الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ﴾ الآية. اعلم أنَّهُ تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - إلى أربعة أقسام وذكر حكم كل واحد منهم، وتقرير هذه القسمة أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما ظهرت نبوته ودعا النَّاس إلى الدِّين، ثم انتقل من مكَّة إلى المدينة، فمنهم من وافقه في تلك الهجرة، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي في مكة. أمَّا القسمُ الأوَّلُ: فهم المهاجرون الأوَّلُون، وقد وصفهم الله بقوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ وإنما قلنا: إن المراد بهم المهاجرون الأولون؛ لأنَّهُ تعالى قال بعد ذلك: ﴿والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ﴾ وقال تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ﴾ [الحديد: 10] . وقال: ﴿والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار﴾ [التوبة: 100] . القسم الثاني من الموجودين في زمان محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهم الأنصار؛ لأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا هارج إليهم مع طائفة من أصحابه، فلولا أنَّهم آووا، ونصروا، وبذلوا النَّفٍ والمال في خدمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإصلاح مهمات أصحابه لما تمَّ المقصودُ ألبتَّة فحال المهاجر أعلى في الفضيلة من حال الأنصار؛ لنَّهم السَّابقون إلى الإيمان، وتحمَّلُوا العناء والمشقة دهراً طويلاً من كفَّار قريش، وصبروا على أذاهم، وهذه الحالةُ ما حصلت للأنصارِ، وفارقوا الأوطان، والأهل، والأموال، والجيران، ولم يحصل ذلك للأنصار، وأيضاً فإنَّ الأنصار اقتدوا بهم الإسلام، وهم السابقون للإيمان. ولمَّا ذكر الله تعالى هذين القسمين، قال: ﴿أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ قال الواحديُّ عن ابن عباس وغيره من المفسرين «المراد في المرايث» وقالوا: جعل الله تعالى سببب الإرث الهجرة، والنصرة دون القرابة، وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث؛ لأنَّهُ لم يهاجر ولم ينصر. واعلم أنَّ لفظ الولاية غير مشعرٍ بهذا المعنى؛ لأنَّ اللفظ مشعر بالقرِ على ما تقرَّر في هذا الكتاب. ويقال: السلطانُ ولي من لا ولي له ولا يفيد الإريث. وقال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [يونس: 62] ولا يفيدُ الإرث بل الولاية تفيد القرب، فيمكن حمله على غير الإرث، وهو كون بعضهم معظماً للبعض، مهتماً بشأنه، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته، وأن يكونوا يداً واحدة على الأعداء، فحمله على الإرث بعيد عن دلالة اللفظ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم نسخ بقوله في آخر الآية: ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾ . فأيُّ حاجة إلى حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به، ثمَّ الحكم بأنَّهُ صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه، هذا في غاية البعد، اللَّهم إذا حصل إجماع المفسرين على ذلك فيجب المصير إليه، إلاَّ أنَّ دعوى الإجماع بعيد. القسم الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا وبقوا في مكة، وهم المراد بقوله ﴿والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ﴾ فقال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ﴾ ، فالولاية المنفية في هذه الصُّورة، هي الولاية المثبتة في القسم المتقدم، فما قيل هناك قيل هنا. واحتج الذَّاهبون إلى أنَّ المراد من هذه الولاية الإرث، بأن قالوا: لا يجوزُ أن يكُون المراد منها ولاية النصرة والدلي عليه أنَّه تعالى عطف عليه قوله: ﴿وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر﴾ وذلك عبارة عن الموالاة في الدِّين، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة، وهذا استدلال ضعيف لأنا إذَا حملنا تلك الولاية على التَّعظيم والإكرام، فهو أمرٌ مغاير للنصرة، لأنَّ الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم، وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم، فسقط هذا الاستدلال. قوله: «مِن ولايتهم» قرأ حمزة هنا، وفي الكهف «الولاية لِلَّه» هو، والكسائي بكسر الواو، والباقون بفتحها. فقيل: لغتان. وقيل: بالفتحِ من «المَوْلَى» يقال: مَوْلَى بيِّن الولاية، وبالكسر من ولاية السلطان. قاله أبُو عبيد. وقيل: بالفتح من النُّصْرَة والنَّسب، وبالكسر من الإمارة. قاله الزَّجَّاجُ قال: «ويجوز الكسرُ؛ لأنَّ في تولِّي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ كالخياطية والقصارة» ، وقد خطَّأ الأصمعيُّ قراءة الكسرِ، وهو المُخْطِىءُ، لتواترها. وقال أبُو عبيدٍ: «والذي عندنا الأخْذُ بالفتح في هذين الحرفين؛ لأنَّ معناهما من الموالاة في الدِّين» . وقال الفارسي: «الفتحُ أجودُ؛ لأنَّها في الدِّينِ» ، وعكس الفرَّاءُ هذا، فقال «يُريدُ من مواريثهم، فكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها؛ لأنها إنَّما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائيُّ يذهبُ بفتحها إلى النصرة، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنى جَمِيعاً» . قوله: «حتَّى يُهاجِرُوا» يُوهِمُ أنَّهم لمَّا لمْ يهاجروا مع رسُولِ الله سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله هذا الوهم بقوله: ﴿مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ﴾ أي: أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية. قوله تعالى: ﴿وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر﴾ . لمَّا بيَّن قطع الولاية بين تلك الطَّائفة من المؤمنين، بيَّن أنَّ المراد منه ليس هو المقاطعة التَّامة كما في حقِّ الكُفَّارِ، بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا «لو استنصروكم فانصروهم» ولا تخذلوهم. قوله: «فَعَليْكُم النَّصْرُ» مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل عند الأخفش، ولفظةُ «عَلَى» تُشعرُ بالوُجُوبِ، وكذلك قدَّره الزمخشريُّ، وشَبَّهه بقوله: [الطويل] 2741 - عَلَى مُكْثِريهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَريهم ... وعِنْدَ المُقلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ قوله: ﴿إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾ أي: لا يجوز لكم نصرتهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك. ثم قال: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قرأ السلمي والأعرج: «يَعْمَلُون» بياء الغيبةِ وكأنه التفات، أو إخبار عنهم. قوله تعالى: ﴿والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ﴾ الآية. اعلم أنَّ هذا لترتيبٌ في غاية الحسن؛ لأنَّهُ تعالى ذكر للمؤمنين أقساماً ثلاثة: الأول: المؤمنون من المهاجرين. والثاني: الأنصار وهم أفضل النَّاس وبيَّن أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً. والقسم الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا. فهؤلاء لهم بسب بإيمانهم فضل، وبسبب تركِ الهجرة لهم حالة نازلة، فيكون حكمهم متوسطاً بمعنى أنَّ الولاية للقسم الأوَّل منفية عن هذا القسم، إلاَّ أنَّهم يكونون بحيثُ لو استنصروا المؤمنين، واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم، فهذا الحكم متوسط بين الإجلال، والإذلال، وأمَّا الكفار فليس لهم ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة، فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه، فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصرة. فصل قال ابن عباس «يرث المشركون بعضهم من بعض» وهذا إنما يستقيم إذا حملنا الولاية على الإريث، بل الحق أن يقال: إنَّ كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلمَّا ظهرت دعوة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - تناصروا وتعاونوا على إيذائه ومحاربته، فالمراد من الآية ذلك. قوله «إلاَّ تَفْعَلُوه» الهاءُ تعودُ إمَّا على النَّصرِ، أو الإرث، أو الميثاق، أي: حِفْظه أو على جميع ما تقدَّم ذكره، وهو معنى قول الزمخشري: «ألاَّ تفعلُوا ما أمرتكُم به» . وقرأ العامة «كبير» بالباء الموحدة، وقرأ الكسائيُّ فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي «كثير» بالثَّاءِ المثلثة، وهذا قريب ممَّا في البقرة. والمعنى: قال ابن عبَّاسٍ: «ألاَّ تأخُذُوا في الميراثِ بِمَا أمرتُكُم بِهِ» وقال ابنُ جريجٍ: «إلاَّ تتعاونُوا وتتناصَرُوا» . وقال غيرهم: إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التَّفاصيل المذكورة تحصل فتنة في الأرض، قوة الكفر، وفساد كبير، وضعف الإسلام. وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه: الأول: أنَّ المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكافر، وثانيها: أن المسلمين إذا تفرقوا لم يظهر لهم جمع عظيم، فيصير ذلك سبباً لجراءة الكفار عليهم. وثالثها: إذا اكن جمع المسلمين يزيد كل يوم في العدة والقوة، صار ذلك سبباً لمزيد رغبتهم في الإسلام ورغبة المخالف في الالتحاق بهم. قوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ﴾ . زعم بعضهم أنَّ هذه الجملة تكرار للتي قبلها، وليس كذلك، فإنَّ التي قبلها تضمنت ولاية بعضهم لبعض، وتقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام، وبيان حكمهم في ولايتهم، وتناصرهم وهذه تضمَّنت الثناء والتشريف والاختصاص، ومال آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم والمعنى: «أولئك هم المُؤمنونَ حقّاً» لا مرية ولا ريب في إيمانهم، وقيل: حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين، ﴿لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ الجنة. فإن قيل: فأي معنى لهذا التكرار. قيل: المهاجرون كانوا على طبقات، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم أهل الهجرة الثانية، وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكَّة، وكان بعضهم ذا هجرتين، هجرة الحبشة، والهجرة إلى المدينة، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ومن الثانية الهجرة الثانية. قوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ﴾ . هؤلاء هم القسم الرابع من مؤمني زمان محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة، إلاَّ أنهم بعد ذلك هاجروا إليه وجاهدوا معه. واختلفوا في قوله «مِنْ بعْدُ» فقال الواحدي، عن ابن عبَّاسٍ «بعد الحديبثة وهي الهجرة الثانية» . وقيل: بعد نزول هذه الآية، وقيل: بعد يوم بدر، والأصحُّ أنَّ المراد: والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى، وهؤلاء هم التابعون، بإحسان، كما قال: ﴿والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100] والصحيح: أنَّ الهجرة انقطعت بفتح مكَّة، لأنَّ مكة صارت بلد الإسلام. وقال الحسن: «الهجرة غير منقطعة أبداً» . وأما قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا هجْرةَ بعْدَ الفَتْحِ» فالمراد الهجرة المخصوصة، فإنَّها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام، أما لو اتفق في بعض الأمان كون المؤمنين في بلد، وهم قليلون، وللكافرين معهم شوكة، وإن هاجروا المسلمون من تلك البلدة إلى بلد آخر ضعفت شوكة الكفار فهاهنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن؛ لأنَّ العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة قد حصلت فيهم. قوله ﴿فأولئك مِنكُمْ﴾ أي: معكم، يريد: أنتم منهم وهو منكم. ثم قال: ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله﴾ . قالوا: المراد بالولاية ولاية الميراث، قالوا هذه الآية ناسخة؛ لأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ الإرث كان بسبب الهجرة والنصرة، والآن بعد نسخ ذلك فلا يحصل الإرث إلاَّ بسبب القرابة. وقوله: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ أي: السهام المذكورة في سورة النّساء، وأمَّا الذين فسَّرثوا الولاية بالنَّصرة والتَّعظيم قالوا «: إنَّ تلك الولاية لمَّا كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أنَّ ولاية الإرث إنَّما تحصل بسبب القرابة، إلاَّ ما خصَّ الدليل، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم. فصل تمسَّك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام، وأجيبوا بأن قوله: ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾ مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية. فلما قال: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ كان معناه في الحكم الذي بيَّنه اللَّهُ في كتابه فصارت هذه الأولوية مقيَّدة بالأحكام التي بيَّنها اللَّهُ في كتابه وتلك الأحكام ليست إلاَّ ميراث العصبات، فيكونُ المرادُ من هذه المجمل هو ذلك فقط، فلا يتعدَّى إلى توريث ذوي الأرحام. فإن قيل تمسكوا بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو علي بن أبي طالب، لقوله: ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: 75] فدل على ثبوت الأولوية، وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية؛ فوجب حمله على الكل، إلاَّ ما خصّه الدَّليل، فيندرج فيه الإمامة، ولا يجوزُ أن يقال: إنَّ أبا بكر من أولي الأرحام، لما نقل أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أعطاءه سورة براءة ليبلغها إلى القوم ثم بعت علياً خلفه وأمر أن يكون المبلغ هو علي، وقال:» لا يُؤدِّيها إلاَّ رجلٌ مِنِّي» وذلك يدلُّ على أنَّ أبا بكر ما كان منه. والجوابُ: إن صحَّت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامةِ؛ لأنَّهُ كان أقرب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِنْ عليٍّ. قول: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ يجوزُ أن يتعلَّق بنصّ أولها أي: أحق في حكم الله أو في القرن، أو في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا الحكمُ المذكور في كتاب الله. ثم قال: ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي: أنَّ هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب، وليس فيها شيء من العبث؛ لأنَّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلاَّ بالصَّواب. روى أنس قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الأنفال وبراءة فأنَّا شَفِيعٌ لَهُ يوم القيامة، وشاهد أنَّه بريءٌ منَ النِّفاق وأعطي من الأجْرِ بعددِ كُلِّ مُنافقٍ ومُنافِقَةٍ في دارِ الدُّنْيَا عشر حسناتٍ، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئاتِ، ورفع لهُ عشرُ درجاتٍ، وكان العَرْشَ وحملته يُصَلُّون عليه أيَّام حياتِهِ في الدنيا» بسم الله الرحمن الرحيم سورة التوبة مدنية. وهي مائة وثلاثون آية، وأربعة آلاف وثمان وسبعون كلمة، وعشرة آلاف، وأربع مائة وثمان وثمانون حرفا. ولها عدة أسماء: " براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافزة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب. قال الزمخشري: " لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق: أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين: تبحث عنها وتشهرها وتحفز عنها، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم ". وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم، وتريهم حتى خشينا أنها لا تدع أحدا، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير. (فصل في إسقاط التسمية من هذه السورة) في إسقاط التسمية من أولها وجوه: الأول: روى ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما وما فصلتم ب: بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما نزلت عليه سورة يقول: " ضعوها في موضع كذا " فكانت براءة من آخر القرآن نزولا، فتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقرنت بينهما. قال الن العربي " هذا دليل على أن القياس أصل في الدين؛ ألا ترى إلى عثمان بن عفان وأعيان الصحابة، كيف نحوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام "؟ قال القاضي: " لا يبعد أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام بين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال؛ لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى، ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل، ولو جوزنا في بعض السور ألا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي، لجوزنا مثله في سائر السورة، وفي آيات السورة الواحدة، وتجويزه يعضد ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة ". والصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا، فإنه عليه الصلاة والسلام حذف " بسم الله الرحمن الرحيم " من أول هذه السورة وحيا. الوجه الثاني: روي عن أبي بن كعب أنه قال: إنما توهموا ذلك، لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى، والسؤال المذكور عائد هنا، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا: إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة. الوجه الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال، وسورة التوبة هل هما سورة واحدة أم سورتان؟ قال بعضهم: هما سورة واحدة؛ لأن كليهما نزلتا في القتال، ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال، وهي سبع، وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر؛ لأنهما معا مائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال سورتان، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا الباب، تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان، وما كتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم " تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة، وعلى هذا القول لا يلزم منه تجويز مذهب الإمامية؛ لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين، وهذا يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلا، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير، وذلك يبطل قول الإمامية. الوجه الرابع: أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكية. ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله: ﴿براءة من الله ورسوله﴾ فلما كان هذا عين ذلك الكلام، وتأكيدا له وتقريرا له، لزم الفاصل بينهما وكان إيقاع الفاصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين، وترك كتابة البسملة تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى. الوجه الخامس: قال القرطبي: " قيل: إنه كان من شأن العرب في الجاهلية، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه البسملة، فلما نزلت سورة براءة ينقض العهد الذي كان بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين، أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتابته بغير بسملة، وبعث بها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة ". قال ابن عباس: سألت عليا - رضي الله عنه -: لم لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ههنا؟ قال: لأن " بسم الله الرحمن الرحيم " أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد، وليس فيها أمان. ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى: ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا﴾ [النساء: 94] فقيل له: أليس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم "؟ فأجاب عنه: بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله تعالى، ولم ينبذ إليهم عهدهم، ألا ترى أنه قال في آخر الكتاب ﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ [طه: 47] . وأما هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهد، فظهر الفرق. الوجه السادس: قالت الشافعية: لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون " بسم الله الرحيم الرحيم " من القرآن، أمر بأن لا تكتب ههنا، ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة لا جرم لم تكتب وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة، وقد يعكس عليهم ذلك فيقال: لو كانت آية من كل سورة لما أسقطها من هذه السورة؟ . قال القرطبي: " وروي عن عثمان أيضا. وقاله مالك فيما رواه وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: أنه لما سقط أولها سقط " بسم الله الرحمن الرحيم " معا، وروي ذلك عن عجلان؛ أنه بلغه أن سورة " براءة " كانت تعدل البقرة أو قربها، فذهب منها؛ فلذلك لم يكتب بينهما " بسم الله الرحمن الرحيم " وقال سعيد بن جبير: كانت قبل سورة الطلاق البقرة ". قال القرطبي والصحيح أن البسملة لم تكتب؛ لأن جبريل - عليه الصلاة والسلام - ما نزل بها في هذه السورة، قاله القشيري ". وفي قول عثمان " قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين لنا أنها منها " دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن " براءة " ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك، وكانتا تدعيان القرينتين؛ فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب