قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} : المفعولُ هنا واجبُ التقديمِ لأنه ضميرٌ متصلٌ، والفاعلُ ظاهرٌ، وكلُّ ما كان كذا فهذا حكمُه. قرأ حمزة: «فَأَزَالهما» والقِراءتان يُحتمل أن تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنَّ قراءةَ الجماعةِ «أَزَلَّهما» يجوز أَنْ تكونَ مِنْ «زَلَّ عن المكان» إذا تَنَحَّى عنه فتكونَ من الزوالِ كقراءَةِ حمزة، ويَدُلُّ عليه قولُ امرئ القيس:
378 - كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ ... كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ
وقال أيضاً:
379 - يَزِلُّ الغلامُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِهِ ... ويَلْوِي بأثوابِ العنيفِ المُثَقَّلِ فَرَدَدْنا قراءَة الجماعة إلى قراءة حمزة، أو نَرُدُّ قراءَةَ حمزةَ إلى قراءَةِ الجماعة بأَنْ نقول: معنى أزالَهما أي: صَرَفَهُمَا عن طاعةِ الله تعالى فَأَوْقَعَهما في الزَلَّةِ لأنَّ إغواءَه وإيقاعَه لهُما في الزَلَةِ سببُ للزوالِ. ويُحتمل أن تفيدَ كلُّ قراءةٍ معنًى مستقلاً، فقراءةُ الجماعةُ تُؤْذِنُ بإيقاعهما في الزَّلَّةِ، فيكونُ زلَّ استنزل، وقراءةُ حمزة تؤذن بتنحيتِهما عن مكانِهما، ولا بُدَّ من المجازِ في كلتا القراءتينِ لأن الزَّلَل [أصلُه] في زَلَّة القَدَمِ، فاستُعْمِلَ هنا في زَلَّةِ الرأي، والتنحيةُ لا يَقْدِر عليها الشيطانُ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي في زَلَّة الرأي، والتحيةُ لا يقْدِر عليها الشيطانُ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي سببُ التنحيةِ. و «عنها» متعلقٌ بالفعلِ قبلَه. ومعنى «عَنْ» هنا السببيَّةُ إن أَعَدْنَا الضميرَ على «الشجرة» أي: أَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ بسبب الشجرة. ويجوز أن تكونَ على بابِها من المجاوزة إن [عاد] الضميرُ على «الجَنَّةِ» ، وهو الأظهرُ، لتقدُّمِ ذِكْرِها، وتجيءُ عليه قراءةُ حمزة واضحةً، ولا تظهَرُ قراءتُهُ كلَّ الظهورِ على كونِ الضميرِ للشجرة، قال ابن عطية: «وأمَّا مَنْ قرأ» أَزَالهما «فإنَّه يعودُ على الجَنَّةِ فقط» ، وقيل: الضميرُ للطاعةِ أو للحالة أو للسماءِ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدَلالةِ السياقِ عليها وهذا بعيدٌ جداً.
قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} الفاءُ هنا واضحةُ السببية. وقال المهدويُّ: «إذا جُعِلَ» فَأَزَلَّهما «بمعنَى زلَّ عن المكان كان قولُه تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} توكيداً، إذ قد يمكنُ أن يزولا عن مكانٍ كانا فيه إلى مكان آخرَ» ، وهذا الذي قاله المهدوي أَشْبَهُ شيءٍ بالتأسيسِ لا التأكيدِ، لإِفادتِهِ معنىً جديداً، قال ابن عطية: «وهنا محذوفٌ يَدُلُّ عليه الظاهرُ تقديرُهُ: فأكلا من الشجَرَةِ» ، يعني بذلك أنَّ المحذوفَ يُقَدِّرُ قبلَ قولِهِ «فَأزَلَّهما» .
و {مِمَّا كَانَا} متعلِّقٌ بأَخْرَجَ، و «ما» يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، أي: من المكانِ أو النعيمِ الذي كانا فيه، أو من مكانٍ أو نعيمٍ كانا فيه، فالجملةُ مِنْ كان واسمِها وخبرِها لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّهَا الجرُّ على الثاني، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ.
وقوله: «اهبِطوا» جملةٌ أمريةٌ في محلِّ نصبٍ بالفعلِ [قبلها] . وقُرئ: «اهبُطوا» بضم الباء وهو كثيرٌ في غيرِ المتعدِّي، وأمّا الماضي فهبَطَ بالفتحِ فقط، وجاء في مضارعِهِ اللغتان، والمصدرُ: الهُبوط بالضم، وهو النزولُ. وقيلَ: الانتقال مطلقاً. وقال المفضل: «الهبوطُ: الخروجُ من البلد، وهو أيضاً الدخولُ فيها فهو من الأضداد» . والضمير في «اهبطوا» الظاهرُ أنه لجماعةٍ، فقيل: لآدَمَ وحوَّاءَ والجنةِ وإبليسَ، [وقيلَ: لهما وللجنة] ، وقيل: لهما وللوسوسةِ، وفيه بُعْدٌ. وقيل: لبني آدمَ وبني إبليس، وهذا وإنْ نُقِلَ عن مجاهد والحسن لا ينبغي أَنْ يُقالُ، لأنه لم يُوْلَدْ لهما في الجنة بالاتفاق. وقال الزمخشري: «إنه يعودُ لآدمَ وحواء، والمرادُ هما وذريتُهما، لأنهما لمَّا كانا أصلَ الإِنسِ ومتشَعَّبَهم جُعِلاَ كأنهما الإِنسُ كلُّهم، ويَدُلُّ عليه» قال اهبِطوا منها جميعاً «.
قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، وفيها قولان، أَصَحُّهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: اهبِطوا مُتعادِيْن. والثاني: أنها لا محلَّ لها لأنها استئنافُ إخبارٍ بالعَداوة. وأُفْرِدَ لفظُ» عدو «وإِنْ كان المرادُ به جَمْعَاً لأحدِ وجهَيْنِ: إِمَّا اعتباراً بلفظِ» بعض «فإنه مفردٌ، وإِمَّا لأن» عَدُوَّاً «أشْبَهَ المصادرَ في الوزنِ كالقَبول ونحوِهِ. وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأن بعضهم جعل عَدُوّاً مصدراً، قال في سورة النساء:» وقيلَ: عَدُوٌّ مصدرٌ كالقَبول والوَلوعِ فلذلك لم يُجْمَعْ «، وعبارةُ مكي قريبةٌ من هذا فإنَّه قال:» وإنما وُحِّدَ وقبلَه جمعٌ لأنه بمعنى المصدرِ تقديرُهُ: ذوي عَداوة «. [ونحوُه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] ، وقولُه: {هُمُ العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4] . واشتقاقُ العدوّ من عَدا يعدُو: إذا ظَلَمَ. وقيل: من عَدَا يعدُو إذا جاوَزَ الحقَّ، وهما متقاربان. وقيل: من عُدْوَتَي الجبل وهما طرفاه فاعتَبروا بُعْدَ ما بينهما، ويقال: عُدْوَةَ، وقد يُجْمَعُ على أَعْدَاء.] .
واللامُ في» لِبعض «متعلقةٌ ب» عَدُوّ «ومقوِّيةٌ له، ويجوزُ أن تكونَ في الأصلِ صفةً ل» عدُوّ «، فلمَّا قُدِّمَ عليه انتصَبَ حالاً، فتتعلَّقُ اللامُ حينئذٍ بمحذوفٍ، وهذه الجملةُ الحاليةُ لا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ واوِ الحالِ منها، لأنَّ الربطَ حَصَلَ بالضميرِ، وإن كان الأكثرُ في الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً أن تقترنَ بالواوِ.
والبعضُ في الأصل مصدرُ بَعَضَ الشيءَ يَبْعَضُه إذا قطعه فأُطْلِقَ على القطعةِ من الناسِ لأنها قطعةٌ منه، وهو يقابِلُ» كُلاًّ «، وحكمُهُ حكمُه في لُزومِ الإِضافةِ معنىً وأنه مَعرفةٌ بنيَّةِ الإِضافةِ فلا تَدْخُل عليه أل وينتصِبُ عنه الحال. تقول:» مررت ببعضٍ جالساً «وله لفظٌ ومعنًى، وقد تقدَّم تقريرُ جميعِ ذلك في لفظِ» كُل «.
قوله: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} هذه الجملةُ يجوز فيها الوجهان المتقدِّمان في الجملةِ قبلَها من الحاليةِ والاستئنافِ، كأنه قيل: اهبِطوا مُتَعادِينَ ومستحقِّينَ الاستقرارَ. و «لكم» خبرٌ مقدمٌ. و {فِي الأرض} متعلقٌ بما تعَلَّقَ به الخبرُ من الاستقرار. وتعلُّقُه به على وجهين أحدُهما: أنه حالٌ، والثاني: أنه غيرُ حالٍ بل كسائرِ الظروفِ، ويجوزُ أن يكونَ {فِي الأرض} هو الخبرَ، و «لكم» متعلقٌ بما تَعَلَّقَ به هو من الاستقرارِ، لكن على أنه غيرُ حالٍ، لئلا يلزَمَ تقديمُ الحالِ على عامِلِها المعنوي، على أنّ بعضَ النَّحويين أجاز ذلك إذا كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ كهذه الآية، فيكونَ في «لكم» أيضاً الوجهان، قال بعضُهم: «ولا يجوز أن يكونَ {فِي الأرض} متعلقاً بمستقرّ سواءً جُعل مكاناً أو مصدراً، أمّا كونُهُ مكاناً فلأنَّ أسماءَ الأمكنةِ لا تعملُ، وأمَّا كونُه مصدراً فإن المصدرَ الموصولَ لا يجوزُ تقديمُ معمولِهِ عليه» . ولِقائلٍ أن يقول: هو متعلِّقٌ به على أنه مصدرٌ، لكنه غيرُ مؤولٍ بحرفٍ مصدري بل بمنزلةِ المصدر في قولِهم: «له ذكاءٌ ذكاءَ الحكماءِ» . وقد اعتذر صاحبُُ هذا القولِ بهذا العُذْرِ نفسِه في موضعٍ آخرَ مثلِ هذا.
قوله: {إلى حِينٍ} الظاهرُ أنه متعلقٌ بمتاع، وأنَّ المسألة من بابِ الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من قولِهِ: {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} يَطْلُبُ قولَه « {إلى حِينٍ} من جهةِ المعنى. وجاء الإِعمالُ هنا على مختارِ البصريين وهو إعمالُ الثاني وإهمالُ الأولِ فلذلك حُذِفَ منه، والتقديرُ: ولكم في الأرض مستقرٌّ إليه ومتاعٌ إلى حين، ولو جاءَ على إعمالِ الأولِ لأضمَرَ في الثاني، فإن قيل: مِنْ شرطِ الإِعمالِ أن يَصِحَّ تَسَلُّطُ كلٍّ من العامِلَيْنِ على المعمولِ، و» مستقرٌ «لا يَصِحُّ تَسَلُّطُه عليه لِئَلاَّ يلزَمَ منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ والمصدر بتقديرِ الموصول. فالجوابُ: أنَّ المحذورَ في المصدرِ الذي يُرادُ به الحَدَثُ وهذا لَمْ يُرَدْ به حَدَثٌ، فلا يُؤَول بموصولٍ، وأيضاً فإنَّ الظرفَ وشبهَه تَعْمَلُ فيه روائِحُ الفعل حتى الأعلامُ كقوله:
380 - أنا ابنُ مَأوِيَّةَ إذ جَدَّ النُّقُرْ ... و» مستقر «يجوز أن يكونَ اسمَ مكانٍ وأن يكونَ اسم مصدرٍ، مُسْتَفْعَل من القَرار وهو اللُّبْثُ، ولذلك سُمِّيَتِ الأرضُ قَرارَةٌ، قال الشاعر:
381 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَتَرَكْنَ كلَّ قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ
ويقال: استقرَّ وقرَّ بمعنًى. والمَتاعُ: البُلْغَةُ مأخوذةٌ من مَتَع النهار أي: ارتفع. واختار أبو البقاء أن يكونَ» إلى حين «في محلِّ رفعٍ صفةً لمَتاع.
والحينُ: القطعةُ من الزمان طويلةً كانت أو قصيرةً، وهذا هو المشهورُ، وقيل: الوقتُ البعيدُ. ويُقال: عامَلَتْهُ محايَنَةً، وَأَحْيَنْتُ بالمكانِ أقمت به حِيناً، وحانَ حينُ كذا: قَرُبَ، قالت بثينة:
382 - وإنَّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ ... من الدهرِ ما حانَتْ ولا حانَ حِينُها
وقال بعضُهم:» إنه يُزادُ عليه التاءُ فيقال: تحينَ قُمْتَ «وأنشد:
383 - العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ ... والمُطْعِمُون زمانَ أين المُطْعِمُ
وليس كذلكَ، وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء الله تعالى.
{"ayah":"فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوࣱّۖ وَلَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرࣱّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِینࣲ"}