الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ﴾الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُهُ، فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ الْجُدُرُ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهَا الْأَسَاسُ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ الْبَيْتَ لَمَّا هُدِمَ أُخْرِجَتْ مِنْهُ حِجَارَةٌ عِظَامٌ) فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَذِهِ الْقَوَاعِدُ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوَاعِدَ كَانَتْ قَدِ انْدَرَسَتْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهَا. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَضَعَ الْبَيْتَ عَلَى أَرْكَانٍ رَآهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ. وَالْقَوَاعِدُ وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ. وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ وَاحِدهَا قَاعِدٌ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ بَنَى الْبَيْتَ أَوَّلًا وَأَسَّسَهُ، فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ. رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سُئِلَ أَبِي وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ بَدْءِ خَلْقِ الْبَيْتِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا قَالَ:" إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً "قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:" أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ" فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، فَعَاذُوا بِعَرْشِهِ وَطَافُوا حَوْلَهُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَسْتَرْضُونَ رَبَّهُمْ حَتَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ لَهُمُ: ابْنُوا لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ يَتَعَوَّذُ بِهِ مَنْ سَخِطْتُ عَلَيْهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَطُوفُ حَوْلَهُ كَمَا طُفْتُمْ حَوْلَ عَرْشِي، فَأَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيَتْ عَنْكُمْ، فَبَنَوْا هَذَا الْبَيْتَ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى آدَمَ: إِذَا هَبَطْتَ ابْنِ لِي بَيْتًا ثُمَّ احْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بِعَرْشِي الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ عَطَاءٌ: فَزَعَمَ النَّاسُ أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: مِنْ حِرَاءٍ، وَمِنْ طُورِ سِينَا، وَمِنْ لُبْنَانَ، وَمِنْ الْجُودِيِّ، وَمِنْ طُورِ زَيْتًا، وَكَانَ رُبْضُهُ [[الربض (بضم الراء، وبسكون الباء وضمها): الأساس. وبفتحهما: ما حول المدينة.]] مِنْ حِرَاءٍ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَالرُّبُضُ هَا هُنَا الْأَسَاسُ الْمُسْتَدِيرُ بِالْبَيْتِ مِنَ الصَّخْرِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَا حَوْلَ الْمَدِينَةِ: رَبُضٌ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ لَهُ: يَا آدَمُ، اذْهَبْ فَابْنِ لِي بَيْتًا وَطُفْ بِهِ وَاذْكُرْنِي عِنْدَهُ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي، فَأَقْبَلَ آدَمُ يَتَخَطَّى وَطُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ، وَقُبِضَتْ لَهُ المفازة، فلا يقع قدمه على شي مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا صَارَ عُمْرَانًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرَبَ بِجَنَاحَيْهِ الْأَرْضَ فَأَبْرَزَ عَنْ أُسٍّ ثَابِتٍ عَلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَقَذَفَتْ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِالصَّخْرِ، فَمَا يُطِيقُ الصَّخْرَةَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَأَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: أَنَّهُ أُهْبِطَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيْمَةٌ مِنْ خِيَامِ الْجَنَّةِ، فَضُرِبَتْ فِي مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَيَطُوفَ حَوْلَهَا، فَلَمْ تَزَلْ بَاقِيَةً حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ ثُمَّ رُفِعَتْ. وَهَذَا مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ أُهْبِطَ مَعَهُ بَيْتٌ فَكَانَ يَطُوفُ بِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ وَلَدِهِ كَذَلِكَ إِلَى زَمَانِ الْغَرَقِ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ فَصَارَ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ. رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ فِي كِتَابِ "مِنْهَاجِ الدِّينِ" لَهُ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَا قَالَ قَتَادَةُ مِنْ أَنَّهُ أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ بَيْتٌ، أَيْ أُهْبِطَ مَعَهُ مِقْدَارُ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ طُولًا وَعَرْضًا وَسُمْكًا، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: ابْنِ بِقَدْرِهِ، وَتَحَرَّى [[في أ، ج، ز: "ويجوز أن يكون".]] أَنْ يَكُونَ بِحِيَالِهِ، فَكَانَ حِيَالَهُ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، فَبَنَاهَا فِيهِ. وَأَمَّا الْخَيْمَةُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُنْزِلَتْ وَضُرِبَتْ فِي مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِبِنَائِهَا فَبَنَاهَا كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ طُمَأْنِينَةٌ لِقَلْبِ آدَمَ ﷺ مَا عَاشَ ثُمَّ رُفِعَتْ، فَتَتَّفِقُ هَذِهِ الْأَخْبَارُ. فَهَذَا بِنَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ بناه إبراهيم عليه السلام. قال ابن جريح وَقَالَ نَاسٌ: أَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً فِيهَا رَأْسٌ، فَقَالَ الرَّأْسُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْخُذَ بِقَدْرِ هَذِهِ السَّحَابَةِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَخُطُّ قَدْرَهَا، ثُمَّ قَالَ الرَّأْسُ: إِنَّهُ قَدْ فَعَلْتَ، فَحَفَرَ فَأُبْرِزَ عَنْ أَسَاسٍ ثَابِتٍ في الأرض. وروي عن علي بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِعِمَارَةِ الْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ الشَّامِ وَمَعَهُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ وَأُمُّهُ هَاجَرُ، وَبَعَثَ مَعَهُ السَّكِينَةَ [[السكينة (بفتح فكسر): ريح خجوج، أي سريعة الحر؟.]] لَهَا لِسَانٌ تَتَكَلَّمُ بِهِ يَغْدُو مَعَهَا إِبْرَاهِيمُ إِذَا غَدَتْ، وَيَرُوحُ مَعَهَا إِذَا رَاحَتْ، حَتَّى انْتَهَتْ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: ابْنِ عَلَى مَوْضِعِي [[في ج: "ابن على موضع الأساس". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على مكة.]] الْأَسَاسَ، فَرَفَعَ الْبَيْتَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ، فَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، ابْغِنِي حَجَرًا أَجْعَلُهُ عَلَمًا لِلنَّاسِ، فَجَاءَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَرْضَهُ، وَقَالَ: ابْغِنِي غَيْرَهُ، فَذَهَبَ يَلْتَمِسُ، فَجَاءَهُ وَقَدْ أَتَى بِالرُّكْنِ فَوَضَعَهُ مَوْضِعَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَةِ، مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْحَجَرِ؟ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يكلني إليك. ابن عباس: صالح أَبُو قُبَيْسٍ [[في ج: "ابن على موضع الأساس". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على مكة.]]: يَا إِبْرَاهِيمُ، يَا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، إِنَّ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ فَخُذْهَا، فَإِذَا هُوَ بِحَجَرٍ أَبْيَضَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ كَانَ آدَمُ قَدْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ جَاءَتْ سَحَابَةٌ مُرَبَّعَةٌ فِيهَا رَأْسٌ فَنَادَتْ: أَنِ ارْفَعَا عَلَى تَرْبِيعِيَّ. فَهَذَا بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لَمَّا فَرَغَا مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أَعْطَاهُمَا اللَّهُ الْخَيْلَ جَزَاءً عَنْ رَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ هَمَّامِ أَخُو عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كانت الخبيل وَحْشًا كَسَائِرِ الْوَحْشِ، فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِرَفْعِ الْقَوَاعِدِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمَهُ: (إِنِّي مُعْطِيكُمَا كَنْزًا ادَّخَرْتُهُ لَكُمَا) ثُمَّ أَوْحَى إِلَى إِسْمَاعِيلَ أَنِ اخْرُجْ إِلَى أَجْيَادٍ فَادْعُ يَأْتِكَ الْكَنْزُ. فَخَرَجَ إِلَى أَجْيَادٍ- وَكَانَتْ وَطَنًا- وَلَا يَدْرِي مَا الدُّعَاءُ وَلَا الْكَنْزُ، فَأَلْهَمَهُ، فَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَرَسٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ إِلَّا جَاءَتْهُ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَوَاصِيهَا وَذَلَّلَهَا لَهُ، فَارْكَبُوهَا وَاعْلِفُوهَا فَإِنَّهَا مَيَامِينُ، وَهِيَ مِيرَاثُ أَبِيكُمْ إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّمَا سُمِّيَ [[هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا.]] الْفَرَسُ عَرَبِيًّا لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ وَإِيَّاهُ أَتَى. وَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ بِالطِّينِ وَالْحِجَارَةِ شِيثٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا بُنْيَانُ قُرَيْشٍ لَهُ فَمَشْهُورٌ، وَخَبَرُ الْحَيَّةِ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ، وَكَانَتْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ هَدْمِهِ إِلَى أَنِ اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ الْمَقَامِ فَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا: رَبَّنَا، لَمْ تُرَعْ! أَرَدْنَا تَشْرِيفَ بَيْتِكَ وَتَزْيِينَهُ، فَإِنْ كُنْتَ تَرْضَى بِذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا بَدَا لك فافعل، فسمعوا خَوَاتًا مِنَ السَّمَاءِ- وَالْخَوَاتُ: حَفِيفُ جَنَاحِ الطَّيْرِ الضَّخْمِ- فَإِذَا هُوَ بِطَائِرٍ أَعْظَمَ مِنَ النَّسْرِ، أَسْوَدَ الظَّهْرِ أَبْيَضَ الْبَطْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَغَرَزَ مَخَالِيبَهُ فِي قَفَا الْحَيَّةِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهَا تَجُرُّ ذَنَبهَا أَعْظَمَ مِنْ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْطَلَقَ بِهَا نَحْوَ أَجْيَادٍ، فَهَدَمَتْهَا قُرَيْشٌ وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَبَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ [[النمرة: كل شملة مخططة من مآزر العرب.]] فَضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ فَذَهَبَ يَرْفَعُ النَّمِرَةَ عَلَى عَاتِقِهِ، فَتُرَى عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِ النَّمِرَةِ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ، خَمِّرْ عَوْرَتَكَ، فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدُ. وَكَانَ بَيْنَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمْسُ سِنِينَ، وَبَيْنَ مَخْرَجِهِ وَبِنَائِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ. وَذُكِرَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا وَبَلَغُوا مَوْضِعَ الرُّكْنِ اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ، أَيُّ الْقَبَائِلِ تَلِي رَفْعَهُ؟ حَتَّى شَجَرَ بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: تَعَالَوْا نُحَكِّمُ أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ غُلَامٌ عَلَيْهِ وِشَاحُ نَمِرَةٍ، فَحَكَّمُوهُ فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ أَمَرَ سَيِّدَ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَأَعْطَاهُ نَاحِيَةً مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ الرُّكْنَ، فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ ﷺ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرُّكْنِ كِتَابًا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَلَمْ يُدْرِ مَا هُوَ، حَتَّى قَرَأَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ يَهُودِ، فَإِذَا فِيهِ:" أَنَا اللَّهُ ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات وَالْأَرْضَ وَصَوَّرْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ لَا تَزُولُ حَتَّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا [[الاخشان: الحبلان المطيفان بمكة، وهما: أبو قبيس، والأحمر.]]، مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي الْمَاءِ وَاللَّبَنِ". وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ بَابُ الْكَعْبَةِ عَلَى عَهْدِ الْعَمَالِيقِ وَجُرْهُمُ وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَرْضِ حَتَّى بَنَتْهُ قُرَيْشٌ. خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْجَدْرِ [[الجدر: (بفتح الجيم وإسكا- الدال): حجر الكعبة (بكسر الحاء).]] أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ يُدْخِلُوهُ [فِي الْبَيْتِ [[الزيادة عن صحيح مسلم.]]]؟ قَالَ: (إِنَّ قَوْمَكِ قصرت بهم النفقة). قلت: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: (فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافَ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ (. وَخُرِّجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَالَتِي (يَعْنِي عَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتْ الْكَعْبَةَ (. وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ [أَبِيهِ عَنْ [[الزيادة عن صحيح مسلم.]]] عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:) لَوْلَا حَدَاثَةُ [عَهْدِ [[الزيادة عن صحيح مسلم.]]] قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتْ الْكَعْبَةَ اسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا (. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: يَعْنِي بَابًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا:) لَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفَيْنِ) يَعْنِي بَابَيْنِ، فَهَذَا بِنَاءُ قُرَيْشٍ. ثُمَّ لَمَّا غَزَا أَهْلُ الشَّامِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَوَهَتْ الْكَعْبَةُ مِنْ حَرِيقِهِمْ، هَدَمَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَبَنَاهَا عَلَى مَا أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَزَادَ فِيهِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ، فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ تَخْتَلِفُ. وَذَكَرَ سُفْيَانُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَهْدِمَ الْكَعْبَةَ وَيَبْنِيَهُ [[كذا في نسخ الأصل. ولمعل تذكير الضمير على بمعنى البيت.]] قَالَ لِلنَّاسِ: اهْدِمُوا، قَالَ: فَأَبَوْا أَنْ يَهْدِمُوا وَخَافُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَخَرَجْنَا إِلَى مِنًى فَأَقَمْنَا بِهَا ثَلَاثًا نَنْتَظِرُ الْعَذَابَ. قَالَ: وَارْتَقَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ هُوَ بِنَفْسِهِ، فلما رأوا أنه لم يصبه شي اجْتَرَءُوا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: فَهَدَمُوا. فَلَمَّا بَنَاهَا جَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا يَدْخُلُونَ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَزَادَ فِيهِ مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ سِتَّةَ أَذْرُعٍ، وَزَادَ فِي طُولِهَا تِسْعَةَ أَذْرُعٍ. قَالَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك ابن مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ العدول من أهل مَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا من تلطيخ ابن الزبير في شي [[قوله: إنا لسنا ... إلخ، قال النووي: "يريد بذلك سبه وعيب فعله، يقال: لطخته أي رميته بأمر قبيح".]]، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ الْبَابُ الَّذِي فَتَحَهُ، فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ. فِي رِوَايَةٍ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ (يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ) سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: بَلَى، أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا، قَالَ: سَمِعْتَهَا تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ [[كان في صحيح مسلم. وفى نسخ الأصل: "تمامه".]] فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ من بعدي أن يبنوه فهلمي لأربك مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ (. فِي أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ. فَهَذَا مَا جَاءَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مِنَ الْآثَارِ. وَرُوِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ ذَكَرَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ مَا بَنَى الْحَجَّاجُ مِنَ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَامْتَثَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَّا تَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ، لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا نَقْضَ الْبَيْتَ وَبِنَاهُ، فَتَذْهَبُ هَيْبَتُهُ مِنْ صُدُورِ الناس. وذكر الوافدي: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ،: نَهَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ سَبِّ أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيِّ، وَهُوَ تُبَّعٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ، وَهُوَ تُبَّعُ الْآخَرُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ [[القباطي (جمع القبطية القاف): ثياب كتاب بيض رقاق تعمل بمصر، وهى منسوبة إلى القبط على غير قياس.]] ثُمَّ كُسِيَتِ الْبُرُدَ، وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا يَنْبَغِي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شي، فإنه مهدي إليها، ولا ينقص منها شي. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ يُسْتَشْفَى بِهِ، وَكَانَ إِذَا رَأَى الْخَادِمَ يَأْخُذُ مِنْهُ قَفَدَهَا قَفْدَةً [[القفد (بفتح فسكون): صفع الرأس ببسط الكف من قبل القفا.]] لَا يَأْلُو أَنْ يُوجِعَهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ أَحَدُنَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَشْفِيَ بِهِ جَاءَ بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ فَمَسَحَ بِهِ الحجر ثم أخذه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ الْمَعْنَى: وَيَقُولَانِ "رَبَّنا"، فَحَذَفَ. وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا". وَتَفْسِيرُ إِسْمَاعِيلَ: اسْمَعْ يَا أَللَّهُ، لِأَنَّ "إِيلَ" بِالسُّرْيَانِيَّةِ هُوَ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ص ٣٦ من هذا الجزء.]]. فَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَعَا رَبَّهُ قَالَ: اسْمَعْ يَا إِيلُ، فَلَمَّا أَجَابَهُ رَبُّهُ وَرَزَقَهُ الْوَلَدَ سَمَّاهُ بِمَا دَعَاهُ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْكِتَابِ "الأسنى في شرج أسماء الله الحسنى".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب