الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [١٦٥] ﴿رُسُلا﴾ أيْ: كُلُّ هَؤُلاءِ النَّبِيِّينَ أرْسَلْناهم رُسُلًا ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ بِالجَنَّةِ لِمَن آمَنَ ﴿ومُنْذِرِينَ﴾ مِنَ النّارِ لِمَن كَفَرَ ﴿لِئَلا﴾ لِكَيْلا ﴿يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ﴾ يَوْمَ القِيامَةِ أيْ: مَعْذِرَةٌ يَعْتَذِرُونَ بِها قائِلِينَ: لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولًا فَيُبَيِّنُ لَنا شَرائِعَكَ، ويُعَلِّمُنا ما لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ مِن أحْكامِكَ؛ لِقُصُورِ القُوَّةِ البَشَرِيَّةِ عَنْ إدْراكِ جُزْئِيّاتِ المَصالِحِ، وعَجْزِ أكْثَرِ النّاسِ عَنْ إدْراكِ كُلِّيّاتِها، كَما في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولَوْ أنّا أهْلَكْناهم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ﴾ [طه: ١٣٤] [طه: ١٣٤] الآيَةَ. وإنَّما سُمِّيَتْ حُجَّةً (p-١٧٥٣)مَعَ اسْتِحالَةِ أنْ يَكُونَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ حُجَّةٌ في فِعْلٍ مِن أفْعالِهِ، بَلْ لَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ كَما يَشاءُ - لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ المَعْذِرَةَ في القَبُولِ عِنْدَهُ تَعالى - بِمُقْتَضى كَرَمِهِ ورَحْمَتِهِ لِعِبادِهِ - بِمَنزِلَةِ الحُجَّةِ القاطِعَةِ الَّتِي لا مَرَدَّ لَها، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء: ١٥] [الإسْراءِ: ١٥] أفادَهُ أبُو السُّعُودِ. وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ المُغِيرَةِ: «لا أحَدَ أحَبُّ إلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ» . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أيْ: بَعْدَ إرْسالِ الرُّسُلِ وإنْزالِ الكُتُبِ (p-١٧٥٤)مُتَعَلِّقٌ بِـ(حُجَّةٌ) أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لَها، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُعَذِّبُ الخَلْقَ قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء: ١٥] [الإسْراءِ: ١٥] وفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ عَلى أنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعالى لا تَثْبُتُ إلّا بِالسَّمْعِ. ﴿وكانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ يَعْنِي في انْتِقامِهِ مِمَّنْ خالَفَ أمْرَهُ وعَصى رُسُلَهُ: ﴿حَكِيمًا﴾ في بَعْثِ الرُّسُلِ لِلْإنْذارِ. * * * تَنْبِيهٌ: أشارَتِ الآيَةُ إلى بَيانِ حاجَةِ البَشَرِ إلى إرْسالِ الرُّسُلِ، وإلى وظِيفَتِهِمْ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - قالَ العَلّامَةُ السَّيِّدُ مُحَمَّدُ عَبْدِهِ، مُفْتِي مِصْرَ في "رِسالَةِ التَّوْحِيدِ" في هَذا المَبْحَثِ: أفَلَيْسَ مِن حِكْمَةِ الصّانِعِ الحَكِيمِ الَّذِي أقامَ أمْرَ الإنْسانِ عَلى قاعِدَةِ الإرْشادِ والتَّعْلِيمِ، الَّذِي خَلَقَ الإنْسانَ وعَلَّمَهُ البَيانَ، عَلَّمَهُ الكَلامَ لِلتَّفاهُمِ والكِتابَ لِلتَّراسُلِ - أنْ يَجْعَلَ مِن مَراتِبِ الأنْفُسِ البَشَرِيَّةِ مَرْتَبَةً يُعِدُّ لَها - بِمَحْضِ فَضْلِهِ - بَعْضَ مَن يَصْطَفِيهِ مِن خَلْقِهِ؟ وهو أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ، يُمَيِّزُهم بِالفِطَرِ السَّلِيمَةِ ويَبْلُغُ بِأرْواحِهِمْ مِنَ الكَمالِ ما يَلِيقُونَ مَعَهُ لِلِاسْتِشْراقِ بِأنْوارِ عِلْمِهِ، والأمانَةِ عَلى مَكْنُونِ سِرِّهِ، مِمّا لَوِ انْكَشَفَ لِغَيْرِهِمُ انْكِشافَهُ لَهم لَفاضَتْ لَهُ نَفْسُهُ أوْ ذَهَبَتْ بِعَقْلِهِ جَلالَتُهُ وعِظَمُهُ، فَيُشْرِفُونَ عَلى الغَيْبِ بِإذْنِهِ، ويَعْلَمُونَ ما سَيَكُونُ مِن شَأْنِ النّاسِ فِيهِ، ويَكُونُونَ في مَراتِبِهِمُ العُلْوِيَّةِ عَلى نِسْبَةٍ مِنَ العامِلِينَ، نِهايَةَ الشّاهِدِ وبِدايَةَ الغائِبِ، فَهم في الدُّنْيا كَأنَّهم لَيْسُوا مِن أهْلِها، وهم وفْدُ الآخِرَةِ في لِباسِ مَن لَيْسَ مِن سُكّانِها، ثُمَّ يَتَلَقَّوْنَ مِن أمْرِهِ عَنْ جَلالِهِ، وما خَفِيَ عَلى العُقُولِ مِن شُؤُونِ حَضْرَتِهِ الرَّفِيعَةِ بِما يَشاءُ أنْ يَعْتَقِدَهُ العِبادُ فِيهِ، وما قَدَّرَ أنْ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ في سَعادَتِهِمُ الأُخْرَوِيَّةِ، وأنْ يُبَيِّنُوا لِلنّاسِ مِن أحْوالِ الآخِرَةِ ما لا بُدَّ لَهم مِن عِلْمِهِ، مُعَبِّرِينَ عَنْهُ بِما تَحْتَمِلُهُ طاقَةُ عُقُولِهِمْ، ولا يَبْعُدُ عَنْ مُتَناوَلِ أفْهامِهِمْ، وأنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ شَرائِعَ عامَّةً، تُحَدِّدُ لَهم سَيْرَهم في تَقْوِيمِ نُفُوسِهِمْ، وكَبْحِ شَهَواتِهِمْ، وتُعَلِّمُهم مِنَ الأعْمالِ ما هو مَناطُ سَعادَتِهِمْ وشَقائِهِمْ، في ذَلِكَ (p-١٧٥٥)الكَوْنِ المُغَيَّبِ عَنْ مَشاعِرِهِمْ بِتَفْصِيلِهِ، اللّاصِقِ عَلْمُهُ بِأعْماقِ ضَمائِرِهِمْ في إجْمالِهِ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ جَمِيعُ الأحْكامِ المُتَعَلِّقَةِ بِكُلِّيّاتِ الأعْمالِ ظاهِرَةً وباطِنَةً، ثُمَّ يُؤَيِّدُهم بِما لا تَبْلُغُهُ قُوى البَشَرِ مِنَ الآياتِ، حَتّى تَقُومَ بِهِمُ الحُجَّةُ ويَتِمَّ الإقْناعُ بِصِدْقِ الرِّسالَةِ، فَيَكُونُونَ بِذَلِكَ رُسُلًا مِن لَدُنْهُ إلى خَلْقِهِ، مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ. لا رَيْبَ أنَّ الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وأبْدَعَ في كُلِّ كائِنٍ صَنَعَهُ، وجادَ عَلى كُلِّ حَيٍّ بِما إلَيْهِ حاجَتُهُ، ولَمْ يَحْرِمْ مِن رَحْمَتِهِ حَقِيرًا ولا جَلِيلًا مِن خَلْقِهِ - يَكُونُ مِن رَأْفَتِهِ بِالنَّوْعِ الَّذِي أجادَ صُنْعَهُ، وأقامَ لَهُ مِن قَبُولِ العِلْمِ ما يَقُومُ مَقامَ المَواهِبِ الَّتِي اخْتَصَّ بِها غَيْرَهُ - أنْ يُنْقِذَهُ مِن حَيْرَتِهِ، ويُخَلِّصَهُ مِنَ التَّخَبُّطِ في أهَمِّ حَياتَيْهِ، والضَّلالِ في أفْضَلِ حالَيْهِ. يَقُولُ قائِلٌ: ولِمَ لَمْ يُودِعْ في الغَرائِزِ ما تَحْتاجُ إلَيْهِ مِنَ العِلْمِ؟ ولَمْ يَضَعْ فِيها الِانْقِيادَ إلى العَمَلِ؟ وسُلُوكَ الطَّرِيقِ المُؤَدِّيَةِ إلى الغايَةِ في الحَياةِ الآخِرَةِ؟ وما هَذا النَّحْوُ مِن عَجائِبِ الرَّحْمَةِ في الهِدايَةِ والتَّعْلِيمِ؟ وهو قَوْلٌ يَصْدُرُ عَنْ شَطَطِ العَقْلِ، والغَفْلَةِ عَنْ مَوْضُوعِ البَحْثِ وهو النَّوْعُ الإنْسانِيُّ، ذَلِكَ النَّوْعُ، عَلى ما بِهِ، وما دَخَلَ في تَقْوِيمِ جَوْهَرِهِ مِنَ الرُّوحِ المُفَكِّرِ، وما اقْتَضاهُ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلافِ في مَراتِبِ الِاسْتِعْدادِ بِاخْتِلافِ أفْرادِهِ، وأنْ لا يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنهُ مُسْتَعِدًّا لِكُلِّ حالٍّ بِطَبْعِهِ، وأنْ يَكُونَ وضْعُ وُجُودِهِ عَلى عِمادِ البَحْثِ والِاسْتِدْلالِ، فَلَوْ أُلْهِمَ حاجاتَهُ كَما تُلْهَمُ الحَيَواناتُ لَمْ يَكُنْ هو ذَلِكَ النَّوْعَ، بَلْ كانَ إمّا حَيَوانًا آخَرَ كالنَّحْلِ والنَّمْلِ، أوْ مَلَكًا مِنَ المَلائِكَةِ، لَيْسَ مِن سُكّانِ هَذِهِ الأرْضِ. ثُمَّ قالَ: إنْ كانَ الإنْسانُ قَدْ فُطِرَ عَلى أنْ يَعِيشَ في جُمْلَةٍ، ولَمْ يُمْنَحْ مَعَ تِلْكَ الفِطْرَةِ ما مُنِحَهُ النَّحْلُ وبَعْضُ أفْرادِ النَّمْلِ - مَثَلًا - مِنَ الإلْهامِ الهادِي إلى ما يَلْزَمُ لِذَلِكَ، وإنَّما تُرِكَ إلى فِكْرِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، كَما فُطِرَ عَلى الشُّعُورِ بِقاهِرٍ تَنْساقُ نَفْسُهُ بِالرَّغْمِ عَنْها إلى مَعْرِفَتِهِ، ولَمْ يَفِضْ عَلَيْهِ - مَعَ ذَلِكَ الشُّعُورِ - عِرْفانُهُ بِذاتِ ذَلِكَ القاهِرِ ولا صِفاتِهِ، وإنَّما أُلْقِيَ بِهِ في مُطارِحِ النَّظَرِ تَحْمِلُهُ الأفْكارُ في مَجارِيها، وتَرْمِي بِهِ إلى حَيْثُ يَدْرِي ولا يَدْرِي، وفي كُلِّ ذَلِكَ الوَيْلُ عَلى جامِعَتِهِ، (p-١٧٥٦)والخَطَرُ عَلى وُجُودِهِ، أفَهَلْ مُنِيَ هَذا النَّوْعُ بِالنَّقْصِ، ورُزِئَ بِالقُصُورِ عَنْ مِثْلِ ما بَلَغَهُ أضْعَفُ الحَيَواناتِ وأحَطِّها في مَنازِلِ الوُجُودِ؟ نَعَمْ، هو كَذَلِكَ، لَوْلا ما أتاهُ الصّانِعُ الحَكِيمُ مِن ناحِيَةِ ضَعْفِهِ. الإنْسانُ عَجِيبٌ في شَأْنِهِ: يَصْعَدُ بِقُوَّةِ عَقْلِهِ إلى أعْلى مَراتِبِ المَلَكُوتِ، ويُطاوِلُ بِفِكْرِهِ أرْفَعَ مَعالِمِ الجَبَرُوتِ، ويُسامِي بِقُوَّتِهِ ما يَعْظُمُ عَنْ أنْ يُسامى مِن قُوى الكَوْنِ الأعْظَمِ، ثُمَّ يَصْغُرُ ويَتَضاءَلُ ويَنْحَطُّ إلى أدْنى دَرْكٍ مِنَ الِاسْتِكانَةِ والخُضُوعِ مَتى عَرَضَ لَهُ أمْرٌ ما، لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَهُ ولَمْ يَدْرِكْ مَنشَأهُ، ذَلِكَ لِسِرٍّ عَرَفَهُ المُسْتَبْصِرُونَ، واسْتَشْعَرَتْهُ نُفُوسُ النّاسِ أجْمَعِينَ. مِن ذَلِكَ الضَّعْفِ قُيِّدَ إلى هَواهُ، ومِن تِلْكَ الضَّعَةِ أُخِذَ بِيَدِهِ إلى شَرَفِ سَعادَتِهِ، أكْمَلَ الواهِبُ الجَوادُ لِجُمْلَتِهِ ما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ في تَخْصِيصِ نَوْعِهِ، بِما يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ أنْ يَنْقُصَ مِن أفْرادِهِ، وكَما جادَ عَلى كُلِّ شَخْصٍ بِالعَقْلِ المُصَرِّفِ لِلْحَواسِّ؛ لِيَنْظُرَ في طَلَبِ اللُّقْمَةِ، وسَتْرِ العَوْرَةِ، والتَّوَقِّي مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ - جادَ عَلى الجُمْلَةِ بِما هو أمَسُّ بِالحاجَةِ في البَقاءِ، وآثَرُ في الوِقايَةِ مِن غَوائِلِ الشَّقاءِ، وأحْفَظُ لِنِظامِ الِاجْتِماعِ الَّذِي هو عِمادُ كَوْنِهِ بِالإجْماعِ، مَنَّ عَلَيْهِ بِالنّائِبِ الحَقِيقِيِّ عَنِ المَحَبَّةِ، بَلِ الرّاجِعِ بِها إلى النُّفُوسِ الَّتِي أقْفَرَتْ مِنها، لَمْ يُخالِفْ سُنَّتَهُ فِيهِ، مِن بِناءِ كَوْنِهِ عَلى قاعِدَةِ التَّعْلِيمِ والإرْشادِ، غَيْرَ أنَّهُ أتاهُ مَعَ ذَلِكَ مِن أضْعَفِ الجِهاتِ فِيهِ، وهي جِهَةُ الخُضُوعِ والِاسْتِكانَةِ. فَأقامَ لَهُ مِن بَيْنِ أفْرادِهِ مُرْشِدِينَ هادِينَ، ومَيَّزَهم مِن بَيْنِها بِخَصائِصَ في أنْفُسِهِمْ لا يُشْرِكُهم فِيها سِواهُمْ، وأيَّدَ ذَلِكَ - زِيادَةً في الإقْناعِ - بِآياتٍ باهِراتٍ تَمْلِكُ النُّفُوسَ، وتَأْخُذُ الطَّرِيقَ عَلى سَوابِقِ العُقُولِ، فَيَسْتَخْذِي الطّامِحُ، ويَذِلُّ الجامِحُ، ويَصْطَدِمُ بِها عَقْلُ العاقِلِ فَيَرْجِعُ إلى رُشْدِهِ، ويَنْبَهِرُ لَها بَصَرُ الجاهِلِ فَيَرْتَدُّ عَنْ غَيِّهِ، يَطْرُقُونَ القَوْلَ بِقَوارِعَ مِن أمْرِ اللَّهِ، ويُدْهِشُونَ المَدارِكَ بِبَواهِرَ مِن آياتِهِ، فَيُحِيطُونَ العُقُولَ بِما لا مَندُوحَةَ مِنَ الإذْعانِ لَهُ، ويَسْتَوِي في الرُّكُونِ لِما يَجِيئُونَ بِهِ المالِكُ والمَمْلُوكُ، والسُّطْلانُ والصُّعْلُوكُ، والعاقِلُ والجاهِلُ، والمَفْضُولُ (p-١٧٥٧)والفاضِلُ، فَيَكُونُ الإذْعانُ لَهم أشْبَهَ بِالِاضْطِرارِيِّ مِنهُ بِالِاخْتِيارِيِّ النَّظَرِيِّ، يُعَلِّمُونَهم ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَصْلُحَ بِهِ مَعاشُهم ومَعادُهُمْ، وما أرادَ أنْ يَعْلَمُوهُ مِن شُؤُونِ ذاتِهِ وكَمالِ صِفاتِهِ، وأُولَئِكَ هُمُ الأنْبِياءُ والمُرْسَلُونَ، فَبَعْثَةُ الأنْبِياءِ - صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِن مُتَمِّماتِ كَوْنِ الإنْسانِ، ومِن أهَمِّ حاجاتِهِ في بَقائِهِ، ومَنزِلَتُها مِنَ النَّوْعِ مَنزِلَةُ العَقْلِ مِنَ الشَّخْصِ، نِعْمَةٌ أتَمَّها اللَّهُ: ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ ثُمَّ قالَ في الكَلامِ عَلى وظِيفَةِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -: تَبَيَّنَ مِمّا تَقَدَّمَ في حاجَةِ العالَمِ الإنْسانِيِّ إلى الرُّسُلِ أنَّهم مِنَ الأُمَمِ بِمَنزِلَةِ العُقُولِ مِنَ الأشْخاصِ، وأنَّ بَعْثَتَهم حاجَةٌ مِن حاجاتِ العُقُولِ البَشَرِيَّةِ، قَضَتْ رَحْمَةُ المُبْدِعِ الحَكِيمِ بِسِدادِها، ونِعْمَةٌ مِن واهِبِ الوُجُودِ مَيَّزَ بِها الإنْسانَ عَنْ بَقِيَّةِ الكائِناتِ مِن جِنْسِهِ، ولَكِنَّها حاجَةٌ رُوحِيَّةٌ، وكُلُّ ما لامَسَ الحِسَّ مِنها فالقَصْدُ فِيهِ إلى الرُّوحِ وتَطْهِيرِها مِن دَنَسِ الأهْواءِ الضّالَّةِ وتَقْوِيمِ مَلَكاتِها، أوْ إيداعِها ما فِيهِ سَعادَتُها في الحَياتَيْنِ. أمّا تَفْصِيلُ طُرُقِ المَعِيشَةِ، والحِذْقِ في وُجُوهِ الكَسْبِ، وتَطاوُلِ شَهَواتِ العَقْلِ إلى دَرْكِ ما أُعِدَّ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ، مِن أسْرارِ العِلْمِ - فَذَلِكَ مِمّا لا دَخْلَ لِلرِّسالاتِ فِيهِ، إلّا مِن وجْهِ العِظَةِ العامَّةِ، والإرْشادِ إلى الِاعْتِدالِ فِيهِ، وتَقْرِيرِ أنَّ شَرْطَ ذَلِكَ كُلِّهِ أنْ لا يُحْدِثَ رَيْبًا في الِاعْتِقادِ بِأنَّ لِلْكَوْنِ إلَهًا واحِدًا، قادِرًا عالِمًا، حَكِيمًا مُتَّصِفًا بِما أوْجَبَ الدَّلِيلُ أنْ يَتَّصِفَ بِهِ، وبِاسْتِواءِ نِسْبَةِ الكائِناتِ إلَيْهِ في أنَّها مَخْلُوقَةٌ لَهُ وصُنْعُ قُدْرَتِهِ، وإنَّما تَفاوُتُها فِيما اخْتَصَّ بِهِ بَعْضُها مِنَ الكَمالِ. وشَرْطُهُ أنْ لا يَنالَ شَيْءٌ مِن تِلْكَ الأعْمالِ السّابِقَةِ أحَدًا مِنَ النّاسِ بِشَرٍّ في نَفْسِهِ أوْ عِرْضِهِ أوْ مالِهِ، بِغَيْرِ حَقٍّ يَقْتَضِيهِ نِظامُ عامَّةِ الأُمَّةِ، عَلى ما حُدِّدَ في شَرِيعَتِها. يُرْشِدُونَ العَقْلَ إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وما يَجِبُ أنْ يَعْرِفَ مِن صِفاتِهِ، ويُبَيِّنُونَ الحَدَّ الَّذِي يَجِبُ (p-١٧٥٨)أنْ يَقِفَ عِنْدَهُ في طَلَبِ ذَلِكَ العِرْفانِ، عَلى وجْهٍ لا يَشُقُّ عَلَيْهِ الِاطْمِئْنانُ إلَيْهِ، ولا يَرْفَعُ ثِقَتَهُ بِما آتاهُ اللَّهُ مِنَ القُوَّةِ، يَجْمَعُونَ كَلِمَةَ الخَلْقِ عَلى إلَهٍ واحِدٍ لا فُرْقَةَ مَعَهُ، ويُخَلُّونَ السَّبِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَهُ وحْدَهُ، ويُنْهِضُونَ نُفُوسَهم إلى التَّعَلُّقِ بِهِ في جَمِيعِ الأعْمالِ والمُعامَلاتِ، ويُذَكِّرُونَهم بِعَظَمَتِهِ بِفَرْضِ ضُرُوبٍ مِنَ العِباداتِ، فِيما اخْتَلَفَ مِنَ الأوْقاتِ، تَذْكِرَةً لِمَن يَنْسى، وتَزْكِيَةً مُسْتَمِرَّةً لِمَن يَخْشى، تُقَوِّي ما ضَعُفَ مِنهُمْ، وتَزِيدُ المُسْتَيْقِنَ يَقِينًا. يُبَيِّنُونَ لِلنّاسِ ما اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ عُقُولُهم وشَهَواتُهُمْ، وتَنازَعَتْهُ مَصالِحُهم ولَذّاتُهُمْ، فَيَفْصِلُونَ في تِلْكَ المُخاصَماتِ بِأمْرِ اللَّهِ الصّادِعِ، ويُؤَيِّدُونَ بِما يُبَلِّغُونَ عَنْهُ ما تَقُومُ بِهِ المَصالِحُ العامَّةُ، ولا تَفُوتُ بِهِ المَنافِعُ الخاصَّةُ، يَعُودُونَ بِالنّاسِ إلى الأُلْفَةِ، ويَكْشِفُونَ لَهم سِرَّ المَحَبَّةِ، ويَسْتَلْفِتُونَهم إلى أنَّ فِيها انْتِظامَ شَمَلَ الجَماعَةَ، ويَفْرِضُونَ عَلَيْهِمْ مُجاهَدَةَ أنْفُسِهِمْ، لِيَسْتَوْطِنُوها قُلُوبَهُمْ، ويُشْعِرُوها أفْئِدَتَهُمْ، يُعَلِّمُونَهم لِذَلِكَ أنْ يَرْعى كُلٌّ حَقَّ الآخَرِ، وإنْ كانَ لا يَغْفُلُ حَقَّهُ، وأنْ لا يَتَجاوَزَ في الطَّلَبِ حَدَّهُ، وأنْ يُعِينَ قَوِيُّهم ضَعِيفَهُمْ، ويَمُدَّ غَنِيُّهم فَقِيرَهُمْ، ويَهْدِيَ راشِدُهم ضالَّهُمْ، ويُعَلِّمَ عالِمُهم جاهِلَهُمْ: يَضَعُونَ لَهم بِأمْرِ اللَّهِ حُدُودًا عامَّةً، يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ أنْ يَرُدُّوا إلَيْها أعْمالَهُمْ، كاحْتِرامِ الدِّماءِ البَشَرِيَّةِ إلّا بِحَقٍّ، مَعَ بَيانِ الحَقِّ الَّذِي يُبِيحُ تَناوُلَهُ، واحْتِرامِ الأعْراضِ، مَعَ بَيانِ ما يُباحُ وما يَحْرُمُ مِنَ الأبْضاعِ، ويُشَرِّعُونَ لَهم مَعَ ذَلِكَ أنْ يُقَوِّمُوا أنْفُسَهم بِالمَلِكاتِ الفاضِلَةِ، كالصِّدْقِ والأمانَةِ، والوَفاءِ بِالعُقُودِ، والمُحافَظَةِ عَلى العُهُودِ، والرَّحْمَةِ بِالضُّعَفاءِ، والإقْدامِ عَلى نَصِيحَةِ الأقْوِياءِ، والِاعْتِرافِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ بِحَقِّهِ بِلا اسْتِثْناءٍ. يَحْمِلُونَهم عَلى تَحْوِيلِ أهْوائِهِمْ عَنِ اللَّذائِذِ الفانِيَةِ إلى طَلَبِ الرَّغائِبِ السّامِيَةِ، آخِذِينَ في ذَلِكَ كُلِّهِ بِطَرَفٍ مِنَ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، والإنْذارِ والتَّبْشِيرِ، حَسْبَما أمَرَهُمُ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ. يُفَصِّلُونَ في جَمِيعِ ذَلِكَ لِلنّاسِ ما يُؤَهِّلُهم لِرِضا اللَّهِ عَنْهُمْ، وما يُعَرِّضُهم لِسُخْطِهِ عَلَيْهِمْ. (p-١٧٥٩)ثُمَّ يُحِيطُونَ بَيانَهم بِنَبَأِ الدّارِ الآخِرَةِ، وما أعَدَّ اللَّهُ فِيها مِنَ الثَّوابِ وحُسْنِ العُقْبى لِمَن وقَفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وأخَذَ بِأوامِرِهِ، وتَجَنَّبَ الوُقُوعَ في مَحْظُوراتِهِ، يُعْلِمُونَهم مِن أنْباءِ الغَيْبِ ما أذِنَ اللَّهُ لِعِبادِهِ في العِلْمِ بِهِ، مِمّا لَوْ صَعُبَ عَلى العَقْلِ اكْتِناهُهُ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الِاعْتِرافُ بِوُجُودِهِ. بِهَذا تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ، وتُثْلَجُ الصُّدُورُ، ويَعْتَصِمُ المَرْزُوءُ بِالصَّبْرِ؛ انْتِظارًا لِجَزِيلِ الأجْرِ، أوْ إرْضاءً لِمَن بِيَدِهِ الأمْرِ، وبِهَذا يَنْحَلُّ أعْظَمُ مُشْكِلٍ في الِاجْتِماعِ الإنْسانِيِّ، لا يَزالُ العُقَلاءُ يُجْهِدُونَ أنْفُسَهم في حَلِّهِ إلى اليَوْمِ. لَيْسَ مِن وظائِفِ الرُّسُلِ ما هو مِن عَمَلِ المُدَرِّسِينَ ومُعَلِّمِي الصِّناعاتِ، فَلَيْسَ مِمّا جاءُوا لَهُ تَعْلِيمُ التّارِيخِ، ولا تَفْصِيلُ ما يَحْوِيهِ عالَمُ الكَواكِبِ، ولا بَيانُ ما اخْتَلَفَ مِن حَرَكاتِها، ولا ما اسْتَكَنَّ مِن طَبَقاتِ الأرْضِ، ولا مَقادِيرُ الطُّولِ فِيها والعَرْضِ، ولا ما تَحْتاجُ إلَيْهِ النَّباتاتُ في نُمُوِّها، ولا ما تَفْتَقِرُ إلَيْهِ الحَيَواناتُ في إبْقاءِ أشْخاصِها وأنْواعِها .... وغَيْرُ ذَلِكَ مِمّا وُضِعَتْ لَهُ العُلُومُ، وتَسابَقَتْ في الوُصُولِ إلى دَقائِقِهِ الفُهُومُ، فَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن وسائِلِ الكَسْبِ وتَحْصِيلِ طُرُقِ الرّاحَةِ، هَدى اللَّهُ إلَيْهِ البَشَرَ بِما أوْدَعَ فِيهِمْ مِنَ الإدْراكِ، يَزِيدُ في سَعادَةِ المُخْلِصِينَ، ويَقْضِي فِيهِ بِالنَّكَدِ عَلى المُقَصِّرِينَ. ولَكِنْ كانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ في ذَلِكَ أنْ يَتَّبِعَ طَرِيقَةَ التَّدَرُّجِ في الكَمالِ، وقَدْ جاءَتْ شَرائِعُ الأنْبِياءِ بِما يَحْمِلُ عَلى الإجْمالِ بِالسَّعْيِ فِيهِ، وما يَكْفُلُ التِزامُهُ بِالوُصُولِ إلى ما أعَدَّ اللَّهُ لَهُ الفِطَرَ الإنْسانِيَّةَ مِن مَراتِبِ الِارْتِقاءِ. أمّا ما ورَدَ في كَلامِ الأنْبِياءِ مِنَ الإشارَةِ إلى شَيْءٍ مِمّا ذَكَرْنا في أحْوالِ الأفْلاكِ أوْ هَيْئَةِ الأرْضِ - فَإنَّما يُقْصَدُ مِنهُ النَّظَرُ إلى ما فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى حِكْمَةِ مُبْدِعِهِ، أوْ تَوْجِيهُ الفِكْرِ إلى الغَوْصِ لِإدْراكِ أسْرارِهِ وبَدائِعِهِ. وحالُهم - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في مُخاطَبَةِ أُمَمِهِمْ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ فَوْقَ ما يَفْهَمُونَ، وإلّا ضاعَتِ الحِكْمَةُ في إرْسالِهِمْ، ولِهَذا قَدْ يَأْتِي التَّعْبِيرُ الَّذِي سِيقَ إلى العامَّةِ بِما يَحْتاجُ إلى التَّأْوِيلِ والتَّفْسِيرِ عِنْدَ الخاصَّةِ، وكَذَلِكَ ما وُجِّهَ إلى الخاصَّةِ يَحْتاجُ إلى الزَّمانِ الطَّوِيلِ حَتّى يَفْهَمَهُ العامَّةُ، وهَذا القِسْمُ أقَلُّ ما ورَدَ في كَلامِهِمْ. (p-١٧٦٠)عَلى كُلِّ حالٍ لا يَجُوزُ أنْ يُقامَ الدِّينُ حاجِزًا بَيْنَ الأرْواحِ وبَيْنَ ما مَيَّزَها اللَّهُ بِهِ مِنَ الِاسْتِعْدادِ لِلْعِلْمِ بِحَقائِقِ الكائِناتِ المُمْكِنَةِ بِقَدْرِ الإمْكانِ، بَلْ يَجِبُ أنْ يَكُونَ الدِّينُ باعِثًا عَلى طَلَبِ العِرْفانِ، مُطالِبًا لَها بِاحْتِرامِ البُرْهانِ، فارِضًا عَلَيْها أنْ تَبْذُلَ ما تَسْتَطِيعُ مِنَ الجُهْدِ في مَعْرِفَةِ ما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ العَوالِمِ، ولَكِنْ مَعَ التِزامِ القَصْدِ، والوُقُوفِ في سَلامَةِ الِاعْتِقادِ عِنْدَ الحَدِّ، ومَن قالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ جَهِلَ الدِّينَ، وجَنى عَلَيْهِ جِنايَةً لا يَغْفِرُها لَهُ رَبُّ الدِّينِ. انْتَهى. ولَمّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ [النساء: ١٦٣] الآيَةَ، إثْباتَ نُبُوَّتِهِ والِاحْتِجاجَ عَلى تَعَنُّتِهِمْ عَلَيْهِ بِسُؤالِ كِتابٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهم لا يَشْهَدُونَ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب