الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصْلُها ثابِتٌ وفَرْعُها في السَّماءِ﴾ ﴿تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّها ويَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ ﴿ومَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ ما لَها مِن قَرارٍ﴾ ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ في (ضَرَبَ) مَعَ (المَثَلِ) في أوائِلِ البَقَرَةِ، فَكانَ يُغْنِي ذَلِكَ عَنِ الكَلامِ فِيهِ هُنا، إلّا أنَّ المُفَسِّرِينَ أبْدَوْا هُنا تَقْدِيراتٍ، فَأعْرَبَ الحَوْفِيُّ والمَهْدَوِيُّ وأبُو البَقاءِ (مَثَلًا) مَفْعُولًا بِـ (ضَرَبَ)، و(كَلِمَةً) بَدَلٌ مِن (مَثَلًا) . وإعْرابُهم هَذا تَفْرِيعٌ، عَلى أنَّ (ضَرَبَ مَثَلًا) لا يَتَعَدّى لا إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وأجازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: (مَثَلًا) مَفْعُولٌ بِـ (ضَرَبَ)، و(كَلِمَةً) مَفْعُولٌ أوَّلُ تَفْرِيعًا عَلى أنَّها مَعَ (المَثَلِ) تَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، لِأنَّها بِمَعْنى جَعَلَ. وعَلى هَذا تَكُونُ (كَشَجَرَةٍ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: جَعَلَ كَلِمَةَ طَيِّبَةٍ مَثَلًا هي، أيِ: الكَلِمَةُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وعَلى البَدَلِ تَكُونُ (كَشَجَرَةٍ) نَعْتًا لِلْكَلِمَةِ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وبَدَأ بِهِ أنْ تَكُونَ (كَلِمَةً) نَصْبًا بِمُضْمَرٍ، أيْ: جَعَلَ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وهو تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾، كَقَوْلِكَ: شَرَّفَ الأمِيرُ زَيْدًا كَساهُ حُلَّةً، وحَمَلَهُ عَلى فَرَسٍ؛ انْتَهى. وفِيهِ تَكَلُّفُ إضْمارٍ لا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ. وقُرِئَ شاذًّا (كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ) بِالرَّفْعِ. قالَ أبُو البَقاءِ: عَلى الِابْتِداءِ، و(كَشَجَرَةٍ) خَبَرُهُ؛ انْتَهى. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: هو؛ أيِ: المَثَلُ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ كَشَجَرَةٍ، و(كَشَجَرَةٍ) نَعْتٍ لِكَلِمَةٍ، و(الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ) هي: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ أوِ الإيمانُ؛ قالَهُ مُجاهِدٌ وابْنُ جُرَيْجٍ؛ أوِ المُؤْمِنُ نَفْسُهُ؛ قالَهُ عَطِيَّةُ العَوْفِيُّ والرَّبِيعُ؛ أوْ جَمِيعُ طاعاتِهِ أوِ القُرْآنُ، قالَهُ الأصَمُّ؛ أوْ دَعْوَةُ الإسْلامِ؛ قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ؛ أوِ الثَّناءُ عَلى اللَّهِ أوِ التَّسْبِيحُ والتَّنْزِيهُ؛ والشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ: المُؤْمِنُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ جَوْزَةُ الهِنْدِ، قالَهُ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ، أوْ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، أوِ النَّخْلَةُ وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُتَأوِّلِينَ، وهو قَوْلُ: ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأنَسٍ، ومُجاهِدٍ، وعِكْرِمَةَ، والضَّحّاكِ، وابْنِ زَيْدٍ، وجاءَ ذَلِكَ نَصًّا مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِمّا خَرَّجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ، قالَ: «قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وذَكَرَ الآيَةَ، فَقالَ: أتَدْرُونَ ما هي ؟ فَوَقَعَ في نَفْسِي أنَّها النَّخْلَةُ»؛ الحَدِيثَ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: «أتَيْتُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ فَجِيءَ بِطِبْقٍ عَلَيْهِ رُطَبٌ، فَقالَ أنَسٌ: كُلْ يا أبا العالِيَةِ، فَإنَّها الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ في كِتابِهِ، ثُمَّ قالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِصاعِ بُسْرٍ، فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ» . وفي التِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ أنَسٍ نَحْوُ هَذا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (p-٤٢٢)كُلُّ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ طَيِّبَةِ الثِّمارِ كالنَّخْلَةِ، وشَجَرَةِ التِّينِ، والعِنَبِ، والرُّمّانِ، وغَيْرِ ذَلِكَ؛ انْتَهى. وقَدْ شَبَّهَ الرَّسُولُ ﷺ المُؤْمِنَ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ بِالأُتْرُجَّةِ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يُشَبَّهَ أيْضًا بِشَجَرَتِها. أصْلُها ثابِتٌ؛ أيْ: في الأرْضِ ضارِبٌ بِعُرُوقِهِ فِيها. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثابِتٌ أصْلُها، أُجْرِيَتِ الصِّفَةُ عَلى الشَّجَرَةِ لَفْظًا وإنْ كانَتْ في الحَقِيقَةِ لِلسَّبَبِيِّ. وقِراءَةُ الجَماعَةِ فِيها إسْنادُ الثُّبُوتِ إلى السَّبَبِيِّ لَفْظًا ومَعْنًى، وفِيها حُسْنُ التَّقْسِيمِ، إذْ جاءَ أصْلُها ثابِتٌ وفَرْعُها في السَّماءِ، يُرِيدُ بِالفَرْعِ: أعْلاها ورَأسَها، وإنْ كانَ المُشَبَّهُ بِهِ ذا فُرُوعٍ، فَيَكُونُ مِن بابِ الِاكْتِفاءِ بِلَفْظِ الجِنْسِ. ومَعْنى في السَّماءِ: جِهَةُ العُلُوِّ والصُّعُودِ لا المِظَلَّةُ. وفي الحَدِيثِ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ طُولُهُ في السَّماءِ سِتُّونَ ذِراعًا» ولَمّا شُبِّهَتِ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ كانَتِ الكَلِمَةُ أصْلُها ثابِتٌ في قُلُوبِ أهْلِ الإيمانِ، وما يَصْدُرُ عَنْها مِنَ الأفْعالِ الزَّكِيَّةِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ هو فَرْعُها يَصْعَدُ إلى السَّماءِ إلى اللَّهِ تَعالى: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] وما يَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ العَمَلِ وهو ثَوابُ اللَّهِ، هو جَناها، ووَصَفَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ بِأرْبَعَةِ أوْصافٍ: الأوَّلُ قَوْلُهُ: طَيِّبَةٍ، أيْ كَرِيمَةِ المَنبَتِ، والأصْلُ في الشَّجَرَةِ لَهُ لَذَّةٌ في المَطْعَمِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎طَيِّبُ الباءَةِ سَهْلٌ ولَهم سُبُلٌ إنْ شِئْتَ في وحْشٍ وعْرِ أيْ ساحَتُهم سَهْلَةٌ طَيِّبَةٌ. الثّانِي: رُسُوخُ أصْلِها، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى تَمَكُّنِها، وأنَّ الرِّياحَ لا تَقْصِفُها، فَهي بَطِيئَةُ الفَناءِ، وما كانَ كَذَلِكَ حَصَلَ الفَرَحُ بِوِجْدانِهِ. والثّالِثُ: عُلُوُّ فَرْعِها، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى تَمَكُّنِ الشَّجَرَةِ ورُسُوخِ عُرُوقِها، وعَلى بُعْدِها عَنْ عُفُوناتِ الأرْضِ، وعَلى صَفائِها مِنَ الشَّوائِبِ. الرّابِعُ: دَيْمُومَةُ وُجُودِ ثَمَرَتِها وحُضُورُها في كُلِّ الأوْقاتِ. والحِينُ في اللُّغَةِ قِطْعَةٌ مِنَ الزَّمانِ؛ قالَ الشّاعِرُ: ؎تَناذَرَها الرّاقُونَ مِن سُوءِ سُمِّها ∗∗∗ تُطْلِقُهُ حِينًا وحِينًا تُراجِعُ والمَعْنى: تُعْطِي جَناها كُلَّ وقْتٌ وقَّتَهُ اللَّهُ لَهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، أيْ كُلَّ سَنَةٍ، ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، وجَماعَةٌ مِنَ الفُقَهاءِ: مَن حَلَفَ أنْ لا يَفْعَلَ شَيْئًا حِينًا فَإنَّهُ لا يَفْعَلُهُ سَنَةً، واسْتَشْهَدُوا بِهَذِهِ الآيَةِ. وقِيلَ: ثَمانِيَةُ أشْهُرٍ، قالَهُ عَلِيٌّ ومُجاهِدٌ، سِتَّةُ أشْهُرٍ، وهي مُدَّةُ بَقاءِ الثَّمَرِ عَلَيْها. وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: الحِينُ شَهْرانِ، لِأنَّ النَّخْلَةَ تَدُومُ مُثْمِرَةً شَهْرَيْنِ. وقِيلَ: لا تَتَعَطَّلُ مِن ثَمَرٍ تَحْمِلُ في كُلِّ شَهْرٍ، وهي شَجَرَةُ جَوْزِ الهِنْدِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا والضَّحّاكُ، والرَّبِيعُ: كُلَّ حِينٍ أي كُلَّ غُدْوَةٍ وعَشِيَّةٍ، ومَتى أُرِيدُ جَناها، ويَتَخَرَّجُ عَلى أنَّها شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ. والتَّذَكُّرُ المَرْجُوُّ بِضَرْبِ المَثَلِ هو التَّفَهُّمُ والتَّصَوُّرُ لِلْمَعانِي المُدْرَكَةِ بِالعَقْلِ، فَمَتى أُبْرِزَتْ بِالمَحْسُوساتِ لَمْ يُنازَعْ فِيها الحِسُّ والخَيالُ والوَهْمُ، وانْطَبَقَ المَعْقُولُ عَلى المَحْسُوسِ، فَحَصَلَ الفَهْمُ والوُصُولُ إلى المَطْلُوبِ. والكَلِمَةُ الخَبِيثَةُ: هي كَلِمَةُ الكُفْرِ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ. وقالَ مَسْرُوقٌ: الكَذِبُ، وقالَ: أنْ تَجُرَّ دَعْوَةَ الكُفْرِ وما يُعْزى إلَيْهِ الكافِرُ. وقِيلَ: كُلُّ كَلامٍ لا يَرْضاهُ اللَّهُ تَعالى. وقَرَأ أُبَيٌّ: (وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً خَبِيثَةً)، وقُرِئَ: و(مَثَلَ كَلِمَةٍ) بِنَصْبِ (مَثَلَ) عَطْفًا عَلى ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ . والشَّجَرَةُ الخَبِيثَةُ: شَجَرَةُ الحَنْظَلِ؛ قالَهُ الأكْثَرُونَ: ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ، ورَواهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ . وقالَ الزَّجّاجُ وفِرْقَةٌ: شَجَرَةُ الثُّومِ. وقِيلَ: شَجَرَةُ الكَشُوتِ، وهي شَجَرَةٌ لا ورَقَ لَها ولا أصْلَ، قالَ: وهي كُشُوتٌ، فَلا أصْلَ ولا ثَمَرَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُرَدُّ عَلى هَذِهِ الأقْوالِ أنَّ هَذِهِ كُلَّها مِنَ النَّجْمِ ولَيْسَتْ مِنَ الشَّجَرِ، واللَّهُ تَعالى إنَّما مَثَّلَ بِالشَّجَرِ فَلا تُسَمّى هَذِهِ شَجَرَةً إلّا بِتَجَوُّزٍ، فَقَدْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الثُّومِ والبَصَلِ «مَن أكَلَ مِن هَذِهِ الشَّجَرَةِ» وقِيلَ: الطُّحْلُبَةُ. وقِيلَ: الكَمْأةُ. وقِيلَ: كُلُّ شَجَرٍ لا يَطِيبُ لَهُ ثَمَرٌ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هي الكافِرُ، وعَنْهُ أيْضًا: شَجَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ عَلى الأرْضِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (p-٤٢٣)والظّاهِرُ عِنْدِي أنَّ التَّشْبِيهَ وقَعَ بِشَجَرَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، إذا وُجِدَتْ مِنها هَذِهِ الأوْصافُ هو أنْ يَكُونَ كالعِضاةِ أوْ شَجَرَةِ السُّمُومِ ونَحْوِها إذا اجْتُثَّتْ؛ أيِ: اقْتُلِعَتْ جَثَّها بِنَزْعِ الأُصُولِ وبَقِيَتْ في غايَةِ الوَهْيِ والضَّعْفِ، فَتُقَلِّبُها أقَلُّ رِيحٍ. فالكافِرُ يَرى أنَّ بِيَدِهِ شَيْئًا، وهو لا يَسْتَقِرُّ، ولا يُغْنِي عَنْهُ كَهَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي يَظُنُّ بِها عَلى بُعْدِ الجاهِلِ أنَّها شَيْءٌ نافِعٌ، وهي خَبِيثَةُ الجَنْيِ غَيْرُ نافِعَةٍ؛ انْتَهى. واجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مُقابِلٌ لِقَوْلِهِ: أصْلُها ثابِتٌ، أيْ: لَمْ يَتَمَكَّنْ لَها أصْلٌ ولا عِرْقٌ في الأرْضِ، وإنَّما هي نابِتَةٌ عَلى وجْهِ الأرْضِ. ما لَها مِن قَرارٍ، أيِ: اسْتِقْرارٍ. يُقالُ: قَرَّ الشَّيْءُ قَرارًا ثَبَتَ ثَباتًا، شَبَّهَ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ القَوْلَ الَّذِي لَمْ يُعَضَّدْ بِحُجَّةٍ، فَهو لا يَثْبُتُ بَلْ يَضْمَحِلُّ عَنْ قَرِيبٍ لِبُطْلانِهِ، والقَوْلُ الثّابِتُ هو الَّذِي ثَبَتَ بِالحُجَّةِ والبُرْهانِ في قَلْبِ صاحِبِهِ وتَمَكَّنَ فِيهِ، واطْمَأنَّتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ. وتَثْبِيتُهم بِهِ في الدُّنْيا كَوْنُهم لَوْ فُتِنُوا عَنْ دِينِهِمْ في الدُّنْيا لَثَبَتُوا عَلَيْهِ وما زَلُّوا، كَما جَرى لِأصْحابِ الأُخْدُودِ، والَّذِينَ نُشِرُوا بِالمَناشِيرِ، وكُشِطَتْ لُحُومُهم بِأمْشاطِ الحَدِيدِ، كَما ثَبَتَ جُرْجِيسُ وشَمْعُونُ وبِلالٌ حَتّى كانَ يُعَذَّبُ بِالرَّمْضاءِ وهو يَقُولُ: أحَدٌ أحَدٌ. وتَثْبِيتُهم في الآخِرَةِ كَوْنُهم إذا سُئِلُوا عِنْدَ تَوافُقِ الإشْهادِ عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ ولَمْ يَتَلَعْثَمُوا، ولَمْ يَبْهَتُوا، ولَمْ تُحَيِّرْهم أهْوالُ الحَشْرِ. والَّذِينَ آمَنُوا عامٌّ مِن لَدُنْ آدَمَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقالَ طاوُسٌ وقَتادَةُ وجُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ: أنَّ تَثْبِيتَهم في الدُّنْيا هو مُدَّةُ حَياةِ الإنْسانِ، وفي الآخِرَةِ هو وقْتُ سُؤالِهِ في قَبْرِهِ، ورَجَّحَ هَذا القَوْلَ الطَّبَرِيُّ. وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ وجَماعَةٌ: في الحَياةِ الدُّنْيا هي وقْتُ سُؤالِهِ في قَبْرِهِ، ورَواهُ البَراءُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وفي الآخِرَةِ هو يَوْمُ القِيامَةِ عِنْدَ العَرْضِ. وقِيلَ: مَعْنى تَثْبِيتِهِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ: هو حَياتُهُ عَلى الإيمانِ، وحَشْرُهُ عَلَيْهِ. وقِيلَ: التَّثْبِيتُ في الدُّنْيا: الفَتْحُ والنَّصْرُ، وفي الآخِرَةِ: الجَنَّةُ والثَّوابُ. وما صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ في حَدِيثِ البَراءِ مِن تِلاوَتِهِ عِنْدَ إيعادِ المُؤْمِنِ في قَبْرِهِ، وسُئِلَ وشَهِدَ شَهادَةَ الإخْلاصِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، الآيَةَ، لا يَظْهَرُ مِنهُ؛ يَعْنِي: أنَّ الحَياةَ الدُّنْيا هي حَياةُ الإنْسانِ، وأنَّ الآخِرَةَ في القَبْرِ، ولا أنَّ الحَياةَ الدُّنْيا هي في القَبْرِ، وأنَّ الآخِرَةَ هي يَوْمُ القِيامَةِ، بَلِ اللَّفْظُ مُحْتَمَلٌ. ومَعْنى يُثَبِّتُ: يُدِيمُهم عَلَيْهِ، ويَمْنَعُهم مِنَ الزَّلَلِ. ومِنهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ: ؎فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاكَ مِن حُسْنٍ ∗∗∗ تَثْبِيتَ مُوسى ونَصْرًا كالَّذِي نُصِرُوا والظّاهِرُ أنَّ ﴿بِالقَوْلِ الثّابِتِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يُثَبِّتُ. وقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِآمَنُوا. وسُؤالُ العَبْدِ في قَبْرِهِ مُعْتَقَدُ أهْلِ السُّنَّةِ. ﴿ويُضِلُّ اللَّهُ الظّالِمِينَ﴾، أيِ: الكافِرِينَ، لِمُقابَلَتِهِمْ بِالمُؤْمِنِينَ، وإضْلالُهم في الدُّنْيا كَوْنُهم لا يَثْبُتُونَ في مَواقِفِ الفِتَنِ، وتَزِلُّ أقْدامُهم، وهي الحَيْرَةُ الَّتِي تَلْحَقُهم، إذْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِحُجَّةٍ. وفي الآخِرَةِ هو اضْطِرابُهم في جَوابِهِمْ. ولَمّا تَقَدَّمَ تَشْبِيهُ الكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ عَلى تَشْبِيهِ الكَلِمَةِ الخَبِيثَةِ، تَقَدَّمَ في هَذا الكَلامِ مَن نُسِبَتْ إلَيْهِ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وتَلاهُ مَن نُسِبَتْ إلَيْهِ الكَلِمَةُ الخَبِيثَةُ، ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما فَعَلَ بِكُلِّ واحِدٍ مِنَ القِسْمَيْنِ ذَكَرَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ اعْتِراضٌ فِيما خَصَّ بِهِ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما، إذْ ذاكَ راجِعٌ إلى مَشِيئَتِهِ تَعالى، إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ، لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ، أيْ: تَوْجِيهَ الحِكْمَةِ، لِأنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تابِعَةٌ لِلْحِكْمَةِ مِن تَثْبِيتِ المُؤْمِنِينَ وتَأْيِيدِهِمْ وعِصْمَتِهِمْ عِنْدَ ثَباتِهِمْ وعَزْمِهِمْ، ومِن إضْلالِ الظّالِمِينَ وخِذْلانِهِمْ والتَّخْلِيَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ شَأْنِهِمْ عِنْدَ زَلَلِهِمْ؛ انْتَهى. وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب