الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَعامَ ويَمْشُونَ في الأسْواقِ وجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ ﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ أو نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا في أنْفُسِهِمْ وعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ هَذِهِ الآيَةُ رَدٌّ عَلى كُفّارِ قُرَيْشٍ في اسْتِبْعادِهِمْ أنْ يَكُونَ مِنَ البَشَرِ رَسُولٌ، وقَوْلِهُمْ: ﴿مالِ هَذا الرَسُولِ يَأْكُلُ الطَعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ [الفرقان: ٧]، وأخْبَرَ اللهُ تَعالى مُحَمَّدًا ﷺ وأمَّتَهُ أنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ قَبْلُ في سالِفِ الدَهْرِ نَبِيًّا إلّا بِهَذِهِ الصِفَةِ. والمَفْعُولُ بِـ "أرْسَلْنا" مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ، تَقْدِيرُهُ: رِجالًا أو رُسُلًا، وعَلى هَذا المَحْذُوفِ المُقَدَّرِ يَعُودُ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "إلّا إنَّهُمْ"، وذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَيَأْكُلُونَ الطَعامَ﴾ كِنايَةٌ عَنِ الحَدَثِ. (p-٤٢٨)وَقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَيَمْشُونَ" بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ المِيمِ وتَخْفِيفِ الشِينِ. وقَرَأ عَلِيٌّ، وعَبْدُ الرَحْمَنِ، وابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: "وَيُمَشَّوْنَ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ المِيمِ وشَدِّ الشِينِ المَفْتُوحَةِ، بِمَعْنى: يَدْعُونَ إلى المَشْيِ ويَحْمِلُونَ عَلَيْهِ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ المِيمِ وضَمِّ الشِينِ المُشَدَّدَةِ، وهي بِمَعْنى يَمْشُونَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ أُمَشِّي بِأعْطانِ المِياهِ وأبْتَغِي قَلائِصَ مِنها صَعْبَةٌ ورَكُوبُ ثُمْ أخْبَرَ تَبارَكَ وتَعالى أنَّ السَبَبَ في ذَلِكَ أنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ أنْ يَجْعَلَ بَعْضَ العَبِيدِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ عَلى العُمُومِ في جَمِيعِ الناسِ، مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، فالصَحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ، والغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ، والفَقِيرُ الشاكِرُ فِتْنَةٌ لِلْغَنِيِّ، والرَسُولُ المَخْصُوصُ بِكَرامَةِ النُبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأشْرافِ الناسِ الكُفّارِ في عَصْرِهِ، وكَذَلِكَ العُلَماءُ وحُكّامُ العَدْلِ، وقَدْ تَلا ابْنُ القاسِمْ هَذِهِ الآيَةَ حِينَ رَأى أشْهَبَ. والتَوْقِيفُ بِـ "أتَصْبِرُونَ" خاصٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ المُحِقِّينَ، فَهو لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَأنَّهُ جَعَلَ إمْهالَ الكُفّارِ فِتْنَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، أيِ اخْتِبارًا لَهُمْ، ثُمْ وقَّفَهُمْ: هَلْ تَصْبِرُونَ أمْ لا؟ ثُمْ أعْرَبَ قَوْلُهُ: ﴿وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ عَنِ الوَعْدِ لِلصّابِرِينَ والوَعِيدِ لِلْعاصِينَ. ثُمْ أخْبَرَ عن مَقالَةِ الكُفّارِ: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ﴾ الآيَةُ، وقَوْلُهُ تَعالى: "يَرْجُونَ"، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ وقَوْمٌ: مَعْناهُ: يَخافُونَ، والشاهِدُ لِذَلِكَ قَوْلُ الهُذَلِيِّ:(p-٤٢٩) ؎ إذا لَسَعَتْهُ النَحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها ∗∗∗ وخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَوامِلِ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ الرَجاءَ في الآيَةِ والبَيْتِ عَلى بابِهِ؛ لِأنَّ خَوْفَ لِقاءِ اللهِ تَعالى مُقْتَرِنٌ أبَدًا بِرَجائِهِ، فَإذا نُفِيَ الرَجاءُ عن أحَدٍ فَإنَّما أخْبَرَ عنهُ أنَّهُ مُكَذِّبٌ بِالبَعْثِ لِنَفْيِ الخَوْفِ والرَجاءِ، وفي ذِكْرِ الكُفّارِ بِنَفْيِ الرَجاءِ تَنْبِيهٌ عَلى غِبْطَةِ ما فاتَهم مِن رَجاءِ اللهِ تَعالى. وأمّا بَيْتُ الشِعْرِ المَذْكُورُ فَمَعْناهُ عِنْدِي: لَمْ يَرْجُ دَفْعَها ولا الِانْفِكاكَ عنها، فَهو لِذَلِكَ يُوفِي عَلى الصَبْرِ ويَجِدُّ في شَغْلِهِ. ولَمّا تَمَنَّتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ رُؤْيَةَ رَبِّهِمْ أخْبَرَ تَعالى عنهم أنَّهم عَظَّمُوا أنْفُسَهُمْ، وسَألُوا ما لَيْسُوا لَهُ بِأهْلٍ، و"عَتَوْا" مَعْناهُ: صَعَبُوا عَلى الحَقِّ واشْتَدُّوا، ويُقالُ: عِتِيٌّ وعُتُوٌّ، عُتُوٌّ عَلى الأصْلِ، وعِتِيٌّ لِاسْتِثْقالِ الضَمِّ عَلى الواوِ فَقُلِبَتْ ياءً ثُمْ كُسِرَ ما قَبِلَها طَلَبًا لِلتَّناسُبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب