الباحث القرآني
قال اللهُ تعالى: ﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [البقرة: ١٢٧].
مِن معاني الرَّفْعِ في القرآن:
المرادُ بالرفعِ هنا: هو البناءُ والتشييدُ، وذلك لقرينةِ قولِه: ﴿القَواعِدَ﴾، وقد يَرِدُ الرفعُ ويرادُ به التطهيرُ والتنزيهُ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ ﴾ [النور: ٣٦]، فالرفعُ هنا: رفعُ شأنِها بالعبادةِ والذِّكْرِ والدعاءِ، وتنزيهُها عن اللَّغوِ ورديءِ القولِ.
عمارةُ المساجِدِ وصفتها:
وفي الآيةِ: دليلٌ على مشروعيَّةِ عِمارةِ المساجدِ وتشييدِها ورَفْعِها وإحسانِ بنائِها، وأنّ مِثلَ هذه المهمَّةِ شرفٌ عظيمٌ خَصَّ اللهُ به إمامَ الحنيفيَّةِ إبراهيمَ وابنَه إسماعيلَ، وهو فيمَن دُونَهم أحقُّ، وفضلُ بناءِ المساجدِ وتشييدِها ورَدَتْ به نصوصٌ كثيرةٌ متواترةٌ، ففي «الصحيحَيْنِ»، عن عثمانَ بنِ عفانَ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: (مَن بَنى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وجْهَ اللهِ، بَنى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ) [[أخرجه البخاري (٤٥٠) (١/٩٧)، ومسلم (٥٣٣) (١/٣٧٨).]].
وعند أبي داودَ، والتِّرمِذيِّ، عن عائشةَ، قالتْ: «أمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ ببناءِ المساجدِ في الدُّورِ، وأنْ تنظَّفَ وتطَيَّبَ»[[تقدم تخريجه.]].
وليس للمسجدِ صورةٌ أو هيئةٌ معيَّنةٌ يُبنى عليها، سواءٌ بُنِيَ مستديرًا أو مربَّعًا، أو مستطيلًا أو مثلَّثًا، وإنّما المقصودُ أن يكونَ بناءً يَجْمَعُ الناسَ ويُكِنُّهم، قال البخاريُّ: «قال عمرُ: أكِنَّ النّاسَ مِنَ المَطَرِ، وإيّاكَ أنْ تُحَمِّرَ أوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ النّاسَ»[[أخرجه البخاري معلَّقًا (١/٩٦).]].
ولذا كانتِ الكَعْبةُ على غيرِ صفةٍ معيَّنةٍ، فليستْ بالمربَّعةِ ولا المستطيلةِ المستويةِ ولا المستديرةِ، فلها زوايا مِن جهةِ اليمنِ، واستدارةٌ مِن جهةِ الشامِ ناحيةَ الحِجْرِ.
والذي ينبَغي: أنْ تُتْقَنَ المساجدُ بناءً كما تُتقَنُ البيوتُ، لا أنْ تُصفَّرَ وتُزخرَفَ، كما يصنعُ الناسُ في بيوتِهم، وإنّما ينبَغي أنْ يكونَ البناءُ مُتقَنًا حَسَنًا كما يُتْقِنون بيوتَهم، فلا تكونُ مساجدُهم دونَ جَوْدةِ بيوتِهم.
فقد أخرَجَ أحمدُ، مِن حديثِ ابنِ إسحاقَ: حدَّثَني عمرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، عن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيْرِ، عمَّن حدَّثه مِن أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يأمُرُنا أنْ نَصْنَعَ المَساجِدَ في دُورِنا، وأنْ نُصلِحَ صَنْعَتَها ونُطهِّرَها»[[أخرجه أحمد (٢٣١٤٦) (٥/٣٧١).]].
والمقصودُ بالدُّورِ في الحديثِ هنا: هو أماكنُ مجامعِ الناسِ، وهي مواضعُ القبائلِ، كما في الحديثِ: (خَيْرُ دُورِ الأَنْصارِ: بَنُو النَّجّارِ، ثُمَّ بَنُو عبدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الحارِثِ بنِ خَزْرَجٍ، ثُمَّ بَنُو ساعِدَةَ، وفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصارِ خَيْرٌ)، رواهُ الشيخانِ، عن أبي أُسَيْدٍ[[أخرجه البخاري (٣٧٨٩) (٥/٣٣)، ومسلم (٢٥١١) (٤/١٩٤٩).]].
وبهذا فسَّرَهُ سُفْيانُ الثَّوْريُّ ووَكِيعٌ، وفيه دليلٌ على تعدُّدِ المساجدِ بحسَبِ حاجةِ الناسِ، وأنّ ذلك واجبٌ لإقامةِ الصلاةِ.
ورفعُ قواعدِ البيتِ في الآيةِ أُرِيدَ به: إبرازُها لتُرى فتعظُمَ في نفسِ الرّائي، على وصفٍ حَدَّهُ اللهُ لهم، لا يُزادُ عليه ولا يُنقَصُ، وذكَرَ القواعدَ لبيانِ أنّ حَدَّها في الأرضِ موقوفٌ لا يتَّسِعُ ولا يَضِيقُ لرغبةِ أحدٍ أو لهَواه.
المَنارةُ للمسجدِ:
ويُستَحَبُّ رفعُ المساجدِ وإبرازُها لتُرى وتُعرَفَ مِن القاصِدِينَ، حاضِرِينَ أو مسافِرِينَ، وأمّا وضعُ المِئْذَنةِ للمسجدِ، وتُسمّى: «المنارةَ»، فلم تكنْ معروفةً في زمنِ النبيِّ ﷺ، ولا زمنِ الخلفاءِ الراشِدِين.
وقد ذكَرَ البَلاذُرِيُّ في «فتوحِ البُلْدانِ»: أنّ أولَ مِئْذَنةٍ بُنِيَتْ في الإسلامِ كانتْ على يدِ زيادِ ابنِ أبيهِ عاملِ معاويةَ على البَصْرةِ عامَ خمسةٍ وأربعينَ[[«فتوح البلدان» (١/٣٣٩).]].
وذكَرَ المَقْرِيزيُّ: أنّ أولَ مآذنِ الإسلامِ: ما وُضِعَ في جامعِ عمرِو بنِ العاصِ مِن صَوامِعَ أربعٍ فوقَهُ، بناها مَسْلَمَةُ بنُ مخلَّدٍ والي مصرَ في أولِ زمنِ بني أُمَيَّةَ، ثمَّ أصبَحَتْ علامةً للمساجدِ تُعرَفُ بها[[ينظر: «النجوم الزاهرة، في ملوك مصر والقاهرة» (١/٦٨).]].
وقد كان السلفُ في الصَّدْرِ الأولِ يؤذِّنونَ على السُّطُوحِ، وكانوا يُسمُّونَ سَطْحَ المسجدِ: «مَنارةً»، وليس المرادُ به: ما يصطلِحُ عليه الناسُ في زمانِنا أنّ المنارةَ هي البناءُ والأعمدةُ التي تُرفَعُ طويلًا.
ففي «المصنَّفِ» لابنِ أبي شَيْبةَ: عن عبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ، قال: «مِن السُّنَّةِ الأَذانُ في المَنارةِ، والإقامةُ في المسجدِ، وكان ابنُ مسعودٍ يَفْعَلُه»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٣٣١) (١/٢٠٣).]]. ومرادُه بذلك: سطحُ المسجدِ.
وما يُترجِمُ عليه الأئمةُ في مصنَّفاتِهم، كأبي داودَ في «سننِه»، قال: «بابُ الأذانِ فوقَ المَنارةِ»[[«سنن أبي داود» (١/١٤٣).]]. وبمعناهُ عندَ ابنِ أبي شَيْبةَ في «مصنَّفِه»، والبيهقيِّ في «سننِه»[[«مصنف ابن أبي شيبة» (١/٢٠٣)، و«السنن الكبرى» للبيهقي (١/٤٢٥).]] ـ فمرادُهم بذلك السطوحُ، ولذا قال في الأثرِ السابقِ: «الأذانُ في المنارةِ، والإقامةُ في المسجدِ»، يعني: فوقَ المسجدِ وداخِلَهُ.
والحِكْمةُ مِن الأذانِ فوقَ السطوحِ: الإسماعُ، ومع حصولِ الأجهزةِ الحديثةِ، فلا حاجةَ إلى ذلك، فالصعودُ ليس سُنَّةً في ذاتِه، وأمّا صنع المآذنِ والمناراتِ في المساجدِ، فمستَحَبٌّ لكثرةِ الناسِ وتباعُدِهِمْ عن المساجدِ في زمنِنا، وكثرةِ ما يَمْنَعُ وصولَ الصوتِ إليهم مِن تطوُّرِ البناءِ الذي يَعْزِلُ الصوتَ، وكثرةِ الموانعِ مِن السماعِ مِن الآلاتِ والسياراتِ، فقد استُحبَّ صنعُ المناراتِ والمآذنِ ليتحقَّقَ المقصودُ مِن السماعِ.
{"ayah":"وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق