الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسْألْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللّاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ ﴿قالَ ما خَطْبُكُنَّ إذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قالَتِ امْرَأةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ لَمّا رَجَعَ الشَّرابِيُّ إلى المَلِكِ وعَرَضَ عَلَيْهِ التَّعْبِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَحْسَنَهُ المَلِكُ فَقالَ: ائْتُونِي بِهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى فَضِيلَةِ العِلْمِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ عِلْمَهُ سَبَبًا لِخَلاصِهِ مِنَ المِحْنَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَكَيْفَ لا يَكُونُ العِلْمُ سَبَبًا لِلْخَلاصِ مِنَ المِحَنِ الأُخْرَوِيَّةِ ! فَعادَ الشَّرابِيُّ إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ أجِبِ المَلِكَ، فَأبى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَخْرُجَ مِنَ السِّجْنِ إلّا بَعْدَ أنْ يَنْكَشِفَ أمْرُهُ وتَزُولَ التُّهْمَةُ بِالكُلِّيَّةِ عَنْهُ. وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ”«عَجِبْتُ مِن يُوسُفَ وكَرَمِهِ وصَبْرِهِ واللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ البَقَراتِ العِجافِ والسِّمانِ ولَوْ كُنْتُ مَكانَهُ لَما أخْبَرْتُهم حَتّى اشْتَرَطْتُ أنْ يُخْرِجُونِي. ولَقَدْ عَجِبْتُ مِنهُ حِينَ أتاهُ الرَّسُولُ فَقالَ: ﴿ارْجِعْ إلى رَبِّكَ﴾ ولَوْ كُنْتُ مَكانَهُ ولَبِثْتُ في السِّجْنِ ما لَبِثْتُ لَأسْرَعْتُ بِالإجابَةِ وبادَرْتُهم إلى البابِ ولَما ابْتَغَيْتُ العُذْرَ؛ إنَّهُ كانَ حَلِيمًا ذا أناةٍ» “ . واعْلَمْ أنَّ الَّذِي فَعَلَهُ يُوسُفُ مِنَ الصَّبْرِ والتَّوَقُّفِ إلى أنْ تَفَحَّصَ المَلِكُ عَنْ حالِهِ هو اللّائِقُ بِالحَزْمِ والعَقْلِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَوْ خَرَجَ في الحالِ فَرُبَّما كانَ يَبْقى في قَلْبِ المَلِكِ مِن تِلْكَ التُّهْمَةِ أثَرُها، فَلَمّا التَمَسَ مِنَ المَلِكِ أنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ حالِ تِلْكَ الواقِعَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى بَراءَتِهِ مِن تِلْكَ التُّهْمَةِ، فَبَعْدَ خُرُوجِهِ لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يُلَطِّخَهُ بِتِلْكَ الرَّذِيلَةِ وأنْ يَتَوَسَّلَ بِها إلى الطَّعْنِ فِيهِ. الثّانِي: أنَّ الإنْسانَ الَّذِي بَقِيَ في السِّجْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إذا طَلَبَهُ المَلِكُ وأمَرَ بِإخْراجِهِ، الظّاهِرُ أنَّهُ يُبادِرُ بِالخُرُوجِ، فَحَيْثُ لَمْ يَخْرُجْ وعُرِفَ مِنهُ كَوْنُهُ في نِهايَةِ العَقْلِ والصَّبْرِ والثَّباتِ، وذَلِكَ يَصِيرُ سَبَبًا لِأنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ بِالبَراءَةِ عَنْ جَمِيعِ أنْواعِ التُّهَمِ، ولِأنْ يَحْكُمَ بِأنَّ كُلَّ ما قِيلَ فِيهِ كانَ كَذِبًا وبُهْتانًا. الثّالِثُ: أنَّ التِماسَهُ مِنَ المَلِكِ أنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ حالِهِ مِن تِلْكَ (p-١٢٢)النِّسْوَةِ يَدُلُّ أيْضًا عَلى شِدَّةِ طَهارَتِهِ إذْ لَوْ كانَ مُلَوَّثًا بِوَجْهٍ ما، لَكانَ خائِفًا أنْ يَذْكُرَ ما سَبَقَ. الرّابِعُ: أنَّهُ حِينَ قالَ لِلشَّرابِيِّ: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ فَبَقِيَ بِسَبَبِ هَذِهِ الكَلِمَةِ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وهَهُنا طَلَبَهُ المَلِكُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ ولَمْ يُقِمْ لِطَلَبِهِ وزْنًا، واشْتَغَلَ بِإظْهارِ بَراءَتِهِ عَنِ التُّهْمَةِ، ولَعَلَّهُ كانَ غَرَضُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن ذَلِكَ أنْ لا يَبْقى في قَلْبِهِ التِفاتٌ إلى رَدِّ المَلِكِ وقَبُولِهِ، وكانَ هَذا العَمَلُ جارِيًا مَجْرى التَّلافِي لِما صَدَرَ مِنَ التَّوَسُّلِ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ لِيَظْهَرَ أيْضًا هَذا المَعْنى لِذَلِكَ الشَّرابِيِّ، فَإنَّهُ هو الَّذِي كانَ واسِطَةً في الحالَتَيْنِ مَعًا. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فاسْألْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللّاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ والكِسائِيُّ ”فَسَلْهُ“ بِغَيْرِ هَمْزٍ، والباقُونَ ”فاسْألْهُ“ بِالهَمْزِ، وقَرَأ عاصِمٌ بِرِوايَةِ أبِي بَكْرٍ عَنْهُ ”النُّسْوَةِ“ بِضَمِّ النُّونِ والباقُونَ بِكَسْرِ النُّونِ، وهُما لُغَتانِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ فِيها أنْواعٌ مِنَ اللَّطائِفِ: أوَّلُها: أنَّ مَعْنى الآيَةِ: فَسَلِ المَلِكَ بِأنْ يَسْألَ ما شَأْنُ تِلْكَ النِّسْوَةِ وما حالُهُنَّ لِيَعْلَمَ بَراءَتِي عَنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ، إلّا أنَّهُ اقْتَصَرَ عَلى أنْ يَسْألَ المَلِكَ عَنْ تِلْكَ الواقِعَةِ لِئَلّا يَشْتَمِلَ اللَّفْظُ عَلى ما يَجْرِي مَجْرى أمْرِ المَلِكِ بِعَمَلٍ أوْ فِعْلٍ. وثانِيها: أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ سَيِّدَتَهُ مَعَ أنَّها هي الَّتِي سَعَتْ في إلْقائِهِ في السِّجْنِ الطَّوِيلِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ سائِرِ النِّسْوَةِ. وثالِثُها: أنَّ الظّاهِرَ أنَّ أُولَئِكَ النِّسْوَةَ نَسَبْنَهُ إلى عَمَلٍ قَبِيحٍ وفِعْلٍ شَنِيعٍ عِنْدَ المَلِكِ، فاقْتَصَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى مُجَرَّدِ قَوْلِهِ: ﴿ما بالُ النِّسْوَةِ اللّاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ وما شَكا مِنهُنَّ عَلى سَبِيلِ التَّعْيِينِ والتَّفْصِيلِ. ثُمَّ قالَ يُوسُفُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ وفي المُرادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبِّي﴾ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ هو اللَّهُ تَعالى، لِأنَّهُ تَعالى هو العالِمُ بِخَفِيّاتِ الأُمُورِ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ المَلِكُ، وجَعَلَهُ رَبًّا لِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُرَبِّيًا لَهُ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى كَوْنِ ذَلِكَ المَلِكِ عالِمًا بِكَيْدِهِنَّ ومَكْرِهِنَّ. واعْلَمْ أنَّ كَيْدَهُنَّ في حَقِّهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ رُبَّما طَمِعَتْ فِيهِ، فَلَمّا لَمْ تَجِدِ المَطْلُوبَ أخَذَتْ تَطْعَنُ فِيهِ وتَنْسُبُهُ إلى القَبِيحِ. وثانِيها: لَعَلَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ بالَغَتْ في تَرْغِيبِ يُوسُفَ في مُوافَقَةِ سَيِّدَتِهِ عَلى مُرادِها، ويُوسُفُ عَلِمَ أنَّ مِثْلَ هَذِهِ الخِيانَةِ في حَقِّ السَّيِّدِ المُنْعِمِ لا تَجُوزُ، فَأشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ إلى مُبالَغَتِهِنَّ في التَّرْغِيبِ في تِلْكَ الخِيانَةِ. وثالِثُها: أنَّهُ اسْتَخْرَجَ مِنهُنَّ وُجُوهًا مِنَ المَكْرِ والحِيَلَ في تَقْبِيحِ صُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ المَلِكِ، فَكانَ المُرادُ مِن هَذا اللَّفْظِ ذاكَ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ لَمّا التَمَسَ ذَلِكَ، أمَرَ المَلِكُ بِإحْضارِهِنَّ وقالَ لَهُنَّ: ﴿ما خَطْبُكُنَّ إذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ وإنْ كانَتْ صِيغَةُ الجَمْعِ، فالمُرادُ مِنها الواحِدَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣] . والثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنهُ خِطابُ الجَماعَةِ. ثُمَّ هَهُنا وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ راوَدَتْ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِها. والثّانِي: أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ راوَدَتْ يُوسُفَ لِأجْلِ امْرَأةِ العَزِيزِ، فاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الوُجُوهِ، وعِنْدَ هَذا السُّؤالِ ﴿قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ﴾ وهَذا كالتَّأْكِيدِ لَمّا ذَكَرْنَ في أوَّلِ الأمْرِ في حَقِّهِ وهو قَوْلُهُنَّ: ﴿ما هَذا بَشَرًا إنْ هَذا إلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [ يُوسُفَ: ٣١] . واعْلَمْ أنَّ امْرَأةَ العَزِيزِ كانَتْ حاضِرَةً، وكانَتْ تَعْلَمُ أنَّ هَذِهِ المُناظَراتِ والتَّفَحُّصاتِ إنَّما وقَعَتْ بِسَبَبِها ولِأجْلِها فَكَشَفَتْ عَنِ الغِطاءِ وصَرَّحَتْ بِالقَوْلِ الحَقِّ وقالَتْ: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ﴾ (p-١٢٣)﴿الصّادِقِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: هَذِهِ شَهادَةٌ جازِمَةٌ مِن تِلْكَ المَرْأةِ بِأنَّ يُوسُفَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كانَ مُبَرَّأً عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ مُطَهَّرًا عَنْ جَمِيعِ العُيُوبِ، وهَهُنا دَقِيقَةٌ، وهي أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ راعى جانِبَ امْرَأةِ العَزِيزِ حَيْثُ قالَ: ﴿ما بالُ النِّسْوَةِ اللّاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ فَذَكَرَهُنَّ ولَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ المَرْأةَ البَتَّةَ، فَعَرَفَتِ المَرْأةُ أنَّهُ إنَّما تَرَكَ ذِكْرَها رِعايَةً لِحَقِّها وتَعْظِيمًا لِجانِبِها وإخْفاءً لِلْأمْرِ عَلَيْها، فَأرادَتْ أنَّ تُكافِئَهُ عَلى هَذا الفِعْلِ الحَسَنِ فَلا جَرَمَ أزالَتِ الغِطاءَ والوِطاءَ واعْتَرَفَتْ بِأنَّ الذَّنْبَ كُلَّهُ كانَ مِن جانِبِها وأنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مُبَرَّأً عَنِ الكُلِّ. ورَأيْتُ في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ امْرَأةً جاءَتْ بِزَوْجِها إلى القاضِي وادَّعَتْ عَلَيْهِ المَهْرَ، فَأمَرَ القاضِي بِأنْ يَكْشِفَ عَنْ وجْهِها حَتّى تَتَمَكَّنَ الشُّهُودُ مِن إقامَةِ الشَّهادَةِ، فَقالَ الزَّوْجُ: لا حاجَةَ إلى ذَلِكَ، فَإنِّي مُقِرٌّ بِصِدْقِها في دَعْواها، فَقالَتِ المَرْأةُ: لَمّا أكْرَمْتَنِي إلى هَذا الحَدِّ فاشْهَدُوا أنِّي أبْرَأْتُ ذِمَّتَكَ مِن كُلِّ حَقٍّ لِي عَلَيْكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: ﴿حَصْحَصَ الحَقُّ﴾ مَعْناهُ: وضَحَ وانْكَشَفَ وتَمَكَّنَ في القُلُوبِ والنُّفُوسِ مِن قَوْلِهِمْ: حَصْحَصَ البَعِيرُ في بُرُوكِهِ، إذا تَمَكَّنَ واسْتَقَرَّ في الأرْضِ. قالَ الزَّجّاجُ: اشْتِقاقُهُ في اللُّغَةِ مِنَ الحِصَّةِ، أيْ بانَتْ حِصَّةُ الحَقِّ مِن حِصَّةِ الباطِلِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ كَلامُ مَن ؟ وفِيهِ أقْوالٌ: القَوْلُ الأوَّلُ وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ: أنَّهُ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ الفَرّاءُ: ولا يَبْعُدُ وصْلُ كَلامِ إنْسانٍ بِكَلامِ إنْسانٍ آخَرَ إذا دَلَّتِ القَرِينَةُ عَلَيْهِ، ومِثالُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ المُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَرْيَةً أفْسَدُوها وجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً﴾ [النمل: ٣٤] وهَذا كَلامُ بِلْقِيسَ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤] وأيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٩] كَلامُ الدّاعِي. ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ . بَقِيَ عَلى هَذا القَوْلِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى الغائِبِ، والمُرادُ هَهُنا: الإشارَةُ إلى تِلْكَ الحادِثَةِ الحاضِرَةِ. والجَوابُ: أجَبْنا عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢] وقِيلَ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما فَعَلَهُ مِن رَدِّ الرَّسُولِ، كَأنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلْتُ مِن رَدِّي الرَّسُولَ إنَّما كانَ لِيَعْلَمَ المَلِكُ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ. السُّؤالُ الثّانِي: مَتى قالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ هَذا القَوْلَ ؟ الجَوابُ: رَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا دَخَلَ عَلى المَلِكِ قالَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ، وإنَّما ذَكَرَهُ عَلى لَفْظِ الغَيْبَةِ تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ عَنِ الخِطابِ، والأوْلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما قالَ ذَلِكَ عِنْدَ عَوْدِ الرَّسُولِ إلَيْهِ لِأنَّ ذِكْرَ هَذا الكَلامِ في حَضْرَةِ المَلِكِ سُوءُ أدَبٍ. السُّؤالُ الثّالِثُ: هَذِهِ الخِيانَةُ وقَعَتْ في حَقِّ العَزِيزِ فَكَيْفَ يَقُولُ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ ؟ . والجَوابُ: قِيلَ: المُرادُ لِيَعْلَمَ المَلِكُ أنِّي لَمْ أخُنِ العَزِيزَ بِالغَيْبَةِ، وقِيلَ إنَّهُ إذا خانَ وزِيرَهُ فَقَدْ خانَهُ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، وقِيلَ إنَّ الشَّرابِيَّ لَمّا رَجَعَ إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو في السِّجْنِ قالَ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ العَزِيزُ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ. ثُمَّ خَتَمَ الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ ولَعَلَّ المُرادَ مِنهُ أنِّي لَوْ كُنْتُ خائِنًا لَما خَلَّصَنِي اللَّهُ تَعالى مِن هَذِهِ الوَرْطَةِ، وحَيْثُ خَلَّصَنِي مِنها ظَهَرَ أنِّي كُنْتُ مُبَرَّأً عَمّا نَسَبُونِي إلَيْهِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ كَلامُ امْرَأةِ العَزِيزِ، والمَعْنى: أنِّي وإنْ أحَلْتُ الذَّنْبَ عَلَيْهِ عِنْدَ حُضُورِهِ لَكِنِّي ما أحْلَتُ الذَّنْبَ عَلَيْهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، أيْ لَمْ أقُلْ فِيهِ وهو في السِّجْنِ خِلافَ (p-١٢٤)الحَقِّ. ثُمَّ إنَّها بالَغَتْ في تَأْكِيدِ الحَقِّ بِهَذا القَوْلِ، وقالَتْ: ﴿وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ يَعْنِي أنِّي لَمّا أقْدَمْتُ عَلى الكَيْدِ والمَكْرِ لا جَرَمَ افْتُضِحْتُ، وأنَّهُ لَمّا كانَ بَرِيئًا عَنِ الذَّنْبِ لا جَرَمَ طَهَّرَهُ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. قالَ صاحِبُ هَذا القَوْلِ: والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّتِهِ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ حاضِرًا في ذَلِكَ المَجْلِسِ حَتّى يُقالَ لَمّا ذَكَرَتِ المَرْأةُ قَوْلَها: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ فَفي تِلْكَ الحالَةِ يَقُولُ يُوسُفُ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ بَلْ يَحْتاجُ فِيهِ إلى أنْ يَرْجِعَ الرَّسُولُ مِن ذَلِكَ المَجْلِسِ إلى السِّجْنِ ويَذْكُرَ لَهُ تِلْكَ الحِكايَةَ، ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ يَقُولُ ابْتِداءً: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ ومِثْلُ هَذا الوَصْلِ بَيْنَ الكَلامَيْنِ الأجْنَبِيَّيْنِ ما جاءَ البَتَّةَ في نَثْرٍ ولا نَظْمٍ فَعَلِمْنا أنَّ هَذا مِن تَمامِ كَلامِ المَرْأةِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى طَهارَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الذَّنْبِ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: الأوَّلُ: أنَّ المَلِكَ لَمّا أرْسَلَ إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وطَلَبَهُ فَلَوْ كانَ يُوسُفُ مُتَّهَمًا بِفِعْلٍ قَبِيحٍ وقَدْ كانَ صَدَرَ مِنهُ ذَنْبٌ وفُحْشٌ لاسْتَحالَ بِحَسَبِ العُرْفِ والعادَةِ أنْ يَطْلُبَ مِنَ المَلِكِ أنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ تِلْكَ الواقِعَةِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ قَدْ أقْدَمَ عَلى الذَّنْبِ ثُمَّ إنَّهُ يَطْلُبُ مِنَ المَلِكِ أنْ يَتَفَحَّصَ عَنْ تِلْكَ الواقِعَةِ كانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنهُ في فَضِيحَةِ نَفْسِهِ وفي تَجْدِيدِ العُيُوبِ الَّتِي صارَتْ مُنْدَرِسَةً مَخْفِيَّةً، والعاقِلُ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وهَبْ أنَّهُ وقَعَ الشَّكُّ لِبَعْضِهِمْ في عِصْمَتِهِ أوْ في نُبُوَّتِهِ إلّا أنَّهُ لا شَكَّ أنَّهُ كانَ عاقِلًا، والعاقِلُ يَمْتَنِعُ أنْ يَسْعى في فَضِيحَةِ نَفْسِهِ وفي حَمْلِ الأعْداءِ عَلى أنْ يُبالِغُوا في إظْهارِ عُيُوبِهِ. والثّانِي: أنَّ النِّسْوَةَ شَهِدْنَ في المَرَّةِ الأوْلى بِطَهارَتِهِ ونَزاهَتِهِ حَيْثُ قُلْنَ: ﴿حاشَ لِلَّهِ ما هَذا بَشَرًا إنْ هَذا إلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١] وفي المَرَّةِ الثّانِيَةِ حَيْثُ قُلْنَ: ﴿حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ﴾ . والثّالِثُ: أنَّ امْرَأةَ العَزِيزِ أقَرَّتْ في المَرَّةِ الأُولى بِطَهارَتِهِ حَيْثُ قالَتْ: ﴿ولَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف: ٣٢] وفي المَرَّةِ الثّانِيَةِ في هَذِهِ الآيَةِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى طَهارَتِهِ مِن وُجُوهٍ: أوَّلُها: قَوْلُ المَرْأةِ: ﴿أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ . وثانِيها: قَوْلُها: ﴿وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ وهو إشارَةٌ إلى أنَّهُ صادِقٌ في قَوْلِهِ: ﴿هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ [يوسف: ٢٦] . وثالِثُها: قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ والحَشْوِيَّةُ يَذْكُرُونَ أنَّهُ لَمّا قالَ يُوسُفُ هَذا الكَلامَ قالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ولا حِينَ هَمَمْتَ ؟ وهَذا مِن رِواياتِهِمُ الخَبِيثَةِ وما صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوايَةُ في كِتابٍ مُعْتَمَدٍ، بَلْ هم يُلْحِقُونَها بِهَذا المَوْضِعِ سَعْيًا مِنهم في تَحْرِيفِ ظاهِرِ القُرْآنِ. ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ يَعْنِي أنَّ صاحِبَ الخِيانَةِ لا بُدَّ وأنْ يُفْتَضَحَ، فَلَوْ كُنْتُ خائِنًا لَوَجَبَ أنْ أُفْتَضَحَ، وحَيْثُ لَمْ أُفْتَضَحْ وخَلَّصَنِي اللَّهُ تَعالى مِن هَذِهِ الوَرْطَةِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنِّي ما كُنْتُ مِنَ الخائِنِينَ. وهَهُنا وجْهٌ آخَرُ وهو أقْوى مِنَ الكُلِّ، وهو أنَّ في هَذا الوَقْتِ تِلْكَ الواقِعَةُ صارَتْ مُنْدَرِسَةً، وتِلْكَ المِحْنَةُ صارَتْ مُنْتَهِيَةً، فَإقْدامُهُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ مَعَ أنَّهُ خانَهُ بِأعْظَمِ وُجُوهِ الخِيانَةِ: إقْدامٌ عَلى وقاحَةٍ عَظِيمَةٍ، وعَلى كَذِبٍ عَظِيمٍ مِن غَيْرِ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَصْلَحَةٌ بِوَجْهٍ ما، والإقْدامُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الوَقاحَةِ مِن غَيْرِ فائِدَةٍ أصْلًا لا يَلِيقُ بِأحَدٍ مِنَ العُقَلاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ إسْنادُهُ إلى سَيِّدِ العُقَلاءِ، وقُدْوَةِ الأصْفِياءِ ؟ فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ دَلالَةً قاطِعَةً عَلى بَراءَتِهِ مِمّا يَقُولُهُ الجُهّالُ والحَشْوِيَّةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب