الباحث القرآني

﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ﴾: هَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها، فالعامِلُ في إذْ ما ذُكِرَ أنَّهُ العامِلُ في إذْ قَبْلَها. ويَرْفَعُ في مَعْنى رَفَعَ، وإذْ مِنَ الأدَواتِ المُخَلِّصَةِ لِلْمُضارِعِ إلى الماضِي، لِأنَّها ظَرْفٌ لِما مَضى مِنَ الزَّمانِ. والرَّفْعُ حالَةُ الخِطابِ قَدْ وقَعَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هي حِكايَةُ حالٍ ماضِيَةٍ، وفي ذَلِكَ نَظَرٌ. مِنَ البَيْتِ: هو الكَعْبَةُ. ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في ماهِيَّةِ هَذا البَيْتِ وقِدَمِهِ وحُدُوثِهِ، ومِن أيِّ شَيْءٍ كانَ باباهُ، وكَمْ مَرَّةً حَجَّةُ آدَمُ، ومِن أيِّ شَيْءٍ بَناهُ إبْراهِيمُ، ومَن ساعَدَهُ عَلى البِناءِ - قِصَصًا كَثِيرَةً. واسْتَطْرَدُوا مِن ذَلِكَ لِلْكَلامِ في البَيْتِ المَعْمُورِ، وفي طُولِ آدَمَ، والصَّلَعِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ ولِوَلَدِهِ، وفي الحَجَرِ الأسْوَدِ، وطَوَّلُوا في ذَلِكَ بِأشْياءَ لَمْ يَتَضَمَّنْها القُرْآنُ ولا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وبَعْضُها يُناقِضُ بَعْضًا، وذَلِكَ عَلى جَرْيِ عاداتِهِمْ في نَقْلِ ما دَبَّ وما دَرَجَ. ولا يَنْبَغِي أنْ يُعْتَمَدَ إلّا عَلى ما صَحَّ في كِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والَّذِي يَصِحُّ مِن هَذا كُلِّهِ أنَّ اللَّهَ أمَرَ إبْراهِيمَ بِرَفْعِ القَواعِدِ مِنَ البَيْتِ. ونُشاحُّهُ في قَوْلِهِ: أمَرَ، إذْ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِأنَّ اللَّهَ أمَرَ بِذَلِكَ. (القَواعِدَ): تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها في الكَلامِ عَلى المُفْرَداتِ، وهَلْ هي الأساسُ أوِ الجُدُرُ ؟ فَإنْ كانَتِ الأساسَ، فَرَفَعَها بِأنْ يَبْنِيَ عَلَيْها، فَتَنْتَقِلُ مِن هَيْئَةِ الِانْخِفاضِ إلى هَيْئَةِ الِارْتِفاعِ، وتَتَطاوَلٍ بَعْدَ التَّقاصُرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِها ساقاتِ البِناءِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى ما قُعِّدَ مِنَ البَيْتِ، أيِ اسْتُوطِئَ، يَعْنِي جَعَلَ هَيْئَةَ القاعِدَةِ المُسْتَوْطَأةِ مُرْتَفِعَةً عالِيَةً بِالبِناءِ. ﴿مِنَ البَيْتِ﴾: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِ يَرْفَعُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ القَواعِدِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرِهِ: كائِنَةٌ مِنَ البَيْتِ. ولَمْ تُضَفِ القَواعِدُ إلى البَيْتِ، فَكانَ يَكُونُ الكَلامُ قَواعِدَ (p-٣٨٨)البَيْتِ، لِما في عَدَمِ الإضافَةِ مِنَ الإيضاحِ بَعْدَ الإبْهامِ وتَفْخِيمِ شَأْنِ المُبَيَّنِ. (وإسْماعِيلُ): مَعْطُوفٌ عَلى إبْراهِيمَ، فَهُما مُشْتَرِكانِ في الرَّفْعِ. قِيلَ: كانَ إبْراهِيمُ يَبْنِي وإسْماعِيلُ يُناوِلُهُ الحِجارَةَ. وقالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: رَفَعَ إبْراهِيمُ وإسْماعِيلُ مَعًا، وهَذا ظاهِرُ القُرْآنِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ إسْماعِيلَ طِفْلٌ صَغِيرٌ إذْ ذاكَ، كانَ يُناوِلُهُ الحِجارَةَ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أنَّ إسْماعِيلَ كانَ إذْ ذاكَ طِفْلًا صَغِيرًا، ولا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. ومَن جَعَلَ الواوَ في ”وإسْماعِيلُ“ واوَ الحالِ أعْرَبَ إسْماعِيلَ مُبْتَدَأً وأضْمَرَ الخَبَرَ، التَّقْدِيرُ: وإسْماعِيلُ يَقُولُ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا، فَيَكُونُ إبْراهِيمُ مُخْتَصًّا بِالبِناءِ وإسْماعِيلُ مُخْتَصًّا بِالدُّعاءِ. ومَن ذَهَبَ إلى العَطْفِ، جَعَلَ ”﴿رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا﴾“ مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ عائِدٍ عَلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ مَعًا، في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ تَقْدِيرُهُ: وإذْ يَرْفَعانِ القَواعِدَ قائِلِينَ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا. ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ أنَّ العَطْفَ في ”وإسْماعِيلُ“ أظْهَرُ مِن أنْ تَكُونَ الواوُ واوَ الحالِ. وقِراءَةُ أُبَيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ يَقُولانِ بِإظْهارِ هَذِهِ الجُمْلَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ القَوْلُ المَحْذُوفُ هو العامِلَ في إذْ، فَلا يَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ، والمَعْنى: أنَّهُما دَعَوْا بِذَلِكَ الدُّعاءِ وقْتَ أنْ شَرَعا في رَفْعِ القَواعِدِ، وفي نِدائِهِما بِلَفْظِ رَبَّنا تَلَطُّفٌ واسْتِعْطافٌ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ الدّالَّةِ عَلى التَّرْبِيَةِ والإصْلاحِ بِحالِ الدّاعِي. ﴿رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا﴾: أيْ أعْمالَنا الَّتِي قَصَدْنا بِها طاعَتَكَ، وتَقَبَّلْ بِمَعْنى: اقْبَلْ، فَتَفَعَّلْ هُنا بِمَعْنى المُجَرَّدِ كَقَوْلِهِمْ: تَعَدّى الشَّيْءُ وعَدّاهُ، وهو أحَدُ المَعانِي الَّتِي جاءَ لَها تَفَعَّلْ. والمُرادُ بِالتَّقَبُّلِ: الإثابَةُ، عَبَّرَ بِإحْدى المُتَلازِمَيْنِ عَنِ الآخَرِ؛ لِأنَّ التَّقَبُّلَ هو أنْ يَقْبَلَ الرَّجُلَ مِنَ الرَّجُلِ ما يُهْدِي إلَيْهِ. فَشَبَّهَ الفِعْلَ مِنَ العَبْدِ بِالعَطِيَّةِ، والرِّضا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالتَّقَبُّلِ تَوَسُّعًا. وحَكى بَعْضُ المُفَسِّرِينَ عَنْ بَعْضِ النّاسِ فَرْقًا بَيْنَ القَبُولِ والتَّقَبُّلِ، قالَ: التَّقَبُّلُ تَكَلُّفُ القَبُولِ، وذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ العَمَلُ ناقِصًا لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُقْبَلَ، قالَ: فَهَذا اعْتِرافٌ مِن إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ بِالتَّقْصِيرِ في العَمَلِ. ولَمْ يَكُنِ المَقْصُودُ إعْطاءَ الثَّوابِ؛ لِأنَّ كَوْنَ الفِعْلِ واقِعًا مَوْقِعَ القَبُولِ مِنَ المَخْدُومِ، ألَذُّ عِنْدَ الخادِمِ العاقِلِ مِن إعْطاءِ الثَّوابِ عَلَيْهِ، وسُؤالُهُما التَّقَبُّلَ بِذَلِكَ، عَلى أنَّ تَرْتِيبَ الثَّوابِ عَلى العَمَلِ لَيْسَ واجِبًا عَلى اللَّهِ تَعالى، انْتَهى مُلَخَّصًا. ونَقُولُ: إنَّ التَّقَبُّلَ والقَبُولَ سَواءٌ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، إذْ لا يُمْكِنُ تَعَقُّلُ التَّكْلِيفُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَعالى. وقَدْ قَدَّمْنا أنْ تَفَعَّلَ هُنا مُوافِقٌ لِلْفِعْلِ المُجَرَّدِ الَّذِي هو قَبْلُ. ﴿إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾: يَجُوزُ في أنْتَ الِابْتِداءُ والفَصْلُ والتَّأْكِيدُ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في الفَصْلِ وفائِدَتِهِ، وهو مِنَ المَسائِلِ الَّتِي جَمَعْتُ فِيها الكَلامَ في نَحْوٍ مِن سَبْعَةِ أوْراقٍ أحْكامًا دُونَ اسْتِدْلالٍ. وهاتانِ الصِّفَتانِ مُناسِبَتانِ هُنا غايَةَ التَّناسُبِ، إذْ صَدَرَ مِنهُما عَمَلٌ وتَضَرُّعُ سُؤالٍ، فَهو السَّمِيعُ لِضَراعَتِهِما وتَساؤُلِهِما التَّقَبُّلَ، وهو العَلِيمُ بِنِيّاتِهِما في إخْلاصِ عَمَلِهِما. وتَقَدَّمَتْ صِفَةُ السَّمْعِ، وإنْ كانَ سُؤالُ التَّقَبُّلِ مُتَأخِّرًا عَنِ العَمَلِ لِلْمُجاوِرَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] . فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وتَأخَّرَتْ صِفَةُ العَلِيمِ لِكَوْنِها فاصِلَةً ولِعُمُومِها، إذْ يَشْمَلُ عِلْمَ المَسْمُوعاتِ وغَيْرِ المَسْمُوعاتِ. ﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾: أيْ مُنْقادَيْنِ، أوْ مُخْلِصَيْنِ أوْجُهَنا لَكَ مِن قَوْلِهِ: مَن أسْلَمَ وجْهَهُ، أيْ أخْلَصَ عَمَلَهُ، والمَعْنى: أدِمْ لَنا ذَلِكَ، لِأنَّهُما كانا مُسْلِمَيْنِ، ولَكَ تُفِيدُ جِهَةُ الإسْلامِ، أيْ لَكَ لا لِغَيْرِكَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وعَوْفٌ الأعْرابِيُّ: مُسْلِمِينَ عَلى الجَمْعِ، دُعاءٌ لَهُما ولِلْمَوْجُودِ مِن أهْلِهِما كَهاجَرَ، وهَذا أوْلى مِن جَعْلِ لَفْظِ الجَمْعِ مُرادًا بِهِ التَّثْنِيَةَ، وقَدْ قِيلَ بِهِ هُنا. ﴿ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾: لَمّا تَقَدَّمَ الجَوابُ لَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤]، عَلِمَ أنَّ مِن ذُرِّيَّتِهِما الظّالِمَ وغَيْرَ الظّالِمِ، فَدَعا هُنا بِالتَّبْعِيضِ لا بِالتَّعْمِيمِ فَقالَ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِنا﴾، وخَصَّ ذُرِّيَّتَهُ بِالدُّعاءِ لِلشَّفَقَةِ والحُنُوِّ عَلَيْهِمْ، ولِأنَّ في صَلاحِ نَسْلِ الصّالِحِينَ نَفْعًا كَثِيرًا لِمُتَّبِعِهِمْ، إذْ يَكُونُونَ سَبَبًا لِصَلاحِ مَن وراءَهم. والذُّرِّيَّةُ هُنا، قِيلَ: (p-٣٨٩)أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وابْعَثْ فِيهِمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] . وقِيلَ: هُمُ العَرَبُ، لِأنَّهم مِن ذُرِّيَّتِهِما. قالَ القَفّالُ: لَمْ يَزَلْ في ذُرِّيَّتِهِما مَن يَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، ولَمْ تَزَلِ الرُّسُلُ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِن ذُرِّيَّتِهِما، وكانَ في الجاهِلِيَّةِ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وقُسُّ بْنُ ساعِدَةَ الإيادِيُّ. ويُقالُ: عَبْدُ المُطَّلِبِ بْنُ هاشِمٍ، جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وعَمْرُو بْنُ الظَّرَبِ، كانا عَلى دِينِ الإسْلامِ. وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ مِن في قَوْلِهِ: ومِن ذُرِّيَّتِنا، لِلتَّبْيِينِ، قالَ كَقَوْلِهِ: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ [النور: ٥٥]، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا أنَّ كَوْنَ مَن لِلتَّبْيِينِ يَأْباهُ أصْحابُنا ويَتَأوَّلُونَ ما فُهِمَ مِن ظاهِرِهِ ذَلِكَ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ الأُمَّةِ، والمُرادُ بِهِ هُنا: الجَماعَةُ أوِ الجِيلُ، والمَعْنى: عَلى أنَّ مِن ذُرِّيَّتِنا هو في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الأوَّلِ لِقَوْلِهِ: واجْعَلْ؛ لِأنَّ الجَعْلَ هُنا بِمَعْنى التَّصْيِيرِ، فالمَعْنى: واجْعَلْ ناسًا مِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، ويَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ ما قُدِّرَ مِن قَوْلِهِ: واجْعَلْ مِن ذُرِّيَّتِنا بِمَعْنى: أوْجِدْ واخَلُقْ. وإنْ كانَ مِن جِهَةِ المَعْنى صَحِيحًا، فَكانَ يَكُونُ الجَعْلُ هُنا يَتَعَدّى إلى واحِدٍ. ومِن ذُرِّيَّتِنا مُتَعَلِّقٌ بِاجْعَلِ المُقَدَّرَةِ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ مِن بابِ عَطْفِ المُفْرَداتِ فَهو مُشْتَرِكٌ في العامِلِ الأوَّلِ، والعامِلُ الأوَّلِ لَيْسَ مَعْناهُ عَلى الخَلْقِ والإيجادِ. وإنْ كانَ مِن بابِ عَطْفِ الجُمَلِ فَلا يُحْذَفُ إلّا ما دَلَّ عَلَيْهِ المَنطُوقُ. والمَنطُوقُ لَيْسَ بِمَعْنى الإيجادِ، فَكَذَلِكَ المَحْذُوفُ؛ ألا تَراهم قَدْ مَنَعُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكم ومَلائِكَتُهُ﴾ [الأحزاب: ٤٣] أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ومَلائِكَتُهُ يُصَلُّونَ، لِاخْتِلافِ مَدْلُولَيِ الصَّلاتَيْنِ لِأنَّهُما مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، ومِنَ المَلائِكَةِ الدُّعاءُ، وتَأوَّلُوا ذَلِكَ وحَمَلُوهُ عَلى القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ لا عَلى الحَذْفِ ؟ وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ المَفْعُولُ الأوَّلُ أُمَّةً، ومِن ذُرِّيَّتِنا حالٌ؛ لِأنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْها فانْتَصَبَ عَلى الحالِ، ومُسْلِمَةٌ المَفْعُولُ الثّانِي، وكانَ الأصْلُ: اجْعَلْ أُمَّةً مِن ذُرِّيَّتِنا مُسْلِمَةً لَكَ، قالَ: فالواوُ داخِلَةٌ في الأصْلِ عَلى أُمَّةٍ، وقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُما بِقَوْلِهِ: مِن ذُرِّيَّتِنا، وهو جائِزٌ؛ لِأنَّهُ مِن جُمْلَةِ الكَلامِ المَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ، وجَعَلُوا قَوْلَهُ: ؎يَوْمًا تَراها كَشِبْهِ أرْدِيَةِ ال خِمْسِ ويَوْمًا أدِيمُها نَغِلا مِنَ الضَّرُوراتِ، فالفَصْلُ بِالحالِ أبْعَدُ مِنَ الفَصْلِ بِالظَّرْفِ، فَصارَ نَظِيرَ: ضَرَبْتُ الرَّجُلَ، ومُتَجَرِّدَةٌ المَرْأةُ تُرِيدُ: والمَرْأةُ مُتَجَرِّدَةٌ، ويَنْبَغِي أنْ يَخْتَصَّ جَوازُ هَذا بِالضَّرُورَةِ. ﴿وأرِنا مَناسِكَنا﴾: قالَ قَتادَةُ: مَعالِمُ الحَجِّ. وقالَ عَطاءٌ وابْنُ جُرَيْجٍ: مَذابِحَنا، أيْ مَواضِعَ الذَّبْحِ. وقِيلَ: كُلُّ عِبادَةٍ يُتَعَبَّدُ بِها اللَّهُ تَعالى. وقالَ تاجُ القُرّاءِ الكِرْمانِيُّ: إنْ كانَ المُرادُ أعْمالَ الحَجِّ، وما يُفْعَلُ في المَواقِفِ، كالطَّوافِ، والسَّعْيِ، والوُقُوفِ، والصَّلاةِ، فَتَكُونُ المَناسِكُ جَمْعَ مَنسَكٍ: المَصْدَرُ، جُمِعَ لِاخْتِلافِها. وإنْ كانَ أرادَ المَواقِفَ الَّتِي يُقامُ فِيها شَرائِعُ الحَجِّ، كَمِنًى، وعَرَفَةَ، والمُزْدَلِفَةِ، فَيَكُونُ جَمْعَ مَنسَكٍ وهو مَوْضِعُ العِبادَةِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّ إبْراهِيمَ لَمّا فَرَغَ مِن بِناءِ البَيْتِ ودَعا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَحَجَّ بِهِ. (p-٣٩٠)وفِي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وأرِهِمْ مَناسِكَهم، أعادَ الضَّمِيرَ عَلى الذُّرِّيَّةِ، ومَعْنى أرِنا: أيْ بَصِّرْنا. إنْ كانَتْ مِن رَأى البَصْرِيَّةِ. والتَّعَدِّي هُنا إلى اثْنَيْنِ ظاهِرٌ؛ لِأنَّهُ مَنقُولٌ بِالهَمْزَةِ مِنَ المُتَعَدِّي إلى واحِدٍ، وإنْ كانَتْ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، فالمَنقُولُ أنَّها تَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ؎وإنّا لَقَوْمٌ ما نَرى القَتْلَ سُبَّةً ∗∗∗ إذا ما رَأتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ وقالَ الكُمَيْتُ: ؎بِأيِّ كِتابٍ أمْ بِأيَّةِ سُنَّةٍ ∗∗∗ يُرى حُبُّهم عارًا عَلَيَّ ويُحْسَبُ فَإذا دَخَلَتْ عَلَيْها هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّتْ إلى ثَلاثَةٍ، ولَيْسَ هُنا إلّا اثْنانِ، فَوَجَبَ أنْ يُعْتَقَدَ أنَّها مِن رُؤْيَةِ العَيْنِ. وقَدْ جَعَلَها الزَّمَخْشَرِيُّ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، وشَرَحَها بِقَوْلِهِ: عَرِّفْ، فَهي عِنْدَهُ تَأْتِي بِمَعْنى عَرِّفْ، أيْ تَكُونُ قَلْبِيَّةً وتَتَعَدّى إلى واحِدٍ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ فَتَعَدَّتْ إلى اثْنَيْنِ، ويَحْتاجُ ذَلِكَ إلى سَماعٍ مِن كَلامِ العَرَبِ. وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ طائِفَةٍ أنَّها مِن رُؤْيَةِ البَصَرِ، وعَنْ طائِفَةٍ أنَّها مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو الأصَحُّ ويَلْزَمُ قائِلَهُ أنْ يَتَعَدّى الفِعْلُ مِنهُ إلى ثَلاثَةِ مَفْعُولِينَ، ويَنْفَصِلُ بِأنَّهُ يُوجَدُ مُعَدًّى بِالهَمْزَةِ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، كَغَيْرِ المُعَدّى، قالَ حَطائِطُ بْنُ يَعْفُرَ أخُو الأسْوَدِ: ؎أرِينِي جَوادًا ماتَ هَزْلًا لِأنَّنِي ∗∗∗ أرى ما تَرَيْنَ أوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ وقَوْلُهُ. ويَلْزَمُ قائِلَهُ أنْ يَتَعَدّى إلى ثَلاثَةِ مَفْعُولِينَ، إنَّما يَلْزَمُ لِما ذَكَرْناهُ مِن أنَّ المَحْفُوظَ أنَّ رَأى إذا كانَتْ قَلْبِيَّةً تَعَدَّتْ إلى اثْنَيْنِ، وبِهَمْزَةِ النَّقْلِ تَصِيرُ تَتَعَدّى إلى ثَلاثَةٍ، وقَوْلُهُ: ويَنْفَصِلُ بِأنَّهُ يُوجَدُ مُعَدًّى بِالهَمْزَةِ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، كَغَيْرِ المُعَدّى، يَعْنِي أنَّهُ قَدِ اسْتُعْمِلَ في اللِّسانِ العَرَبِيِّ مُتَعَدِّيًا إلى اثْنَيْنِ ومَعَهُ هَمْزَةُ النَّقْلِ، كَما اسْتُعْمِلَ مُتَعَدِّيًا إلى اثْنَيْنِ بِغَيْرِ الهَمْزَةِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أنْ لَرَأى إذا كانَتْ قَلْبِيَّةً، اسْتِعْمالَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ بِمَعْنى عَلِمَ المُتَعَدِّيَةِ لِواحِدٍ بِمَعْنى عَرَفَ، والثّانِي: أنْ يَكُونَ بِمَعْنى عَلِمَ المُتَعَدِّيَةِ إلى اثْنَيْنِ. واسْتِدْلالُ ابْنِ عَطِيَّةٍ بِبَيْتِ ابْنِ يَعْفُرَ عَلى أنَّ أرى قَلْبِيَّةٌ، لا دَلِيلَ فِيهِ، بَلِ الظّاهِرُ أنَّها بَصَرِيَّةٌ، والمَعْنى عَلى أبْصِرِينِي جَوادًا. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ماتَ هَزْلًا ؟ فَإنَّ هَذا هو مِن مُتَعَلِّقاتِ البَصَرِ فَيَحْتاجُ في إثْباتِ رَأى القَلْبِيَّةِ مُتَعَدِّيَةٍ لِواحِدٍ إلى سَماعٍ. وقَدْ قالَ ابْنُ مالِكٍ، وهو حاشِدُ لُغَةٍ، وحافِظُ نَوادِرَ: حِينَ عَدّى ما يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، فَقالَ في التَّسْهِيلِ، ورَأى لا لِإبْصارٍ ولا رَأْيٍ ولا ضَرْبٍ، فَلَوْ كانَتْ رَأى بِمَعْنى عَرَفَ، لَنَفى ذَلِكَ كَما نَفى عَنْ رَأى المُتَعَدِّيَةِ إلى اثْنَيْنِ كَوْنَها لا تَكُونُ لِأبْصارِ، ولا رَأى ولا ضَرَبَ. وقالَ بَعْضُ النّاسِ: المُرادُ هُنا بِالرُّؤْيَةِ رُؤْيَةُ البَصَرِ والقَلْبِ مَعًا؛ لِأنَّ الحَجَّ لا يَتِمُّ إلّا بِأُمُورٍ بَعْضُها يُعْلَمُ ولا يُرى، وبَعْضُها لا يَتِمُّ الغَرَضُ مِنهُ إلّا بِالرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى الأمْرَيْنِ جَمِيعًا، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ فِيهِ الجَمْعَ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، أوْ حَمْلُ اللَّفْظِ المُشْتَرَكِ عَلى أكْثَرَ مِن مَوْضُوعٍ واحِدٍ في حالَةٍ واحِدَةٍ، وهو لا يَجُوزُ عِنْدَنا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: وأرْنا، وأرْنِي خَمْسَةً بِإسْكانِ الرّاءِ. ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو: الإسْكانُ والِاخْتِلاسُ. ورُوِيَ عَنْهُ: الإشْباعُ، كالباقِينَ، إلّا أنَّ أبا عامِرٍ وأبا (p-٣٩١)بَكْرٍ أسْكَنا في أرْنا اللَّذَيْنِ. فالإشْباعُ هو الأصْلُ، والِاخْتِلاسُ حَسَنٌ مَشْهُورٌ في العَرَبِيَّةِ، والإسْكانُ تَشْبِيهٌ لِلْمُنْفَصِلِ بِالمُتَّصِلِ، كَما قالُوا: فَخْذٌ وسَهَّلَهُ كَوْنُ الحَرَكَةِ فِيهِ لَيْسَتْ لِإعْرابٍ. وقَدْ أنْكَرَ بَعْضُ النّاسِ الإسْكانَ مِن أجْلِ أنِ الكَسْرَةَ تَدُلُّ عَلى ما حُذِفَ، فَيَقْبُحُ حَذْفُها، يَعْنِي أنَّ الأصْلَ كانَ أرِءَ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ إلى الرّاءِ، وحُذِفَتِ الهَمْزَةُ، فَكانَ في إقْرارِها دَلالَةٌ عَلى المَحْذُوفِ، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ هَذا أصْلٌ مَرْفُوضٌ، وصارَتِ الحَرَكَةُ كَأنَّها حَرَكَةٌ لِلرّاءِ. وقالَ الفارِسِيُّ: ما قالَهُ هَذا القائِلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ألا تَراهم أدْغَمُوا في لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي، أيِ الأصْلُ لَكِنْ، ثُمَّ نَقَلُوا الحَرَكَةَ وحَذَفُوا، ثُمَّ أدْغَمُوا ؟ فَذَهابُ الحَرَكَةِ في أرِنا لَيْسَ بِدُونِ ذِهابِها في الإدْغامِ. وأيْضًا فَقَدْ سُمِعَ الإسْكانُ في هَذا الحَرْفِ نَصًّا عَنِ العَرَبِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎أرْنا أداوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُها ∗∗∗ مِن ماءِ زَمْزَمَ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا وأيْضًا فَهي قِراءَةٌ مُتَواتِرَةٌ، فَإنْكارُها لَيْسَ بِشَيْءٍ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في كَيْفِيَّةِ تَأْدِيَةِ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ هَذِهِ المَناسِكِ أقْوالًا سَبْعَةً مُضْطَرِبَةَ النَّقْلِ. وذَكَرُوا أيْضًا مَن حَجَّ هَذا البَيْتَ مِنَ الأنْبِياءِ ومَن ماتَ بِمَكَّةَ مِنهم. وذَكَرُوا أنَّهُ ماتَ بِها نُوحٌ، وهُودٌ، وصالِحٌ، وشُعَيْبٌ، وإسْماعِيلُ، وغَيْرُهم، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، فَتَرَكْنا نَقْلَ ذَلِكَ عَلى عادَتِنا. ﴿وتُبْ عَلَيْنا﴾: قالُوا التَّوْبَةُ مِن حَيْثُ الشَّرِيعَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ التّائِبِينَ، فَتَوْبَةُ سائِرِ المُسْلِمِينَ النَّدَمُ بِالقَلْبِ والرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، والعَزْمُ عَلى عَدَمِ العَوْدِ، ورَدُّ المَظالِمِ إذا أمْكَنَ، ونِيَّةُ الرَّدِّ إذا لَمْ يُمْكِنْ، وتَوْبَةُ الخَواصِّ الرُّجُوعُ عَنِ المَكْرُوهاتِ مِن خَواطِرِ السُّوءِ، والفُتُورِ في الأعْمالِ، والإتْيانُ بِالعِبادَةِ عَلى غَيْرِ وجْهِ الكَمالِ، وتَوْبَةُ خَواصِّ الخَواصِّ لِرَفْعِ الدَّرَجاتِ، والتَّرَقِّي في المَقاماتِ، فَإنْ كانَ إبْراهِيمُ وإسْماعِيلُ دَعَوا لِأنْفُسِهِما بِالتَّوْبَةِ، وكانَ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿وتُبْ عَلَيْنا﴾ خاصًّا بِهِما، فَيُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ هُنا مِن هَذا القِسْمِ الأخِيرِ. قالُوا: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ التَّثْبِيتَ عَلى تِلْكَ الحالَةِ مِثْلَ: ﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ . وإنْ كانَ الضَّمِيرُ شامِلًا لَهُما ولِلذُّرِّيَّةِ، كانَ الدُّعاءُ بِالتَّوْبَةِ مُنْصَرِفًا لِمَن هو مِن أهْلِ التَّوْبَةِ. وإنْ كانَ الضَّمِيرُ قَبْلَهُ مَحْذُوفًا مُقَدَّرًا فالتَّقْدِيرُ عَلى عُصاتِنا، ويَكُونُ دَعا بِالتَّوْبَةِ لِلْعُصاةِ ولا تَدُلُّ هَذِهِ الآيَةُ عَلى جَوازِ وُقُوعِ الذَّنْبِ مِنَ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِما ذَكَرْناهُ مِنَ الِاحْتِمالِ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ ذَلِكَ وقالَ: التَّوْبَةُ مَشْرُوطَةٌ بِتَقَدُّمِ الذَّنْبِ، إذْ لَوْلا ذَلِكَ لاسْتَحالَ طَلَبُ التَّوْبَةِ. والَّذِي يُقَوِّي أنَّ المُرادَ الذُّرِّيَّةُ العُصاةُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥]، إلى قَوْلِهِ: ﴿ومَن عَصانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: ٣٦]، أيْ فَأنْتَ قادِرٌ عَلى أنْ تَتُوبَ عَلَيْهِ وتَغْفِرَ لَهُ، وقِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وأرِهِمْ مَناسِكَهم وتُبْ عَلَيْهِمْ، واحْتِمالُ أنْ يَكُونَ: وأرِنا مَناسِكَنا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ وأرِ ذُرِّيَّتَنا مَناسِكَنا، كَقَوْلِهِ: ولَقَدْ خَلَقْناكم، أيْ خَلَقْنا أباكم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وتُبْ عَلَيْنا ما فَرَطَ مِنّا مِنَ الصَّغائِرِ، أوِ اسْتَتابا لِذُرِّيَّتِهِما. انْتَهى. فَقَوْلُهُ: ما فَرَطَ مِنّا مِنَ الصَّغائِرِ هو عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ، إذْ يَقُولُونَ بِتَجْوِيزِها عَلى الأنْبِياءِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَدْ ذَكَرَ قَوْلَيِ التَّثْبِيتِ أوْ كَوْنَ ذَلِكَ دُعاءً لِلذُّرِّيَّةِ، قالَ: وقِيلَ وهو الأحْسَنُ عِنْدِي أنَّهُما لَمّا عَرَفا المَناسِكَ، وبَنَيا البَيْتَ، وأطاعا، أرادا أنْ يَسُنّا لِلنّاسِ أنَّ ذَلِكَ المَوْقِفَ وتِلْكَ المَواضِعَ مَكانُ التَّنَصُّلِ مِنَ الذُّنُوبِ وطَلَبِ التَّوْبَةِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ أحَدٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ إلّا وبَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى مَعانٍ يُحِبُّ أنْ يَكُونَ أحْسَنَ مِمّا هي. انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وفِيهِ خُرُوجُ قَوْلِهِ: وتُبْ عَلَيْنا، عَنْ ظاهِرِهِ إلى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ، أيْ إنَّ الدُّعاءَ بِقَوْلِهِ: وتُبْ عَلَيْنا، لَيْسَ مَعْناهُ أنَّهُما طَلَبا التَّوْبَةَ، بَلْ نَبَّها بِذَلِكَ الطَّلَبِ عَلى أنَّ غَيْرَهُما يَطْلُبُ في تِلْكَ المَواضِعِ التَّوْبَةَ، فَيَكُونانِ لَمْ يَقْصِدا الطَّلَبَ حَقِيقَةً، إنَّما ذَكَرا ذَلِكَ لِتَشْرِيعِ غَيْرِهِما لِطَلَبِ ذَلِكَ، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةً: (p-٣٩٢)وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى عِصْمَةِ الأنْبِياءِ في مَعْنى التَّبْلِيغِ، ومِنَ الكَبائِرِ ومِنَ الصَّغائِرِ الَّتِي فِيها رَذِيلَةٌ، واخْتُلِفَ في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّغائِرِ. انْتَهى كَلامُهُ. قالَ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنِ عُمَرَ بْنِ الحَسَنِ الرّازِيُّ، في (كِتابِ المَحْصُولِ) لَهُ ما مُلَخَّصُهُ: قالَتِ الشِّيعَةُ، لا يَجُوزُ أنْ يَقَعَ مِنهم ذَنْبٌ، لا صَغِيرٌ ولا كَبِيرٌ، لا عَمْدًا ولا سَهْوًا، ولا مِن جِهَةِ التَّأْوِيلِ. ثُمَّ ذَكَرَ الِاتِّفاقَ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ مِنهُمُ الكُفْرُ، ولا التَّبْدِيلُ في التَّبْلِيغِ، ولا الخَطَأُ في الفَتْوى. وذَكَرَ خِلافًا في أشْياءَ، ثُمَّ قالَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ إنَّهُ لا يَقَعُ مِنهم ذَنْبٌ عَلى سَبِيلِ القَصْدِ، لا كَبِيرٌ ولا صَغِيرٌ، وأمّا سَهْوًا فَقَدْ يَقَعُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أنْ يَتَذَكَّرُوهُ في الحالِ ويُنَبِّهُوا غَيْرَهم عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ سَهْوًا. ﴿إنَّكَ أنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾: يَجُوزُ في أنْتَ: الفَصْلُ والتَّأْكِيدُ والِابْتِداءُ، وهاتانِ الصِّفَتانِ مُناسِبَتانِ لِأنَّهُما دَعَوْا بِأنْ يَجْعَلَهُما مُسْلِمَيْنِ ومِن ذُرِّيَّتِهِما أُمَّةً مُسْلِمَةً، وبِأنْ يُرِيَهُما مَناسِكَهُما، وبِأنْ يَتُوبَ عَلَيْهِما. فَناسَبَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَلَيْهِما، أوِ الرَّحْمَةِ لَهُما. وناسَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ التَّوْبَةِ عَلى الرَّحْمَةِ، لِمُجاوَرَةِ الدُّعاءِ الأخِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿وتُبْ عَلَيْنا﴾ . وتَأخَّرَتْ صِفَةُ الرَّحْمَةِ لِعُمُومِها؛ لِأنَّ مِنَ الرَّحْمَةِ التَّوْبَةَ، ولَكِنَّها فاصِلَةٌ. والتَّوّابُ لا يُناسِبُ أنْ تَكُونَ فاصِلَةً هُنا؛ لِأنَّ قَبْلَها ﴿إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾، وبَعْدَها: ﴿إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٩] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب