الباحث القرآني
ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُما أسْرَعا المُواقَعَةَ بِقَضِيَّةِ خَلْقِهِما عَلى طَبائِعِ الشَّهْوَةِ لِما نُهِيا عَنْهُ فَقالَ: ﴿فَأزَلَّهُما﴾، قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الزَّلَلِ وهو تَزَلُّقُ الشَّيْءِ الَّذِي لا يَسْتَمْسِكُ عَلى الشَّيْءِ الَّذِي لا مُسْتَمْسَكَ فِيهِ كَتَزَلُّلِ الزُّلالِ عَنِ الوَرَقِ (p-٢٨٧)وهُوَ ما يَجْتَمِعُ مِنَ الطَّلِّ فَيَصِيرُ ما عَلى الأوْراقِ والأزْهارِ، وأزالُهُما مِنَ الزَّوالِ وهو التَّنْحِيَةُ عَنِ المَكانِ أوْ المَكانَةِ وهو المَصِيرُ بِناحِيَةٍ مِنهُ؛ ﴿الشَّيْطانُ﴾ هو مِمّا أُخِذَ مِن أصْلَيْنِ: مِنَ الشَّطْنِ وهو البُعْدُ الَّذِي مِنهُ سُمِّيَ الحَبْلُ الطَّوِيلُ، ومِنَ الشَّيْطِ الَّذِي هو الإسْراعُ في الِاحْتِراقِ والسِّمَنِ، فَهو مِنَ المَعْنَيَيْنِ مُشْتَقٌّ كَلَفْظِ إنْسانٍ ومَلائِكَةٍ ”عَنْها“ أيْ عَنْ مُواقَعَةِ الشَّجَرَةِ و”عَنْ“ كَلِمَةٌ تَقْتَضِي المُجاوَزَةَ عَنْ سَبَبٍ ثابِتٍ كَقَوْلِهِمْ: رَمَيْتُ عَنِ القَوْسِ. انْتَهى.
وتَحْقِيقُهُ: فَأصْدَرَ الشَّيْطانُ زَلَّتَهُما أوْ زَوالَهُما عَنْها ﴿فَأخْرَجَهُما﴾ أيْ فَتَسَبَّبَ عَنْ إيقاعِهِما في الزَّلَلِ النّاشِئِ عَنْ تِلْكَ المُواقَعَةِ أنَّهُ أخْرَجَهُما ﴿مِمّا كانا فِيهِ﴾ مِنَ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي تَجِلُّ عَنِ الوَصْفِ. قالَ الحَرالِّيُّ: ”في“ كَلِمَةٌ تَقْتَضِي وِعاءَ مَكانٍ أوْ مَكانَةٍ، ثُمَّ قالَ: أنْبَأ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِما (p-٢٨٨)فِي خَبْءِ أمْرِهِ مِمّا هو مِن وراءِ عِلْمِ المَلائِكَةِ بِما أظْهَرَ مِن أمْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وبِما وراءَ عِلْمِ آدَمَ بِما أبْدى مِن حالِ الشَّيْطانِ بِاسْتِزْلالِهِ لِآدَمَ حُسْنَ ظَنٍّ مِن آدَمَ بِعِبادِ اللَّهِ مُطْلَقًا حِينَ قاسَمَهُما عَلى النَّصِيحَةِ، وفِيهِ انْتِظامٌ بِوَجْهٍ ما بِتَوَقُّفِ المَلائِكَةِ في أمْرِ خَلْقِ آدَمَ فَحَذَّرَتِ المَلائِكَةُ إلى الغايَةِ، فَجاءَ مِن وراءِ حَذَرِهِما حَمْدٌ أظْهَرَهُ اللَّهُ مِن آدَمَ، وجاءَ مِن وراءِ حُسْنِ ظَنِّ آدَمَ ذَنْبٌ أظْهَرَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطانِ عَلى سَبِيلِ سَكَنِ الجَنَّةِ فَرَمى بِهِما عَنْ سَكَنِها بِما أظْهَرَ لَهُ بِما فِيها مِن حُبِّ الشَّجَرَةِ الَّتِي اطَّلَعَ عَلَيْها. ثُمَّ قالَ: وحِكْمَةُ ذَلِكَ أيْ نِسْبَةِ هَذا الذَّنْبِ إلى الشَّيْطانِ بِتَسَبُّبِهِ: أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يُعْطِي عِبادَهُ الخَيْرَ بِواسِطَةٍ وبِلا واسِطَةٍ ولا يَنالُهم شَرٌّ إلّا بِواسِطَةِ نَفْسٍ، كَما وقَعَ مِنَ الإباءِ لِلشَّيْطانِ، فَكانَتْ خَطِيئَتُهُ في ذاتِ نَفْسِهِ أوْ بِواسِطَةِ شَيْطانٍ كَما كانَتْ مُخالَفَةُ آدَمَ، فَكانَتْ خَطِيئَتُهُ لَيْسَتْ مِن ذاتِ نَفْسِهِ وعارِضَةً عَلَيْهِ مِن قِبَلِ عَدُوٍّ تَسَبَّبَ لَهُ بِأدْنى مَأْمَنِهِ مِن زَوْجِهِ الَّتِي هي مِن أدْنى خَلْقِهِ فَمَحَتِ التَّوْبَةُ الذَّنْبَ العارِضَ لِآدَمَ وأثْبَتَ الإصْرارُ الإباءَ النَّفْسانِيَّ لِلشَّيْطانِ؛ وذَكَرَ الحَقُّ تَعالى الإزْلالَ (p-٢٨٩)مِنهُ بِاسْمِهِ الشَّيْطانِ لا بِاسْمِهِ إبْلِيسَ لِما في مَعْنى الشَّيْطَنَةِ مِنَ البُعْدِ والسُّرْعَةِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّلافِيَ ولِما في مَعْنى الإبْلاسِ مِن قَطْعِ الرَّجاءِ، فَكانَ في ذَلِكَ بُشْرى اسْتِدْراكِ آدَمَ بِالتَّوْبَةِ. انْتَهى.
ولَمّا بَيَّنَ أنَّهُ غَرَّهُما فَضَرَّهُما بَيْنَ إهْباطِ الغارِّ والمَغْرُورِ وبَيْنَ أنَّهُ أنْعَمَ عَلى المَغْرُورِ دُونَ الغارِّ مَعَ ما سَبَقَ لَهُ مِن لُزُومِ العِبادَةِ وطُولِ التَّرَدُّدِ في الخِدْمَةِ، وفي ذَلِكَ تَفْخِيمٌ لِلنِّعْمَةِ اسْتِعْطافًا إلى الإخْلاصِ في العِبادَةِ فَقالَ عاطِفًا عَلى ما يُرْشِدُ إلَيْهِ السِّياقُ مِن نَحْوِ أنْ يُقالَ فَتَدارَكْناهُما بِالرَّحْمَةِ وتَلافَيْنا خَطَأهُما بِالعَفْوِ لِكَوْنِهِ عارِضًا مِنهُما بِسَبَبٍ خارِجٍ، وأبَّدْنا تَلافِيَ الغارِّ بِشَقائِهِ لِعِصْيانِهِ بِالضَّلالِ والإضْلالِ عَنْ عَمْدٍ فَكانَ مَغْضُوبًا (p-٢٩٠)عَلَيْهِ ”وقُلْنا“ أيْ لَهُ ولِلْمَغْرُورِ: ﴿اهْبِطُوا﴾ وفي ذَلِكَ لُطْفٌ لِذُرِّيَّتِهِ بِالتَّنْفِيرِ مِنَ الخَطَأِ والتَّرْهِيبِ الشَّدِيدِ مِن جَرِيرَتِهِ والتَّرْغِيبِ العَظِيمِ عَلى تَقْدِيرِ الوُقُوعِ فِيهِ في التَّوْبَةِ والهُبُوطِ.
قالَ الحَرالِّيُّ: سَعى في دَرْكٍ، والدَّرْكُ ما يَكُونُ نازِلًا عَنْ مُسْتَوًى، فَكَأنَّهُ أمْسَكَ حَقِيقَتَهُ - أيْ آدَمَ - في حِياطَتِهِ تَعالى وحِفْظِهِ وتَوْفِيقِهِ لِضَراعَتِهِ وبُكائِهِ وسِرِّ ما أُودِعَهُ مِن أمْرِ تَوْبَتِهِ؛ وأهْبَطَ صُورَتَهُ لِيَظْهَرَ في ذَلِكَ فَرْقُ ما بَيْنَ هُبُوطِ آدَمَ وهُبُوطِ إبْلِيسَ عَلى ما أُظْهِرَ مِن ذَلِكَ سُرْعَةُ عَوْدِ آدَمَ تَوْبَةً ومَوْتًا إلى مَحَلِّهِ مِن أُنْسِهِ المَعْهُودِ وقُرْبِهِ المَأْلُوفِ لَهُ، مِن رَبِّهِ، وإنْظارُ إبْلِيسَ في الأرْضِ مُصِرًّا مُنْقَطِعًا عَنْ مِثْلِ مَعادِ آدَمَ لِما نالَ إبْلِيسَ مِنَ اللَّعْنَةِ الَّتِي هي مُقابِلُ التَّوْبَةِ ﴿بَعْضُكم (p-٢٩١)لِبَعْضٍ﴾ البَعْضُ ما اقْتُطِعَ مِن جُمْلَةٍ وفِيهِ ما في تِلْكَ الجُمْلَةِ؛ ”عَدُوٌّ“ مِنَ العَداءِ أيِ المُجاوَزَةِ عَنْ حُكْمِ المُسالَمَةِ الَّتِي هي أدْنى ما بَيْنَ المُسْتَقِلِّينَ مِن حَقِّ المُعاوَنَةِ. انْتَهى. فالمَعْنى فَلْيَحْذَرْ كُلُّ واحِدٍ مِنكم عَدُوَّهُ بِاتِّباعِ الأوامِرِ واجْتِنابِ النَّواهِي.
قالَ الحَرالِّيُّ: وفِيهِ إشْعارٌ بِما تَمادى مِن عَدْواءِ الشَّيْطانِ عَلى ذَرْءٍ مِن ولَدِ آدَمَ حَتّى صارُوا مِن حِزْبِهِ، وفِيهِ أيْضًا بُشْرى لِصالِحِي ولَدِ آدَمَ بِما يَسْبُونَهُ مِن ذَرْءِ إبْلِيسَ فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ بِالإيمانِ والإسْلامِ والتَّوْبَةِ فَيَهْتَدُونَ بِهُداهُ مِن حَيْثُ عَمَّ بِالعَداوَةِ، فاعْتَدى ذُو الخَيْرِ فَصارَتْ عَدْواهُ عَلى أهْلِ الشَّرِّ خَيْرًا، واعْتَدى ذُو الشَّيْطَنَةِ فَصارَتْ عَدْواهُ عَلى أهْلِ الخَيْرِ شَرًّا.
﴿ولَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ تَكُونُونَ فِيهِ، وهو مِنَ القَرارِ وهو كَوْنُ (p-٢٩٢)الشَّيْءِ فِيما لَهُ فِيهِ تَنامٍ وظُهُورٌ وعَيْشٌ مُوافِقٌ؛ ”ومَتاعٌ“ تَتَمَتَّعُونَ بِهِ، والمَتاعُ هو الِانْتِفاعُ بِالمُنْتَفَعِ بِهِ وقْتًا مُنْقَطِعًا يُعْرَفُ نَقْصُهُ بِما هو أفْضَلُ مِنهُ، يَعْنِي فَفِيهِ إشْعارٌ بِانْقِطاعِ الإمْتاعِ بِما في هَذِهِ الدُّنْيا ونَقْصُ ما بِهِ الِانْتِفاعُ عَنْ مَحَلِّ ما كانا فِيهِ، مِن حَيْثُ إنَّ لَفْظَ المُتابِعِ أُطْلِقَ في لِسانِ العَرَبِ عَلى الجِيفَةِ الَّتِي هي مَتاعُ المُضْطَرِّ وأرْزاقُ سِباعِ الحَيَوانِ وكِلابِها، فَكَذَلِكَ الدُّنْيا هي جِيفَةٌ مُتِّعَ بِها أهِلُ الِاضْطِرارِ بِالهُبُوطِ مِنَ الجَنَّةِ وجَعَلَها حَظَّ مَن لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ؛ ﴿إلى حِينٍ﴾ أيْ لا يَتَقَدَّمُ ولا يَتَأخَّرُ، وفي إبْهامِ الحِينِ إشْعارٌ بِاخْتِلافِ الآجالِ في ذَرْءِ الفَرِيقَيْنِ، فَمِنهُمُ الَّذِي يَنالُهُ الأجَلُ صَغِيرًا، ومِنهُمُ الَّذِي يَنالُهُ كَبِيرًا. انْتَهى.
{"ayah":"فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوࣱّۖ وَلَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرࣱّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق