَقْصُودُ مِنهُ التَّحْذِيرُ عَنِ الحَسَدِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: واتْلُ عَلى النّاسِ. والثّانِي: واتْلُ عَلى أهْلِ (p-١٦١)الكِتابِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿ابْنَيْ آدَمَ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُما ابْنا آدَمَ مِن صُلْبِهِ، وهُما هابِيلُ وقابِيلُ. وفي سَبَبِ وُقُوعِ المُنازَعَةِ بَيْنَهُما قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ هابِيلَ كانَ صاحِبَ غَنَمٍ، وقابِيلَ كانَ صاحِبَ زَرْعٍ، فَقَرَّبَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما قُرْبانًا، فَطَلَبَ هابِيلُ أحْسَنَ شاةٍ كانَتْ في غَنَمِهِ وجَعَلَها قُرْبانًا، وطَلَبَ قابِيلُ شَرَّ حِنْطَةٍ في زَرْعِهِ فَجَعَلَها قُرْبانًا، ثُمَّ تَقَرَّبَ كُلُّ واحِدٍ بِقُرْبانِهِ إلى اللَّهِ فَنَزَلَتْ نارٌ مِنَ السَّماءِ فاحْتَمَلَتْ قُرْبانَ هابِيلَ ولَمْ تَحْمِلْ قُرْبانَ قابِيلَ، فَعَلِمَ قابِيلُ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَبِلَ قُرْبانَ أخِيهِ ولَمْ يَقْبَلْ قُرْبانَهُ فَحَسَدَهُ وقَصَدَ قَتْلَهُ. وثانِيهِما: ما رُوِيَ أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُولَدُ لَهُ في كُلِّ بَطْنٍ غُلامٌ وجارِيَةٌ وكانَ يُزَوِّجُ البِنْتَ مِن بَطْنٍ بِالغُلامِ مِن بَطْنٍ آخَرَ، فَوُلِدَ لَهُ قابِيلُ وتَوْأمَتُهُ، وبَعْدَهُما هابِيلُ وتَوْأمَتُهُ، وكانَتْ تَوْأمَةُ قابِيلَ أحْسَنَ النّاسِ وجْهًا، فَأرادَ آدَمُ أنْ يُزَوِّجَها مِن هابِيلَ، فَأبى قابِيلُ ذَلِكَ وقالَ: أنا أحَقُّ بِها، وهو أحَقُّ بِأُخْتِهِ، ولَيْسَ هَذا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإنَّما هو رَأْيُكَ، فَقالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَهُما: قَرِّبا قُرْبانًا، فَأيُّكُما قُبِلَ قُرْبانُهُ زَوَّجْتُها مِنهُ، فَقَبِلَ اللَّهُ تَعالى قُرْبانَ هابِيلَ بِأنْ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلى قُرْبانِهِ نارًا، فَقَتَلَهُ قابِيلُ حَسَدًا لَهُ. والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ الحَسَنِ والضَّحّاكِ: أنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبا قُرْبانًا ما كانا ابْنَيْ آدَمَ لِصُلْبِهِ وإنَّما كانا رَجُلَيْنِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ. قالا: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ القِصَّةِ: ﴿مِن أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ في الأرْضِ فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائِدَةِ: ٣٢) إذْ مِنَ الظّاهِرِ أنَّ صُدُورَ هَذا الذَّنْبِ مِن أحَدِ ابْنَيْ آدَمَ لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإيجابِ القَصاصِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، أمّا لَمّا أقْدَمَ رَجُلٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ أمْكَنَ جَعْلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإيجابِ القَصاصِ عَلَيْهِمْ زَجْرًا لَهم عَنِ المُعاوَدَةِ إلى مِثْلِ هَذا الذَّنْبِ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ القِصَّةِ بَيانُ إصْرارِ اليَهُودِ أبَدًا مِن قَدِيمِ الدَّهْرِ عَلى التَّمَرُّدِ والحَسَدِ حَتّى بَلَغَ بِهِمْ شِدَّةُ الحَسَدِ إلى أنَّ أحَدَهُما لَمّا قَبِلَ اللَّهُ قُرْبانَهُ حَسَدَهُ الآخَرُ وأقْدَمَ عَلى قَتْلِهِ، ولا شَكَّ أنَّها رُتْبَةٌ عَظِيمَةٌ في الحَسَدِ، فَإنَّهُ لَمّا شاهَدَ أنَّ قُرْبانَ صاحِبِهِ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى فَذَلِكَ مِمّا يَدْعُوهُ إلى حُسْنِ الِاعْتِقادِ فِيهِ والمُبالَغَةِ في تَعْظِيمِهِ، فَلَمّا أقْدَمَ عَلى قَتْلِهِ، وقَتَلَهُ مَعَ هَذِهِ الحالَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ كانَ قَدْ بَلَغَ في الحَسَدِ إلى أقْصى الغاياتِ، وإذا كانَ المُرادُ مِن ذِكْرِ هَذِهِ القِصَّةِ بَيانَ أنَّ الحَسَدَ دَأْبٌ قَدِيمٌ في بَنِي إسْرائِيلَ وجَبَ أنْ يُقالَ: هَذانِ الرَّجُلانِ كانا مِن بَنِي إسْرائِيلَ. واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ هو الَّذِي اخْتارَهُ أكْثَرُ أصْحابِ الأخْبارِ، وفي الآيَةِ أيْضًا ما يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ القاتِلَ جَهِلَ ما يَصْنَعُ بِالمَقْتُولِ حَتّى تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِن عَمَلِ الغُرابِ، ولَوْ كانَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ لَما خَفِيَ عَلَيْهِ هَذا الأمْرُ، وهو الحَقُّ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (بِالحَقِّ) فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: بِالحَقِّ، أيْ تِلاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالحَقِّ والصِّحَّةِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى. والثّانِي: أيْ تِلاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالصِّدْقِ والحَقِّ مُوافِقَةً لِما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. الثّالِثُ: بِالحَقِّ، أيْ بِالغَرَضِ الصَّحِيحِ وهو تَقْبِيحُ الحَسَدِ؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ وأهْلَ الكِتابِ كانُوا يَحْسُدُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ويَبْغُونَ عَلَيْهِ. الرّابِعُ: بِالحَقِّ، أيْ لِيَعْتَبِرُوا بِهِ لا لِيَحْمِلُوهُ عَلى اللَّعِبِ والباطِلِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنَ الأقاصِيصِ الَّتِي لا فائِدَةَ فِيها، وإنَّما هي لَهْوُ الحَدِيثِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ بِالذِّكْرِ مِنَ الأقاصِيصِ والقَصَصِ في القُرْآنِ العِبْرَةُ لا مُجَرَّدُ الحِكايَةِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبابِ﴾ (يُوسُفَ: ١١١) . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إذْ قَرَّبا قُرْبانًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: (p-١٦٢) المَسْألَةُ الأُولى: إذْ: نُصِبَ بِماذا ؟ فِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ نُصِبَ بِالنَّبَأِ، أيْ قِصَّتُهم في ذَلِكَ الوَقْتِ. الثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ النَّبَأِ أيْ واتْلُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبَأِ نَبَأ ذَلِكَ الوَقْتِ، عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: القُرْبانُ: اسْمٌ لِما يُتَقَرَّبُ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى مِن ذَبِيحَةٍ أوْ صَدَقَةٍ، ومَضى الكَلامُ عَلى القُرْبانِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الكَلامِ وهو قَوْلُهُ: ﴿إذْ قَرَّبا قُرْبانًا﴾ قَرَّبَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما قُرْبانًا إلّا أنَّهُ جَمَعَهُما في الفِعْلِ وأفْرَدَ الِاسْمَ؛ لِأنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِما عَلى أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ قُرْبانًا. وقِيلَ: إنَّ القُرْبانَ اسْمُ جِنْسٍ فَهو يَصْلُحُ لِلْواحِدِ والعَدَدِ، وأيْضًا فالقُرْبانُ مَصْدَرٌ كالرُّجْحانِ والعُدْوانِ والكُفْرانِ والمَصْدَرُ لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب