الباحث القرآني
اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ١٥٤ ] ﴿ثُمَّ أنْـزَلَ عَلَيْكم مِن بَعْدِ الغَمِّ أمَنَةً نُعاسًا يَغْشى طائِفَةً مِنكم وطائِفَةٌ قَدْ أهَمَّتْهم أنْفُسُهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ في أنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا ها هُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضاجِعِهِمْ ولِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما في صُدُورِكم ولِيُمَحِّصَ ما في قُلُوبِكم واللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾
﴿ثُمَّ أنْـزَلَ عَلَيْكم مِن بَعْدِ الغَمِّ أمَنَةً﴾ أيْ: أمْنًا. والأمَنَةُ (بِتَحْرِيكِ المِيمِ) مَصْدَرٌ، يُقالُ: أمِنَ أمْنًا وأمانًا وأمَنًا وأمَنَةً (مُحَرَّكَتَيْنِ) وفي حَدِيثِ نُزُولِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، (p-١٠٠٤)وتَقَعُ الأمَنَةُ في الأرْضِ، أيْ: الأمْنُ. ومِثْلُهُ مِنَ المَصادِرِ العَظَمَةُ والغَلَبَةُ، وهو مَنصُوبٌ عَلى المَفْعُولِيَّةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿نُعاسًا﴾ بَدَلٌ مِن: (أمَنَةً) وقِيلَ: هو المَفْعُولُ، و: ﴿أمَنَةً﴾ حالٌ أوْ مَفْعُولٌ لَهُ: ﴿يَغْشى طائِفَةً مِنكُمْ﴾ وهم المُخْلِصُونَ، أهْلُ اليَقِينِ والثَّباتِ والتَّوَكُّلِ الصّادِقِ، والجازِمُونَ بِأنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - سَيَنْصُرُ رَسُولَهُ ويُنْجِزُ لَهُ مَأْمُولَهُ. والنُّعاسُ في حالِ الحَرْبِ دَلِيلٌ عَلى الأمانِ، كَما قالَ في سُورَةِ الأنْفالِ: ﴿إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أمَنَةً مِنهُ﴾ [الأنفال: ١١] الآيَةُ.
ورَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ عَنْ أنَسٍ عَنْ أبِي طَلْحَةَ قالَ: غَشِيَنا النُّعاسُ ونَحْنُ في مَصافِّنًا يَوْمَ أُحُدٍ، قالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِن يَدِي وآخُذُهُ، ويَسْقُطُ وآخُذُهُ. ورَواهُ التِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ والحاكِمُ. ولَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: قالَ أبُو طَلْحَةَ: رَفَعْتُ رَأْسَيْ يَوْمِ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ أنْظُرُ، وما مِنهم يَوْمَئِذٍ أحَدٌ إلّا يَمِيدُ تَحْتَ حَجَفَتِهِ مِنَ النُّعاسِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أنْـزَلَ عَلَيْكم مِن بَعْدِ الغَمِّ أمَنَةً نُعاسًا﴾ وقَدْ ساقَ الرّازِيُّ لِذَلِكَ النُّعاسِ فَوائِدَ:
مِنها: أنَّ الأعْداءَ كانُوا في غايَةِ الحِرْصِ عَلى قَتْلِهِمْ، فَبَقاؤُهم في النَّوْمِ مَعَ السَّلامَةِ في مِثْلِ تِلْكَ المَعْرَكَةِ مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى أنَّ حِفْظَ اللَّهِ وعِصْمَتَهُ مَعَهم. وذَلِكَ مِمّا يُزِيلُ الخَوْفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، ويُورِثُهم مَزِيدَ الوُثُوقِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعالى - انْتَهى - . ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ مَن لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ النُّعاسُ فَهو مِمَّنْ أهَمَّتْهُ نَفْسُهُ، لا دِينُهُ ولا نَبِيُّهُ ولا أصْحابُهُ، بِقَوْلِهِ: ﴿وطائِفَةٌ قَدْ أهَمَّتْهم أنْفُسُهُمْ﴾ أيْ: ما بِهِمْ إلّا هَمُّ أنْفُسِهِمْ وقَدْ (p-١٠٠٥)قَصَدَ خَلاصَها، فَلَمْ يَغْشَهم النُّعاسُ مِنَ القَلَقِ والجَزَعِ والخَوْفِ: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ﴾ أيْ: غَيْرَ الظَّنِّ الحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أنْ يُظَنَّ بِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ﴾ كَما قالَ تَعالى في الآيَةِ الأُخْرى: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ إلى أهْلِيهِمْ أبَدًا﴾ [الفتح: ١٢] الآيَةُ. وهَكَذا هَؤُلاءِ اعْتَقَدُوا أنَّ المُشْرِكِينَ لَمّا ظَهَرُوا تِلْكَ السّاعَةَ أنَّها الفَيْصَلَةُ، وأنَّ الإسْلامَ قَدْ بادَ وأهْلُهُ، وهَذا شَأْنُ أهْلِ الرَّيْبِ والشَّكِّ، إذا حَصَلَ أمْرٌ مِنَ الأُمُورِ الفَظِيعَةِ، تَحْصُلُ لَهم هَذِهِ الظُّنُونُ الشَّنِيعَةُ.
قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في (زادِ المَعادِ): وقَدْ فُسِّرَ هَذا الظَّنُّ الَّذِي لا يَلِيقُ بِاَللَّهِ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وأنَّ أمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ، وأنَّهُ يُسْلِمُهُ لِلْقَتْلِ. وفُسِّرَ بِأنَّ ما أصابَهم لَمْ يَكُنْ بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ، ولا حِكْمَةَ لَهُ فِيهِ. فَفُسِّرَ بِإنْكارِ الحِكْمَةِ، وإنْكارِ القَدَرِ، وإنْكارِ أنْ يُتِمَّ أمْرَ رَسُولِهِ، ويُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ. وهَذا هو ظَنُّ السَّوْءِ الَّذِي ظَنَّهُ المُنافِقُونَ والمُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في سُورَةِ الفَتْحِ، حَيْثُ يَقُولُ: ﴿ويُعَذِّبَ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ الظّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولَعَنَهم وأعَدَّ لَهم جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح: ٦] وإنَّما كانَ هَذا ظَنَّ السَّوْءِ، وظَنَّ الجاهِلِيَّةِ المَنسُوبَ إلى أهْلِ الجَهْلِ، وظَنَّ غَيْرِ الحَقِّ، لِأنَّهُ ظَنُّ غَيْرَ ما يَلِيقُ بِأسْمائِهِ الحُسْنى، وصِفاتِهِ العُلْيا، وذاتِهِ المُبَرَّأةِ مِن كُلِّ سُوءٍ. بِخِلافِ ما يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ، وتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ والإلَهِيَّةِ، وما يَلِيقُ بِوَعْدِهِ الصّادِقِ الَّذِي لا يُخْلِفُهُ، وكَلِمَتِهِ الَّتِي سَبَقَتْ لِرُسُلِهِ أنَّهُ يَنْصُرُهم ولا يَخْذُلُهم، ولِجُنْدِهِ بِأنَّهم هم الغالِبُونَ. فَمَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ لا يَنْصُرُ رُسُلَهُ، ولا يُتِمُّ أمْرَهُ، ولا يُؤَيِّدُهُ ويُؤَيِّدُ جُنْدَهُ، ويُعْلِيهِمْ ويُظْفِرُهم بِأعْدائِهِ، ويُظْهِرُهم عَلَيْهِمْ، وأنَّهُ لا يَنْصُرُ دِينَهُ وكِتابَهُ، وأنَّهُ يُدِيلُ (p-١٠٠٦)الشِّرْكَ عَلى التَّوْحِيدِ، والباطِلَ عَلى الحَقِّ، إدالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَها التَّوْحِيدُ والحَقُّ اضْمِحْلالًا لا يَقُومُ بَعْدَهُ أبَدًا - فَقَدْ ظَنَّ بِاَللَّهِ السُّوءَ ونَسَبَهُ إلى خِلافِ ما يَلِيقُ بِكَمالِهِ وجَلالِهِ وصِفاتِهِ ونُعُوتِهِ. فَإنَّ عِزَّتَهُ وحِكْمَةَ إلَهِيَّتِهِ تَأْبى ذَلِكَ، ويَأْبى أنْ يُذِلَّ حِزْبَهُ وجُنْدَهُ، وأنْ تَكُونَ النُّصْرَةُ المُسْتَقِرَّةُ والظَّفَرُ الدّائِمُ لِأعْدائِهِ المُشْرِكِينَ بِهِ، العادِلِينَ بِهِ - فَمَن ظَنَّ بِهِ ذَلِكَ فَما عَرَفَهُ ولا عَرَفَ أسْماءَهُ، ولا عَرَفَ صِفاتِهِ وكَمالَهُ، وكَذَلِكَ مَن أنْكَرَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ فَما عَرَفَهُ ولا عَرَفَ رُبُوبِيَّتَهُ ومُلْكَهُ وعَظَمَتَهُ، وكَذَلِكَ مَن أنْكَرَ أنْ يَكُونَ قَدَّرَ ما قَدَّرَهُ مِن ذَلِكَ وغَيْرِهِ لِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ، وغايَةٍ مَحْمُودَةٍ يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ عَلَيْها، وأنَّ ذَلِكَ إنَّما صَدَرَ عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ حِكْمَةٍ وغايَةٍ مَطْلُوبَةٍ هي أحَبُّ إلَيْهِ مِن فَوْتِها، وأنَّ تِلْكَ الأسْبابَ المَكْرُوهَةَ المُفْضِيَةَ إلَيْها لا يَخْرُجُ تَقْدِيرُها عَنْ الحِكْمَةِ لِإفْضائِها إلى ما يُحِبُّ، وإنْ كانَتْ مَكْرُوهَةً لَهُ، فَما قَدَّرَها سُدًى، ولا أنْشَأها عَبَثًا، ولا خَلَقَها باطِلًا: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ﴾ [ص: ٢٧] وأكْثَرُ النّاسِ يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ، ظَنَّ السَّوْءِ، فِيما يَخْتَصُّ بِهِمْ وفِيما يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ. ولا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ إلّا مَن عَرَفَ اللَّهَ وعَرَفَ أسْماءَهُ وصِفاتِهِ، وعَرَفَ مُوجِبَ حَمْدِهِ وحِكْمَتِهِ. فَمَن قَنَطَ مِن رَحْمَتِهِ، وأيَسَ مِن رُوحِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومَن جَوَّزَ عَلَيْهِ أنْ يُعَذِّبَ أوْلِياءَهُ مَعَ إحْسانِهِمْ وإخْلاصِهِمْ، ويُسَوِّيَ بَيْنَهم وبَيْنَ أعْدائِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومَن ظَنَّ بِهِ أنْ يَتْرُكَ خَلْقَهُ سُدًى مُعَطَّلِينَ مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ ولا يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ، ولا يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، بَلْ يَتْرُكُهم هَمَلًا كالأنْعامِ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومَن ظَنَّ أنَّهُ لَنْ يَجْمَعَ عَبِيدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلثَّوابِ والعِقابِ في دارٍ يُجازِي فِيها المُحْسِنَ بِإحْسانِهِ، والمُسِيءَ بِإساءَتِهِ، ويُبَيِّنَ لِخَلْقِهِ حَقِيقَةَ ما اخْتَلَفُوا فِيهِ، ويُظْهِرَ لِلْعالَمِينَ كُلِّهِمْ صِدْقَهُ وصِدْقَ رُسُلِهِ، وأنَّ أعْداءَهُ كانُوا هم الكاذِبِينَ - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومَن ظَنَّ أنَّهُ يُضِيعُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ الصّالِحَ الَّذِي عَمِلَهُ خالِصًا لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ عَلى امْتِثالِ أمْرِهِ ويُبْطِلَهُ عَلَيْهِ بِلا سَبَبٍ مِنَ العَبْدِ، وأنَّهُ يُعاقِبُهُ بِما لا صَنِيعَ لَهُ فِيهِ، ولا اخْتِيارَ لَهُ، ولا قُدْرَةَ ولا إرادَةَ في حُصُولِهِ، بَلْ يُعاقِبُهُ عَلى فِعْلِهِ هو سُبْحانَهُ بِهِ، أوْ ظَنَّ (p-١٠٠٧)أنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أنْ يُؤَيِّدَ أعْداءَهُ الكاذِبِينَ عَلَيْهِ بِالمُعْجِزاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ بِها أنْبِياءَهُ ورُسُلَهُ ويُجْرِيَها عَلى أيْدِيهِمْ، يُضِلُّونَ بِها عِبادَهُ، وأنَّهُ يَحْسُنُ مِنهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتّى تَعْذِيبُ مَن أفْنى عُمْرَهُ في طاعَتِهِ، فَيُخَلِّدُهُ في الجَحِيمِ أسْفَلَ السّافِلِينَ، ويُنَعِّمَ مَن اسْتَنْفَدَ عُمْرَهُ في عَداوَتِهِ وعَداوَةِ رُسُلِهِ ودِينِهِ فَيَرْفَعُهُ إلى أعْلى عِلِّيِّينَ، وكِلا الأمْرَيْنِ في الحُسْنِ سَواءٌ عِنْدَهُ، ولا يُعْرَفُ امْتِناعُ أحَدِهِما ووُقُوعُ الآخَرِ إلّا بِخَبَرٍ صادِقٍ، وإلّا فالعَقْلُ لا يَقْضِي بِقُبْحِ أحَدِهِما وحُسْنِ الآخَرِ - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ بِما ظاهِرُهُ باطِلٌ وتَشْبِيهٌ وتَمْثِيلٌ، وتَرَكَ الحَقَّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ، وإنَّما رَمَزَ إلَيْهِ رُمُوزًا بَعِيدَةً، وأشارَ إلَيْهِ إشاراتٍ مُلْغِزَةً، لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وصَرَّحَ دائِمًا بِالتَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ والباطِلِ،، وأرادَ مِن خَلْقِهِ أنْ يُتْعِبُوا أذْهانَهم وقُواهم وأفْكارَهم في تَحْرِيفِ كَلامِهِ عَنْ مَواضِعِهِ، وتَأْوِيلِهِ عَلى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، ويَتَطَلَّبُوا لَهُ وُجُوهَ الِاحْتِمالاتِ المُسْتَكْرَهَةِ، والتَّأْوِيلاتِ الَّتِي هي بِالألْغازِ والأحاجِي أشْبَهُ مِنها بِالكَشْفِ والبَيانِ، وأحالَهم في مَعْرِفَةِ أسْمائِهِ، وصِفاتِهِ عَلى عُقُولِهِمْ وآرائِهِمْ، لا عَلى كِتابِهِ، بَلْ أرادَ مِنهم أنْ لا يَحْمِلُوا كَلامَهُ عَلى ما يَعْرِفُونَ مِن خِطابِهِمْ ولُغَتِهِمْ، مَعَ قُدْرَتِهِ أنْ يُصَرِّحَ لَهم بِالحَقِّ الَّذِي يَنْبَغِي التَّصْرِيحُ بِهِ، ويُرِيحَهم مِنَ الألْفاظِ الَّتِي تُوقِعُهم في اعْتِقادِ الباطِلِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، بَلْ سَلَكَ بِهِمْ خِلافَ طَرِيقِ الهُدى والبَيانِ - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. فَإنَّهُ إنْ قالَ إنَّهُ غَيْرُ قادِرٍ عَلى التَّعْبِيرِ عَنْ الحَقِّ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ هو وسَلَفُهُ - فَقَدْ ظَنَّ بِقُدْرَتِهِ العَجْزَ. وإنْ قالَ: إنَّهُ قادِرٌ ولَمْ يُبَيِّنْ، وعَدَلَ عَنْ البَيانِ، وعَنْ التَّصْرِيحِ بِالحَقِّ، إلى ما يُوهِمُ، بَلْ يُوقِعُ في الباطِلِ المُحالِ، والِاعْتِقادِ الفاسِدِ - فَقَدْ ظَنَّ بِحِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. وظَنَّ أنَّهُ هو وسَلَفُهُ عَبَّرُوا عَنْ الحَقِّ بِصَرِيحِهِ دُونَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وأنَّ الهُدى والحَقَّ في كَلامِهِمْ وعِباراتِهِمْ. وأمّا كَلامُ اللَّهِ فَإنَّما يُؤْخَذُ مِن ظاهِرِهِ التَّشْبِيهُ والتَّمْثِيلُ والضَّلالُ، وظاهِرُ كَلامِ المُتَهَوِّكِينَ الحَيارى هو الهُدى والحَقُّ، وهَذا مِن أسْوَأِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ. فَكُلُّ هَؤُلاءِ مِنَ الظّانِّينَ بِاَللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومِنَ الظّانِّينَ بِهِ غَيْرَ الحَقِّ، ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ. ومَن ظَنَّ بِهِ يَكُونُ في (p-١٠٠٨)مُلْكِهِ ما لا يَشاءُ ولا يَقْدِرُ عَلى إيجادِهِ وتَكْوِينِهِ - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ كانَ مُعَطَّلًا مِنَ الأزَلِ إلى الأبَدِ، عَنْ أنْ يَفْعَلَ ولا يُوصَفُ حِينَئِذٍ بِالقُدْرَةِ عَلى الفِعْلِ، ثُمَّ صارَ قادِرًا عَلَيْهِ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ قادِرًا - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ سَماواتِهِ عَلى عَرْشِهِ، بائِنًا مِن خَلْقِهِ، وأنَّ نِسْبَةَ ذاتِهِ تَعالى إلى عَرْشِهِ كَنِسْبَتِها إلى أسْفَلِ السّافِلِينَ، وإلى الأمْكِنَةِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِها، وأنَّهُ أسْفَلُ كَما أنَّهُ أعْلى، ومَن قالَ سُبْحانَ رَبِّي الأسْفَلُ، كَمَن قالَ سُبْحانَ رَبِّي الأعْلى - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ أقْبَحَ الظَّنِّ.
ثُمَّ قالَ: وبِالجُمْلَةِ فِيمَن ظَنَّ بِهِ خِلافَ ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، ووَصَفَهُ بِهِ ورُسُلُهُ، أوْ عَطَّلَ حَقائِقَ ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، ووَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ومَن ظَنَّ أنَّ أحَدًا يَشْفَعُ عِنْدَهُ بِدُونِ إذْنِهِ، أوْ أنَّ بَيْنَهُ وبَيْنَ خَلْقِهِ وسائِطَ يَرْفَعُونَ حَوائِجَهم إلَيْهِ، أوْ أنَّهُ نَصَبَ لِعِبادِهِ أوْلِياءَ مِن دُونِهِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إلَيْهِ، ويَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إلَيْهِ، ويَجْعَلُونَهم وسائِطَ بَيْنَهم وبَيْنَهُ، فَيَدْعُونَهم، ويَخافُونَهم، ويَرْجُونَهم - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ أقْبَحَ الظَّنِّ وأسْوَأهُ.
ثُمَّ قالَ: ومَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ إذا صَدَّقَهُ في الرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ وتَضَرَّعَ إلَيْهِ وسَألَهُ واسْتَعانَ بِهِ وتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، أنَّهُ يُخَيِّبُهُ ولا يُعْطِيهِ ما سَألَهُ - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. وظَنَّ بِهِ خِلافَ ما هو أهْلُهُ.
ثُمَّ قالَ: ومَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ إنْ عَصاهُ أوْ أسْخَطَهُ وأوْضَعَ في مَعاصِيهِ، ثُمَّ اتَّخَذَ مِن دُونِهِ ولِيًّا، ودَعا مِن دُونِهِ مَلَكًا أوْ بَشَرًا حَيًّا أوْ مَيِّتًا، يَرْجُو بِذَلِكَ أنْ يَنْفَعَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، ويُخَلِّصَهُ مِن عَذابِهِ - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ. وذَلِكَ زِيادَةٌ في بَعْدِهِ مِنَ اللَّهِ، وفي عَذابِهِ. ومَن ظَنَّ بِهِ أنَّهُ يُسَلِّطُ عَلى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أعْداءَهُ تَسْلِيطًا مُسْتَقِرًّا دائِمًا في حَياتِهِ وفي مَماتِهِ، وابْتَلاهُ بِهِمْ لا يُفارِقُونَهُ. فَلَمّا ماتَ اسْتَبَدُّوا بِالأمْرِ دُونَ وصِيَّتِهِ، وظَلَمُوا أهْلَ بَيْتِهِ، وسَلَبُوهم حَقَّهم، وأذَلُّوهم، وكانَتْ العِزَّةُ والغَلَبَةُ والقَهْرُ لِأعْدائِهِ وأعْدائِهِمْ دائِمًا مِن غَيْرِ جُرْمٍ ولا ذَنْبٍ لِأوْلِيائِهِ وأهْلِ الحَقِّ، وهو يَرى قَهْرَهم لَهم، وغَصْبَهم إيّاهم حَقَّهم، وتَبْدِيلَهم دِينَ نَبِيِّهِمْ، وهو يَقْدِرُ عَلى نَصْرِ أوْلِيائِهِ، وحِزْبِهِ وجُنْدِهِ، ولا يَنْصُرُهم ولا يُدِيلُهم، بَلْ يُدِيلُ أعْداءَهم (p-١٠٠٩)عَلَيْهِمْ أبَدًا، أوْ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ، بَلْ حَصَلَ هَذا بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ ولا مَشِيئَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ أعْداءَهُ الَّذِينَ بَدَّلُوا دِينَهُ مُضاجِعِيهِ في حَضْرَتِهِ، تُسَلِّمُ أُمَّتُهُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ كُلَّ وقْتٍ (كَما تَظُنُّهُ الرّافِضَةُ) - فَقَدْ ظَنَّ بِهِ أقْبَحَ الظَّنِّ وأسْوَأهُ، وسَواءٌ قالُوا: إنَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يَنْصُرَهم ويَجْعَلَ لَهم الدَّوْلَةَ والظَّفَرَ، أوْ أنَّهُ غَيْرُ قادِرٍ عَلى ذَلِكَ - فَهم قادِحُونَ في قُدْرَتِهِ أوْ في حِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ، وذَلِكَ مِن ظَنِّ السَّوْءِ بِهِ. ولا رَيْبَ أنَّ الرَّبَّ الَّذِي فَعَلَ هَذا بَغِيضٌ إلى مَن ظَنَّ بِهِ ذَلِكَ، غَيْرُ مَحْمُودٍ عِنْدَهم، وكانَ الواجِبُ أنْ يَفْعَلَ خِلافَ ذَلِكَ، لَكِنْ رَفَوْا هَذا الظَّنَّ الفاسِدَ بِخَرْقٍ أعْظَمَ مِنهُ، واسْتَجارُوا مِنَ الرَّمْضاءِ بِالنّارِ، فَقالُوا: لَمْ يَكُنْ هَذا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، ولا لَهُ قُدْرَةٌ عَلى دَفْعِهِ ونَصْرِ أوْلِيائِهِ، فَإنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى أفْعالِ عِبادِهِ، ولا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَظَنُّوا بِهِ ظَنَّ إخْوانِهِمْ المَجُوسِ والثَّنَوِيَّةِ بِرَبِّهِمْ. وكُلُّ مُبْطِلٍ وكافِرٍ ومُبْتَدِعٍ ومَقْهُورٍ مُسْتَذَلٍّ - فَهو يَظُنُّ بِرَبِّهِ هَذا الظَّنَّ، وإنَّهُ أوْلى بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ والعُلُوِّ مِن خُصُومِهِ، فَأكْثَرُ الخَلْقِ، بَلْ كُلُّهم، إلّا مَن شاءَ اللَّهُ، يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وظَنَّ السَّوْءِ. فَإنَّ غالِبَ بَنِي آدَمَ يَعْتَقِدُ أنَّهُ مَبْخُوسُ الحَقِّ، ناقِصُ الحَظِّ، وأنَّهُ يَسْتَحِقُّ فَوْقَ ما أعْطاهُ اللَّهُ، ولِسانُ حالِهِ يَقُولُ: ظَلَمَنِي رَبِّي ومَنَعَنِي ما أسْتَحِقُّهُ، ونَفْسُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وهو بِلِسانِهِ يُنْكِرُهُ، ولا يَتَجاسَرُ عَلى التَّصْرِيحِ بِهِ. ومَن فَتَّشَ نَفْسَهُ، وتَغَلْغَلَ في مَعْرِفَةِ دَفائِنِها وطَواياها - رَأى ذَلِكَ فِيها كامِنًا كُمُونَ النّارِ في الزِّنادِ، فاقْدَحْ زِنادَ مَن شِئْتَ يُنْبِئْكَ شَرارُهُ عَمّا في زِنادِهِ، ولَوْ فَتَّشْتَ مَن فَتَّشْـتَهُ، لَرَأيْتَ عِنْدَهُ تَعَتُّبًا عَلى القَدَرِ، ومَلامَةً لَهُ، واقْتِراحًا عَلَيْهِ خِلافَ ما جَرى بِهِ، وأنَّهُ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ كَذا وكَذا، فَمُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ، وفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أنْتَ سالِمٌ مِن ذَلِكَ:
؎فَإنْ تَنْجُ مِنها تَنْجُ مِن ذِي عَظِيمَةٍ وإلّا فَإنِّي لا إخالُكَ ناجِيًا
فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النّاصِحُ نَفْسَهُ بِهَذا المَوْضِعِ، ولْيَتُبْ إلى اللَّهِ ويَسْتَغْفِرْهُ كُلَّ وقْتٍ، مِن ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ. ولْيَظُنَّ السَّوْءَ بِنَفْسِهِ الَّتِي هي مادَّةُ كُلِّ سَوْءٍ، ومَنبَعُ كُلِّ شَرٍّ، المُرَكَّبَةِ عَلى الجَهْلِ والظُّلْمِ، فَهي أوْلى بِظَنِّ السَّوْءِ مِن أحْكَمِ الحاكِمِينَ وأعْدَلِ العادِلِينَ وأرْحَمِ الرّاحِمِينَ، (p-١٠١٠)اَلْغَنِيِّ الحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ الغِنى التّامُّ، والحَمْدُ التّامُّ، والحِكْمَةُ التّامَّةُ، المُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ، في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأسْمائِهِ. فَذاتُهُ لَها الكَمالُ المُطْلَقُ مِن كُلِّ وجْهِ، وصِفاتُهُ كَذَلِكَ، وأفْعالُهُ كَذَلِكَ، كُلُّها حِكْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ ورَحْمَةٌ وعَدْلٌ. وأسْماؤُهُ كُلُّها حُسْنى. والمَقْصُودُ ما ساقَنا إلى هَذا الكَلامِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وطائِفَةٌ قَدْ أهَمَّتْهم أنْفُسُهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ﴾
ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ الكَلامِ الَّذِي صَدَرَ عَنْ ظَنِّهِمْ الباطِلِ بِقَوْلِهِ: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ: هَلْ لَنا مَن أمْرِ التَّدْبِيرِ والرَّأْيِ مِن شَيْءٍ، اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ. أيْ: ما لَنا أمْرٌ يُطاعُ. ونَظِيرُهُ ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا﴾ [آل عمران: ١٦٨] وذَلِكَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمّا شاوَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ في هَذِهِ الواقِعَةِ، أشارَ عَلَيْهِ بِأنْ لا يَخْرُجَ مِنَ المَدِينَةِ، ثُمَّ إنَّ الصَّحابَةَ ألَحُّوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ في أنْ يَخْرُجَ إلَيْهِمْ - كَما تَقَدَّمَ - . ولَمّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِمَن مَعَهُ، وأُخْبِرَ بِكَثْرَةِ القَتْلى مِن بَنِي الخَزْرَجِ، قالَ: هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ؟ يَعْنِي: أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلِي حِينَ أمَرْتُهُ بِأنْ يَبْقى في المَدِينَةِ ولا يَخْرُجَ مِنها: ﴿قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ أيْ: التَّدْبِيرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَإنَّهُ تَعالى قَدْ دَبَّرَ الأمْرَ كَما جَرى في سابِقِ قَضائِهِ فَلا مَرَدَّ لَهُ.
قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: لَيْسَ مَقْصُودُهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ﴾ وقَوْلِهِمْ: ﴿لَوْ كانَ لَنا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا ها هُنا﴾ إثْباتَ القَدَرِ، ورَدَّ الأمْرِ كُلِّهِ إلى اللَّهِ. ولَوْ كانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهم بِالكَلِمَةِ الأوْلى لَما ذُمُّوا عَلَيْهِ، ولَما حَسُنَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ ولا كانَ مَصْدَرُ هَذا الكَلامِ ظَنُّ الجاهِلِيَّةَ. ولِهَذا، قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ: إنَّ ظَنَّهم الباطِلَ هَهُنا هو التَّكْذِيبُ بِالقَدَرِ، وظَنَّهم أنَّ الأمْرَ لَوْ كانَ إلَيْهِمْ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابَهُ تَبَعًا لَهم، ويَسْمَعُونَ مِنهم؛ لَما أصابَهم القَتْلُ، ويَكُونُ النَّصْرُ والظَّفَرُ (p-١٠١١)لَهم. فَأكْذَبَهم اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - في هَذا الظَّنِّ الباطِلِ، الَّذِي هو ظَنُّ الجاهِلِيَّةِ، وهو الظَّنُّ المَنسُوبُ إلى أهْلِ الجَهْلِ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ، بَعْدَ نَفاذِ القَضاءِ والقَدَرِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن نَفاذِهِ، أنَّهم كانُوا قادِرِينَ عَلى دَفْعِهِ، وأنَّ الأمْرَ لَوْ كانَ إلَيْهِمْ لَما نَفَذَ القَضاءُ، فَأكْذَبَهم اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ فَلا يَكُونُ إلّا ما سَبَقَ قَضاؤُهُ وقَدَرُهُ، وجَرى بِهِ عِلْمُهُ وكِتابُهُ السّابِقُ، وما شاءَ اللَّهُ كانَ ولا بُدَّ، شاءَ النّاسُ أمْ أبَوْا. وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، شاءَ النّاسُ أوْ لَمْ يَشاؤُوهُ. وما جَرى عَلَيْكم مِنَ الهَزِيمَةِ والقَتْلِ، فَبِأمْرِهِ الكَوْنِيِّ الَّذِي لا سَبِيلَ إلى دَفْعِهِ، سَواءٌ كانَ لَكم مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ لَمْ يَكُنْ، وأنَّكم لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكم وقَدْ كُتِبَ القَتْلُ عَلى بَعْضِكم، لَخَرَجَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ القَتْلُ مِن بُيُوتِهِمْ إلى مَضاجِعِهِمْ ولا بُدَّ. سَواءٌ أنْ يَكُونَ لَهم مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ لَمْ يَكُنْ. وهَذا مِن أظْهَرِ الأشْياءِ إبْطالًا لِقَوْلِ القَدَرِيَّةِ النُّفاةِ، الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ أنْ يَقَعَ ما لا يَشاؤُهُ اللَّهُ، وأنْ يَشاءَ ما لا يَقَعُ - انْتَهى - .
﴿يُخْفُونَ في أنْفُسِهِمْ﴾ أيْ: يُضْمِرُونَ فِيها، أوْ يَقُولُونَ فِيما بَيْنَهم بِطَرِيقِ الخُفْيَةِ: ﴿ما لا يُبْدُونَ لَكَ﴾ لِكَوْنِهِ لا يَرْضاهُ اللَّهُ تَعالى. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بَعْدَ إجْمالِهِ فَقالَ: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الأمْرِ﴾ أيْ: المَسْمُوعِ. ﴿شَيْءٌ ما قُتِلْنا ها هُنا﴾ أيْ: ما غُلِبْنا، أوْ ما قُتِلَ مَن قُتِلَ مِنّا، لِأنّا كُنّا نَمْكُثُ في المَدِينَةِ ولا نَخْرُجُ إلى العَدُوِّ. ولَمّا أخْبَرَ تَعالى بِما أخْفَوْهُ جَهْلًا مِنهم، ظَنًّا أنَّ الحَذَرَ يُغْنِي مِنَ القَدَرِ، أمَرَهُ تَعالى بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ﴾ أيْ: أجْمَعَ رَأْيُكم عَلى أنْ لا تَبْرَحُوا مِن مَنازِلِكم أنْتُمْ والمَقْتُولُونَ: ﴿لَبَرَزَ﴾ أيْ: خَرَجَ: ﴿الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ﴾ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ: ﴿إلى مَضاجِعِهِمْ﴾ أيْ: الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ قَتْلَهم فِيها، ولَمْ يَثْبُتُوا في دِيارِهِمْ، لِأنَّهُ يُوقِعُ في قُلُوبِهِمْ الخُرُوجَ إمْضاءً لِقَدَرِهِ وحُكْمِهِ المَحْتُومِ الَّذِي لا يَقَعُ خِلافُهُ ولا يُرَدُّ، لِقَوْلِهِ: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أنْفُسِكم إلا في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: ٢٢] وفِيهِ مُبالَغَةٌ في رَدِّ مَقالَتِهِمْ الباطِلَةِ، حَيْثُ لَمَّ يَقْتَصِرْ عَلى تَحْقِيقِ (p-١٠١٢)نَفْسِ القَتْلِ، بَلْ عَيَّنَ مَكانَهُ أيْضًا. وفي التَّعْبِيرِ بِـ (مَضاجِعِهِمْ ) مِن إجْلالِهِمْ وتَكْرِيمِهِمْ ما لا يَخْفى عَلى صاحِبِ الذَّوْقِ السَّلِيمِ ﴿ولِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما في صُدُورِكُمْ﴾ أيْ: لِيُعامِلَكم مُعامَلَةَ المُمْتَحَنِ، لِيَسْتَخْرِجَ ما في صُدُورِكم مِنَ الإخْلاصِ والنِّفاقِ، لِيَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَيْكم، فالمُؤْمِنُ لا يَزْدادُ بِذَلِكَ إلّا إيمانًا وتَسْلِيمًا، والمُنافِقُ ومَن في قَلْبِهِ مَرَضٌ لا بُدَّ أنْ يَظْهَرَ ما في قَلْبِهِ عَلى جَوارِحِهِ ولِسانِهِ؛ وهو عِلَّةٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ قَبْلَها مَعْطُوفَةٌ عَلى عِلَلٍ لَها أُخْرى مَطْوِيَّةٌ، لِلْإيذانِ بِكَثْرَتِها. كَأنَّهُ قِيلَ: فَعَلَ ما فَعَلَ لِمَصالِحَ جَمَّةٍ ولِيَبْتَلِيَ ... إلَخْ، أوْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَها، أيْ: ولِلِابْتِلاءِ المَذْكُورِ فَعَلَ ما فَعَلَ، لا لِعَدَمِ العِنايَةِ بِأمْرِ المُؤْمِنِينَ. وجَعْلُها عِلَلًا لِـ ( بَرَزَ ( يَأْباهُ الذَّوْقُ السَّلِيمُ. فَإنَّ مُقْتَضى المَقامِ بَيانُ حِكْمَةِ ما وقَعَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الشِّدَّةِ والهَوْلِ، لا بَيانُ حِكْمَةِ البُرُوزِ المَفْرُوضِ - أفادَهُ أبُو السُّعُودِ - ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى حِكْمَةً أُخْرى بِقَوْلِهِ: ﴿ولِيُمَحِّصَ ما في قُلُوبِكُمْ﴾ أيْ: يُخَلِّصَهُ ويُنَقِّيَهُ ويُهَذِّبَهُ، فَإنَّ القُلُوبَ يُخالِطُها بِغَلَبَةِ الطَّبائِعِ، ومَيْلِ النُّفُوسِ، وحُكْمِ العادَةِ، وتَزْيِينِ الشَّيْطانِ، واسْتِيلاءِ الغَفْلَةِ - ما يُضادُّ ما أُودِعَ فِيها مِنَ الإيمانِ والإسْلامِ والبِرِّ والتَّقْوى. فَلَوْ تُرِكَتْ في عافِيَةٍ دائِمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَمْ تَتَخَلَّصْ مِن هَذِهِ المُخالَطَةِ، ولَمْ تَتَمَحَّصْ مِنهُ، فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ العَزِيزِ الرَّحِيمِ أنْ يَقْضِيَ لَها مِنَ المِحَنِ والبَلاءِ، ما يَكُونُ كالدَّواءِ الكَرِيهِ لِمَن عَرَضَ لَهُ داءٌ، إنْ لَمْ يَتَدارَكْهُ طَبِيبُهُ بِإزالَتِهِ وتَنْقِيَتِهِ مَن جَسَدِهِ، وإلّا خِيفَ عَلَيْهِ مِنهُ الفَسادُ والهَلاكُ. فَكانَتْ نِعْمَتُهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الكَسْرَةِ والهَزِيمَةِ، وقَتْلِ مَن قُتِلَ مِنهم، تُعادِلُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِنَصْرِهِمْ وتَأْيِيدِهِمْ وظَفَرِهِمْ بِعَدُوِّهِمْ. فَلَهُ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةُ التّامَّةُ في هَذا وهَذا. أفادَهُ ابْنُ القَيِّمِ.
وقالَ القاشانِيُّ: البَلاءُ سَوْطٌ مِن سِياطِ اللَّهِ، يَسُوقُ بِهِ عِبادَهُ إلَيْهِمْ بِتَصْفِيَتِهِمْ عَنْ صِفاتِ نُفُوسِهِمْ، وإظْهارِ ما فِيهِمْ مِنَ الكَمالاتِ، وانْقِطاعِهِمْ مِنَ الخَلْقِ إلى الحَقِّ. ولِهَذا كانَ مُتَوَكَّلًا بِالأنْبِياءِ، ثُمَّ الأمْثَلِ فالأمْثَلِ. وقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيانًا لِفَضْلِهِ: ««ما أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ ما أُوذِيتُ»» . كَأنَّهُ قالَ: ما صُفِّيَ نَبِيٌّ مِثْلَ ما صُفِّيتُ. ولَقَدْ أحْسَنَ مَن قالَ:(p-١٠١٣)
؎لِلَّهِ دَرُّ النّائِباتِ فَإنَّها ∗∗∗ صَدَأُ اللِّئامِ وصَيْقَلُ الأحْرارِ
إذْ لا يَظْهَرُ عَلى كُلٍّ مِنهم إلّا ما في مَكْمَنِ اسْتِعْدادِهِ.
﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ أيْ: الضَّمائِرِ المُلازِمَةِ لَها، وعْدٌ ووَعِيدٌ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنْ تَوَلِّي مَن تَوَلّى مِنَ المُؤْمِنِينَ الصّادِقِينَ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وأنَّهُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ بِقَوْلِهِ:
{"ayah":"ثُمَّ أَنزَلَ عَلَیۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةࣰ نُّعَاسࣰا یَغۡشَىٰ طَاۤىِٕفَةࣰ مِّنكُمۡۖ وَطَاۤىِٕفَةࣱ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ یَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِۖ یَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَیۡءࣲۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ یُخۡفُونَ فِیۤ أَنفُسِهِم مَّا لَا یُبۡدُونَ لَكَۖ یَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءࣱ مَّا قُتِلۡنَا هَـٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِی بُیُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِینَ كُتِبَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِیَبۡتَلِیَ ٱللَّهُ مَا فِی صُدُورِكُمۡ وَلِیُمَحِّصَ مَا فِی قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق