الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا﴾ يُرِيدُ لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ وَلِقَاءَ الله، أي لا يؤمنون بذلك. قال: إذا لسعت النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلِ [[البيت لابي ذؤيب وتقدم شرحه في ج ٨ ص ٣١١ طبعه أولى أو ثانية.]] وَقِيلَ: "لَا يَرْجُونَ" لَا يُبَالُونَ. قال: لَعَمْرُكَ مَا أَرْجُو إِذَا كُنْتُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي [[البيت من قصيده لخبيب بن عدى قالها حين بلغه أن الكفار قد اجتمعوا لصلبه.]] ابْنُ شجر: لَا يَأْمُلُونَ، قَالَ: أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا ... شفاعة جده يوم الحساب (لَوْلا أُنْزِلَ) أَيْ هَلَّا أُنْزِلَ. (عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فَيُخْبِرُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ. (أَوْ نَرى رَبَّنا) عِيَانًا فَيُخْبِرُنَا بِرِسَالَتِهِ. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً﴾ إِلَى قَوْلِهِ "أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) حَيْثُ سَأَلُوا اللَّهَ الشَّطَطَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُرَى إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، فَلَا عَيْنَ تَرَاهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "عَتَوْا" عَلَوْا فِي الْأَرْضِ. وَالْعُتُوُّ: أَشَدُّ الْكُفْرِ وَأَفْحَشُ الظُّلْمِ. وَإِذَا لَمْ يَكْتَفُوا بِالْمُعْجِزَاتِ وَهَذَا الْقُرْآنِ فَكَيْفَ يَكْتَفُونَ بِالْمَلَائِكَةِ؟ وَهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُعْجِزَةٍ يُقِيمُهَا مَنْ يَدَّعِي أنه ملك، وليس للقوم طلب معجز بعد أن شاهدوا معجزه، وأن (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) يُرِيدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، وَتَضْرِبُ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارَ بِمَقَامِعِ الْحَدِيدِ حَتَّى تَخْرُجَ أَنْفُسُهُمْ. (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) يُرِيدُ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَقَامَ شَرَائِعَهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ. قَالَ عَطِيَّةُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَلْقَى الْمُؤْمِنَ بِالْبُشْرَى، فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ الْكَافِرُ تَمَنَّاهُ فَلَمْ يَرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَانْتَصَبَ "يَوْمَ يَرَوْنَ" بِتَقْدِيرِ لَا بُشْرَى لِلْمُجْرِمِينَ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ. "يَوْمَئِذٍ" تَأْكِيدٌ لِ "يَوْمَ يَرَوْنَ". قال النحاس: لا يجور أَنْ يَكُونَ "يَوْمَ يَرَوْنَ" مَنْصُوبًا بِ "بُشْرى " لِأَنَّ مَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَكِنْ فِيهِ تَقْدِيرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يُمْنَعُونَ الْبِشَارَةَ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ مَا بَعْدَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَا بُشْرَى تَكُونُ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، وَ "يَوْمَئِذٍ" مُؤَكِّدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: اذْكُرْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: "لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً" أَيْ وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حِجْرًا مُحَرَّمًا وَأَصْبَحَتْ مِنْ أَدْنَى حُمُوَّتِهَا حَمَا [[قاله رجل كانت له امرأة فطلقها وتزوجها أخوه، أي أصبحت أخا زوجها بعد ما كانت زوجها.]] أَرَادَ أَلَا أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حراما محرما. وقال آخر: حَنَّتْ إِلَى النَّخْلَةِ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا حِجْرٌ حَرَامٌ أَلَا تِلْكَ الدَّهَارِيسُ [[البيت للمتلمس، والنخلة القصوى: واد. والدهاريس: الدواهي. يقول لناقته: هذا الذي حننت إلبه ممنوع. وبعده: أمي شآمية إذا لا عراق لنا ... قوما نودهم إذ قومنا شوس]] وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "وَيَقُولُونَ حِجْراً" وَقْفٌ مِنْ قَوْلِ الْمُجْرِمِينَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَحْجُوراً" عَلَيْهِمْ أَنْ يُعَاذُوا أَوْ يُجَارُوا، فَحَجَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ "حُجْرًا" بِضَمِّ الْحَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى كَسْرِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ قَالُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ فِيمَا ذَكَرَ الماوردي. وقيل: هو من قَوْلُ الْكُفَّارِ لِلْمَلَائِكَةِ. وَهِيَ كَلِمَةُ اسْتِعَاذَةٍ وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ من يخافه قال: حجزا مَحْجُورًا، أَيْ حَرَامًا عَلَيْكَ التَّعَرُّضُ لِي. وَانْتِصَابُهُ عَلَى مَعْنَى: حَجَرْتُ عَلَيْكَ، أَوْ حَجَرَ اللَّهُ عَلَيْكَ، كَمَا تَقُولُ: سَقْيًا وَرَعْيًا أَيْ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إِذَا رَأَوُا الْمَلَائِكَةَ يُلْقُونَهُمْ فِي النَّارِ قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكُمْ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَحَكَى معناه المهدى عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: "حِجْراً" مِنْ قَوْلِ الْمُجْرِمِينَ. "مَحْجُوراً" مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ قَالُوا لِلْمَلَائِكَةِ نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا. فنقول الْمَلَائِكَةُ: "مَحْجُوراً" أَنْ تُعَاذُوا مِنْ شَرِّ هَذَا اليوم، قاله الحسن.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب