الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ٦ ] ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أتَمَّها عَلى أبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْراهِيمَ وإسْحاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ أيْ مِثْلُ ذَلِكَ الِاصْطِفاءِ، بِإراءَةِ هَذِهِ الرُّؤْيا العَظِيمَةِ الشَّأْنِ، يَصْطَفِيكَ لِلنُّبُوَّةِ والسِّيادَةِ: ﴿ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ أيْ تَعْبِيرِ المَناماتِ، وإنَّما سُمِّيَ التَّعْبِيرُ تَأْوِيلًا؛ لِأنَّهُ جَعَلَ المَرْئِيَّ آيِلًا إلى ما يَذْكُرُهُ المُعَبِّرُ بِصَدَدِ التَّعْبِيرِ، وراجِعًا إلَيْهِ. والأحادِيثُ اسْمُ جَمْعٍ لِلْحَدِيثِ، سُمِّيَتْ بِهِ الرُّؤْيا لِأنَّها إمّا حَدِيثُ مَلَكٍ أوْ نَفْسٍ أوْ شَيْطانٍ. (p-٣٥٠٧)﴿ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ أيْ بِما سَيَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُكَ ﴿وعَلى آلِ يَعْقُوبَ﴾ وهم أهْلُهُ مِن بَنِيهِ، وحاشِيَتِهِمْ، أيْ يُسْبِغُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِكَ ﴿كَما أتَمَّها عَلى أبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْراهِيمَ وإسْحاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ﴾ بِمَن هو مُسْتَحِقٌّ لِلِاجْتِباءِ ﴿حَكِيمٌ﴾ في صُنْعِهِ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: قالَ أبُو السُّعُودِ؛ كَأنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ أشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ إلى ما سَيَقَعُ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِن تَعْبِيرِهِ لِرُؤْيا صاحِبَيِ السِّجْنِ، ورُؤْيا المَلِكِ، وكَوْنِ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلى ما يُبَلِّغُهُ اللَّهُ إلَيْهِ مِنَ الرِّياسَةِ العُظْمى الَّتِي عَبَّرَ عَنْها بِإتْمامِ النِّعْمَةِ. وإنَّما عَرَفَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ مِنهُ مِن جِهَةِ الوَحْيِ. أوْ أرادَ كَوْنَ هَذِهِ الخَصْلَةِ سَبَبًا لِظُهُورِ أمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى الإطْلاقِ، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ أنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ بِطَرِيقِ الفِراسَةِ، والِاسْتِدْلالِ مِنَ الشَّواهِدِ والدَّلائِلِ والأماراتِ والمَخايِلِ، بِأنَّ مَن وفَّقَهُ اللَّهُ تَعالى لِمِثْلِ هَذِهِ الرُّؤْيا، لا بُدَّ مِن تَوْفِيقِهِ لِتَعْبِيرِها، وتَأْوِيلِ أمْثالِها، وتَمْيِيزِ ما هو آفاقِيٌّ مِنها، مِمّا هو أنْفَسِيٌّ، كَيْفَ لا، وهي تَدُلُّ عَلى كَمالِ تَمَكُّنِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ في عالَمِ المِثالِ، وقُوَّةِ تَصَرُّفاتِها فِيهِ، فَيَكُونُ أقْبَلَ لِفَيَضانِ المَعارِفِ المُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ العالَمِ، وبِما يُحاكِيهِ مِنَ الأُمُورِ الواقِعَةِ بِحَسَبِها في عالَمِ الشَّهادَةِ، وأقْوى وُقُوفًا عَلى النِّسَبِ الواقِعَةِ بَيْنَ الصُّوَرِ المُعايَنَةِ في أحَدِ ذَيْنَكِ العالَمَيْنِ، وبَيْنَ الكائِناتِ الظّاهِرَةِ عَلى وفْقِها في العالَمِ الآخَرِ. وإنَّ هَذا الشَّأْنَ البَدِيعَ، لا بُدَّ أنْ يَكُونَ أُنْمُوذَجًا لِظُهُورِ أمْرِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ، ومَدارًا لِجَرَيانِ أحْكامِهِ، فَإنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُعْجِزَةً، بِها تَظْهَرُ آثارُهُ، وتَجْرِي أحْكامُهُ.
الثّانِي: اسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ (الجَدَّ) يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ (الأبِ)، فَيَدُلُّ أنَّ مَن نَسَبَ رَجُلًا إلى جَدِّهِ وقالَ: (يا ابْنَ فُلانٍ) أنَّهُ لا يَكُونُ قَذْفًا.
الثّالِثُ: قالَ المَهايِمِيُّ: مِن فَوائِدِ هَذا المَقامِ اسْتِحْبابُ كِتْمانِ السِّرِّ، وجَوازُ التَّحْذِيرِ (p-٣٥٠٨)عَنْ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، ومَدْحِ الشَّخْصِ في وجْهِهِ إذا لَمَّ يَضُرُّهُ، واعْتِبارِ السَّبَبِ وإنْ لَمْ يُؤَثِّرْ، وأنَّ لِكُلِّ حادِثٍ تَأْوِيلًا عِنْدَ الأوْلِياءِ، وأنَّهُ تَعْبُرُ الرُّؤْيا مِنَ الصِّغارِ، وإنْ كانَ مِن عالَمِ الخَيالِ؛ إذْ تُصَوِّرُ المُخَيِّلَةُ مَعانِيَ مَعْقُولَةً بِصُوَرٍ مَحْسُوسَةٍ، فَتُرْسِلُها إلى الحِسِّ المُشْتَرَكِ فَيُشاهِدُها. والصّادِقَةُ مِنها ما تَكُونُ بِاتِّصالِ النَّفْسِ عِنْدَ فَراغِها مِن تَدْبِيرِ البَدَنِ أدْنى فَراغٍ، فَيُتَصَوَّرُ بِما فِيها مِمّا يُناسِبُ المَعانِيَ، فَإنْ كانَتْ شَدِيدَةَ المُناسَبَةِ اسْتَغْنَتْ عَنِ التَّعْبِيرِ، وإلّا احْتاجَتْ إلَيْهِ. فالأخْبارُ عَنْ هَذِهِ الرُّؤْيا آيَةٌ، وعَمّا تَرَتَّبَ عَلَيْها آياتٌ.
بَحْثٌ في الرُّؤْيا
قالَ الإمامُ الرّاغِبُ الأصْفَهانِيُّ في كِتابِهِ (الذَّرِيعَةُ) في بَحْثِ (الفِراسَةِ) ما مِثالُهُ:
ومِنَ الفِراسَةِ عِلْمُ الرُّؤْيا. وقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَعالى أمْرَها في جَمِيعِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، وقالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلا فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠] وقالَ: ﴿إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ في مَنامِكَ﴾ [الأنفال: ٤٣] الآيَةَ، وقالَ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ: ﴿يا بُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾ [الصافات: ١٠٢] وقَوْلُهُ: ﴿يا أبَتِ إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ [يوسف: ٤]
والرُّؤْيا هي فِعْلُ النَّفْسِ النّاطِقَةِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ لَها حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ لِإيجادِ هَذِهِ القُوَّةِ في الإنْسانِ فائِدَةٌ. واللَّهُ تَعالى يَتَعالى عَنِ الباطِلِ. وهي ضَرْبانِ: ضَرْبٌ وهو الأكْثَرُ، أضْغاثُ أحْلامٍ وأحادِيثُ النَّفْسِ بِالخَواطِرِ الرَّدِيَّةِ، لِكَوْنِ النَّفْسِ في تِلْكَ الحالِ كالماءِ المُتَمَوِّجِ، لا يَقْبَلُ صُورَةً.
وضَرْبٌ وهو الأقَلُّ، صَحِيحٌ، وذَلِكَ قِسْمانِ: قِسْمٌ لا يَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ، ولِذَلِكَ يَحْتاجُ المُعَبِّرُ إلى مَهارَةٍ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الأضْغاثِ وبَيْنَ غَيْرِها، ولِيُمَيِّزَ بَيْنَ الكَلِماتِ الرُّوحانِيَّةِ والجُسْمانِيَّةِ، (p-٣٥٠٩)ويُفَرِّقُ بَيْنَ طَبَقاتِ النّاسِ؛ إذْ كانَ فِيهِمْ مَن لا تَصِحُّ لَهُ رُؤْيا، وفِيهِمْ مَن تَصِحُّ رُؤْياهُ. ثُمَّ مَن صَحَّ لَهُ ذَلِكَ؛ مِنهم مَن يُرَشِّحُ أنْ تُلْقى إلَيْهِ في المَنامِ الأشْياءُ العَظِيمَةُ الخَطِيرَةُ، ومِنهم مَن لا يُرَشِّحُ لَهُ ذَلِكَ. ولِهَذا قالَ اليُونانِيُّونَ: يَجِبُ أنْ يَشْتَغِلَ المُعَبِّرُ بِعِبارَةِ رُؤْيا الحُكَماءِ والمُلُوكِ دُونَ الطِّغامِ، وذَلِكَ لِأنَّ لَهُ حَظًّا مِنَ النُّبُوَّةِ. وقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««الرُّؤْيا الصّادِقَةُ جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»» وهَذا العِلْمُ يَحْتاجُ إلى مُناسَبَةٍ بَيْنَ مُتَحَرِّيهِ وبَيْنَهِ، فَرُبَّ حَكِيمٍ لا يُرْزَقُ حِذْقًا فِيهِ، ورُبَّ نَزِرِ الحَظِّ مِنَ الحِكْمَةِ وسائِرِ العُلُومِ، تُوجَدُ لَهُ فِيهِ قُوَّةٌ عَجِيبَةٌ. انْتَهى.
وقالَ الأُسْتاذُ ابْنُ خَلْدُونَ: حَقِيقَةُ الرُّؤْيا مُطالَعَةُ النَّفْسِ النّاطِقَةِ في ذاتِها الرُّوحانِيَّةِ، لَمْحَةٌ مِن صُوَرِ الواقِعاتِ. فَإنَّها عِنْدَما تَكُونُ رُوحانِيَّةً تَكُونُ صُوَرُ الواقِعاتِ فِيها مَوْجُودَةً بِالفِعْلِ، كَما هو شَأْنُ الذَّواتِ الرُّوحانِيَّةِ كُلِّها، وتَصِيرُ رُوحانِيَّةً بِأنْ تَتَجَرَّدَ عَنِ المَوادِّ الجُسْمانِيَّةِ، والمَدارِكِ البَدَنِيَّةِ. وقَدْ يَقَعُ لَها ذَلِكَ لَمْحَةً بِسَبَبِ النَّوْمِ، كَما نَذْكُرُ، فَتَقْتَبِسُ بِها عِلْمَ ما تَتَشَوَّفُ إلَيْهِ مِنَ الأُمُورِ المُسْتَقْبَلَةِ، وتَعُودُ بِهِ إلى مَدارِكِها. فَإنْ كانَ ذَلِكَ الِاقْتِباسُ ضَعِيفًا، وغَيْرَ جَلِيٍّ بِالمُحاكاةِ، والمِثالِ في الخَيالِ لِتَخْلِطَهُ؛ فَيَحْتاجُ مِن أجْلِ هَذِهِ المُحاكاةِ إلى التَّعْبِيرِ، وقَدْ يَكُونُ الِاقْتِباسُ قَوِيًّا يُسْتَغْنى فِيهِ عَنِ المُحاكاةِ، فَلا يَحْتاجُ إلى تَعْبِيرٍ لِخُلُوصِهِ مِنَ المِثالِ والخَيالِ، والسَّبَبُ في وُقُوعِ هَذِهِ اللَّمْحَةِ لِلنَّفْسِ؛ أنَّها ذاتُ رُوحانِيَّةٍ بِالقُوَّةِ، مُسْتَكْمَلَةٌ بِالبَدَنِ ومَدارِكِهِ، حَتّى تَصِيرَ ذاتُها تَعَقُّلًا مَحْضًا ويَكْمُلُ وُجُودُها بِالفِعْلِ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ ذاتًا رُوحانِيَّةً مُدْرِكَةً بِغَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الآلاتِ البَدَنِيَّةِ، إلّا أنَّ نَوْعَها مِنَ الرُّوحانِيّاتِ دُونَ نَوْعِ المَلائِكَةِ أهْلِ الأُفُقِ الأعْلى، عَلى الَّذِينَ لَمْ يَسْتَكْمِلُوا ذَواتَهم بِشَيْءٍ مِن مَدارِكِ البَدَنِ، (p-٣٥١٠)ولا غَيْرِهِ، فَهَذا الِاسْتِعْدادُ حاصِلٌ لَها ما دامَتْ في البَدَنِ. ومِنهُ خاصٌّ كالَّذِي لِلْأوْلِياءِ. ومِنهُ عامٌّ لِلْبَشَرِ عَلى العُمُومِ، وهو أمْرُ الرُّؤْيا. وأمّا الَّذِي لِلْأنْبِياءِ فَهو اسْتِعْدادٌ بِالِانْسِلاخِ مِنَ البَشَرِيَّةِ إلى المَلَكِيَّةِ المَحْضَةِ الَّتِي هي أعْلى الرُّوحانِيّاتِ. ويَخْرُجُ هَذا الِاسْتِعْدادُ فِيهِمْ مُتَكَرِّرًا في حالاتِ الوَحْيِ، وهي عِنْدَما يَعْرُجُ عَلى المَدارِكِ البَدَنِيَّةِ، ويَقَعُ فِيها ما يَقَعُ مِنَ الإدْراكِ، شَبِيهًا بِحالِ النَّوْمِ شَبَهًا بَيِّنًا، وإنْ كانَ حالُ النَّوْمِ أدْوَنَ مِنهُ بِكَثِيرٍ. فَلِأجْلِ هَذا الشَّبَهِ عَبَّرَ الشّارِعُ عَنِ الرُّؤْيا بِأنَّها ««جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» وفي رِوايَةٍ «ثَلاثَةٍ وأرْبَعِينَ»، وفي رِوايَةٍ «سَبْعِينَ»» ولَيْسَ العَدَدُ في جَمِيعِها مَقْصُودًا بِالذّاتِ، وإنَّما المُرادُ الكَثْرَةُ في تَفاوُتِ هَذِهِ المَراتِبِ، بِدَلِيلِ ذِكْرِ السَّبْعِينَ في بَعْضِ طُرُقِهِ، وهو لِلتَّكْثِيرِ عِنْدَ العَرَبِ، وما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهم في رِوايَةِ ««سِتَّةٍ وأرْبَعِينَ»» مِن أنَّ الوَحْيَ كانَ في مُبْتَدَئِهِ بِالرُّؤْيا سِتَّةَ أشْهُرٍ، وهي نِصْفُ سَنَةٍ ومُدَّةُ النُّبُوَّةِ كُلُّها بِمَكَّةَ والمَدِينَةِ ثَلاثٌ وعِشْرُونَ سَنَةً، فَنِصْفُ السَّنَةِ مِنها جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأرْبَعِينَ- فَكَلامٌ بَعِيدٌ مِنَ التَّحْقِيقِ. لِأنَّهُ إنَّما وقَعَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ. ومِن أيْنَ لَنا أنَّ هَذِهِ المُدَّةَ وقَعَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ؟ مَعَ أنَّ ذَلِكَ إنَّما يُعْطِي نِسْبَةَ زَمَنِ الرُّؤْيا مِن زَمَنِ النُّبُوَّةِ، ولا يُعْطِي نِسْبَةَ حَقِيقَتِها مِن حَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ. وإذا تَبَيَّنَ لَكَ هَذا مِمّا ذَكَرْناهُ أوَّلًا، عَلِمْتَ أنَّ مَعْنى هَذا الجُزْءِ نِسْبَةُ الِاسْتِعْدادِ الأوَّلِ الشّامِلِ لِلْبَشَرِ، إلى الِاسْتِعْدادِ القَرِيبِ الخاصِّ بِصِنْفِ الأنْبِياءِ الفِطْرِيِّ لَهُمْ، صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إذْ هو الِاسْتِعْدادُ البَعِيدُ، وإنْ كانَ عامًّا في البَشَرِ، ومَعَهُ عَوائِقُ ومَوانِعُ كَثِيرَةٌ مِن حُصُولِهِ بِالفِعْلِ. ومِن أعْظَمِ تِلْكَ المَوانِعِ الحَواسُّ الظّاهِرَةُ، فَفَطَرَ اللَّهُ البَشَرَ عَلى ارْتِفاعِ حِجابِ الحَواسِّ بِالنَّوْمِ، الَّذِي هو جِبِلِّيٌّ لَهُمْ، فَتَتَعَرَّضُ النَّفْسُ عِنْدَ ارْتِفاعِهِ إلى مَعْرِفَةِ ما تَتَشَوَّفُ إلَيْهِ في عالَمِ الحَقِّ، فَتُدْرِكُ بَعْضَ الأحْيانِ مِنهُ لَمْحَةً يَكُونُ فِيها الظَّفَرُ بِالمَطْلُوبِ. ولِذَلِكَ جَعَلَها الشّارِعُ مِنَ المُبَشِّراتِ، فَقالَ: ««لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلّا المُبَشِّراتُ» قالُوا: وما المُبَشِّراتُ يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: «الرُّؤْيا الصّالِحَةُ، يَراها الرَّجُلُ الصّالِحُ، أوْ تُرى لَهُ»» .
(p-٣٥١١)وأمّا السَّبَبُ ارْتِفاعُ حِجابِ الحَواسِّ بِالنَّوْمِ، فَعَلى ما أصِفُها لَكَ: وذَلِكَ أنَّ النَّفْسَ النّاطِقَةَ إنَّما إدْراكُها وأفْعالُها بِالرُّوحِ الحَيَوانِيِّ الجُسْمانِيِّ، وهو بُخارٌ لَطِيفٌ، مَرْكَزُهُ بِالتَّجْوِيفِ الأيْسَرِ مِنَ القَلْبِ -عَلى ما في كُتُبِ التَّشْرِيحِ لِجالِينُوسَ وغَيْرِهِ- ويَنْبَعِثُ مَعَ الدَّمِ في الشُّرْياناتِ والعُرُوقِ، فَيُعْطِي الحِسَّ والحَرَكَةَ، وسائِرَ الأفْعالِ البَدَنِيَّةِ، ويَرْتَفِعُ لَطِيفُهُ إلى الدِّماغِ، فَيُعَدِّلُ مِن بَرْدِهِ، وتَتِمُّ أفْعالُ القُوى الَّتِي في بُطُونِهِ. فالنَّفْسُ النّاطِقَةُ إنَّما تُدْرَكُ وتُعْقَلُ بِهَذا الرُّوحِ البُخارِيِّ، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، لِما اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ التَّكْوِينِ في أنَّ اللَّطِيفَ لا يُؤَثِّرُ في الكَثِيفِ. ولَمّا لَطَفَ هَذا الرُّوحُ الحَيَوانِيُّ مِن بَيْنِ المَوادِّ البَدَنِيَّةِ، صارَ مَحَلًّا لِآثارِ الذّاتِ المُبايِنَةِ لَهُ في جُسْمانِيَّتِهِ، وهي النَّفْسُ النّاطِقَةُ، وصارَتْ آثارُها حاصِلَةً في البَدَنِ بِواسِطَتِهِ.
وقَدْ كُنّا قَدَّمْنا أنَّ إدْراكَها عَلى نَوْعَيْنِ: إدْراكٌ بِالظّاهِرِ وهو بِالحَواسِّ الخَمْسِ، وإدْراكٌ بِالباطِنِ وهو بِالقُوى الدِّماغِيَّةِ. وأنَّ هَذا الإدْراكَ كُلَّهُ صارِفٌ لَها عَنْ إدْراكِها ما فَوْقَها مِن ذَواتِها الرُّوحانِيَّةِ، الَّتِي هي مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ بِالفِطْرَةِ. ولَمّا كانَتِ الحَواسُّ الظّاهِرَةُ جُسْمانِيَّةً، كانَتْ مُعَرَّضَةً لِلْوَسَنِ والفَشَلِ، بِما يُدْرِكُها مِنَ التَّعَبِ والكِلالِ، وتَغْشى الرُّوحُ بِكَثْرَةِ التَّصَرُّفِ، فَخَلَقَ اللَّهُ لَها طَلَبَ الِاسْتِجْمامِ، لِتَجَرُّدِ الإدْراكِ عَلى الصُّورَةِ الكامِلَةِ. وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ بِانْخِناسِ الرُّوحِ الحَيَوانِيِّ مِنَ الحَواسِّ الظّاهِرَةِ كُلِّها، ورُجُوعِهِ إلى الحِسِّ الباطِنِ. ويُعِينُ عَلى ذَلِكَ ما يَغْشى البَدَنَ مِنَ البَرْدِ بِاللَّيْلِ، فَتَطْلُبُ الحَرارَةُ الغَرِيزِيَّةُ أعْماقَ البَدَنِ، وتَذْهَبُ مِن ظاهِرِهِ إلى باطِنِهِ، فَتَكُونُ مَشِيعَةً مَرْكَبُها، وهو الرُّوحُ الحَيَوانِيُّ، إلى الباطِنِ، ولِذَلِكَ كانَ النَّوْمُ لِلْبَشَرِ في الغالِبِ إنَّما هو بِاللَّيْلِ، فَإذا انْخَنَسَ الرُّوحُ عَنِ الحَواسِّ الظّاهِرَةِ، ورَجَعَ إلى القُوى الباطِنَةِ، وخَفَّتْ عَنِ النَّفْسِ شَواغِلُ الحِسِّ ومَوانِعُهُ، ورَجَعَتْ إلى الصُّورَةِ الَّتِي في الحافِظَةِ؛ تَمَثَّلَ مِنها بِالتَّرْكِيبِ والتَّحْلِيلِ صُورَةٌ خَيالِيَّةٌ، وأكْثَرَ ما تَكُونُ مُعْتادَةً، لِأنَّها مُنْتَزَعَةٌ مِنَ المُدْرِكاتِ المُتَعاهِدَةِ قَرِيبًا. ثُمَّ يُنْزِلُها الحِسُّ المُشْتَرَكُ، الَّذِي هو جامِعُ الحَواسِّ الظّاهِرَةِ، فَيُدْرِكُها عَلى أنْحاءِ الحَواسِّ الخَمْسِ الظّاهِرَةِ.
(p-٣٥١٢)ورُبَّما التَفَتَتِ النَّفْسُ لَفْتَةً إلى ذاتِها الرُّوحانِيَّةِ، مَعَ مُنازَعَتِها القُوى الباطِنِيَّةَ، فَتُدْرِكُ بِإدْراكِها الرُّوحانِيِّ؛ لِأنَّها مَفْطُورَةٌ عَلَيْهِ، وتُقْتَبَسُ مِن صُوَرِ الأشْياءِ الَّتِي صارَتْ مُتَعَلِّقَةً في ذاتِها حِينَئِذٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ الخَيالُ تِلْكَ الصُّوَرَ المُدْرَكَةَ، فَيُمَثِّلُها بِالحَقِيقَةِ أوِ المُحاكاةِ في القَوالِبِ المَعْهُودَةِ. والمُحاكاةُ مِن هَذِهِ هي المُحْتاجَةُ لِلتَّعْبِيرِ، وتَصَرُّفُها بِالتَّرْكِيبِ والتَّحْلِيلِ في صُوَرِ الحافِظَةِ، قَبْلَ أنْ تُدْرِكَ مِن تِلْكَ اللَّمْحَةِ ما تُدْرِكُهُ هي أضْغاثُ أحْلامٍ.
وفِي الصَّحِيحِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««الرُّؤْيا ثَلاثٌ: رُؤْيا مِنَ اللَّهِ، ورُؤْيا مِنَ المَلَكِ، ورُؤْيا مِنَ الشَّيْطانِ»» وهَذا التَّفْصِيلُ مُطابِقٌ لِما ذَكَرْناهُ، فالجَلِيُّ مِنَ اللَّهِ، والمُحاكاةُ الدّاعِيَةُ إلى التَّعْبِيرِ مِنَ المَلَكِ، وأضْغاثُ الأحْلامِ مِنَ الشَّيْطانِ؛ لِأنَّها كُلَّها باطِلٌ، والشَّيْطانُ يَنْبُوعُ الباطِلِ.
هَذِهِ حَقِيقَةُ الرُّؤْيا، وما يُسَبِّبُها ويُشِيعُها مِنَ النَّوْمِ، وهي خَواصُّ لِلنَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ، مَوْجُودَةٌ في البَشَرِ عَلى العُمُومِ، لا يَخْلُو عَنْها أحَدٌ مِنهُمْ، بَلْ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الإنْسانِ رَأى في نَوْمِهِ ما صَدَرَ لَهُ في يَقَظَتِهِ، مِرارًا غَيْرَ واحِدَةٍ، وحَصَلَ لَهُ القَطْعُ أنَّ النَّفْسَ مُدْرِكَةٌ لِلْغَيْبِ في النَّوْمِ، ولا بُدَّ. وإذا جازَ ذَلِكَ في عالَمِ النَّوْمِ، فَلا يَمْتَنِعُ في غَيْرِهِ مِنَ الأحْوالِ، لِأنَّ الذّاتَ المُدْرِكَةَ واحِدَةٌ، وخَواصُّها عامَّةٌ في كُلِّ حالٍ. انْتَهى.
وذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ بَحْثِ (عِلْمُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيا) أنَّ التَّعْبِيرَ لَها كانَ مَوْجُودًا في السَّلَفِ، كَما هو في الخَلَفِ، وأنَّيُوسُفَ الصِّدِّيقَ، صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كانَ يَعْبُرُ الرُّؤْيا، كَما وقَعَ في القُرْآنِ، وكَذَلِكَ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وعَنْ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والرُّؤْيا مَدْرِكٌ مِن مَدارِكِ الغَيْبِ كَما تَقَدَّمَ. وأمّا مَعْنى التَّعْبِيرِ، فاعْلَمْ أنَّ الرُّوحَ العَقْلِيَّ، إذا أدْرَكَ مُدْرِكَهُ، وألْقاهُ إلى الخَيالِ فَصَوَّرَهُ، فَإنَّما يُصَوِّرُهُ في الصُّوَرِ المُناسِبَةِ لِذَلِكَ المَعْنى بَعْضَ الشَّيْءِ. ومِنَ المَرْئِيِّ ما يَكُونُ صَرِيحًا لا يَفْتَقِرُ إلى تَعْبِيرٍ، لِجَلائِها ووُضُوحِها، أوْ لِقُرْبِ الشَّبَهِ فِيها بَيْنَ المُدْرِكِ وشَبَهِهِ. ولِلْبَحْثِ تَتِمَّةٌ سابِغَةٌ، انْظُرْها ثَمَّةَ.
(p-٣٥١٣)وقَوْلُهُ تَعالى:
{"ayah":"وَكَذَ ٰلِكَ یَجۡتَبِیكَ رَبُّكَ وَیُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِ وَیُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكَ وَعَلَىٰۤ ءَالِ یَعۡقُوبَ كَمَاۤ أَتَمَّهَا عَلَىٰۤ أَبَوَیۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَإِسۡحَـٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق