الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةً أصْلُها ثابِتٌ وفَرْعُها في السَماءِ﴾ ﴿تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّها ويَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ ما لَها مِن قَرارٍ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ بِمَعْنى: ألَمْ تَعْلَمْ، و"مَثَلًا" مَفْعُولٌ لِـ "ضَرَبَ"، و"كَلِمَةً" مَفْعُولٌ أوَّلٌ بِها، و"ضَرَبَ" هَذِهِ تَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، لِأنَّها بِمَنزِلَةِ "جَعَلَ" ونَحْوِهِ، إذْ مَعْناها، جَعَلَ ضَرْبَها، وقالَ المَهْدَوِيُّ: "مَثَلًا" مَفْعُولٌ، و"كَلِمَةً" بَدَلٌ مِنها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا عَلى أنَّها تَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وإنَّما أوهَمَ في هَذا قِلَّةُ التَحْرِيرِ في (p-٢٤٣)"ضَرَبَ" هَذِهِ. والكافُ في قَوْلِهِ: "كَشَجَرَةٍ" في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مُشَبَّهَةٌ بِشَجَرَةٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما- وغَيْرُهُ: الكَلِمَةُ الطَيِّبَةُ هي "لا إلَهَ إلّا اللهُ"، مَثَّلَها اللهُ بِالشَجَرَةِ الطَيِّبَةِ وهي النَخْلَةُ في قَوْلِ أكْثَرِ المُتَأوِّلِينَ، فَكَأنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ أصْلُها ثابِتٌ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، وفَضْلُها وما يَصْدُرُ عنها مِنَ الأفْعالِ الزَكِيَّةِ والخَبِيثَةِ وما يَتَحَصَّلُ عَلَيْها مِن عَفْوِ اللهِ ورَحْمَتِهِ هو فَرْعُها يَصْعَدُ إلى السَماءِ مِن قِبَلِ العَبْدِ، ويَتَنَزَّلُ مِنها قِبَلَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: "ثابِتٌ أصْلُها"، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما مَثَّلَ اللهُ بِالشَجَرَةِ الطَيِّبَةِ المُؤْمِنَ نَفْسَهُ، إذِ الكَلِمَةُ الطَيِّبَةُ لا تَقَعُ إلّا مِنهُ، فَكَأنَّ الكَلامَ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ وقائِلُها، وكَأنَّ المُؤْمِنَ ثابِتٌ في الأرْضِ، وأفْعالُهُ وأقْوالُهُ صاعِدَةٌ، فَهو كَشَجَرَةٍ فَرْعُها في السَماءِ، وما يَكُونُ أبَدًا مِنَ المُؤْمِنِ مِنَ الطاعَةِ أو عَلى الكَلِمَةِ مِنَ الفَضْلِ والأجْرِ والغُفْرانِ هو بِمَثابَةِ الأكْلِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ كُلَّ حِينٍ، وقَوْلُهُ عَنِ الشَجَرَةِ: ﴿وَفَرْعُها في السَماءِ﴾ أيْ: في الهَواءِ نَحْوَ السَماءِ، وهَذا كَما تَقُولُ عَنِ المُسْتَطِيلِ: نَحْوَ الهَواءِ، وفي الحَدِيثِ: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ طُولُهُ في السَماءِ سِتُّونَ ذِراعًا"، والقَيْدُودَةُ: الطَوِيلُ في غَيْرِ سَماءٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كَأنَّهُ انْقادَ وامْتَدَّ. وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ، والضَحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ: الشَجَرَةُ الطَيِّبَةُ في هَذِهِ الآيَةِ: النَخْلَةُ، ورُوِيَ ذَلِكَ (p-٢٤٤)فِي أحادِيثَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هي شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ شَجَرَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ إلّا أنَّها كُلُّ ما اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِفاتِ فَيَدْخُلُ فِيهِ النَخْلَةُ وغَيْرُها، وقَدْ شَبَّهَ الرَسُولَ عَلَيْهِ السَلامُ المُؤْمِنَ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ بِالأُتْرُجَّةِ، فَلا يَتَعَذَّرُ أيْضًا أنْ يُشَبِّهَ بِشَجَرَتِها، و"الأُكُلُ": الثَمَرُ، وقَرَأ عاصِمٌ وحْدَهُ "أُكُلَها" بِضَمِّ الكافِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّ حِينٍ﴾، الحِينُ في اللُغَةِ: القَطِيعُ مِنَ الزَمانِ غَيْرُ مَحْدُودٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَهْرِ﴾ [الإنسان: ١] وقَوْلُهُ: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: ٨٨]، (p-٢٤٥)وَقَدْ تَقْتَضِي لَفْظَةُ "الحِينِ" بِقَرِينَتِها تَحْدِيدًا كَقَوْلِهِ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿كُلَّ حِينٍ﴾، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، وجَماعَةٌ مِنَ الفُقَهاءِ، قالُوا: مَن حَلَفَ ألّا يَفْعَلَ شَيْئًا حِينًا فَإنَّهُ لا يَفْعَلُهُ سَنَةً، واسْتَشْهَدُوا بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ﴾ أيْ: كُلَّ سَنَةٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، والحَسَنُ: أيْ كُلَّ سِتَّةِ أشْهُرٍ، وقالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: الحِينُ: شَهْرانِ، لِأنَّ النَخْلَةَ تَدُومُ مُثْمِرَةً شَهْرَيْنِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا والضَحّاكُ، والرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ: ﴿كُلَّ حِينٍ﴾ أيْ: كُلَّ غَدْوَةٍ وعَشِيَّةٍ ومَتى أُرِيدَ جَناها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَكَذا يُشْبِهُها المُؤْمِنُ الَّذِي هو في جَمِيعِ أيّامِهِ في عَمَلٍ، والكَلِمَةُ الَّتِي أخْرَجَها والصادِرُ عنها مِنَ الأعْمالِ مُسْتَمِرٌّ، فَيُشْبِهُ أنَّ اللهَ تَعالى إنَّما شَبَّهَ المُؤْمِنَ أوِ الكَلِمَةَ بِالشَجَرَةِ في حالِ إثْمارِها، إذْ تِلْكَ أفْضَلُ أحْوالِها، وتَأوَّلَ الطَبَرِيُّ في ذَلِكَ أنَّ أُكُلَ الطَلْعِ في الشِتاءِ، وأنَّ أُكُلَ الثَمَرِ في كُلِّ وقْتٍ مِن أوقاتِ العامِ وهو إتْيانُ أُكُلٍ وإنَّ فارَقَ النَخْلَ، وإنْ فَرَضْنا التَشْبِيهَ بِها عَلى الإطْلاقِ وهي إنَّما تُؤْتِي في وقْتٍ دُونَ وقْتٍ فالمَعْنى: كَشَجَرَةٍ لا تَخْلُ بِما جُعِلَتْ لَهُ مِنَ الإتْيانِ بِالأُكُلِ في الأوقاتِ المَعْلُومَةِ، فَكَذَلِكَ هو المُؤْمِنُ لا يَخْلُ بِما يُسِرُّ لَهُ مِنَ الأعْمالِ الصالِحَةِ، أوِ الكَلِمَةِ الَّتِي لا تَغِيبُ بَرَكَتُها والأعْمالُ الصادِرَةُ عنها، بَلْ هي في حِفْظِ النِظامِ كالشَجَرَةِ الطَيِّبَةِ في حِفْظِ وقْتِها المَعْلُومِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. ومِن قالَ: "الحِينُ سَنَةٌ" راعى أنَّ ثَمَرَ النَخْلَةِ وجَناها إنَّما يَأْتِي كُلَّ سَنَةٍ، ومَن قالَ: "سِتَّةُ أشْهُرٍ" راعى مِن وقْتِ جَدادِ النَخْلَةِ إلى حَمْلِها مِنَ الوَقْتِ المُقْبِلِ، وقِيلَ: إنَّ التَشْبِيهَ وقَعَ بِالنَخْلِ الَّذِي يُثْمِرُ مَرَّتَيْنِ في العامِ، ومَن قالَ: "شَهْرَيْنِ" قالَ: هي مُدَّةُ الجَنْيِ في النَخْلِ، وكُلُّهم أفْتى بِقَوْلِهِ في الإتْيانِ عَلى الحِينِ. وحَكى الكِسائِيُّ والفَرّاءُ أنَّ في قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً خَبِيثَةً"، والكَلِمَةُ الخَبِيثَةُ هي كَلِمَةُ الكُفْرِ وما قارَبَها مِن كَلامِ السُوءِ في الظُلْمِ (p-٢٤٦)وَنَحْوِهِ، و"كالشَجَرَةِ خَبِيثَة "، قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: هي شَجَرَةُ الحَنْظَلِ، قالَهُ أنَسُ بْنُ مالِكٍ، ورَواهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وهَذا عِنْدِي عَلى جِهَةِ المِثالِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي الثَوْمُ، وقالَ الزَجّاجُ: هي الكَشُوثا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ مِنَ الِاعْتِراضِ أنَّ هَذِهِ كُلَّها مِنَ النَجْمِ، ولَيْسَتْ مِنَ الشَجَرِ، واللهُ تَعالى إنَّما مَثَّلَ بِالشَجَرَةِ، فَلا تُسَمّى هَذِهِ شَجَرَةً إلّا بِتَجَوُّزٍ، فَقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في الثَوْمِ والبَصَلِ: « "مَن أكَلَ مِن هَذِهِ الشَجَرَةِ"،» وأيْضًا فَإنَّ هَذِهِ كُلَّها ضَعِيفَةٌ وإنْ لَمْ تَخْبُثِ، اللهُمَّ إلّا أنْ نَقُولَ: اجْتُثَّتْ بِالخِلْقَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "هَذا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى ولَمْ يَخْلُقْ هَذِهِ الشَجَرَةَ عَلى وجْهِ الأرْضِ". والظاهِرُ عِنْدِي أنَّ التَشْبِيهَ وقَعَ بِشَجَرَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ إذا وُجِدَتْ فِيها هَذِهِ الأوصافِ، فالخُبْثُ هو أنْ تَكُونَ كالعِضاةِ، أو كَشَجَرَةِ السَمُومِ ونَحْوِها إذا اجْتُثَّتْ، أيِ اقْتُلِعَتْ جُثَّتُها بِنَزْعِ الأُصُولِ، وبَقِيَتْ في غايَةِ الوَهْنِ والضَعْفِ فَتَقْلِبُها أقَلُّ رِيحٍ.، فالكافِرُ يَرى أنَّ بِيَدِهِ شَيْئًا، وهو لا يَسْتَقِرُّ ولا يُغْنِي عنهُ، كَهَذِهِ الشَجَرَةِ الَّتِي يَظُنُّ بِها عَلى بُعْدٍ -أو لِلْجَهْلِ بِها- أنَّها شَيْءٌ نافِعٌ، وهي خَبِيثَةُ الجَنى غَيْرُ باقِيَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب