الباحث القرآني
ولَمّا بَيَّنَ لِلْأسْرى أنَّ الخَيْرَ الَّذِي لَمْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِن قُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ لا يَنْفَعُهم في إسْقاطِ الفِداءِ عَنْهم لِأنَّهُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وكُلُّ ما لا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ العَدَمِ؛ لِأنَّ مَبْنى الشَّرْعِ عَلى ما يُمْكِنُ المُكَلَّفَ مَعْرِفَتُهُ وهو الظَّواهِرُ، وخَتَمَ بِصِفَتَيِ العِلْمِ والحِكْمَةِ، شَرَعَ يُبَيِّنُ الخَبَرَ الَّذِي يُفِيدُ القُرْبَ الَّذِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ المُناصَرَةُ وكُلُّ خَيْرٍ، فَقالَ مُقَسِّمًا أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ أرْبَعَةَ أقْسامٍ: قِسْمٌ جَمَعَ الإيمانَ والهِجْرَةَ أوَّلًا والجِهادَ، وقِسْمٌ آوى، وقِسْمٌ آمَنَ ولَمْ يُهاجِرْ، وقِسْمٌ هاجَرَ مِن بَعْدُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ: بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ﴿وهاجَرُوا﴾ أيْ: واقَعُوا الهِجْرَةَ (p-٣٣٧)مِن بِلادِ الشِّرْكِ، وهُمُ المُهاجِرُونَ الأوَّلُونَ، هَجَرُوا أوْطانَهم وعَشائِرَهم وأحْبابَهم حُبًّا لِلَّهِ ورَسُولِهِ ﷺ ﴿وجاهَدُوا﴾ أيْ: واقَعُوا الجِهادَ، وهو بَذْلُ الجُهْدِ في تَوْهِينِ الكُفْرِ وأهْلِهِ.
ولَمّا كانَتِ الآياتُ المُتَقَدِّمَةُ في آلاتِ الجِهادِ مِنَ النَّفْسِ والمالِ تارَةً بِالحَثِّ عَلى إنْفاقِهِ وأُخْرى بِالنَّهْيِ عَنْ حُبِّهِ وتارَةً بِالتَّسْلِيَةِ لِلْأسْرى عِنْدَ فَقْدِهِ، كانَ الأنْسَبُ تَقْدِيمَ قَوْلِهِ: ﴿بِأمْوالِهِمْ﴾ أيْ: بِإنْفاقِهِمْ لَها في الجِهادِ وتَضْيِيعِ بَعْضِها بِالهِجْرَةِ مِنَ الدِّيارِ والنَّخِيلِ وغَيْرِها ﴿وأنْفُسِهِمْ﴾ بِإقْدامِهِمْ عَلى القِتالِ مَعَ شِدَّةِ الأعْداءِ وكَثْرَتِهِمْ؛ وقَدَّمَ المالَ لِأنَّهُ سَبَبُ قِيامِ النَّفْسِ، وكانَ في غايَةِ العِزَّةِ في أوَّلِ الأمْرِ، وأخَّرَ قَوْلَهُ: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيِ: المَلِكِ الأعْظَمِ لِذَلِكَ، ”وفِي“ سَبَبِيَّةٌ أيْ: جاهَدُوا بِسَبَبِهِ حَتّى لا يَصُدَّ عَنْهُ صادٌّ فَتَظْهَرَ مَحاسِنُهُ ويَسْهُلَ المُرُورُ فِيهِ مِن غَيْرِ قاطِعٍ، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ بِ: ”فِي“ إعْلامًا بِأنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ السَّبِيلِ تَمَكُّنَ المَظْرُوفِ مِن ظَرْفِهِ حَتّى يَكُونَ الدِّينُ غالِبًا عَلَيْهِ لا يَخْرُجُ عَنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وأمّا في سُورَةِ بَراءَةَ فَلَمّا كانَ السِّياقُ في بَعْضِ الأماكِنِ بِها لِلسَّبِيلِ قُدِّمَ - كَما سَيَأْتِي، وأيْضًا فَإنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ في أوائِلِ الأمْرِ بَعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ مِنَ الهِجْرَةِ، وكانَ الحالُ إذْ ذاكَ شَدِيدًا جِدًّا، والأمْوالُ في غايَةِ القِلَّةِ، والأعْداءُ لا يُحْصَوْنَ، فَناسَبَ الِاهْتِمامُ بِشَأْنِ المالِ والنَّفْسِ (p-٣٣٨)فَقُدِّما تَرْغِيبًا في بَذْلِهِما، وأمّا بَراءَةُ فَنَزَلَتْ في غَزْوَةِ تَبُوكَ في أواخِرِ سَنَةِ تِسْعٍ، فَكانَ المالُ قَدِ اتَّسَعَ، والدِّينُ قَدْ عَزَّ وضَخُمَ وقَوِيَ وعَظُمَ، وأسْلَمَ غالِبُ النّاسِ، فَبَعُدَتْ مَواضِعُ الجِهادِ فَعَظُمَتِ المَشَقَّةُ، وتَواكَلَ النّاسُ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ ورَغِبُوا في الإقْبالِ عَلى إصْلاحِ الأمْوالِ، فَناسَبَ البُداءَةَ هُناكَ بِالسَّبِيلِ.
ولَمّا ذَكَرَ أهْلَ الهِجْرَةِ الأُولى، أتْبَعَهم أهْلَ النُّصْرَةِ، وهُمُ القِسْمُ الثّانِي مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كانُوا عَلى زَمَنِهِ ﷺ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ آوَوْا﴾ أيْ: مَن هاجَرَ إلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فَأسْكَنُوهم في دِيارِهِمْ، وقَسَّمُوا لَهم مِن أمْوالِهِمْ، وعَرَضُوا عَلَيْهِمْ أنْ يَنْزِلُوا لَهم عَنْ بَعْضِ نِسائِهِمْ لِيَتَزَوَّجُوهُنَّ، وإنَّما قَصَرَ الفِعْلَ إشارَةً إلى تَعْظِيمِ فِعْلِهِمْ بِحَيْثُ كَأنَّهُ لا إيواءَ في الوُجُودِ غَيْرُ ما فَعَلُوا، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿ونَصَرُوا﴾ أيِ: اللَّهَ ورَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ، وهُمُ الأنْصارُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حازُوا هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ فَكانُوا في الذُّرْوَةِ مِن كِلْتا الحُسْنَيَيْنِ، ولَوْلا إيواؤُهم ونَصْرُهم لَما تَمَّ المَقْصُودُ، والمُهاجِرُونَ الأوَّلُونَ أعْلى مِنهم لِسَبْقِهِمْ في الإيمانِ الَّذِي هو رَئِيسُ الفَضائِلِ ولِحَمْلِهِمُ الأذى مِنَ الكُفّارِ زَمانًا طَوِيلًا وصَبْرِهِمْ عَلى فُرْقَةِ الأوْطانِ والعَشائِرِ.
وأشارَ إلى القِسْمَيْنِ بِأداةِ البُعْدِ لِعُلُوِّ مَقامِهِمْ وعِزِّ مَرامِهِمْ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ: العالُو الرُّتْبَةِ ﴿بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ أيْ: في المِيراثِ دُونَ القُرْبِ العارِي عَنْ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ أنَّ الإيمانَ (p-٣٣٩)إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِشَهِيدَيْنِ هُما الهِجْرَةُ والجِهادُ مِنَ الغُرَّبِ عَنِ المَدِينَةِ وشَهِيدِينَ هُما الإيواءُ والنُّصْرَةُ مِن أهْلِ المَدِينَةِ، كانَ عائِقًا عَنْ مُطْلَقِ القُرْبِ بَلْ مانِعًا مِن نُفُوذِ لُحْمَةِ النَّسَبِ كُلَّ النُّفُوذِ، فَكَأنَّ مَن آمَنَ ولَمْ يُهاجِرْ لَمْ يَرِثْ مِمَّنْ هاجَرَ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ومادَّةُ ولِيَ بِجَمِيعِ تَصارِيفِها تَرْجِعُ إلى المَيْلِ، ويَلْزَمُ مِنهُ القُرْبُ والبُعْدُ، ورُبَّما نَشَأ عَنْ كُلٍّ مِنهُما الشِّدَّةُ، وتَرْتِيبُ ولِيَ بِخُصُوصِهِ يَدُورُ عَلى القُرْبِ، ومِن لَوازِمِهِ النُّصْرَةُ، فالمَعْنى: بَعْضُهم أقْرِباءُ بَعْضٍ، يَلْزَمُ كُلًّا مِنهم في حَقِّ الآخَرِ مِنَ المُناصَرَةِ وغَيْرِهِ ما يَلْزَمُ القَرِيبَ لِقَرِيبِهِ، فَمَتى جَمَعَهم وصْفٌ جَعَلَهم شُرَكاءَ فِيما يُثْمِرُهُ، فَوَصَفَ الحُضُورَ في غَزْوَةٍ يُشْرَكُ بَيْنَهم في الغَنائِمِ؛ لِأنَّ أنْواعَ الجِهادِ كَثِيرَةٌ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهم باشَرَ بَعْضَها، فَعَنْ حُضُورِ الكُلِّ نَشَأتِ النُّصْرَةُ، والمُهاجِرُ في الأصْلِ مَن فارَقَ الكُفّارَ بِقَلْبِهِ ولاواهُمْ، ورافَقَ المُؤْمِنِينَ بِحُبِّهِ ولُبِّهِ ووالاهُمْ، لَكِنْ لَمّا كانَ هَذا قَدْ يَخْفى، نِيطَ الأمْرُ بِالمَظِنَّةِ وهي الدّارُ، لِأنَّها أمْرٌ ظاهِرٌ، فَصارَ المُهاجِرُ مَن باعَدَ دارَ المُشْرِكِينَ فِرارًا بِدِينِهِ، ثُمَّ صارَ شَرْطُ ذَلِكَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ أنْ تَكُونَ النَّقْلَةُ إلى دارِ هِجْرَتِهِ: المَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ هَذا حُكْمُ كُلِّ مُهاجِرٍ إلّا ما كانَ مِن خُزاعَةَ؛ فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ قَدْ عَلِمَ مِن مُؤْمِنِهِمْ وكافِرِهِمْ حُبَّهُ ونُصْحَهُ وبُغْضَ عَدُوِّهِ فَلَمْ يُلْزِمْ مُؤْمِنَهُمُ النَّقْلَةَ؛ قالَ الحافِظُ أبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في كِتابِ المَدْخَلِ إلى (p-٣٤٠)الِاسْتِيعابِ؛ ويُقالُ لِخُزاعَةَ حُلَفاءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأنَّهم حُلَفاءُ بَنِي هاشِمٍ وقَدْ أدْخَلَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في كِتابِ القَضِيَّةِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ - إلى أنْ قالَ: وأعْطاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ مَنزِلَةً لَمْ يُعْطِها أحَدًا مِنَ النّاسِ أنْ جَعَلَهم مُهاجِرِينَ بِأرْضِهِمْ وكَتَبَ لَهم بِذَلِكَ كِتابًا. انْتَهى.
وقالَ شاعِرُهم نُجِيدُ بْنُ عِمْرانَ الخُزاعِيُّ يَفْخَرُ بِذَلِكَ وغَيْرُهُ مِمّا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
؎وقَدْ أنْشَأ اللَّهُ السَّحابَ بِنَصْرِنا رُكامَ سَحابِ الهَيْدَبِ المُتَراكِبِ
؎وهِجْرَتُنا في أرْضِنا عِنْدَنا بِها ∗∗∗ كِتابٌ أتى مَن خَيْرِ مُمْلٍ وكاتِبِ
؎ومِن أجْلِنا حَلَّتْ بِمَكَّةَ حُرْمَةٌ ∗∗∗ ∗∗∗ لِنُدْرِكَ ثَأْرًا بِالسُّيُوفِ القَواضِبِ
ذَكَرَ ذَلِكَ الحافِظُ أبُو الرَّبِيعِ بْنُ سالِمٍ الكَلاعِيُّ في غَزْوَةِ الفَتْحِ مِن سِيرَتِهِ، والَّذِي تَوَلّى حِلْفَهم أوَّلًا هو عَبْدُ المُطَّلِبِ جَدُّ النَّبِيِّ ﷺ، قالَ الواقِدِيُّ في أوَّلِ غَزْوَةِ الفَتْحِ: وكانَتْ خُزاعَةُ حُلَفاءَ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ، وكانَ رَسُولُ ﷺ بِذَلِكَ عارِفًا، لَقَدْ جاءَتْهُ يَوْمَئِذٍ - يَعْنِي يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ - خُزاعَةُ بِكِتابِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَرَأهُ وهو ”بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ هَذا حِلْفَ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هاشِمٍ لِخُزاعَةَ إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ وسُراتُهم (p-٣٤١)وأهْلُ الرَّأْيِ، غائِبُهم مُقِرٌّ بِما قَضى عَلَيْهِ شاهِدُهُمْ، إنَّ بَيْنَنا وبَيْنَكم عَهْدَ اللَّهِ وعُقُودَهُ، ما لا يُنْسى أبَدًا، اليَدُ واحِدَةٌ والنَّصْرُ واحِدٌ، ما أشْرَفَ ثُبَيْرٌ وثَبَتَ حِراءُ، وما بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً، لا يَزْدادُ فِيما بَيْنَنا وبَيْنَكم إلّا تَجَدُّدًا أبَدًا أبَدًا، الدَّهْرَ سَرْمَدًا“ فَقَرَأهُ عَلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ: ”ما أعْرَفَنِي بِحِلْفِكم وأنْتُمْ عَلى ما أسْلَمْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الحِلْفِ، وكُلُّ حِلْفٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَلا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلّا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسْلامِ“؛ قالَ الواقِدِيُّ: ”وجاءَتْهُ أسْلَمُ هو بِغَدِيرِ الأشْطاطِ“ جاءَ بِهِمْ بُرَيْدَةُ بْنُ الحَصِيبِ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ أسْلَمُ وهَذِهِ مِحالُّها وقَدْ هاجَرَ إلَيْكَ مَن هاجَرَ مِنها وبَقِيَ قَوْمٌ مِنهم في مَواشِيهِمْ ومَعاشِهِمْ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أنْتُمْ مُهاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ، ودَعا العَلاءَ بْنَ الحَضْرَمِيِّ فَأمَرَهُ أنْ يَكْتُبَ لَهم كِتابًا فَكَتَبَ: ”هَذا كِتابٌ مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأسْلَمَ لِمَن آمَنَ مِنهم بِاللَّهِ وشَهِدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، فَإنَّهُ آمَنَ بِأمانِ اللَّهِ، ولَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسُولِهِ، وإنَّ أمْرَنا وأمْرَكم واحِدٌ عَلى مَن دَهَمَنا مِنَ النّاسِ بِظُلْمٍ، اليَدُ واحِدَةٌ والنَّصْرُ واحِدٌ، ولِأهْلِ بادِيَتِهِمْ مِثْلُ ما لِأهْلِ قَرارِهِمْ (p-٣٤٢)وهم مُهاجِرُونَ حَيْثُ كانُوا“ وكَتَبَ العَلاءُ بْنُ الحَضْرَمِيِّ فَقالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! نِعْمَ الرَّجُلُ بُرَيْدَةُ بْنُ الحُصَيْبِ لِقَوْمِهِ عَظِيمُ البَرَكَةِ عَلَيْهِمْ، مَرَرْنا بِهِ لَيْلَةَ مَرَرْنا ونَحْنُ مُهاجِرُونَ إلى المَدِينَةِ، فَأسْلَمَ وأسْلَمَ مَعَهُ مِن قَوْمِهِ مَن أسْلَمَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نِعْمَ الرَّجُلُ بُرَيْدَةُ لِقَوْمِهِ وغَيْرِ قَوْمِهِ. يا أبا بَكْرٍ، إنَّ خَيْرَ القَوْمِ مَن كانَ مُدافِعًا عَنْ قَوْمِهِ ما لَمْ يَأْثَمْ، فَإنَّهُ الإثْمُ لا خَيْرَ فِيهِ”انْتَهى.
وأسْلَمُ شَعْبٌ مِن أرْبَعَةِ شُعُوبٍ مِن خُزاعَةَ. ولَمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، انْقَطَعَتِ الهِجْرَةُ لِظُهُورِ الدِّينِ وضَعْفِ المُشْرِكِينَ، وقامَ مَقامَ الهِجْرَةِ النِّيَّةُ الخالِصَةُ المَدْلُولُ عَلَيْها بِالجِهادِ كَما قالَ ﷺ: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ“». وقالَ ﷺ: «”المُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ» فَإنْ كانَ المُؤْمِنُ لا يَتَمَكَّنُ مِن إظْهارِ دِينِهِ وجَبَتْ عَلَيْهِ النَّقْلَةُ.
ولَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ تَعالى أمْرَ مَن جَمَعَ الشُّرُوطَ، شَرَعَ يُبَيِّنُ حُكْمَ مَن قَعَدَ عَنْ بَعْضِها وهو القِسْمُ الثّالِثُ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيِ: اشْتُهِرَ إيمانُهم ﴿ولَمْ يُهاجِرُوا﴾ أيْ: قَبْلَ الفَتْحِ بَلِ اسْتَمَرُّوا في بِلادِهِمْ ﴿ما لَكم مِن ولايَتِهِمْ﴾ وأغْرَقَ في النَّفْيِ فَقالَ: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ أيْ: في التَّوارُثِ ولا في غَيْرِهِ؛ ورَغَّبَهم في الهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتّى يُهاجِرُوا﴾ أيْ: يُواقِعُوا الهِجْرَةَ لِدارِ الشِّرْكِ ومَن فِيها ﴿وإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ﴾ أيْ: طَلَبُوا نَصْرَكم ﴿فِي الدِّينِ﴾ أيْ: (p-٣٤٣)بِسَبَبِ أمْرٍ مِن أُمُورِهِ وهم مُتَمَكِّنُونَ مِنَ الدِّينِ تَمَكُّنَ المَظْرُوفِ مِنَ الظَّرْفِ ﴿فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ أيْ: واجِبٌ عَلَيْكم أنْ تَنْصُرُوهم عَلى المُشْرِكِينَ، فالمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ لَهم عَلَيْكم حَقُّ القَرِيبِ إلّا في الِاسْتِنْصارِ في الدِّينِ، فَإنَّ تَرْكَ نَصْرِهِمْ يَجُرُّ إلى مَفْسَدَةٍ كَما أنَّ مُوالاتَهم تَجُرُّ إلى مَفاسِدَ؛ ثُمَّ اسْتَثْنى مِنَ الوُجُوبِ فَقالَ: ﴿إلا عَلى قَوْمٍ﴾ وقَعَ وكانَ ﴿بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ أيْ: لِأنَّ اسْتِنْصارَهم يُوقِعُ بَيْنَ مَفْسَدَتَيْنِ: تَرْكِ نُصْرَةِ المُؤْمِنِ ونَقْضِ العَهْدِ وهو أعْظَمُهُما، فَقُدِّمَتْ مُراعاتُهُ وتُرِكَتْ نُصْرَتُهُمْ، فَإنْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلى الكُفّارِ فَهو المُرادُ مِن غَيْرِ أنْ تُدَنِّسُوا بِنَقْضٍ، وإنْ نُصِرَ الكُفّارُ حَصَلَ لِمَن قُتِلَ مِن إخْوانِكُمُ الشَّهادَةُ ولِمَن بَقِيَ الضَّمانُ بِالكِفايَةِ، وكانَ ذَلِكَ داعِيًا لَهم إلى الهِجْرَةِ، ومَنِ ارْتَدَّ مِنهم أبْعَدَهُ اللَّهُ ولَنْ يَضُرَّ إلّا نَفْسَهُ واللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، فَقَدْ وقَعَ - كَما تَرى - تَقْسِيمُ المُؤْمِنِينَ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: أعْلاها المُهاجِرُ، ويَلِيهِ النّاصِرُ، وأدْناها القاعِدُ القاصِرُ، وبَقِيَ قِسْمٌ رابِعٌ يَأْتِي؛ قالَ أبُو حَيّانَ: فَبَدَأ بِالمُهاجِرِينَ - أيِ: الأوَّلِينَ - لِأنَّهم أصْلُ الإسْلامِ وأوَّلُ مَنِ اسْتَجابَ لِلَّهِ تَعالى، فَهاجَرَ قَوْمٌ إلى المَدِينَةِ، وقَوْمٌ إلى الحَبَشَةِ، وقَوْمٌ إلى ابْنِ ذِي يَزَنَ، ثُمَّ هاجَرُوا إلى المَدِينَةِ وكانُوا قُدْوَةً لِغَيْرِهِمْ في الإيمانِ وسَبَبَ تَقْوِيَةِ الدِّينِ «مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» وثَنّى بِالأنْصارِ لِأنَّهم ساوَوْهم (p-٣٤٤)فِي الإيمانِ وفي الجِهادِ بِالنَّفْسِ والمالِ، لَكِنَّهُ عادَلَ بِالهِجْرَةِ الإيواءَ والنُّصْرَةَ، وانْفَرَدَ المُهاجِرُونَ بِالسَّبْقِ، وذَكَرَ ثالِثًا مَن آمَنَ ولَمْ يَنْصُرْ، فَفاتَهم هاتانِ الفَضِيلَتانِ وحُرِمُوا الوِلايَةَ حَتّى يُهاجِرُوا، ثُمَّ قالَ: «آخى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ،» فَكانَ المُهاجِرِيُّ يَرِثُهُ أخُوهُ الأنْصارِيُّ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِالمَدِينَةِ ولِيٌّ مُهاجِرِيٌّ، ولا تَوارُثَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَرِيبِهِ المُسْلِمِ غَيْرِ المُهاجِرِيِّ، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: واسْتَمَرَّ أمْرُهم كَذَلِكَ إلى فَتْحِ مَكَّةَ. انْتَهى.
لَكِنْ ما ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ - كَما سَيَأْتِي - مِن أنَّ حُكْمَ ذَلِكَ زالَ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ أوْلى لِلْآيَةِ الآتِيَةِ آخِرَ السُّورَةِ مَعَ ما يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِن آيَةِ الأحْزابِ.
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فاللَّهُ بِمَصالِحِكم خَبِيرٌ، وكانَ لِلنُّفُوسِ دَواعٍ إلى مُناصَرَةِ الأقارِبِ والأحْبابِ ومُعاداةِ غَيْرِهِمْ خُفْيَةً، ولَها دَسائِسُ تُدْرَكُ، حَذَّرَ مِن ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: عاطِفًا عَلى هَذا المُقَدَّرِ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ: المُحِيطُ عِلْمًا وقُدْرَةً، ولَمّا كانَ السِّياقُ لِبَيانِ المَصالِحِ الَّتِي تُنَظِّمُ الدِّينَ وتَهْدِمُ ما عَداهُ، وكانَ لِلنُّفُوسِ - كَما تَقَدَّمَ - أحْوالٌ، اقْتَضى تَأْكِيدُ العِلْمِ بِالخَفايا فَقَدَّمَ الجارَّ الدّالَّ عَلى الِاخْتِصاصِ الَّذِي هو هُنا كِنايَةٌ عَنْ إحاطَةِ العِلْمِ فَقَطْ مُرَهِّبًا: ﴿بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وفي ذَلِكَ أيْضًا تَرْغِيبٌ في العَمَلِ بِما حَثَّ عَلَيْهِ مِنَ الإيمانِ والهِجْرَةِ والنُّصْرَةِ والإنْفاقِ والتَّحَرِّي (p-٣٤٥)فِي جَمِيعٍ مِن ذَلِكَ وتَرْهِيبٌ مِنَ العَمَلِ بِأضْدادِها، وفي“البَصِيرِ" إشارَةٌ إلى العِلْمِ بِما يَكُونُ مِن ذَلِكَ خالِصًا أوْ مَشُوبًا، فَفِيهِ مَزِيدُ حَثٍّ عَلى الإخْلاصِ.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِینَ ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوۤا۟ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یُهَاجِرُوا۟ مَا لَكُم مِّن وَلَـٰیَتِهِم مِّن شَیۡءٍ حَتَّىٰ یُهَاجِرُوا۟ۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ فَعَلَیۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقࣱۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق