الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِن ولايَتِهِمْ مِن شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا وإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: ٧٢].
تقدَّمَ في سورةِ النِّساءِ الكلامُ على الهِجْرةِ وشيءٍ مِن أحكامِها وأنواعِها، والبُلْدانِ التي تقعُ منها وإليها، وحُكْمِ تارِكِها، وحُكْمِ المُقيمِ وسْطَ الكافرِين، عندَ قولِهِ تعالى في النِّساءِ: ﴿قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ﴾ [النساء: ٩٧].
وجوبُ نُصْرةِ المؤمنينَ ووجوبُ الهجرةِ:
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على أنّ الأصلَ: وجوبُ نُصْرةِ المؤمنينَ، وعدمُ خِذْلانِهم، والاستثناءُ في الآيةِ: ﴿وإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ﴾، وهذه نزَلتْ في الأعرابِ الذين ترَكُوا الهِجْرةَ، ويكونُ بينَهم وبينَ المشرِكينَ قتالٌ، كما صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /٢٩٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٤٠).]].
وهو عامٌّ لِمَن كانتْ حالُهُ كحالِ المُسلِمينَ الأعرابِ، ومِثلُهم كذلك الذين كانوا بمَكَّةَ، فقد وجَبَتْ عليهم الهِجْرةُ، فلم يُهاجِروا، فلمّا آثَرُوا بقاءَهم بمَكَّةَ على اللَّحاقِ بالمؤمنينَ، سقَطَ حقُّهم في نُصْرةِ المؤمنينَ لهم على قومٍ بينَهم وبينَ المُسلِمينَ مِيثاقٌ وهُدْنةٌ، كما قال تعالى: ﴿ما لَكُمْ مِن ولايَتِهِمْ مِن شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا﴾.
وهذا مشروطٌ بتوافُرِ الهجرةِ وتَرْكِهم لها مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهم، وأمّا إنْ كانتِ الهجرةُ واجِبةً عليهم، ولا يَجِدُونَ بلدًا يُؤْوِيهِم كما هو في كثيرٍ مِن المُسلِمينَ اليومَ في بلادِ الكُفْرِ، لا يجدُ كثيرٌ منهم بلدًا مسلِمًا يُهاجِرونَ إليه، وذلك للأنظِمةِ الحادثةِ التي تُؤثِرُ الأرضَ لأهلِها، وتُقدِّمُ في البقاءِ الكافرَ مِن أهلِها، وتَمْنَعُ المسلِمَ المُهاجِرَ إلاَّ في أبوابٍ ضيِّقةٍ كعملٍ وحِرْفةٍ مؤقَّتةٍ.
فإذا انسَدَّ بابُ الهِجْرةِ، وأُغلِقَ بابُها دُونَ مَن رَغِبَ في الهِجْرةِ، فليس للمُسلِمينَ تركُ نُصْرةِ أولئك المظلومينَ في بُلْدانِهم إنْ نزَلَ عليهم بَغْيٌ وظُلْمٌ وقهرٌ، بحُجَّةِ أنّ بينَ المُسلِمينَ وبينَ دُوَلِ الكُفْرِ التي يُقِيمونَ فيها عهدًا وميثاقًا، فإنّهم لو فُتِحَ بابُ الهجرةِ لهم، وامتنَعُوا كما امتنَعَ كثيرٌ مِن مُسلِمي الأعرابِ ومَن كان بمَكَّةَ، لَسَقَطَ حقُّهم في النُّصْرةِ على قومٍ بينَهم وبينَ المؤمنينَ ميثاقٌ.
وقد رَوى أحمدُ ومسلمٌ، مِن حديثِ بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ، قال: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا أمَّرَ أمِيرًا عَلى جَيْشٍ أوْ سَرِيَّةٍ، أوْصاهُ فِي خاصَّتِهِ بِتَقْوى اللهِ، ومَن مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قالَ: (اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قاتِلُوا مَن كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تَمْثُلُوا، ولا تَقْتُلُوا ولِيدًا، وإذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعُهُمْ إلى ثَلاثِ خِصالٍ ـ أوْ خِلالٍ ـ فَأَيَّتُهُنَّ ما أجابُوكَ، فاقْبَلْ مِنهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلامِ، فَإنْ أجابُوكَ، فاقْبَلْ مِنهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ مِن دارِهِمْ إلى دارِ المُهاجِرِينَ، وأَخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُمْ ما لِلْمُهاجِرِينَ، وعَلَيْهِمْ ما عَلى المُهاجِرِينَ، فَإنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنها، فَأَخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرابِ المُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلى المُؤْمِنِينَ، ولا يَكُونُ لَهُمْ فِي الغَنِيمَةِ والفَيْءِ شَيْءٌ، إلاَّ أنْ يُجاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ، فَإنْ هُمْ أبَوْا، فَسَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإنْ هُمْ أجابُوكَ، فاقْبَلْ مِنهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، فَإنْ هُمْ أبَوْا، فاسْتَعِنْ بِاللهِ وقاتِلْهُمْ)[[أخرجه أحمد (٥ /٣٥٨)، ومسلم (١٧٣١).]].
وأمّا ما وقَعَ مِن النبيِّ ﷺ مع مُشرِكي قريشٍ في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ حينَما صالَحَهم على رَدِّ مَن أسلَمَ وهاجَرَ مِن مَكَّةَ إليهم، فلم يُؤْوِهِ، فضلًا عن أنْ يَنْصُرَهُ، فذلك بابٌ ضيِّقٌ مَرَدُّهُ إلى مصلحةٍ ضيِّقةٍ، لا يُدرَكُ مِثلُها إلاَّ في وحيٍ وبصرٍ ثاقبٍ وحالٍ مُشابِهةٍ، فقد سبَقَ ذلك أعوامٌ دُعِيَ المُسلِمونَ بمَكَّةَ إلى الهجرةِ، فتثاقَلُوا، ولهم مِن السبيلِ ما يَخرُجونَ إليه مِن واسعِ الأرضِ، كما قال تعالى: ﴿ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾ [النساء: ٩٧]، فلهم مُهاجَرٌ إلى غيرِ المدينةِ ومَلجَأٌ إلى غيرِ النبيِّ ﷺ، بخلافِ مَن كان في بَلَدٍ لا مَلجَأَ له لا في أرضِ كُفْرٍ ولا في أرضِ إسلامٍ.
وإن كان في الأمَّةِ ضِيقٌ وشِدَّةٌ، وفي الكفرِ قُوَّةٌ وبأسٌ، وكانتْ حالُ المُسلِمينَ كحالِ النبيِّ ﷺ وصَحْبِه، وحالُ المُسلِمينَ المظلومينَ كحالِ الأعرابِ ومَن كان بمَكَّةَ، وفي الأرضِ سَعَةٌ وفُسْحةٌ ومَلجَأٌ، فله أنْ يَفْعَلَ كفعلِه، واللهُ أعلَمُ، وليس لسُلْطانِ المُسلِمينَ وحاكِمِهم أنْ يَمنعَ هجرةَ المُسلِمينَ مِن بلدِ الكُفْرِ إلى بُلْدانِ المُسلِمينَ، ويَضَعَ الميثاقَ مع الكافِرِينَ على عدمِ نُصْرةِ المُسلِمينَ المظلومينَ في بَلَدِهم.
وقولُه تعالى: ﴿عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ﴾ فيه دليلٌ على وجوبِ الوفاءِ بالعهدِ والميثاقِ وعِظَمِ منزلتِه، مع ما فيه مِن مشقَّةِ تركِ نُصْرةِ مُسلِمينَ مُقصِّرينَ، على ما تقدَّمَ مِن وصفٍ وحالٍ.
عهودُ النُّصْرةِ بينَ المُسلِمِينَ والكافِرِينَ:
ومضامينُ العهودِ والمواثيقِ التي تكونُ بينَ المُسلِمِينَ والكافِرِينَ على نوعَيْنِ:
الأوَّل: عهودٌ تتضمَّنُ المُماثَلةَ بالوَلاءِ لكلِّ صديقٍ، والعَداءِ لكلِّ عدوٍّ، فيتعاهَدُ المُسلِمونَ مع قومٍ كافِرِينَ على أنّ عدوَّهم واحدٌ، وصديقَهم واحدٌ، ولا يُفرِّقونَ بينَ مؤمِنٍ وكافِرٍ، فهذا لا يجوزُ، لأنّه يَجْعَلُ حقًّا فوقَ حقِّ اللهِ، ويَعقِدُ البَراءَ والوَلاءَ على غيرِ حقِّ اللهِ.
الثاني: عهودٌ تتضمَّنُ المماثَلةَ بالنُّصْرةِ المشروطةِ بالعَداءِ لأُمَّةٍ كافرةٍ مُعادِيَةٍ، أو مشروطةٍ بصدِّ العُدْوانِ والبغيِ والظُّلْمِ الذي يَطرَأُ على واحدٍ منهما، فهذا لا يجوزُ إلاَّ في حالِ ضَعْفِ المُسلِمينَ عن القيامِ بأنفُسِهم، وهي ضرورةٌ يُقدِّرُها العارِفونَ الأُمناءُ، فيَتعاهَدونَ إلى أمَدٍ، لا إلى أبَدٍ، حتى لا يَركَنُوا إلى الكافِرِينَ فيَستحِقُّوا الوعيدَ مِن اللهِ: ﴿ولا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وما لَكُمْ مِن دُونِ اللَّهِ مِن أوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: ١١٣].
وإذا كان الكفارُ تحتَ حُكْمِ المُسلِمِينَ، فلهم أنْ يُعاهِدُوهم على حِمايتِهم ونُصْرةِ مظلومِهم، لا أنْ يَتساوَوْا زمنَ قُوَّتِهم وكِفايتِهم بأنفُسِهم في المُوالاةِ على أحدٍ ولا البَراءِ مِن أحدٍ، لأنّ هذا رُكُونٌ نهى اللهُ عنه.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِینَ ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوۤا۟ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یُهَاجِرُوا۟ مَا لَكُم مِّن وَلَـٰیَتِهِم مِّن شَیۡءٍ حَتَّىٰ یُهَاجِرُوا۟ۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ فَعَلَیۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقࣱۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق