الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ اخْتُلِفَ فِيمَنْ قَالَهُ، فَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهَا: "الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ" أَيْ أَقْرَرْتُ بِالصِّدْقِ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [[من ع.]] أَيْ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَلَمْ أَذْكُرْهُ بِسُوءٍ وَهُوَ غَائِبٌ، بَلْ صَدَقْتُ وَحِدْتُ [[في ع: خرجت.]] عَنِ الْخِيَانَةِ، ثُمَّ قَالَتْ: "وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي" بَلْ أَنَا رَاوَدْتُهُ، وَعَلَى هَذَا هِيَ كَانَتْ مُقِرَّةً بِالصَّانِعِ، وَلِهَذَا قَالَتْ: "إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ". وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ، أَيْ قَالَ يُوسُفُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي فَعَلْتُهُ، مِنْ رَدِّ الرَّسُولِ "لِيَعْلَمَ" الْعَزِيزُ "أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ" قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَمَعْنَى "بِالْغَيْبِ" وَهُوَ غَائِبٌ. وَإِنَّمَا قَالَ يُوسُفُ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَقَالَ: "لِيَعْلَمَ" عَلَى الْغَائِبِ تَوْقِيرًا لِلْمَلِكِ. وَقِيلَ: قَالَهُ إِذْ عَادَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ بَعْدُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَ الرَّسُولُ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْخَبَرِ وَجِبْرِيلُ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ يُوسُفُ: "ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ" أَيْ لَمْ أَخُنْ سَيِّدِي بِالْغَيْبِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا يُوسُفُ! وَلَا حِينَ حَلَلْتَ الْإِزَارَ، وَجَلَسْتَ مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ؟! فَقَالَ يُوسُفُ: "وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي" الْآيَةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَلَا حِينَ حَلَلْتَ سَرَاوِيلَكَ يَا يُوسُفُ؟! فَقَالَ يُوسُفُ: "وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي". وَقِيلَ: "ذلِكَ لِيَعْلَمَ" مِنْ قَوْلِ الْعَزِيزِ، أَيْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ يُوسُفُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنِّي لَمْ أَغْفُلْ عَنْ مُجَازَاتِهِ عَلَى أَمَانَتِهِ. (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْخَائِنِينَ بِكَيْدِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: "ذلِكَ لِيَعْلَمَ" وَقَوْلُهُ: "وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي" مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ. قُلْتُ: إِذَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى حَتَّى نُبَرِّئَ يُوسُفَ مِنْ حَلِّ الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ، وَإِذَا قَدَّرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ فَيَكُونُ مِمَّا خَطَرَ بِقَلْبِهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ فِي قَوْلِهِ: "وَهَمَّ بِها". قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: "ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ" إِلَى قَوْلِهِ: "إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ" من كلام امرأة العزيز، لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهَا: ﴿أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٥١] وَهَذَا مَذْهَبُ الَّذِينَ يَنْفُونَ الْهَمَّ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَنْ بَنَى عَلَى قَوْلِهِمْ قَالَ: من قوله: ﴿قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ [يوسف: ٥١] إِلَى قَوْلِهِ: "إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ" كَلَامٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ وَقْفٌ تَامٌّ عَلَى حَقِيقَةٍ، وَلَسْنَا نَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا قَالَ يُوسُفُ "ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ" كَرِهَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَكَّى نَفْسَهُ فَقَالَ: "وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي" لِأَنَّ [[من ع.]] تَزْكِيَةَ النَّفْسِ مَذْمُومَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾[[راجع ج ١٧ ص ١١٠.]] [النجم: ٣٢] وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "النِّسَاءِ" [[راجع ج ٥ ص ٢٤٦ فما بعد وص ١٢.]]. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَزِيزِ، أَيْ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِيُوسُفَ. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أَيْ مُشْتَهِيَةٌ لَهُ. (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَ "مَا" بِمَعْنَى مَنْ، أَيْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي فَعَصَمَهُ، وَ "مَا" بِمَعْنَى مِنْ كَثِيرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾[[راجع ج ٥ ص ٢٤٦ فما بعد وص ١٢.]] [النِّسَاءِ: ٣] وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْمَرْحُومِ بِالْعِصْمَةِ مِنَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَفِي الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي صَاحِبٍ لَكُمْ إِنْ أَنْتُمْ أَكْرَمْتُمُوهُ وَأَطْعَمْتُمُوهُ وَكَسَوْتُمُوهُ أَفْضَى بِكُمْ إِلَى شَرِّ غَايَةٍ وَإِنْ أَهَنْتُمُوهُ وَأَعْرَيْتُمُوهُ وَأَجَعْتُمُوهُ أَفْضَى بِكُمْ إِلَى خَيْرِ غَايَةٍ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا شَرُّ صَاحِبٍ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَنُفُوسِكُمُ الَّتِي بَيْنَ جنوبكم".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب