الباحث القرآني

﴿قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا﴾: أيْ تَنْزِيهُكَ عَنِ الِادِّعاءِ وعَنِ الِاعْتِراضِ. وقِيلَ: مَعْناهُ تَنْزِيهٌ لَكَ بَعْدَ تَنْزِيهٍ، لَفْظُهُ لَفْظُ تَثْنِيَةً، والمَعْنى كَذَلِكَ كَما قالُوا في لَبَّيْكَ، ومَعْناهُ: تَلْبِيَةً بَعْدَ تَلْبِيَةٍ. وهَذا قَوْلٌ غَرِيبٌ يَلْزَمُ عَنْهُ أنَّ مُفْرَدَهُ يَكُونُ سُبْحا، وأنَّهُ لا يَكُونُ مَنصُوبًا بَلْ مَرْفُوعًا، وأنَّهُ لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ لِلْإضافَةِ، وأنَّهُ التَزَمَ فَتْحَها. والكافُ في سُبْحانَكَ مَفْعُولٌ بِهِ أُضِيفَ إلَيْهِ. وأجازَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ فاعِلًا؛ لِأنَّ المَعْنى تَنَزَّهْتَ. وقَدْ ذَكَرْنا حِينَ تَكَلَّمْنا عَلى المُفْرَداتِ، أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى مَعْنى المَصْدَرِ بِفِعْلٍ مِن مَعْناهُ واجِبُ الحَذْفِ وزَعَمَ الكِسائِيُّ أنَّهُ مُنادًى مُضافٌ، ويُبْطِلُهُ أنَّهُ لا يَحْفَظُ دُخُولَ حَرْفِ النِّداءِ عَلَيْهِ، ولَوْ كانَ مُنادى لِجازَ دُخُولُ حَرْفِ النِّداءِ عَلَيْهِ، ونُقِلَ لَنا، ولَمّا سَألَ تَعالى المَلائِكَةَ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهم عِلْمٌ بِالجَوابِ، وكانُوا قَدْ سَبَقَ مِنهم قَوْلُهم: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] الآيَةَ، أرادُوا أنْ يُجِيبُوا بِعَدَمِ العِلْمِ إلّا ما عَلَّمَهم، فَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الجَوابِ تَنْزِيهَ اللَّهِ اعْتِذارًا وأدَبًا مِنهم في الجَوابِ، وإشْعارًا بِأنَّ ما صَدَرَ مِنهم قَبْلُ يَمْحُوهُ هَذا التَّنْزِيهُ لِلَّهِ تَعالى، فَقالُوا: سُبْحانَكَ، ثُمَّ أجابُوا بِنَفْيِ العِلْمِ بِلَفْظٍ لا الَّتِي بُنِيَتْ مَعَها النَّكِرَةُ، فاسْتَغْرَقَ كُلُّ فَرْدٍ مِن أنْواعِ العُلُومِ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِن ذَلِكَ ما عَلَّمَهم هو تَعالى، فَقالُوا: ﴿إلّا ما عَلَّمْتَنا﴾، وهَذا غايَةٌ في تَرْكِ الدَّعْوى والِاسْتِسْلامِ التّامِّ لِلْمُعَلِّمِ الأوَّلِ اللَّهِ تَعالى. قالَ أبُو عُثْمانُ المَغْرِبِيُّ: ما بَلاءُ الخَلْقِ إلّا لِدَعاوى، ألا تَرى أنَّ المَلائِكَةَ لَمّا قالُوا: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ [البقرة: ٣٠]، كَيْفَ رُدُّوا إلى الجَهْلِ حَتّى قالُوا: لا عِلْمَ لَنا ؟ ورُوِيَ مَعْنى هَذا الكَلامِ عَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ، وخَبَرُ لا عُلِمَ في الجارِّ والمَجْرُورِ، وتَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ في (لا رَيْبَ فِيهِ)، ولا عُلِمَ مِثْلُهُ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ، وما مَوْصُولَةٌ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الِاسْتِثْناءِ، والأوْلى أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى البَدَلِ. وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْراوِيِّ: أنَّ مَوْضِعَ ما مِن قَوْلِهِمْ: ما عَلَّمَتْنا، نَصْبٌ بِعَلَّمْتَنا، وهَذا غَيْرُ مَعْقُولٍ، ألا تَرى أنَّ ما مَوْصُولَةٌ، وأنَّ الصِّلَةَ: عَلَّمَتْنا، وأنَّ الصِّلَةَ لا تَعْمَلُ (p-١٤٨)فِي المَوْصُولِ ولَكِنْ يُتَكَلَّفُ بِهِ وجْهٌ وهو أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا فَيَكُونُ مَعْنى إلّا: لَكِنْ، عَلى التَّقْدِيرِ الَّذِي اسْتَقَرَّ في الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ، وتَكُونُ ما شَرْطِيَّةً مَنصُوبَةً بِعَلَّمْتَنا، ويَكُونُ الجَوابُ مَحْذُوفًا كَأنَّهم نَفَوْا أوَّلًا سائِرَ العُلُومِ ثُمَّ اسْتَدْرَكُوا أنَّهُ في المُسْتَقْبَلِ أيَّ شَيْءٍ عَلَّمَهم عَلِمُوهُ، ويَكُونُ هَذا أبْلَغُ في تَرْكِ الدَّعْوى، إذْ مَحُوا أنْفُسَهم مِن سائِرِ العُلُومِ ونَفُوا جَمِيعَها، فَلَمْ يَسْتَثْنُوا لَهم شَيْئًا سابِقًا ماضِيًا تَحَلَّوْ بِهِ، بَلْ صارُوا إلى الجَهْلِ الصِّرْفِ والتَّبَرِّي مِن كُلِّ عِلْمٍ. وهَذا الوَجْهُ يُنافِي ما رُوِيَ أنَّهُ كانَ أعْلَمُهم تَعالى، أوْ عَلِمُوا بِاطِّلاعٍ مِنَ اللَّوْحِ بِأنَّهُ سَيَكُونُ في الأرْضِ مَن يُفْسِدُ ويَسْفِكُ، فَإذا صَحَّ هَذا كانُوا قَدْ بالَغُوا في نَفْيِ كُلِّ عِلْمٍ عَنْهم، وجَعَلُوا هَذا العِلْمَ الخاصَّ كالمَعْدُومِ، ومَنِ اعْتَقَدَ أنَّ المَلائِكَةَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ جَعَلَ قَوْلَهم، لا عِلْمَ لَنا تَوْبَةً، ومَنِ اعْتَقَدَ بِعِصْمَتِهِمْ قالَ: قالُوا ذَلِكَ عَلى وجْهِ الِاعْتِرافِ بِالعَجْزِ والتَّسْلِيمِ بِأنَّهم لا يَعْلَمُونَ إلّا ما عَلِمُوا، أوْ قالُوا: ﴿أتَجْعَلُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] الآيَةَ؛ لِأنَّهُ أعْلَمَهم بِذَلِكَ، وأمّا الأسْماءُ فَكَيْفَ يَعْلَمُونَها وما أعْلَمَهم ذَلِكَ ؟ ولَمّا نَفُوا العِلْمَ عَنْ أنْفُسِهِمْ أثْبَتُوهُ لِلَّهِ تَعالى عَلى أكْمَلِ أوْصافِهِ مِنَ المُبالَغَةِ فِيهِ، ثُمَّ أرْدَفُوا الوَصْفَ بِالعِلْمِ الوَصْفَ بِالحِكْمَةِ؛ لِأنَّهُ سَبَقَ قَوْلُهُ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] فَلَمّا صَدَرَ مِن هَذا المَجْعُولِ خَلِيفَةً، ما صَدَرَ مِن فَضِيلَةِ العِلْمِ تَبَيَّنَ لَهم وجْهَ الحِكْمَةِ في قَوْلِهِ: وجَعَلَهُ خَلِيفَةً. فانْظُرْ إلى حُسْنِ هَذا الجَوابِ كَيْفَ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ تَنْزِيهَ اللَّهِ، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِالجَهْلِ، ثُمَّ نَسَبُوا إلى اللَّهِ العِلْمَ والحِكْمَةَ، وناسِبَ تَقْدِيمُ الوَصْفِ بِالعِلْمِ عَلى الوَصْفِ بِالحِكْمَةِ؛ لِأنَّهُ المُتَّصِلُ بِهِ في قَوْلِهِ: (وعَلَّمَ)، ﴿أنْبِئُونِي﴾ [البقرة: ٣١]، (لا عِلْمَ لَنا) . فالَّذِي ظَهَرَتْ بِهِ المَزِيَّةُ لِآدَمَ والفَضِيلَةُ هو، فَناسَبَ ذِكْرُهُ مُتَّصِلًا بِهِ، ولِأنَّ الحِكْمَةَ إنَّما هي آثارٌ وناشِئَةٌ عَنْهُ، ولِذَلِكَ أكْثَرُ ما جاءَ في القُرْآنِ تَقْدِيمُ الوَصْفِ بِالعِلْمِ عَلى الوَصْفِ بِالحِكْمَةِ. ولِأنْ يَكُونَ آخِرُ مَقالِهِمْ مُخالِفًا لِأوَّلِهِ حَتّى يُبَيِّنَ رُجُوعَهم عَنْ قَوْلِهِمْ: ﴿أتَجْعَلُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠]، وعَلى القَوْلِ بِأنَّ الحَكِيمَ هو ذُو الحِكْمَةِ، يَكُونُ الحَكِيمُ صِفَةَ ذاتٍ، وعَلى القَوْلِ بِأنَّهُ المُحْكِمُ لِصَنْعَتِهِ يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ. وأنْتَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أوْ مُبْتَدَأً فَيَكُونُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، والعَلِيمُ خَبَرُهُ، أوْ فَضْلًا فَلا يَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، عَلى رَأْيِ البَصْرِيِّينَ، ويَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ عَلى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ. فَعِنْدَ الفَرّاءِ مَوْضِعُهُ عَلى حَسَبِ الِاسْمِ قَبْلَهُ، وعِنْدَ الكِسائِيِّ عَلى حَسَبِ الِاسْمِ بَعْدَهُ، والأحْسَنُ أنْ يُحْمَلَ (العَلِيمُ الحَكِيمُ) عَلى العُمُومِ، وقَدْ خَصَّهُ بَعْضُهم فَقالَ: العَلِيمُ بِما أمَرْتَ ونَهَيْتَ، الحَكِيمُ فِيما قَدَّرْتَ وقَضَيْتَ. وقالَ آخَرُ: العَلِيمُ بِالسِّرِّ والعَلانِيَةِ، والحَكِيمُ فِيما يَفْعَلُهُ وهو قَرِيبٌ مِنَ الأوَّلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب