الباحث القرآني

هَذا ولَمّا نَبَّهَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى أنَّ لِرُؤْياهُ شَأْنًا عَظِيمًا وحَذَّرَهُ مِمّا حَذَّرَهُ شَرَعَ في تَعْبِيرِها وتَأْوِيلِها عَلى وجْهٍ إجْمالِيٍّ فَقالَ: ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ أيْ يَصْطَفِيكَ ويَخْتارُكَ لِلنُّبُوَّةِ كَما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، أوْ لِلسُّجُودِ لَكَ كَما رُوِيَ عَنْ مُقاتِلٍ، أوْ لِأُمُورٍ عِظامٍ كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَيَشْمَلُ ما تَقَدَّمَ وكَذا يَشْمَلُ إغْناءَ أهْلِهِ ودَفْعَ القَحْطِ عَنْهم بِبَرَكَتِهِ وغَيْرَ ذَلِكَ، ولَعَلَّ خَيْرَ الأقْوالِ وسَطُها؛ وأصْلُ الِاجْتِباءِ مِن جَبَيْتُ الشَّيْءَ إذا حَصَّلْتَهُ لِنَفْسِكَ، وفَسَّرُوهُ بِالِاخْتِيارِ لِأنَّهُ إنَّما يُجْتَبى ما يُخْتارُ. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ اجْتِباءَ اللَّهِ تَعالى العَبْدَ تَخْصِيصُهُ إيّاهُ بِفَيْضٍ إلَهِيٍّ يَتَحَصَّلُ مِنهُ أنْواعٌ مِنَ المَكْرُماتِ بِلا سَعْيٍ مِنَ العَبْدِ، وذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ومَن يُقارِبُهم مِنَ الصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ، والمُشارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ إمّا الِاجْتِباءُ لِمِثْلِ تِلْكَ الرُّؤْيا، فالمُشَبَّهُ والمُشَبَّهُ بِهِ مُتَغايِرانِ، وإمّا لِمَصْدَرِ الفِعْلِ المَذْكُورِ وهو المُشَبَّهُ والمُشَبَّهُ بِهِ، ( وكَذَلِكَ ) في مَحَلِّ نَصْبِ صِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ وقُدِّمَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ، وقِيلَ هُنا: إنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيِ الأمْرُ كَذَلِكَ ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، ولا يَخْفى ما في ذِكْرِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِ مِنَ اللُّطْفِ، وإنَّما لَمْ يُصَرِّحْ عَلَيْهِ السَّلامُ بِتَفاصِيلَ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ الرُّؤْيا حَذَرًا مِن إذاعَتِهِ عَلى ما قِيلَ ﴿ويُعَلِّمُكَ﴾ ذَهَبَ جَمْعٌ إلى أنَّهُ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ داخِلٍ تَحْتَ التَّشْبِيهِ أرادَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ تَأْكِيدَ مَقالَتِهِ وتَحْقِيقِها وتَوْطِينَ نَفْسِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما أخْبَرَ بِهِ عَنْ طَرِيقِ التَّعْبِيرِ والتَّأْوِيلِ أيْ وهو (يُعَلِّمُكَ ﴿مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ أيْ ذَلِكَ الجِنْسِ مِنَ العُلُومِ، أوْ طَرَفًا صالِحًا مِنهُ فَتَطَّلِعُ عَلى حَقِيقَةِ ما أقُولُ ولا يَخْفى ما فِيهِ مِن تَأْكِيدِ ما سَبَقَ والبَعْثِ عَلى تَلَقِّي ما سَيَأْتِي بِالقَبُولِ، وعُلِّلَ عَدَمُ دُخُولِهِ تَحْتَ التَّشْبِيهِ بِأنَّ الظّاهِرَ أنْ يُشَبَّهَ الِاجْتِباءُ بِالِاجْتِباءِ والتَّعْلِيمُ غَيْرُ الِاجْتِباءِ فَلا يُشَبَّهُ بِهِ، ونُظِرَ فِيهِ بِأنَّ التَّعْلِيمَ نَوْعٌ مِن الِاجْتِباءِ والنَّوْعُ يُشَبَّهُ بِالنَّوْعِ، وقِيلَ: العِلَّةُ في ذَلِكَ أنَّهُ يَصِيرُ المَعْنى ويُعَلِّمُكَ تَعْلِيمًا مِثْلَ الِاجْتِباءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الرُّؤْيا ولا يَخْفى سَماجَتُهُ فَإنَّ الِاجْتِباءَ وجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ المُشَبَّهِ والمُشَبَّهِ بِهِ، ولَمْ يُلاحَظْ في التَّعْلِيمِ ذَلِكَ. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: لا مانِعَ مِن جَعْلِهِ داخِلًا تَحْتَ التَّشْبِيهِ عَلى أنَّ المَعْنى بِذَلِكَ الإكْرامُ بِتِلْكَ الرُّؤْيا، أيْ كَما أكْرَمَكَ بِهَذِهِ المُبَشِّراتِ يُكْرِمُكَ بِالِاجْتِباءِ والتَّعْلِيمِ، ولا يَحْتاجُ في ذَلِكَ إلى جَعْلِهِ تَشْبِيهَيْنِ وتَقْدِيرِ كَذَلِكَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المُنْساقَ إلى الفَهْمِ هو العَطْفُ ولا بَأْسَ فِيما قَرَّرَهُ هَذا المُحَقِّقُ لِتَوْجِيهِهِ، نَعَمْ لِلِاسْتِئْنافِ وجْهٌ وجِيهٌ وإنْ لَمْ يَكُنِ المُنْساقَ إلى الفَهْمِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ تَعْبِيرُ الرُّؤْيا إذْ هي إخْباراتٌ غَيْبِيَّةٌ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالى بِواسِطَتِها اعْتِقاداتٍ في قَلْبِ النّائِمِ حَسْبَما يَشاؤُهُ ولا حَجْرَ عَلَيْهِ تَعالى، أوْ أحادِيثُ المَلَكِ إنْ كانَتْ صادِقَةً، أوِ النَّفْسِ أوِ الشَّيْطانِ إنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، وذَكَرَ الرّاغِبُ أنَّ التَّأْوِيلَ مِنَ الأوَّلِ وهو الرُّجُوعُ، وذَلِكَ رَدُّ الشَّيْءِ إلى الغايَةِ المُرادَةِ مِنهُ عِلْمًا كانَ أوْ فِعْلًا، فالأوَّلُ كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾ والثّانِي كَقَوْلِهِ. ولِلنَّوى قَبْلَ يَوْمِ البَيْنِ تَأْوِيلٌ. وجاءَ الأوَّلُ بِمَعْنى السِّياسَةِ الَّتِي يُراعى مَآلُها يُقالُ: ألَنا وايِلٌ عَلَيْنا اهـ. وشاعَ التَّأْوِيلُ في إخْراجِ الشَّيْءِ عَنْ ظاهِرِهِ، و(الأحادِيثُ) جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِحَدِيثٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ كَما قالُوا: (p-186)باطِلٌ وأباطِيلُ، ولَيْسَ بِاسْمِ جَمْعٍ لَهُ لِأنَّ النُّحاةَ قَدْ شَرَطُوا في اسْمِ الجَمْعِ أنْ لا يَكُونَ عَلى وزْنٍ يَخْتَصُّ بِالجَمْعِ كَمَفاعِيلَ، ومِمَّنْ صَرَّحَ بِأنَّهُ جَمْعٌ الزَّمَخْشَرِيُّ في المُفَصَّلِ، وهو مُرادُهُ مِنِ اسْمِ الجَمْعِ في الكَشّافِ فَإنَّهُ كَغَيْرِهِ كَثِيرًا ما يُطْلَقُ اسْمُ الجَمْعِ عَلى الجَمْعِ المُخالِفِ لِلْقِياسِ فَلا مُخالَفَةَ بَيْنَ كَلامَيْهِ، وقِيلَ: هو جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ، ورُدَّ بِأنَّ الأُحْدُوثَةَ الحَدِيثُ المُضْحِكُ كالخُرافَةِ فَلا يُناسِبُ هُنا، ولا في أحادِيثِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَكُونَ جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ، وقالَ ابْنُ هِشامٍ: الأُحْدُوثَةُ مِنَ الحَدِيثِ ما يُتَحَدَّثُ بِهِ ولا تُسْتَعْمَلُ إلّا في الشَّرِّ، ولَعَلَّ الأمْرَ لَيْسَ كَما ذَكَرُوا، وقَدْ نَصَّ المُبَرَّدُ عَلى أنَّها تَرِدُ في الخَيْرِ، وأنْشَدَ قَوْلَ جَمِيلٍ وهو مِمّا سارَ وغارَ: ؎وكُنْتُ إذا ما جِئْتُ سُعْدى أزُورُها أرى الأرْضَ تُطْوى لِي ويَدْنُو بَعِيدُها ؎مِنَ الخَفَراتِ البِيضِ ودَّ جَلِيسُها ∗∗∗ إذا ما انْقَضَتْ أُحْدُوثَةٌ لَوْ تُعِيدُها وقِيلَ: إنَّهم جَمَعُوا حَدِيثًا عَلى أُحْدُوثَةٍ ثُمَّ جَمَعُوا الجَمْعَ عَلى أحادِيثَ كَقَطِيعٍ أوْ أقْطِعَةٍ وأقاطِيعَ، وكَوْنُ المُرادِ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ تَعْبِيرُ الرُّؤْيا هو المَرْوِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ، والسُّدِّيِّ، وعَنِ الحَسَنِ أنَّ المُرادَ عَواقِبُ الأُمُورِ، وعَنِ الزَّجّاجِ أنَّ المُرادَ بَيانُ مَعانِي أحادِيثِ الأنْبِياءِ والأُمَمِ السّالِفَةِ والكُتُبِ المُنَزَّلَةِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالأحادِيثِ الأُمُورُ المُحْدَثَةُ مِنَ الرُّوحانِيّاتِ والجِسْمانِيّاتِ، وبِتَأْوِيلِها كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلالِ بِها عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ وجَلالَتِهِ، والكُلُّ خِلافُ الظّاهِرِ فِيما أرى ﴿ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بِأنْ يَصِلَ نِعْمَةَ الدُّنْيا بِنِعْمَةِ الآخِرَةِ، أوْ بِأنْ يَضُمَّ إلى النُّبُوَّةِ المُسْتَفادَةِ مِن الِاجْتِباءِ المُلْكَ ويَجْعَلُهُ تَتِمَّةً لَها، أوْ بِأنْ يَضُمَّ إلى التَّعْلِيمِ الخَلاصَ مِنَ المِحَنِ والشَّدائِدِ، وتَوْسِيطُ ذِكْرِ التَّعْلِيمِ لِكَوْنِهِ مِن لَوازِمِ النُّبُوَّةِ والِاجْتِباءِ ولِرِعايَةِ تَرْتِيبِ الوُجُودِ الخارِجِيِّ، ولِأنَّ التَّعْلِيمَ وسِيلَةٌ إلى إتْمامِ النِّعْمَةِ فَإنَّ تَعْبِيرَهُ لِرُؤْيا صاحِبَيِ السِّجْنِ ورُؤْيا المَلِكِ صارَ ذَرِيعَةً إلى الخَلاصِ مِنَ السَّجْنِ والِاتِّصالِ بِالرِّياسَةِ العُظْمى. وفَسَّرَ بَعْضُهم الِاجْتِباءَ بِإعْطاءِ الدَّرَجاتِ العالِيَةِ كالمُلْكِ والجَلالَةِ في قُلُوبِ الخَلْقِ، وإتْمامِ النِّعْمَةِ بِالنُّبُوَّةِ، وأُيِّدَ بِأنَّ إتْمامَ النِّعْمَةِ عِبارَةٌ عَمّا تَصِيرُ بِهِ النِّعْمَةُ تامَّةً كامِلَةً خالِيَةً عَنْ جِهاتِ النُّقْصانِ وما ذاكَ في حَقِّ البَشَرِ إلّا النُّبُوَّةُ فَإنَّ جَمِيعَ مَناصِبِ الخَلْقِ ناقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها. وجَوَّزَ أنْ تَعُدَّ نَفْسُ الرُّؤْيا مِن نِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ فَيَكُونُ جَمِيعُ النِّعَمِ الواصِلَةِ إلَيْهِ بِحَسَبِها مِصْداقًا لَها تَمامًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ ولا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، وقِيلَ: المُرادُ مِن الِاجْتِباءِ إفاضَةُ ما يَسْتَعِدُّ بِهِ لِكُلِّ خَيْرٍ ومَكْرَمَةٍ، ومِن تَعْلِيمِ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ تَعْلِيمُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيا، ومِن إتْمامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ مِنَ المِحَنِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعَ خَلاصِهِ مِنها مِمَّنْ يَخْضَعُ لَهُ، ويَكُونُ في تَعْلِيمِ التَّأْوِيلِ إشارَةٌ إلى اسْتِنْبائِهِ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بِالوَحْيِ، وفِيهِ أنَّ تَفْسِيرَ الِاجْتِباءِ بِما ذُكِرَ غَيْرُ ظاهِرٍ، وكَوْنُ التَّعْلِيمِ فِيهِ إشارَةً إلى الِاسْتِنْباءِ في حَيِّزِ المَنعِ وما ذُكِرَ مِنَ الدَّلِيلِ لا يُثْبِتُهُ، فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّ إخْوَتَهُ كانُوا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وإلّا لَمْ يَنْهَهُ أبُوهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ اقْتِصاصِ رُؤْياهُ عَلَيْهِمْ خَوْفَ الكَيْدِ، وكَوْنُهم أنْبِياءَ إذْ ذاكَ مِمّا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ ذاهِبٌ ولا يَكادُ يَذْهَبُ إلَيْهِ أصْلًا، نَعَمْ ذَكَرُوا أنَّهُ لا يَعْرِفُ التَّعْبِيرَ كَما يَنْبَغِي إلّا مَن عَرَفَ المُناسَباتِ الَّتِي بَيْنَ الصُّوَرِ ومَعانِيها وعَرَفَ مَراتِبَ النُّفُوسِ الَّتِي تَظْهَرُ في حَضْرَةِ خَيالاتِهِمْ بِحَسَبِها فَإنَّ أحْكامَ الصُّورَةِ الواحِدَةِ تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلى الأشْخاصِ المُخْتَلِفَةِ المَراتِبِ، وهَذا عَزِيزُ الوُجُودِ، وقَدْ ثَبَتَ الخَطَأُ في التَّعْبِيرِ مِن عُلَماءَ أكابِرَ، فَقَدْ رَوى أبُو هُرَيْرَةَ «أنَّ رَجُلًا أتى رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالَ: ”إنِّي رَأيْتُ ظُلَّةً يَنْطِفُ مِنها السَّمْنُ والعَسَلُ وأرى النّاسَ يَتَكَفَّفُونَ في أيْدِيهِمْ (p-187)فالمُسْتَكْثِرُ والمُسْتَقِلُّ وأرى سَبَبًا وأصْلًا مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ فَأراكَ يا رَسُولَ اللَّهِ أخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ ثُمَّ أخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا، ثُمَّ أخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا، ثُمَّ أخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا، ثُمَّ أخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فانْقَطَعَ بِهِ ثُمَّ وُصِلَ لَهُ فَعَلا، فَقالَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: أيْ رَسُولَ اللَّهِ بِأبِي أنْتَ وأُمِّي واللَّهِ لَتَدَعْنِي فَلْأُعَبِّرْها، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: عَبِّرْها، فَقالَ: أمّا الظُّلَّةُ فَظُلَّةُ الإسْلامِ، وأمّا ما يَنْطِفُ مِنَ السَّمْنِ والعَسَلِ فَهو القُرْآنُ لِينُهُ وحَلاوَتُهُ، وأمّا المُسْتَكْثِرُ والمُسْتَقِلُّ فالمُسْتَكْثِرُ مِنَ القُرْآنِ والمُسْتَقِلُّ مِنهُ، وأمّا السَّبَبُ الواصِلُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ فَهو الحَقُّ الَّذِي أنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ تَعالى ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ بَعْدَكَ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ آخَرُ بَعْدَهُ فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ آخَرُ بَعْدَهُ فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوصَلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ أيْ رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثْنِي أصَبْتُ أمْ أخْطَأْتُ. فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أصَبْتَ بَعْضًا وأخْطَأْتَ بَعْضًا، فَقالَ: أقْسَمْتُ بِأبِي وأُمِّي لَتُحَدِّثْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ ما الَّذِي أخْطَأْتُ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لا تُقْسِمْ“،» اهـ اللَّهُمَّ إلّا أنْ يَدَّعِيَ أنَّ المُرادَ التَّعْلِيمُ عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ بِحَيْثُ لا يُخْطِئُ مَن يُخْطِئُ بِهِ، وهو يُسْتَدْعِي كَوْنَ الرَّجُلِ بِحَيْثُ يَعْرِفُ المُناسَباتِ ومَراتِبَ النُّفُوسِ ويَلْتَزِمُ القَوْلُ بِأنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا نَبِيًّا، واخْتِيرَ أنَّ المُرادَ بِالِاجْتِباءِ الإصْفاءُ لِلنُّبُوَّةِ، وبِتَعْلِيمِ التَّأْوِيلِ ما هو الظّاهِرُ، وبِإتْمامِ النِّعْمَةِ تَخْلِيصُهُ مِنَ المَكارِهِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ﴾ إشارَةً إجْمالِيَّةً مِنهُ إلى تَعْبِيرِ الرُّؤْيا كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ ذَوْقٌ وهو أيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِلْبِشارَةِ، وهَذا إرْدافٌ لَها بِما هو أجَلُّ في نَظَرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ووَجْهُ تَوْسِيطِ التَّعْلِيمِ عَلَيْهِ لا يَخْفى. وحاصِلُ المَعْنى كَما أكْرَمَكَ بِهَذِهِ المُبَشِّرَةِ الدّالَّةِ عَلى سُجُودِ إخْوَتِكَ لَكَ ورِفْعَةِ شَأْنِكَ عَلَيْهِمْ يُكْرِمُكَ بِالنُّبُوَّةِ والعِلْمِ الَّذِي تَعْرِفُ بِهِ تَأْوِيلَ أمْثالِ ما رَأيْتَ وإتْمامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ ﴿وعَلى آلِ يَعْقُوبَ﴾ بِالخَلاصِ مِنَ المَكارِهِ وهي في حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِمّا لا يَخْفى، وفي حَقِّ آلِ يَعْقُوبَ، والمُرادُ بِهِمْ أهْلُهُ مِن بَنِيهِ وغَيْرِهِمْ، وأصْلُهُ أهْلٌ، وقِيلَ: أوَّلُ، وقَدْ حَقَّقْناهُ في غَيْرِ ما كِتابٍ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلّا فِيمَنُ لَهُ خَطَرٌ مُطْلَقًا ولا يُضافُ لِما لا يَعْقِلُ ولَوْ كانَ ذا خَطَرٍ بِخِلافِ أهْلٍ فَلا يُقالُ: آلُ الحِجامِ ولا آلُ الحَرَمِ، ولَكِنْ أهْلُ الحِجامِ وأهْلُ الحَرَمِ، نَعَمْ قَدْ يُضافُ لَما نَزَلْ مَنزِلَةَ العاقِلِ كَما في قَوْلِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. ؎وانْصُرْ عَلى آلِ الصَّلِيبِ وعابِدِيهِ اليَوْمَ آلَكَ. وفِيهِ رَدٌّ عَلى أبِي جَعْفَرٍ الزَّبِيدِيِّ حَيْثُ زَعَمَ عَدَمَ جَوازِ إضافَتِهِ إلى الضَّمِيرِ لِعَدَمِ سَماعِهِ مُضافًا إلَيْهِ، ويَعْقُوبُ كابْنِهِ اسْمٌ أعْجَمِيٌّ لا اشْتِقاقَ لَهُ فَما قِيلَ: مِن أنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ خَرَجَ مِن بَطْنِ أُمِّهِ عَقِبَ أخِيهِ العِيصِ غَيْرُ مَرَضِيٍّ عِنْدَ الجُلَّةِ الفاقَةِ والقَحْطِ وتَفَرُّقِ الشَّمْلِ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِمّا يَعُمُّ أوْ يَخُصُّ، ومِنهم مَن فَسَّرَ الآلَ بِالبَنِينَ وإتْمامِ النِّعْمَةِ بِالِاسْتِنْباءِ، وجَعَلَ حاصِلَ المَعْنى يَمُنُّ عَلَيْكَ وعَلى سائِرِ أبْناءِ يَعْقُوبَ بِالنُّبُوَّةِ، واسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّهم صارُوا بَعْدُ أنْبِياءَ. وفِي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ أنَّ رُؤْيَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ إخْوَتَهُ كَواكِبَ يُهْتَدى بِأنْوارِها مِن نِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ لِدَلالَتِها عَلى مَصِيرِ أمْرِهِمْ إلى النُّبُوَّةِ، فَيَقَعُ كُلُّ ما يَخْرُجُ مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ مِن كَمالاتِهِمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ تَمامًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ لا مَحالَةَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ ما ذُكِرَ لا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلى أنَّهم صارُوا أنْبِياءَ لِما عَلِمْتَ مِن الِاحْتِمالاتِ (p-188)والدَّلِيلُ إذا طَرَقَهُ الِاحْتِمالُ بَطَلَ بِهِ الِاسْتِدْلالُ ورُؤْيَتُهم كَواكِبَ يُهْتَدى بِأنْوارِها بِمَعْزِلٍ عَنْ أنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلى أنَّ مَصِيرَهم إلى النُّبُوَّةِ، وإنَّما تَكُونُ دَلِيلًا عَلى أنَّ مَصِيرَهم إلى كَوْنِهِمْ هادِينَ لِلنّاسِ وهو مِمّا لا يَلْزَمُهُ النُّبُوَّةُ، فَقَدْ قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «”أصْحابِي كالنُّجُومِ بِأيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ“،» ونَحْنُ لا نُنْكِرُ أنَّ القَوْمَ صارُوا هادِينَ بَعْدَ أنْ مَنَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ بَلْ هم لَعَمْرِي حِينَئِذٍ مِن أجِلَّةِ أصْحابِ نَبِيِّهِمْ، وقَدْ يُقالُ أيْضًا: إنَّهُ لَوْ دَلَّ رُؤْيَتُهم كَواكِبَ عَلى أنَّ مَصِيرَهم إلى النُّبُوَّةِ لَكانَتْ رُؤْيَةُ أُمِّهِ قَمَرًا أدَلَّ عَلى ذَلِكَ ولا قائِلَ بِهِ. وقالَ بَعْضُهُمْ: لا مانِعَ مِن أنْ يُرادَ -بِآلِ يَعْقُوبَ- سائِرَ بَنِيهِ، و-بِإتْمامِ النِّعْمَةِ- إتْمامُها بِالنُّبُوَّةِ لَكِنْ لا يَثْبُتُ بِذَلِكَ نُبُوَّتُهم بَعْدُ لِجَوازِ أنْ يُرادَ ﴿ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بِالنُّبُوَّةِ ﴿وعَلى آلِ يَعْقُوبَ﴾ بِشَيْءٍ آخَرَ كالخَلاصِ مِنَ المَكْرُوهِ مَثَلًا، وهَذا كَقَوْلِكَ: أنْعَمْتُ عَلى زَيْدٍ وعَلى عَمْرٍو وهو لا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الإنْعامُ عَلَيْهِما مِن نَوْعٍ واحِدٍ لِصِدْقِ الكَلامِ بِأنْ يَكُونَ قَدْ أنْعَمْتَ عَلى زَيْدٍ بِمَنصِبٍ وعَلى عَمْرٍو بِإعْطائِهِ ألْفَ دِينارٍ، أوْ بِتَخْلِيصِهِ مِن ظالِمٍ مَثَلًا وهو ظاهِرٌ. ورَجَّحَ بَعْضُهم حَمْلَ الآلِ عَلى ما يَعُمُّ الأبْناءَ بِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ الأبْناءَ لَكانَ الأظْهَرُ الأخْصَرُ وعَلى إخْوَتِكَ بَدَلَ ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ وقِيلَ: إنَّما اخْتارَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأنَّهُ يَتَبادَرُ مِنَ الإخْوَةِ الإخْوَةُ الَّذِي نُهِي عَنْ الِاقْتِصاصِ عَلَيْهِمْ فَلا يَدْخُلُ بِنْيامِينُ، والمُرادُ إدْخالُهُ، وقِيلَ: المُرادُ بِآلِ يَعْقُوبَ أتْباعُهُ الَّذِينَ عَلى دِينِهِ. وقِيلَ: يَعْقُوبُ خاصَّةً عَلى أنَّ الآلَ بِمَعْنى الشَّخْصِ ولا يَخْفى ما في القَوْلَيْنِ مِنَ البُعْدِ، وأبْعَدُهُما الأخِيرُ ومَن جَعَلَ إتْمامَ النِّعْمَةِ إشارَةً إلى المُلْكِ جَعَلَ العَطْفَ بِاعْتِبارِ أنَّهم يَغْتَنِمُونَ آثارَهُ مِنَ العِزِّ والجاهِ والمالِ هَذا. ﴿كَما أتَمَّها عَلى أبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْراهِيمَ وإسْحاقَ﴾ أيْ إتْمامًا كائِنًا كَإتْمامِ نِعْمَتِهِ عَلى أبَوَيْكَ مِن قَبْلِ هَذا الوَقْتِ أوْ مِن قَبْلِكَ، والِاسْمانِ الكَرِيمانِ عَطْفُ بَيانٍ –لِأبَوَيْكَ- والتَّعْبِيرُ عَنْهُما بِالأبِ مَعَ كَوْنِهِما أبا جَدِّهِ وأبا أبِيهِ لِلْإشْعارِ بِكَمالِ ارْتِباطِهِ بِالأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وتَذْكِيرُ مَعْنى -الوَلَدُ سِرُّ أبِيهِ- لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِما أُخْبِرَ بِهِ، وإتْمامُ النِّعْمَةِ عَلى إبْراهِيمَ إمّا بِالنُّبُوَّةِ وإمّا بِاتِّخاذِهِ خَلِيلًا وإمّا بِإنْجائِهِ مِن نارِ عَدُوِّهِ، وإمّا مِن ذَبْحِ ولَدِهِ، وإمّا بِأكْثَرَ مِن واحِدٍ مِن هَذِهِ، وعَلى إسْحاقَ إمّا بِالنُّبُوَّةِ أوْ بِإخْراجِ يَعْقُوبَ مِن صُلْبِهِ أوْ بِإنْجائِهِ مِنَ الذَّبْحِ وفِدائِهِ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ عَلى رِوايَةِ أنَّهُ الذَّبِيحُ، وذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَحْقِيقُهُ، وأمْرُ التَّشْبِيهِ عَلى سائِرِ الِاحْتِمالاتِ سَهْلٌ إذْ لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ مِن كُلِّ وجْهٍ، والِاقْتِصارُ في المُشَبَّهِ بِهِ عَلى ذِكْرِ إتْمامِ النِّعْمَةِ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلِاجْتِباءِ مِن بابِ الِاكْتِفاءِ كَما قِيلَ فَإنَّ إتْمامَ النِّعْمَةِ يَقْتَضِي سابِقَةَ النِّعْمَةِ المُسْتَدْعِيَةِ لِلِاجْتِباءِ لا مَحالَةَ ومَعْرِفَتَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِما أخْبَرَ بِهِ مِمّا لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الرُّؤْيا إمّا بِفِراسَةٍ وكَثِيرًا ما تَصْدُقُ فِراسَةُ الوالِدِ بِوَلَدِهِ كَيْفَما كانَ الوالِدُ، فَما ظَنُّكَ بِفِراسَتِهِ إذا كانَ نَبِيًّا أوْ بِوَحْيٍ؟ وقَدْ يُدَّعى أنَّهُ اسْتُدِلَّ بِالرُّؤْيا عَلى كُلِّ ذَلِكَ ﴿إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ﴾ بِكُلِّ شَيْءٍ فَيَعْلَمُ مَن يَسْتَحِقُّ المَذْكُوراتِ ﴿حَكِيمٌ﴾ فاعِلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ فَيَفْعَلُ ما يَفْعَلُ جَرْيًا عَلى سُنَنِ عِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ، والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ لِتَحْقِيقِ الجُمَلِ المَذْكُورَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب