الباحث القرآني

﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ ﴿وما أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ إلّا ما رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الظّاهِرُ أنَّ هَذا مِن كَلامِ امْرَأةِ العَزِيزِ وهو داخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: (قالَتْ) والمَعْنى: ذَلِكَ الإقْرارُ والِاعْتِرافُ بِالحَقِّ، لِيَعْلَمَ يُوسُفُ أنِّي لَمْ أخُنْهُ في غَيْبَتِهِ والذَّبِّ عَنْهُ، وأرْمِيهِ بِذَنْبٍ هو مِنهُ بَرِيءٌ، ثُمَّ اعْتَذَرَتْ عَمّا وقَعَتْ فِيهِ مِمّا يَقَعُ فِيهِ البَشَرُ مِنَ الشَّهَواتِ بِقَوْلِها: ﴿وما أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ والنُّفُوسُ مائِلَةٌ إلى الشَّهَواتِ أمّارَةٌ بِالسُّوءِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وما أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الخِيانَةِ فَإنِّي قَدْ خُنْتُهُ حِينَ قَذَفْتُهُ وقُلْتُ: ﴿ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا إلّا أنْ يُسْجَنَ﴾ [يوسف: ٢٥] وأوْدَعْتُهُ السِّجْنَ، تُرِيدُ الِاعْتِذارَ لِما كانَ مِنها أنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ إلّا نَفْسًا رَحِمَها اللَّهُ بِالعِصْمَةِ. ﴿إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اسْتَغْفَرَتْ رَبَّها واسْتَرْحَمَتْهُ مِمّا ارْتَكَبَتْ، ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ قَوْلَهُ: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ) إلى آخِرِهِ مِن كَلامِ يُوسُفَ يَحْتاجُ إلى تَكَلُّفِ رَبْطٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما قَبْلَهُ، ولا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مِن كَلامِ يُوسُفَ، فَقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، وهَذا الكَلامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِ يُوسُفَ: ﴿إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠] وعَلى هَذا فالإشارَةٌ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ) إلى إلْقائِهِ في السِّجْنِ والتِماسِهِ البَراءَةَ؛ أيْ: هَذا العِلْمُ سَيِّدِي أنِّي لَمْ أخُنْهُ، وقالَ بَعْضُهم: إنَّما قالَ يُوسُفُ هَذِهِ المَقالَةَ حِينَ قالَتِ امْرَأةُ العَزِيزِ كَلامَها إلى قَوْلِها: ﴿وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٥١] فالإشارَةُ عَلى هَذا إلى قَوْلِها وصُنْعِ اللَّهَ فِيهِ، وهَذا يَضْعُفُ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي حُضُورَهُ مَعَ النِّسْوَةِ عِنْدَ المَلِكِ، فَكَيْفَ يَقُولُ المَلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ: (ائْتُونِي بِهِ) ؟ وفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الآيَةَ أوَّلًا عَلى أنَّها مِن كَلامِ يُوسُفَ فَقالَ: أيْ ذَلِكَ التَّثَبُّتُ والتَّشَمُّرُ لِظُهُورِ البَراءَةِ، لِيَعْلَمَ العَزِيزُ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِظَهْرِ الغَيْبِ في حُرْمَتِهِ ﴿وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ لا يُنْفِذُهُ (p-٣١٨)ولا يُسَدِّدُهُ، وكَأنَّهُ تَعْرِيضٌ بِامْرَأتِهِ في خِيانَتِها في أمانَةِ زَوْجِها، وبِهِ في خِيانَتِهِ أمانَةَ اللَّهِ حِينَ ساعَدَها بَعْدَ ظُهُورِ الآياتِ عَلى حَبْسِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِأمانَتِهِ، وأنَّهُ لَوْ كانَ خائِنًا لَما هَدى اللَّهُ كَيْدَهُ ولا سَدَّدَهُ، ثُمَّ أرادَ أنْ يَتَواضَعَ لِلَّهِ ويَهْضِمَ نَفْسَهُ لِئَلّا يَكُونَ لَها مُزَكِّيًا، ولِحالِها في الأمانَةِ مُعْجَبًا كَما قالَ الرَّسُولُ ﷺ: ”أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ ٣٢“ ولِيُبَيِّنَ أنَّ ما فِيهِ مِنَ الأمانَةِ لَيْسَ بِهِ وحْدَهُ، وإنَّما هو بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ولُطْفِهِ وعِصْمَتِهِ، فَقالَ: وما أُبَرِّئُ نَفْسِي مِنَ الزَّلَلِ، وما أشْهَدُ لَها بِالبَراءَةِ الكُلِّيَّةِ، ولا أُزَكِّيها ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ أرادَ الجِنْسَ؛ أيْ: هَذا الجِنْسُ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ، ويَحْمِلُ عَلى ما فِيهِ مِنَ الشَّهَواتِ، انْتَهى. وفِيهِ تَكْثِيرٌ وتَحْمِيلٌ لِلَفْظِ ما لَيْسَ فِيهِ، ويَزِيدُ عَلى عادَتِهِ في خِطابَتِهِ، ولَمّا أحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإشْكالِ قَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ مِن كَلامِ يُوسُفَ قالَ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ صَحَّ أنْ يُجْعَلَ مِن كَلامِ يُوسُفَ ولا دَلِيلَ عَلى ذَلِكَ ؟ (قُلْتُ): كَفى بِالمَعْنى دَلِيلًا قائِدًا إلى أنْ يُجْعَلَ مِن كَلامِهِ، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ: ﴿قالَ المَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٠٩] ﴿يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكم مِن أرْضِكم فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ [الأعراف: ١١٠] ﴿قالُوا﴾ [الأعراف: ١١١] وهو مِن كَلامِ فِرْعَوْنَ يُخاطِبُهم ويَسْتَشِيرُهم، انْتَهى. وهَذا لَيْسَ كَما ذَكَرَ، إذْ لا يَتَعَيَّنُ في هَذا التَّرْكِيبِ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ فِرْعَوْنَ، بَلْ هو مِن كَلامِ المَلَأِ تَقَدَّمَهم فِرْعَوْنُ إلى هَذِهِ المَقالَةِ، فَقالُوا ذَلِكَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ، فَيَكُونُ في قَوْلِ فِرْعَوْنَ: يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكم خِطابًا لِلْمَلَأِ مِن فِرْعَوْنَ، ويَكُونُ في هَذا التَّرْكِيبِ خِطابًا مِن بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، ولا يَتَنافى اجْتِماعُ المَقالَتَيْنِ. و(بِالغَيْبِ) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الفاعِلِ؛ أيْ: غائِبًا عَنْهُ، أوْ مِنَ المَفْعُولِ؛ أيْ: غائِبًا عَنِّي، أوْ ظَرْفًا: أيْ بِمَكانِ الغَيْبِ، والظّاهِرُ أنَّ ﴿إلّا ما رَحِمَ رَبِّي﴾ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ لِأنَّهُ أرادَ الجِنْسَ بِقَوْلِهِ: (إنَّ النَّفْسَ) فَكَأنَّهُ قالَ: إلّا النَّفْسَ الَّتِي رَحِمَها رَبِّي فَلا تَأْمُرُ بِالسُّوءِ، فَيَكُونُ اسْتِثْناءً مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنُّ في (أمّارَةٌ)، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُسْتَثْنى مِن مَفْعُولِ (أمّارَةٌ) المَحْذُوفِ؛ إذِ التَّقْدِيرُ: لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ صاحِبَها، إلّا الَّذِي رَحِمَهُ رَبِّي فَلا تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ مُسْتَثْنى مِن ظَرْفِ الزَّمانِ المَفْهُومِ عُمُومُهُ مِن (ما) قَبْلَ الِاسْتِثْناءِ، و(ما) ظَرْفِيَّةٌ؛ إذِ التَّقْدِيرُ: لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ مُدَّةَ بَقائِها إلّا وقْتَ رَحْمَةِ اللَّهِ العَبْدَ وذَهابِهِ بِها عَنِ اشْتِهاءِ المَعاصِي، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا، و”ما“ مَصْدَرِيَّةٌ، وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّهُ قَوْلُ الجُمْهُورِ؛ أيْ: ولَكِنْ رَحْمَةَ رَبِّي هي الَّتِي تَصْرِفُ الإساءَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب