الباحث القرآني

﴿قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلا ما عَلَّمْتَنا﴾ اسْتِئْنافٌ واقِعٌ مَوْقِعَ الجَوابِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالُوا إذْ ذاكَ: هَلْ خَرَجُوا عَنْ عُهْدَةِ ما كُلِّفُوهُ، أوْ لا؟ فَقِيلَ: قالُوا إلَخْ، وذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ الجُمَلَ المُفْتَتَحَةَ بِالقَوْلِ إذا كانَتْ مُرَتَّبًا بَعْضُها عَلى بَعْضٍ في المَعْنى فالأصَحُّ أنْ لا يُؤْتى فِيها بِحَرْفٍ اكْتِفاءً بِالتَّرْتِيبِ المَعْنَوِيِّ، وقَدْ جاءَ في سُورَةِ الشُّعَراءِ مِن ذَلِكَ كَثِيرٌ بَلِ القُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنهُ، (وسُبْحانَ) قِيلَ: إنَّهُ مَصْدَرٌ، وفِعْلُهُ سَبَحَ مُخَفَّفًا بِمَعْنى نَزُهَ، ولا يَكادُ يُسْتَعْمَلُ إلّا مُضافًا، إمّا لِلْمَفْعُولِ، أوِ الفاعِلِ مَنصُوبًا بِإضْمارِ فِعْلٍ وُجُوبًا، وقَوْلُهُ: ؎سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحانًا نَعُوذُ بِهِ وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجَمَدُ شاذٌّ كَقَوْلِهِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ ذا السُّبْحانِ، ومَجِيئُهُ مُنادًى مِمّا زَعَمَهُ الكِسائِيُّ ولا حُجَّةَ لَهُ، وذَهَبَ جَماعَةٌ إلى أنَّهُ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ بِمَعْنى التَّنْزِيهِ، لا مَصْدَرُ سَبَّحَ بِمَعْنى قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ، لِئَلّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ، ولِأنَّ مَدْلُولَ ذَلِكَ لَفْظٌ، ومَدْلُولَ هَذا مَعْنًى، واسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ؎قَدْ قُلْتُ لَمّا جاءَنِي فَخْرُهُ ∗∗∗ سُبْحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ إذْ لَوْلا أنَّهُ عَلَمٌ لَوَجَبَ صَرْفُهُ، لِأنَّ الألِفَ والنُّونَ في غَيْرِ الصِّفاتِ إنَّما تَمْنَعُ مَعَ العَلَمِيَّةِ، وأُجِيبَ بِأنَّ سُبْحانَ فِيهِ عَلى حَذْفِ المُضافِ إلَيْهِ أيْ سُبْحانَ اللَّهِ، وهو مُرادٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، وأُبْقِيَ المُضافُ عَلى حالِهِ مُراعاةً لِأغْلَبِ أحْوالِهِ، وهو التَّجَرُّدُ عَنِ التَّنْوِينِ، وقِيلَ: مِن زائِدَةٌ والإضافَةُ لِما بَعْدَها عَلى التَّهَكُّمِ، والِاسْتِهْزاءِ بِهِ، ومِنَ الغَرِيبِ قَوْلُ بَعْضٍ: إنَّ مَعْنى سُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لَكَ بَعْدَ تَنْزِيهٍ، كَما قالُوا في لَبَّيْكَ إجابَةً بَعْدَ إجابَةٍ، ويَلْزَمُ عَلى هَذا ظاهِرًا أنْ يَكُونَ مُثَنًّى، ومُفْرَدُهُ سُبْحًا، وأنْ لا يَكُونَ مَنصُوبًا بَلْ مَرْفُوعٌ، وأنَّهُ لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ لِلْإضافَةِ، وإنَّما التُزِمَ فَتْحُها، ويا سُبْحانَ اللَّهِ تَعالى لِمَن يَقُولُ ذَلِكَ، والغَرَضُ مِن هَذا الجَوابِ الِاعْتِرافُ بِالعَجْزِ عَنْ أمْرِ الخِلافَةِ، والقُصُورِ عَنْ مَعْرِفَةِ الأسْماءِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ، كَأنَّهم قالُوا: لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمَتْنا، ولَمْ تُعَلِّمْنا الأسْماءَ فَكَيْفَ نَعْلَمُها، وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ سُؤالَهم لَمْ يَكُنْ إلّا اسْتِفْسارًا إذْ لا عِلْمَ لَهم إلّا مِن طَرِيقِ التَّعْلِيمِ، ومِن جُمْلَتِهِ عِلْمُهم بِحِكْمَةِ الِاسْتِخْلافِ مِمّا تَقَدَّمَ فَهو بِطَرِيقِ التَّعْلِيمِ أيْضًا، فالسُّؤالُ المُتَرَتِّبُ هو عَلَيْهِ سُؤالُ مُسْتَفْسِرٍ لا مُعْتَرِضٍ، وثَناءٌ عَلَيْهِ تَعالى بِما أفاضَ عَلَيْهِمْ مَعَ غايَةِ التَّواضُعِ، ومُراعاةِ الأدَبِ، وتَرْكِ الدَّعْوى، ولِهَذا كُلِّهِ لَمْ يَقُولُوا لا عِلْمَ لَنا بِالأسْماءِ، مَعَ أنَّهُ كانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ ذَلِكَ، ومَن زَعَمَ عَدَمَ العِصْمَةِ جَعَلَ هَذا تَوْبَةً، والإنْصافُ أنَّهُ يُشْبِهُها، ولَكِنْ (p-227)لا عَنْ ذَنْبٍ مُخِلٍّ بِالعِصْمَةِ، بَلْ عَنْ تَرْكٍ أوْلى بِالنِّسْبَةِ إلى عُلُوِّ شَأْنِهِمْ، ورِفْعَةِ مَقامِهِمْ، إذِ اللّائِقُ بِحالِهِمْ عَلى العِلّاتِ أنْ يَتْرُكُوا الِاسْتِفْسارِ ويَقِفُوا مُتَرَصِّدِينَ، لِأنْ يَظْهَرَ حَقِيقَةُ الحالِ، (وما) عِنْدَ الجُمْهُورِ مَوْصُولَةٌ حُذِفَ عائِدُها، وهي إمّا في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى البَدَلِ، أوْ نَصْبٍ عَلى الِاسْتِثْناءِ وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْراوِيِّ أنَّها في مَوْضِعِ نَصْبٍ (بِعَلَّمَتْنا)، ويَتَكَلَّفُ لِتَوْجِيهِهِ بِأنَّ الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ فَإلّا بِمَعْنى لَكِنْ، وما شَرْطِيَّةٌ، والجَوابُ مَحْذُوفٌ، كَأنَّهم نَفَوْا أوَّلًا سائِرَ العُلُومِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكُوا أنَّهُ في المُسْتَقْبَلِ، أيُّ شَيْءٍ عَلَّمَهم عَلِمُوهُ، ويَكُونُ ذَلِكَ أبْلَغَ في تَرْكِ الدَّعْوى كَما لا يَخْفى، ﴿إنَّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ تَذْيِيلٌ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ، ولَمّا نَفَوُا العِلْمَ عَنْ أنْفُسِهِمْ أثْبَتُوهُ لِلَّهِ تَعالى عَلى أكْمَلِ أوْصافِهِ وأرْدَفُوهُ بِالوَصْفِ بِالحِكْمَةِ لَمّا تَبَيَّنَ لَهم ما تَبَيَّنَ، وأصْلُ الحِكْمَةِ المَنعُ ومِنهُ حَكَمَةُ الدّابَّةِ لِأنَّها تَمْنَعُها عَنِ الِاعْوِجاجِ، ويُقالُ لِلْعِلْمِ لِأنَّهُ يَمْنَعُ عَنِ ارْتِكابِ الباطِلِ، ولِإتْقانِ الفِعْلِ لِمَنعِهِ عَنْ طُرُقِ الفَسادِ والِاعْتِراضِ، وهو المُرادُ ها هُنا، لِئَلّا يَلْزَمَ التَّكْرارُ، فَمَعْنى الحَكِيمِ ذُو الحِكْمَةِ، وقِيلَ: المُحْكِمُ لِمُبْدَعاتِهِ، قالَ في البَحْرِ: وهو عَلى الأوَّلِ صِفَةُ ذاتٍ، وعَلى الثّانِي صِفَةُ فِعْلٍ، والمَشْهُورُ أنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ العَلِيمُ كانَ مِن صِفاتِ الذّاتِ، أوِ الفاعِلِ لِما لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ كانَ مِن صِفاتِ الفِعْلِ، فافْهَمْ، وقَدَّمَ سُبْحانَهُ الوَصْفَ بِالعِلْمِ عَلى الوَصْفِ بِالحِكْمَةِ لِمُناسَبَةِ ما تَقَدَّمَ مِن (أنْبِئُونِي)، و(لا عِلْمَ لَنا)، ولِأنَّ الحِكْمَةَ لا تَبْعُدُ عَنِ العِلْمِ، ولِيَكُونَ آخِرُ مَقالَتِهِمْ مُخالِفًا لِما يُتَوَهَّمُ مِن أوَّلِها، (وأنْتَ) يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ فَصْلًا لا مَحَلَّ لَهُ عَلى المَشْهُورِ، يُفِيدُ تَأْكِيدَ الحُكْمِ، والقَصْرَ المُسْتَفادَ مِن تَعْرِيفِ المُسْنَدِ، وقِيلَ: هو تَأْكِيدٌ لِتَقْرِيرِ المُسْنَدِ إلَيْهِ، ويَسُوغُ في التّابِعِ ما لا يَسُوغُ في المَتْبُوعِ، وقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ما بَعْدَهُ، (والحَكِيمُ) إمّا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أوْ نَعْتٌ لَهُ، وحُذِفَ مُتَعَلِّقُهُما لِإفادَةِ العُمُومِ، وقَدْ خَصَّهُما بَعْضٌ فَقالَ: العَلِيمُ بِما أمَرْتَ ونَهَيْتَ، الحَكِيمُ فِيما قَضَيْتَ وقَدَّرْتَ، والعُمُومُ أوْلى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب