الباحث القرآني

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَثَلَ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ وَأَنَّهَا كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، ذَكَرَ مَثَلَ أَقْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الْمَثَلَ فَقَالَ: (كَلِمَةً طَيِّبَةً) الثَّمَرُ، فَحَذَفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ الْمُؤْمِنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ الْإِيمَانُ. عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هِيَ الْمُؤْمِنُ نَفْسُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ: الشَّجَرَةُ النَّخْلَةُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَصْلُ الْكَلِمَةِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ- وَهُوَ الْإِيمَانُ- شَبَّهَهُ بِالنَّخْلَةِ فِي الْمَنْبَتِ، وَشَبَّهَ ارْتِفَاعَ عَمَلِهِ فِي السَّمَاءِ بِارْتِفَاعِ فُرُوعِ النَّخْلَةِ، وَثَوَابَ اللَّهِ لَهُ بِالثَّمَرِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ مَثَلَ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ ثَابِتَةٍ الْإِيمَانُ عُرُوقُهَا وَالصَّلَاةُ أَصْلُهَا وَالزَّكَاةُ فُرُوعُهَا والصيام أغصانها والتأذي اللَّهِ نَبَاتُهَا وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَرَقُهَا وَالْكَفُّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ثَمَرَتُهَا". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَصْلُ النَّخْلَةِ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، أَيْ عُرُوقُهَا تَشْرَبُ مِنَ الْأَرْضِ وَتَسْقِيهَا السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا، فَهِيَ زَاكِيَةٌ نَامِيَةٌ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِقِنَاعٍ [[القناع: الطبق من عسب النخل يوضع فيه الطعام والفاكهة.]] فِيهِ رُطَبٌ، فقال: "مثل كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها"- قَالَ- هِيَ النَّخْلَةُ "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ"- قَالَ- هِيَ الْحَنْظَلُ". وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَوْلُهُ [وَقَالَ]: وَهُوَ أَصَحُّ [[أي قال الترمذي: والحديث الموقوف أصح.]]. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَتَدْرُونَ مَا هِيَ" فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَلَا يَصِحُّ فِيهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا جَوْزَةُ الْهِنْدِ، لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ "إِنَّ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ خَبِّرُونِي مَا هِيَ- ثُمَّ قَالَ- هِيَ النَّخْلَةُ" خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ إِلَّا يَحْيَى فَإِنَّهُ أَسْقَطَهُ مِنْ رِوَايَتِهِ. وَخَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ وزاد فِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أُسَامَةَ زِيَادَةً تُسَاوِي رِحْلَةً [[أي يجب أن يرحل إليها لروايتها.]]، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "وَهِيَ النَّخْلَةُ لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا تَسْقُطُ لَهُ دَعْوَةٌ". فَبَيَّنَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالنَّخْلَةِ إِنْ صَاحَبْتَهُ نَفَعَكَ وَإِنْ جَالَسْتَهُ نَفَعَكَ وَإِنْ شَاوَرْتَهُ نَفَعَكَ كَالنَّخْلَةِ كُلُّ شي مِنْهَا يُنْتَفَعُ بِهِ". وَقَالَ: "كُلُوا مِنْ عَمَّتِكُمْ" يَعْنِي النَّخْلَةَ خُلِقَتْ مِنْ فَضْلَةِ طِينَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَذَلِكَ أَنَّهَا بِرَأْسِهَا تَبْقَى، وَبِقَلْبِهَا تَحْيَا، وَثَمَرُهَا بِامْتِزَاجِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَشْبَهَ الْأَشْجَارِ بِالْإِنْسَانِ شُبِّهَتْ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا تَشَعَّبَتِ الْغُصُونُ مِنْ جَوَانِبِهَا، وَالنَّخْلَةِ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا يَبِسَتْ وَذَهَبَتْ أَصْلًا، وَلِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْإِنْسَانَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ فِي الِالْتِقَاحِ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ حَتَّى تُلَقَّحَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:" خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ [[السكة: الطريقة المصطفة من النخل، والمهرة المأمورة الكثيرة النسل والنتاج، أراد خير المال نتاج أو زرع.]] ". وَالْإِبَارُ اللِّقَاحُ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ "الْحِجْرِ" [[راجع ج ١٠ ص ١٥.]] بَيَانُهُ. وَلِأَنَّهَا مِنْ فَضْلَةِ طِينَةِ آدَمَ. وَيُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا صَوَّرَ آدَمَ مِنَ الطِّينِ فَضَلَتْ قِطْعَةُ طِينٍ فَصَوَّرَهَا بِيَدِهِ وَغَرَسَهَا فِي جَنَّةِ عَدْنٍ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمْ" قَالُوا: وَمَنْ عَمَّتُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "النَّخْلَةُ". (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) قَالَ الرَّبِيعُ: "كُلَّ حِينٍ" غُدْوَةٍ وَعَشِيَّةٍ كَذَلِكَ يَصْعَدُ عَمَلُ الْمُؤْمِنِ أَوَّلَ النهار وآخره، وقاله ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ "تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ" قال: هو شجرة [جورة [[من ى.]]] الْهِنْدِ لَا تَتَعَطَّلُ مِنْ ثَمَرَةٍ، تَحْمِلُ فِي كُلِّ شَهْرٍ، شَبَّهَ عَمَلَ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ وَقْتٍ: بِالنَّخْلَةِ الَّتِي تُؤْتِي أُكُلَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ شِتَاءً وَصَيْفًا يوكل فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا يَخْلُو مِنَ الْخَيْرِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَنَاقِضَةٍ، لِأَنَّ الْحِينَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْوَقْتِ يَقَعُ لِقَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ بَيْتَ النَّابِغَةِ: تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سوء سمها ... تطلقه حينا وحينا تراجع [[البيت في وصف حيه، و "تناذرها الراقون" أي أنذر بعضهم بعضا ألا يتعرضوا لها. ومعنى: "تطلقه حينا وحينا تراجع" أنها تخفى الأوجاع عن السليم تارة، وتارة تشتد عليه. ويروى: "من سوء سمعها" أي لا تجيب الراقي لا أنها صماء، لقولهم: أسمع من حية.]] فَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الْحِينَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، فَالْإِيمَانُ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَعَمَلُهُ وَقَوْلُهُ وَتَسْبِيحُهُ عَالٍ مُرْتَفِعٌ فِي السَّمَاءِ ارْتِفَاعَ فُرُوعِ النَّخْلَةِ، وَمَا يَكْسِبُ مِنْ بَرَكَةِ الْإِيمَانِ وَثَوَابِهِ كَمَا يَنَالُ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلَةِ فِي أَوْقَاتِ السَّنَةِ كُلِّهَا، مِنَ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ وَالْبَلَحِ [[الزهو: البسر الملون.]] وَالزَّهْوِ وَالتَّمْرِ وَالطَّلْعِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الشَّجَرَةَ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ تُثْمِرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَ "مَثَلًا" مَفْعُولٌ بَ "ضَرَبَ"، وَ""- كَلِمَةً "بَدَلٌ مِنْهُ وَالْكَافِ فِي قَوْلِهِ:" كَشَجَرَةٍ "فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ" كَلِمَةً "التَّقْدِيرِ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ﴾لَمَّا كَانَتِ الْأَشْجَارُ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً كَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ حُكْمِ الْحِينِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: مَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ فُلَانًا حِينًا، وَلَا يَقُولُ كَذَا حِينًا أَنَّ الْحِينَ سَنَةٌ. وَقَدْ وَرَدَ الْحِينُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾[[راجع ج ١٩ ص ١١٩.]] [الإنسان: ١] قِيلَ فِي "التَّفْسِيرِ": أَرْبَعُونَ عَامًا. وَحَكَى عِكْرِمَةُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا إِلَى حِينٍ فَغُلَامُهُ حُرٌّ، فَأَتَى عُمَرَ بْنَ عبد العزيز فسأل، فَسَأَلَنِي عَنْهَا فَقُلْتُ: إِنَّ مِنَ الْحِينِ حِينًا لَا يُدْرَكُ، قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ﴾[[راجع ج ١١ ص ٣٥٠.]] [الأنبياء: ١١١] فَأَرَى أَنْ تُمْسِكَ مَا بَيْنَ صِرَامِ» النَّخْلَةِ إِلَى حَمْلِهَا، فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحِينِ أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ اتِّبَاعًا لِعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ مَضَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الْحِينِ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ٣٢١ فما بعد.]] مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) أَيِ الْأَشْبَاهَ (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ويعتبرون، وقد تقدم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب