الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت. * * * و"القواعد" جمع"قاعدة"، يقال للواحدة من"قواعد البيت""قاعدة"، وللواحدة من"قواعد النساء" وعجائزهن"قاعد"، فتلغى هاء التأنيث، لأنها"فاعل" من قول القائل:"قعدت عن الحيض"، ولا حظَّ فيه للذكورة، كما يقال:"امرأة طاهر وطامث"، لأنه لا حظ في ذلك للذكور. ولو عنى به"القعود" الذي هو خلاف"القيام"، لقيل:"قاعدة"، ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث. و"قواعد البيت": إساسه. [[الإساس (بكسر الهمزة) جمع أس (بضم الهمزة) ، وجمع الأساس، أسس (بضمتين) وجمع الأسس (بفتحتين) آساس (بالمد) ، وكلها بمعنى واحد.]] * * * ثم اختلف أهل التأويل في"القواعد" التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت. أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما؟ فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفَّى أثرُه بعده، حتى بوأه الله إبراهيم عليه والسلام، فبناه. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٣٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قال آدم: يا رب، إني لا أسمع أصوات الملائكة! قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض، وابن لي بيتا، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من"حراء" و"طورزيتا"، و"طورسينا"، و"جبل لبنان"، و"الجودي"، وكان ربضه من حراء. فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد. [[الأثر: ٢٠٣٧- في تفسير ابن كثير ١: ٣٢٥، وقال: "وهذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارة والله أعلم". وربض البناء (بفتحتين) وربضه (بضم فسكون) : هو وسطه الذي يربض عليه، أي يستقر ويثبت.]] ٢٠٣٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك. * * * وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٣٩- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: إني مهبط معك -أو منزل - معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله إبراهيم، وأعلمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل: من"حراء" و"ثبير" و"لبنان" و"جبل الطور" و"جبل الخمر". [[الخبر: ٢٠٣٩- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي، وهو ثقة، من شيوخ الشافعي وأحمد وأضرابهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٧١، وابن سعد ٧/٢/٤٤. أيوب: هو ابن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة حجة. قال شعبة: "كان سيد الفقهاء". مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٤٠٩-٤١٠، وابن سعد ٧/٢/١٤-١٧، وابن أبي حاتم. أبو قلابة، بكسر القاف وتخفيف اللام: هو عبد الله بن زيد الجرمي. وهو تابعي ثقة مشهور. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧/١/١٣٣-١٣٥، وابن أبي حاتم ٢/٢/٥٧-٥٨. وهذا الخبر ذكره السيوطي ١: ١٢٧، ونسبه الطبري وابن أبي حاتم، والطبراني، عن"عبد الله بن عمرو بن العاص". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٢٨٨، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، موقوفا، ورجاله رجال الصحيح". وهو كما قال. ولكن ليس فيه حجة، ولعله مما كان يسمع عبد الله بن عمرو من أخبار أهل الكتاب. جبل الخمر: هو جبل بيت المقدس، سمي بذلك لكثرة كرومه (ياقوت) .]] ٢٠٤٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا إسماعيل بن علية قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: لما أهبط آدم، ثم ذكر نحوه. ٢٠٤١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار [ختن عطاء] ، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه إلى الأرض. فلما فقد ما كان يسمع منهم، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته، فوجه إلى مكة، فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفازة، حتى انتهى إلى مكة. وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم فبناه. فذلك قول الله:"وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت". [[الأثر: ٢٠٤١- في تاريخ الطبري ١: ٦١، والزيادة بين القوسين منه. وفي تفسير ابن كثير ١: ٣٢٥، وقال"هذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارة، والله أعلم"، ومعه أيضًا الأثر الذي سلف رقم: ٢٠٣٧.]] ٢٠٤٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم، حين أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا: فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فقال الله: يا آدم، إني قد أهبطت إليك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي. فانطلق إليه آدم فخرج، ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك. فأتى آدم البيت وطاف به ومن بعده من الأنبياء. ٢٠٤٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبان: أن البيت أهبط ياقوتة واحدة -أو درة واحدة- حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه، وبقي أساسه، فبوأه الله لإبراهيم، فبناه بعد ذلك. * * * وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوه حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء، [[الزبد (بفتحتين) : هو ما يطفو على الماء من رغوته البيضاء. والطائفة من الزبد، زبدة (بفتح فسكون) .]] وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه. وقالوا: أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٤٤- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال جرير بن حازم، حدثني حميد بن قيس، عن مجاهد قال: كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، مثل الزبْدة البيضاء، ومن تحته دحيت الأرض. ٢٠٤٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحا فصفقت الماء، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت منها. فلذلك هي"أم القرى". قال ابن جريج، قال عطاء: ثم وَتَدها بالجبال كي لا تكفأ بميد، فكان أول جبل"أبو قيس". [[صفقت الريح الماء (بفتح الفاء، وبتشديدها مع الفتح) : ضربته وقلبته يمينا وشمالا. والحشفة: صخرة رخوة في سهل الأرض. ويقال للجزيرة في البحر لا يعلوها الماء: "حشفة"، وجمعها حشاف (بكسر الحاء) ، إذا كانت صغيرة مستديرة. وكفأ الشيء يكفؤه: قلبه. وماد الشيء يميد ميدا. تحرك ومال.]] ٢٠٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: وضع البيت على أركان الماء، على أربعة أركان، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت [[قال مصحح النسخة المطبوعة: "قوله: وضع البيت على أركان الماء. . . هكذا في الأصل وعبارة الدر المنثور: كان البيت على أربعة أركان في الماء" وهذا تعليق غريب جدا، فإن نص الدر المنثور ١: ١٢٧، هو نفس نص الطبري، وهو نفس ما نقله ابن كثير في تفسيره عن الطبري ١: ٣٢٦. وعبارة الطبري صحيحة.]] . ٢٠٤٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنتره، عن عطاء بن أبي رباح قال: وجدوا بمكة حجرا مكتوبا عليه:"إني أنا الله ذو بكة بنيته يوم صنعت الشمس والقمر، وحففته بسبعة أملاك حنفاء" [[الأثر: ٢٠٤٧- لم أجده من طريق عطاء بن أبي رباح، ولكنه مروي عن ابن عباس، ومجاهد في أخبار مكة للأزرقي ١: ٣٧-٣٨، بألفاظ مختلفة، في خبر طويل تام اختصره أبو جعفر. ونص خبر مجاهد: "وجد في بعض الزبور: أنا الله ذو بكة، جعلتها بين هذين الجبلين، وصغتها يوم صغت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء. . . ". وأما ابن إسحاق فقال (سيرة ابن هشام ١: ٢٠٨) ؛"حدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن". قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها". أما قوله: "حنفاء" فجمع حنيف، وهو المسلم الذي قال لا إله إلا الله ثم استقام على الطريق. ووصف الملائكة بأنهم حنفاء، لطاعتهم واستقامتهم في عبادة ربهم، وصبرهم أنفسهم على ما أمروا به من حفظ هذا البيت المطهر. . وانظر تفسير"حنفاء" في الآثار رقم: ٢٠٩٦، ٢٠٩٨، ٢٠٩٩. هذا وقد كان في المطبوعة: "حففته بسبعة أملاك حفا"، وهو خطأ صوابه ما أثبت من المراجع، أخبار مكة للأزرقي ١: ٣٧-٣٨، وسيرة ابن هشام ١: ٢٠٨، والسهيلي في الروض الأنف ١: ١٣١.]] . ٢٠٤٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه بإسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع. وحملوا -فيما حدثني- على البراق ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم. فخرج وخرج معه جبريل، فقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه! حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر، وبها أناس يقال لهم"العماليق" خارج مكة وما حولها، [[في المطبوعة: "يربها أناس يقال لهم. . . "، وهي صحيحة المعنى: أي يملكها العماليق وهم سادتها وأصحابها. من ذلك حديث صفوان بن أمية حين قال لأبي سفيان: "لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن". أي يكون ربا فوقي وسيدا يملكني. ولكني أثبت ما في تاريخ الطبري، وما نقله عنه ابن كثير، وأخبار مكة للأزرقي.]] والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا، فقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ إلى قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ . [سورة إبراهيم: ٣٧] قال ابن حميد: قال، سلمة قال، ابن إسحاق: ويزعمون -والله أعلم- أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أم إسماعيل - حين أنزلهما إبراهيم مكة، قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت - فأشار لها إلى البيت، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لها: [[في المطبوعة: "فأشار لهما. . فقال لهما. . " على التثنية، وهو خطأ محض، فإن الخطاب لهاجر وحدها، كما يدل عليه السياق قبل وبعد، والصواب في أخبار مكة للأزرقي.]] هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل هما يرفعانه للناس. [[الأثر: ٢٠٤٨- الفقرة الأولى من هذا الأثر في تاريخ الطبري ١: ١٣٠ مع بعض الاختلاف في اللفظ في صدر الخبر، وفي أخبار مكة للأزرقي ١: ١٩، وفي تفسير ابن كثير ١: ٣٢٦. وأما الفقرة الأخيرة منه فهي في أخبار مكة للأزرقي ١: ٢٠-٢١، وقد كان مكان قوله في آخرها"يرفعانه للناس"، "يرفعانه فالله أعلم"، وهي زيادة من ناسخ في أغلب الظن. وأثبت نص ما جاء في أخبار مكة. والعضاه: كل شجر يعظم وله شوك شديد. والسلم والسمر: ضربان من شجر العضاه. وقوله: "مدرة"، أي طين يابس لزج، لا رمل فيه، وهو الطين الحر.]] ٢٠٤٩- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان قال، أخبرني حميد، عن مجاهد قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة. ٢٠٥٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، أخبرني بشر بن عاصم، عن ابن المسيب قال، حدثنا كعب: إن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة، ومنه دحيت الأرض. قال [سعيد] : وحُدّثنا عن علي بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة، تدله على تبوئ البيت، كما تتبوأ العنكبوت بيتها قال، فرفعت عن أحجار تطيقه -أو لا تطيقه- ثلاثون رجلا قال، قلت: يا أبا محمد فإن الله يقول:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، كان ذاك بعد. [[الخبر: ٢٠٥٠- بشر بن عاصم بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث الطائفي: ثقة، يروي عن سعيد بن المسيب. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٧٧-٧٨، وابن سعد ٥: ٣٨٠، وابن أبي حاتم ١/١/٣٦٠. وهذا الخبر خبران: أولهما عن كعب الأحبار. ولا قيمة له. والثاني عن علي بن أبي طالب. والظاهر أنه مما كان يتحدث به الصحابة من أخبار أهل الكتاب. وقد روى القسمين ابن أبي حاتم، فيما نقل ابن كثير ١: ٣٢٤-٣٢٥. عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن سفيان، وهو ابن عيينة، بهذا الإسناد. وروى الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٧ -خبر على وحده- من طريق زكريا بن إسحاق، عن بشر بن عاصم، به. وزكريا بن إسحاق المكي: ثقة. وكذلك روى خبر علي وحده - الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد، في تاريخ مكة ١: ٢٥ (طبعة مكة سنة ١٣٥٢) - عن جده، عن سفيان بن عيينة، عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب، "قال: أخبرني علي بن أبي طالب". وفي المطبوعة هنا - أول خبر علي: "قال: وحدثنا عن علي بن أبي طالب". فالذي يقول هذا: هو سعيد بن المسيب. وما أدري أوقعت الرواية للطبري هكذا، أم هو تحريف من الناسخين. فالذي في رواية ابن أبي حاتم: "قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب". ويؤيده رواية الحاكم: "عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب قال: حدثنا علي بن أبي طالب". وكذلك رواية الأزرقي. وهذا هو الصواب فيما أرى. وخبر علي: نقله أيضًا السيوطي ١: ١٢٦، ونسبه فوق هذا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. الغثاءة واحدة الغثاء، وهو ما يحمله السيل والماء من الزبد والهالك البالي من الشجر وغيره، يخالط الزبد. وفي ابن كثير: "فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا". والضمير في قوله: "تطيقه" إلى حجر من الأحجار المذكورة، إن لم يكن في الأصول تحريف أو سقط.]] * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل، رفعا القواعد من البيت الحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء، مما أنشأه الله من زبد الماء. وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل. ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي، [[مضى مثل هذا التعبير في ١: ٥٢٠ س ١٦، ثم ٢: ٥١٧ س ١٥.]] لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله ﷺ، بالنقل المستفيض. ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو - إذ لم يكن به خبر، على ما وصفنا - مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس، فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا. والله تعالى أعلم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا. وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن سعود. وهو قول جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٥١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم ربه، قال:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ربنا وابعث فيهم رسولا منهم". ٢٠٥٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني ابن كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" قال، هما يرفعان القواعد من البيت ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ يبني. * * * فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل قائلين: ربنا تقبل منا. * * * وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيل. فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، وإذ يقول ربنا تقبل منا. فيصير حينئذ"إسماعيل" مرفوعا بالجملة التي بعده. و"يقول" حينئذ، خبر له دون إبراهيم. * * * ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد، بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها. فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٥٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين". [[صدر هذا الخبر في تفسير ابن كثير: "وقال السدي: إن الله عز وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل: ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. فانطلق إبراهيم. . . " وفي تاريخ الطبري ١: ١٢٩: "قال: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين، انطلق إبراهيم. . . "]] قال: فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول، لا يدريان أين البيت. فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، [[في المطبوعة: "وعن أساس البيت" بزيادة الواو، ولا خير في زيادتها، وأثبت ما في التاريخ، وابن كثير. وفي ابن كثير: "فكشفت لهما" مكان"فكنست". والريح الخجوج: الشديدة المر، التي تلتوي في هبوبها، وتشق شقا بشدة عصفها.]] واتبعاها بالمعاول يحفران، حتى وضعا الأساس. فذلك حين يقول: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ . [سورة الحج: ٢٦] . فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا. قال: يا أبت، إني كسلان تعب. قال: علي بذلك. فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا. فانطلق يطلب له حجرا، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض، ياقوتة بيضاء مثل الثغامة. [[الثغامة: نبات ذو ساق جماحته مثل هامة الشيخ، أبيض الثمر والزهر، يشبه به بياض الشيب. وفي الحديث: أن رسول الله ﷺ أتى بأبي قحافة يوم الفتح، وكأن رأسه ثغامة، فأمرهم أن يغيروه.]] وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس. فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك! فبنياه. [[الأثر: ٢٠٥٢- في تاريخ الطبري ١: ١٢٩ صدره إلى قوله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت"، وهو بتمامه في تفسير ابن كثير ١: ٣٢٥. وقد مضى شطر من صدره بالرقم: ٢٠٠٩.]] ٢٠٥٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن عبد الله بن عروة، عن عبيد بن عمير الليثي قال: بلغني أن إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت. [[الخبر: ٢٠٥٤- عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام: من ثقات أتباع التابعين يروي أيضًا عن جده عروة بن الزبير، وأخرج له الشيخان في الصحيحين. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٣/١/١١٧، وكتاب الجمع بين رجال الصحيحين، ص: ٣٤١. ووقع في المطبوعة"عمرو بن عبد الله بن عتبة"، وهو خطأ كبير، فلا يوجد في الرواة من يسمى بهذا. ثم هذا الخبر نفسه كلمات قلائل، من خبر مطول في قصة، رواه الطبري في التاريخ ١: ١٣٤. بهذا الإسناد"عن عمر بن عبد الله بن عروة: أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك أن إبراهيم دعا إلى الحج؟ . . ". عبيد بن عمير الليثي: مضت ترجمته: ١٧٦٨.]] * * * وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم، وكان إسماعيل يناوله الحجارة. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٥٥- حدثنا أحمد بن ثابت الرازي قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة -يزيد أحدهما على الآخر-، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء إبراهيم، وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا! وأشار إلى الكعبة، والكعبة مرتفعة على ما حولها قال، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، حتى دور حول البيت. [[الحديث: ٢٠٥٥- أحمد بن ثابت بن عتاب الرازي، المعروف بفرخويه، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم ١/١/٤٤، ولسان الميزان ١: ١٤٣. وروى ابن أبي حاتم عن أبي العباس الطهراني قال، "كانوا لا يشكون أن فرخويه كذاب". وقد يصدق الكذوب! فالحديث في ذاته صحيح: رواه البخاري -مطولا جدا- عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد ٦: ٢٨٣-٢٨٩ (فتح) . والذي هنا قطعة منه. وقد ذكر ابن كثير ١: ٣٢٠-٣٢٢، رواية البخاري بطولها، ثم أشار إلى رواية الطبري هذه.]] ٢٠٥٦- حدثنا ابن سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء -يعني إبراهيم- فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء زمزم. قال إبراهيم: يا إسماعيل، إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا. فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك. فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذا أفعل. قال: فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". [[الحديث: ٢٠٥٦- ابن سنان القزاز: هو محمد بن سنان. وقد مضت ترجمته في: ١٥٧. ووقع في المطبوعة هنا"ابن بشار"! وهو تصحيف. وهذا الحديث أيضًا جزء من حديث مطول، رواه البخاري ٦: ٢٩٠ (فتح) ، عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، عن إبراهيم بن نافع، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير أيضًا ١: ٣٢٢-٣٢٣، عن رواية البخاري. ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٥٥١-٥٥٢، مختصرا، عن أبي العباس الأصم محمد بن يعقوب، عن محمد بن سنان القزاز -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فلم ينبه إلى خطأ الحاكم في استدراكه، إذ رواه البخاري. وقد نبه على ذلك ابن كثير، واستعجب أن يستدركه الحاكم، وهو في صحيح البخاري!]] * * * وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده، وإسماعيل يومئذ طفل صغير. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٥٧- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص. فلما بنى [خرج] وخلف إسماعيل وهاجر، [[الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري ١: ١٢٩، وتفسير ابن كثير ١: ٣٢٤.]] فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال، فصعدت هاجر الصفا، فنظرت فلم تر شيئا. ثم أتت المروة، فنظرت فلم تر شيئا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت، فلم تر شيئا. حتى فعلت ذلك سبع مرات. فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. [[فحصت الدجاجة وغيرها برجلها في التراب: بحثته وأزالت التراب عن حفرة.]] فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر، أم ولد إبراهيم. قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف! قال: ففحص [الغلام] الأرض بإصبعه، [[الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري ١: ١٢٩، وليست في ابن كثير.]] فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء. فقال: دعيه فإنها رَوَاء. [[الحديث: ٢٠٥٧- مؤمل- بوزن: محمد -: هو ابن إسماعيل العدوي، وهو ثقة. بينا توثيقه في شرح المسند: ٢١٧٣. سفيان: هو الثوري. وأبو إسحاق: هو السبيعي. حارثة ابن مضرب العبدي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٨٧، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٥٥. و"مضرب": بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة. ووقع في المطبوعة"مصرف"، وهو تصحيف. والخبر رواه الطبري في التاريخ أيضًا ١: ١٢٩، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير في التفسير ١: ٣٢٤، عن الطبري. ثم قال: "ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما. وقد يحتمل -إن كان محفوظا- أن يكون أولا وضع له حوطا وتجميرا، لا أنه بناه إلى أعلاه. حتى كبر إسماعيل، فبنياه معا، كما قال الله تعالى". وقوله: "فإنها رواء" (بفتح الراء والواو) . يقال ماء روى (بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء) وروى (بكسر ففتح) ورواء: كثير عذب مرو لا ينقطع.]] ٢٠٥٨- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة، [[في المطبوعة وفي التاريخ، وابن كثير: "وضع في البركة". وفي المستدرك الحاكم ١: ٢٩٣، والدر المنثور، "وضع للناس فيه البركة والهدى"، فصححتها من هناك.]] مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض. قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا، فأرسل الله السكينة -وهى ريح خجوج، ولها رأسان [[انظر ما سلف قريبا: ٦٦ تعليق رقم: ١.]] - فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة، [[تطوت: استدارت. تطوت الحية: تحوت والتف بعضها على بعض واستدارت كالطوق. والحجفة: الترس من الجلود يطارق بعضه على بعض، ليس فيه خشب. وفي رواية الطبري في التاريخ"كتطوي الحية"، وكذلك في المستدرك"كتطوق الحية"، وجاء في ابن كثير"الجحفة" وهو خطأ.]] وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئا، فقال إبراهيم: لا ابغني حجرا كما آمرك. [[في التاريخ: "لا أبغي حجرا. . . "، وهو خطأ، وفي ابن كثير: "فقال إبراهيم: ابغي حجرا كما آمرك"، وهو خطأ أيضًا. يقال: ابغني كذا وكذا، وابغ لي كذا وكذا: أي اطلبه لي والتمسه. بغى فلان فلانا شيئا: التمسه له.]] قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرا، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء. فأتماه. [[الأخبار: ٢٠٥٨-٢٠٦٠، هي خبر واحد بثلاثة أسانيد. وشيخ الطبري في الإسناد الأول"هناد": هو ابن السري بن مصعب الدارمي التميمي، وهو ثقة. من شيوخ البخاري ومسلم وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٤٨، والصغير: ٢٤٥، وابن أبي حاتم ٤/٢/١١٩-١٢٠. وقع في المطبوعة"عباد"، وهو تحريف، تصويبه، من التاريخ للطبري ١: ١٢٨-١٢٩، حيث روى هذا الخبر بهذا الإسناد الأول"حدثنا هناد بن السري". وكذلك نقله ابن كثير ١: ٢٢٤، عن الطبري. أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الحنفي الحافظ الثقة. سماك - بكسر السين وتخفيف الميم: هو ابن حرب بن أوس البكري، وهو تابعي ثقة، روى له مسلم ووثقه أحمد وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/١٧٤، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٧٩-٢٨٠. خالد بن عرعرة التيمي: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ٢/١/١٤٩، وقال: "سمع عليا". وابن أبي حاتم ١/٢/٣٤٣، ولم يذكرا فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات. و"سعيد" -في الإسناد الثاني-: أنا أرجح أنه محرف عن"شعبة"، فهو الذي يروي عن سماك ابن حرب، وهو الذي يطلقه"محمد بن جعفر غندر"، إذ هو شيخه الذي لزمه وجالسه نحوا من عشرين سنة. و"أبو داود" في الإسناد الثالث: هو الطيالسي. والخبر رواه أيضًا الأزرقي في تاريخ مكة ١: ٢٤-٢٥، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله، مولى بني هاشم، عن حماد -وهو ابن سلمة- عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة. ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٢-٢٩٣، من طريق إسرائيل، عن خالد بن حرب، عن خالد بن عرعرة. قال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي ١: ١٢٦، ونسبه لهؤلاء ولغيرهم.]] ٢٠٥٩- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا سعيد، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي بنحوه. ٢٠٦٠- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي، بنحوه. * * * قال أبو جعفر: فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال: رفعها إبراهيم وكان إسماعيل يناوله الحجارة، فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل. ويكون الكلام حينئذ:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" يقولان:"ربنا تقبل منا". وقد كان يحتمل، على هذا التأويل، أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا. وأما على التأويل الذي روي عن علي:- أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل - فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة. * * * والصواب من القول عندنا في ذلك: أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. وذلك أن إبراهيم وإسماعيل، إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما قلنا. وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها، لأن رفعها كان بهما: من أحدهما البناء، ومن الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته. وإنما قلنا ما قلنا من ذلك، لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه، أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك، إلا وهو: إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان -في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله [[سياق العبارة: "وإذا كان. . . كذلك" وما بينهما فصل. ويعني بقوله"كذلك" أنه كان قد فهم الضر والنفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه.]] - كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك كان منه، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام. * * * فتأويل الكلام: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا عملنا، وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به، في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، إنك أنت السميع العليم. * * * وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه، ولا منزلا ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك. ولذلك قالا"ربنا تقبل منا". ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهم، لم يكن لقولهما:"تقبل منا" وجه مفهوم. لأنه كانا يكونان -لو كان الأمر كذلك- سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه. وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه. [[يقول: هما من العلم والنبوة بمنزلة وموضع، فلا يسألان الله قبول عمل ليس من القربات إلى الله.]] * * * القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) ﴾ قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"إنك أنت السميع العليم"، إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه - العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا، [[قوله: "وما نبدي. . . " معطوف على قوله: "العليم بما في ضمائر نفوسنا".]] . كما:- ٢٠٦١- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني أبو كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ قال أبو جعفر: وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل: أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان:"ربنا واجعلنا مسلمين لك"، يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك. * * * وقد دللنا فيما مضى على أن معنى"الإسلام": الخضوع لله بالطاعة. [[انظر ما سلف ٢: ٥١٠، ٥١١.]] * * * وأما قوله:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، فإنهما خصا بذلك بعض الذرية، لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله ﷺ قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره. فخصا بالدعوة بعض ذريتهما. * * * وقد قيل: إنهما عنيا بذلك العرب. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٦٢- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب. * * * قال أبو جعفر: وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه. لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته، والمستجيبين لأمره. وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة، من الفريقين. فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم، إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد. * * * وأما"الأمة" في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس، [[انظر ما سلف ١: ٢٢١ س: ١٤.]] من قول الله: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [سورة الأعراف: ١٥٩] . [[جاء في تفسير ابن كثير ١: ٣٣٢ ما نصه: قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" وهو كما ترى ليس في أصل الطبري. فلا أدري أهو تصرف من ابن كثير، أم في أصول الطبري خرم في هذا الموضع، وكلاهما جائز، ولا أقطع بشيء. هذا وقد أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري، فزعم أن تخصيص السدي أنهم العرب لا ينفي من عداهم ثم قال: "والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الآية، والمراد بذلك محمد ﷺ، وقد بعث فيهم". واعتراض ابن كثير هذا لا يقوم، واحتجاجه بالسياق هنا لا ينهض. فالدعاء دعاء إبراهيم وإسماعيل معا، ولكل منهما ذرية يشملها الدعاء. والسياق هنا سياق الآيات المتتابعة لا سياق آية واحدة. ففي الآيات التي تلي هذه الآية ذكر ملة إبراهيم، وبيانها: " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون". وهي آيات متتابعة، فالتخصيص فيها غير جائز، مع وضوح الدلالة على أن ذرية إبراهيم من غير إسماعيل، كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهم له مسلمون وهذا دليل على ما ذهبت إليه في مقدمة الجزء الأول، من اختصار الطبري في تفسيره هذا، فإنه لو شاء لأفاض واحتج بما احتججت بما احتججت به. وهو دليل أيضًا على أن قراءة الطبري تحتاج إلى متابعة آية بعد آية، وأن قراءته مفرقا توقع في خطأ في فهم مراده وحجته. ودليل على أن الطبري شديد العناية بسياق الآيات وترابطها، ولكنه ربما أغفل ذكر هذا الترابط مفصلا وحجته فيه، لأنه قد استوفى ذلك في مواضع سبقت، فاختصر المواضع الأخرى ثقة بتتبع قارئه لما أراد. ودليل آخر على أن هذا التفسير لا يزال مجهول المكانة، على علو مكانته عند أسلافنا غفر الله لنا ولهم.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب