الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا﴾ فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سُبْحانَكَ﴾ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَنْ أَنْ يَعْلَمَ الْغَيْبَ أَحَدٌ سِوَاكَ. وَهَذَا جَوَابُهُمْ عَنْ قَوْلِهِ: "أَنْبِئُونِي" فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ وَلَمْ يَتَعَاطَوْا مَا لَا عِلْمَ لهم به كما يفعله الجهال منا. و "ما" فِي "مَا عَلَّمْتَنا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ إِلَّا الَّذِي عَلَّمْتَنَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً بِمَعْنَى إِلَّا تَعْلِيمَكَ إِيَّانَا. الثَّانِيَةُ- الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ: اللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا أَدْرِي، اقْتِدَاءً بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْفُضَلَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ قَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ أَنَّ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ يُقْبَضُ الْعِلْمُ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتُونَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَرَوَى الْبُسْتِيُّ [[في نسخة (النسائي).]] فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ لَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ قَالَ: (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ) فَسَأَلَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ مِيكَائِيلَ، فَجَاءَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَشَرُّهَا الْأَسْوَاقُ. وَقَالَ الصِّدِّيقُ لِلْجَدَّةِ: ارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: وَابَرْدَهَا عَلَى الْكَبِدِ، ثَلَاثَ مَرَّاتً. قَالُوا وَمَا ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أَنْ يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: نِعْمَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ لَا عِلْمَ لِي بِهِ! ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. وَفِي صحيح مسلم عن أبي عقيل يَحْيَى بْنِ الْمُتَوَكِّلِ صَاحِبِ بُهَيَّةَ [[بهية (بالتصغير): مولاة أبي بكر رضى الله عنه، تروى عن عائشة. وروى عنها أبو عقيل المذكور.]] قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ يَحْيَى لِلْقَاسِمِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ عَظِيمٌ أَنْ يسأل عن شي مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ فَلَا يُوجَدُ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ وَلَا فَرَجٌ، أَوْ عِلْمٌ وَلَا مَخْرَجٌ؟ فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: وَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى: ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ [[القاسم هذا، هو ابن عبيد الله بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وام القاسم هي أم عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضى الله عنه، فأبو بكر جده الأعلى لامه، وعمر جده الأعلى لأبيه، وابن عمر جده الحقيقي لأبيه. رضي الله عنهم أجمعين. (عن شرح النووي على صحيح مسلم).]]. قَالَ يَقُولُ لَهُ الْقَاسِمُ: أَقْبَحُ مِنْ ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ. فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: سَمِعْتُ ابْنَ هُرْمُزَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُورِثَ جُلَسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ لَا أَدْرِي حَتَّى يَكُونَ أَصْلًا فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَمَّا لَا يَدْرِي قَالَ: لَا أَدْرِي. وَذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ سُئِلَ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا يَحْمِلُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الرِّيَاسَةُ وَعَدَمُ الْإِنْصَافِ فِي الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ بَرَكَةِ الْعِلْمِ وَآدَابِهِ الْإِنْصَافُ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يُنْصِفْ لَمْ يَفْهَمْ وَلَمْ يَتَفَهَّمْ. رَوَى يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ يَقُولُ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يقول: ما في زماننا شي أَقَلُّ مِنَ الْإِنْصَافِ. قُلْتُ: هَذَا فِي زَمَنِ مَالِكٍ فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا الْيَوْمَ الَّذِي عَمَّ فِينَا الْفَسَادُ وَكَثُرَ فِيهِ الطُّغَامُ! وَطُلِبَ فِيهِ العلم للرئاسة لَا لِلدِّرَايَةِ، بَلْ لِلظُّهُورِ فِي الدُّنْيَا وَغَلَبَةِ الْأَقْرَانِ بِالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ الَّذِي يُقْسِي الْقَلْبَ وَيُورِثُ الضَّغَنَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ التَّقْوَى وَتَرْكِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْنَ هَذَا مِمَّا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ: لَا تَزِيدُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَلَوْ كَانَتْ بِنْتَ ذِي الْعَصَبَةِ- يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْحَارِثِيَّ- فَمَنْ زَادَ أَلْقَيْتُ زِيَادَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ صَوْبِ النِّسَاءِ طَوِيلَةٌ فِيهَا فَطَسٌ [[الفطس (بالتحريك): انخفاض قصبة الأنف وتطامنها وانتشارها.]] فقالت: ما ذلك لك! قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً﴾ [النساء: ٢٠] فَقَالَ عُمَرُ: امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ! وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ فِيهَا، فَقَالَ الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ: لَمَّا رَحَلْتُ إِلَى الْمَشْرِقِ نَزَلْتُ الْقَيْرَوَانَ فَأَخَذْتُ عَلَى بَكْرِ ابن حَمَّادٍ حَدِيثَ مُسَدَّدٍ، ثُمَّ رَحَلْتُ إِلَى بَغْدَادَ وَلَقِيتُ النَّاسَ، فَلَمَّا انْصَرَفْتُ عُدْتُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ حَدِيثِ مُسَدَّدٍ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ فِيهِ يَوْمًا حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ: (أَنَّهُ قَدِمَ عليه قوم من مضر من مجتابي [[مشققة مخططة.]] التمار) فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُجْتَابِي الثِّمَارِ، فَقُلْتُ إِنَّمَا هُوَ مُجْتَابِي النِّمَارِ، هَكَذَا قَرَأْتُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ قَرَأْتُهُ عَلَيْهِ بِالْأَنْدَلُسِ وَالْعِرَاقِ، فَقَالَ لِي: بِدُخُولِكَ الْعِرَاقَ تُعَارِضُنَا وَتَفْخَرُ عَلَيْنَا! أَوْ نَحْوَ هَذَا. ثُمَّ قَالَ لِي: قُمْ بِنَا إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخِ- لِشَيْخٍ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ- فَإِنَّ لَهُ بِمِثْلِ هَذَا عِلْمًا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُجْتَابِي النِّمَارِ، كَمَا قُلْتُ. وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ مُشَقَّقَةً [[مجتابي النمار، أي لابسها. يقال: اجتبت القميص والظلام دخلت فيهما.]]، جُيُوبُهُمْ أَمَامَهُمْ. وَالنِّمَارُ جَمْعُ نَمِرَةٍ [[وهي كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كأنما أخذت من لون النمر.]]. فَقَالَ بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ وَأَخَذَ بِأَنْفِهِ: رَغِمَ أَنْفِي لِلْحَقِّ، رَغِمَ أَنْفِي لِلْحَقِّ. وَانْصَرَفَ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَحْسَنَ: إِذَا مَا تَحَدَّثْتُ فِي مَجْلِسٍ ... تَنَاهَى حَدِيثِي إِلَى مَا عَلِمْتُ وَلَمْ أُعْدِ عِلْمِي إِلَى غَيْرِهِ ... وكان إذا ما تناهى سكت الثانية: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سُبْحانَكَ﴾ "سُبْحَانَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، يُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى نُسَبِّحُكَ تَسْبِيحًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ نداء مضاف. و (الْعَلِيمُ) فعيل للمبالغة والتكثير في المعلومات في خلق الله تعالى. و "الْحَكِيمُ" مَعْنَاهُ الْحَاكِمُ، وَبَيْنَهُمَا مَزِيدُ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ معناه المحكم يجئ والحكيم عَلَى هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، صُرِفَ عَنْ مُفْعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا صُرِفَ عَنْ مُسْمِعٍ إِلَى سَمِيعٍ وَمُؤْلِمٍ إِلَى أَلِيمٍ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: (الْحَكِيمُ) الْمَانِعُ مِنَ الْفَسَادِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حِكْمَةُ اللِّجَامِ، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الْفَرَسَ مِنَ الْجَرْيِ وَالذَّهَابِ فِي غَيْرِ قَصْدٍ. قَالَ جَرِيرٌ: أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا أَيِ امْنَعُوهُمْ مِنَ الْفَسَادِ. وَقَالَ زُهَيْرٌ: الْقَائِدُ الْخَيْلَ مَنْكُوبًا دَوَابِرُهَا [[النكب: أن ينكب الحجر ظفرا أو حافرا. والدوابر. أواخر الحوافر. يقول: يقود الخيل في الغزو ويبعد بها حتى تنكب دوابرها، أي تأكلها الأرض وتؤثر فيها.]] ... قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتُ الْقَدِّ وَالْأَبَقَا الْقَدُّ: الْجِلْدُ. وَالْأَبَقُ: الْقُنَّبُ [[القنب (بكسر القاف وضمها): ضرب من الكتان.]]. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَحْكَمَ الْيَتِيمَ عَنْ كَذَا وَكَذَا، يُرِيدُونَ مَنَعَهُ. وَالسُّورَةُ الْمُحْكَمَةُ: الْمَمْنُوعَةُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَكُلِّ التَّبْدِيلِ، وَأَنْ يُلْحَقَ بِهَا مَا يَخْرُجُ عَنْهَا، وَيُزَادُ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَالْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الْجَهْلِ. وَيُقَالُ: أَحْكَمَ الشَّيْءَ إِذَا أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَمَّا يُرِيدُ. فَهُوَ مُحْكَمٌ وَحَكِيمٌ على التكثير.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب