الباحث القرآني

قوله: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ﴾ : «من» زائدة لوجود الشرطين، وهي مبتدأ، و «إلاَّ أمم» خَبَرُهَا مع ما عطف عليها. وقوله: «في الأرض» صفة ل «دابة» ، فيجوز لك أن تجعلها في مَحَلِّ جرِّ باعتبار اللفظ، وأ، تجعلها في محل رفع باعتبار الموضع. قوله: «ولا طائر» الجمهور على جرِّه نَسَقاً على لفظ «دابةٍ» . وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ برفعها نَسَقاً على موضعها. وقرأ ابن عبَّاس «ولا طيرٍ» من غير ألف، وقد تقدَّم الكلام فيه، هل هو جَمْعٌ أو اسم جمع؟ وقوله: «يطير» في قراءة الجمهور يَحْتَمِلُ أن يكون في مَحَلِّ جرّ باعتبار لَفْظِهِ، ويحتمل أن يكون في مَحَلِّ رفع باعتبار موضعه. وأمّا على قراءة ابن أبي عَبْلَةَ، ففي مَحَلِّ رفع ليس إلاّ. وفي قوله: «وَلاَ طَائر» ذكر خاصّ بعد عامِّ؛ لأن الدَّابَّةَ تشتمل على كُلِّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره، فهو كقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: 98] وفيه نظرح إذ المُقَابَلَةُ هنا تنفي أن تكون الدَّابة تشمل الطائر. قوله: «بِجِنَاحَيْهِ» فيه قولان: أحدهما: أن «الباء» متعلّقة ب «يطير» ، وتكون «الباء» للاسْتِعَانَةِ. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ، وهي حالٌ مؤكّدة كما يقال: «نظرت عيني» ، وفيها رفع مجازٍ يُتَوَهَّمُ؛ لأن الطَّيرانَ يُسْتَعَارُ في السرعة قال: [البسيط] 2156 - قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْةِ لَهُمْ ... طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ ووُحْدَانَا ويطلق الطَّيْرُ على العمل، قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13] . وقوله: «إلاّ أمم» خَبَرُ المبتدأ، وجُمِعَ وإن لم يتقدَّمهُ إلاَّ شيئان؛ لأن المراد بهما الجِنْسُ. و «أمثالكم» صفة ل «أمم» ، يعني في الأرزاقِ والآجالِ، والموت والحياة، والحشر والنشر والاقتصاص لمظلومها من طالمها. وقيل: في معرفة الله وعبادته. وقال مُجاهد: أصْنَافٌ مصنّفةٌ تُعْرَفُ بأسمائها، يريد أن كلّ جنسٍ من الحيوان أمَّةٌ: فالطير أمَّة، والدَّواوبُّ والسِّبَاع أمة تعرف بأسمائها مثل بَنِي آدَمَ يُعْرَفُون بأسمائهم، يقال: الإنس والناس، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أمَّةٌ من الأمَم لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا فاقْتُلُوا مِنْهَا أسْوَدَ بهيمٍ» . وقيل: أمثالكم يَفْقَهُ بعضهم عن بعض. * فصل في وجه النظم وجه النظم أنه - تعالى - بَيَّنَ في الآية أنَّه لو كان إنْزَالُ سائر المعجزات مَصْلَحَةً لهم لفعلها إلاَّ أنه لمَّا لم يَكُنْ إظهارها مَصْلَحَةً للمكلَّفين لم يظهرها، وهذا الجوابُ إنما يَتِمُّ إذا ثبت أنه تعالى يُرَاعي مصالحض المكلَّفين، ويَتفضَّلُ عليهم بذلك، فبيَّن ذلك وقرَّره بأن قال: «وما مِنْ دَابَّةٍ في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» في وصول فَضْلِ الله - تعالى وعنايتِهِ واصِلَةً إلى جميع الحيواناتِ، فلو كان إظهار هذه المُعْجِزَاتِ مَصْلَحةً للمكلفين لفعلها ولم يَبْخَلْ بها؛ لأنه لم يَبْخَلْ على شيءٍ من الحيوانات بمَصَالِحهَا ومَنَافعِهَا؛ يَدُلُّ ذلك على أنَّه - تعالى - لم يظهر تلك المعجزات؛ لأن إظهار يُخِلُّ بمصالح المكلّفين. وقال القاضي: إنّه - تعالى - لمّا قَدَّمَ ذكر الكُفَّار وبيَّن أنهم يرجعون إلى الله، ويحشرون - بيَّن أيضاً بعدهُ - بقوله: «وما من دابَّة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» - في أنهم يحشرون، والمقصود بيان أن الحَشْرَ والبَعْثَ كما هو حَاصِلٌ في حقكم، كذلك هو حاصل في حق البَهَائِمِ. * فصل في أسئلة على الآية والإجابة عنها حصر الحيوان في هاتين الصفتين، وهما: إمَّا أن يَدبّ، وإمّا أن يطير. وفي الآيات سُؤالاتٌ: الأول: من الحيوانات ما لا يَدْخُلُ في هذيْنِ القِسْمَيْنِ مثل حيتانِ البَحْرِ، وسائر ما يَسْبَحُ في الماءِ، ويعيش فيه. والجواب لا بعد أنْ يُوضَفَ بأنها دَابَّةٌ، من حيث إنها تَدبُّ في الماء؛ لأن سَبْحَهَا في الماء كَسَبْحِ الطير في الهواءِ، إلا أن وَصْفَهَا بالدَّبِّ أقرب إلى اللُّغَةِ من وصفها بالطيران. السؤال الثاني: ما الفَائِدَةُ في تقييد الدَّابَّةِ بكونها في الأرض؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أنَّه خَصَّ ما في الأرض بالذِّكْرِ دون ما في السماء احْتِجَاجاً بالأظْهَرِ؛ لأن ما في السماء وإن كان مَخْلُوقاً مثلنا فغير ظَاهِرٍ. والثاني: أن المقصود من ذِكْرِ هذا الكلام أن عناية الله لمَّا كانت حَاصِلَةً في هذه الحيوانات، فلو كان إظهارُ المعجزات القاهِرَةِ مَصْلَحَةً لما منع الله من إظهارها، وهذا المقْصُودُ إنما يَتِمُّ بذِكُرِ من كان أدْوَنَ مرتبة من الإنسان، لا بِذِكْرِ من كان أعْلَى حالاً منه، فلهذا المعنى قَيَّد الدَّابَّة بكونها في الأرض. السؤال الثالث: ما الفائدة ف قوله: «يطير بجَنَاحَيْهِ» مع أن كل طائر فإنما يطير بجناحيه؟ والجواب: ما تقدَّم من ذِكْرِ التوكيد أو رفع تَوَهُّمِ المجازِ. وقيل: إنه - تعالى [قال] في صفة الملائكة ﴿رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ﴾ [فاطر: 1] ، فذكر [هاهنا] قوله: «بِجَنَاحَيْهِ» ليخرج عنه الملائكة، لِمَا بينَّا أن المقصود من هذا لاكلامِ إنما يَتمُّ بذكر من كان أدْوَنَ حالاً من الإنسان لا بِذِكًرِ من كان أعْلَى منه. السؤال الرابع: كيف قال: «إلاَّ أممٌ» مع إفراد الدَّابَّةِ والطائر؟ والجواب: ما تقدَّم من إرادةِ الجِنْسِ. قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء﴾ : في المراد ب «الكتاب» قولان: الأول: المُرَاد به اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» وعلى هذا فالعموم ظاهرٌ، لأن الله - تعالى - أثْبَتَ ما كان وما يكون فيه. والثاني: المراد به القرآن؛ لأنَّ الألف واللام إذا دخلا على الاسم المُفْرَدِ انْصَرَفَ إلى المفهوم السَّابق، وهو في هذه الآية القرآن. وعلى هذا فهل العُمُومُ بَاقٍ؟ منهم من قال: نعم إن جميع الأشياء مُثْبَتَةٌ في القرآن إمَّا بالصريح، وإمَّا بالإيمَاءِ. فإن قيل: كيف قال الله تعالى: «ما فرّطنا في الكتاب من شيء» مع أنه ليس فيه تَفَاصيل علم الطب وعلم الحِسَاب، ولا تَفَاصِيلُ كثيرٍ من المباحثِ والعلوم، ولا تفاصيل مذاهبِ النَّاسِ، ودلائلهم في علم الأصولِ والفروع؟ والجواب أن قوله «ما فرطنا في الكتاب من شيء» يجب أن يكون مَخْصُوصاً ببيانِ الأشياءِ التي يجب مَعْرَفَتُهَا والإحَاطَةُ بها، واعلم أن علم الأصُول مَوْجُودٌ بتمامه في القرآن على أبْلَغِ الوجوه، وأما تفاصِلُ الأقاويل والمذاهب، فلا حاجة إليها. وأمّا تفاصيل الفروع فالعُلَمَاءُ قالوا: إن القرآن دَلَّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّةٌ في الشريعة، وإذا كان كذلك فَكُلُّ ما دَلَّ عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن قال تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: 7] . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «عِلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي» . وروي أن ابن مِسْعُودٍ كان يقول: «مَا لِي لاَ ألْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» يعني: الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، والوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، وري أنَّ امرأة قرأت جميع القرآن ثم أتَتْهُ فقالت: يا ابن أمّ عَبْدٍ، تَلَوْتُ البارحة ما بين الدَّفَّتيْنِ، فلم أحد فيه لَعْنَ الواشمة، والمستوشمة، فقال: لو تَلَوْتيه لوجدْتيهِ، قال تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: 7] ، وإن مما أتانا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قال: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ» . وقال ابن الخطيب: يمكن وجدانُ هذا المعنى في كتاب الله في قوله تعالى في سورة «النساء» حين عَدَّدَ قبائح الشيطان قال: ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ [النساء: 119] فَظَاهِرُ هذه الآية يقتضي أن تغيير الخَلْقِ يوجب اللَّعْنَ. وذكر الواحدي أن الشَّافعي جلس ف يالمسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شَيْءٍ إلاّ أجبتكم فيه من كتاب الله، فقال رجل: ما تقول في المُحْرِمِ إذا قتل الزَّنْبُورَ؟ ، فقال: لا شَيْءَ عليه، فقال: أين هذا في كتاب الله؟ ، فقال: قال الله تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7] ، ثم ذكر سَنَداً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي» ثم ذكر إسْنَاداً إلى عُمَرَ أنه قال: «لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزَّنْبُورِ» . قال الواحديُّ: فأجابه من كتاب الله مُسْتنبطاً بثلاث درجات، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث العسيفِ: «والَّذي نَفْسِي بِيدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ» ثم قضى بالجَلْدِ والتَّغْرِيبِ على العسيفِ، وبالرجم على المَرْأةِ إذا اعترافت. قال الواحدي: وليس لِلْجَلْدِ والتَّغْريبِ ذكرٌ في نَصِّ الكتاب، وهذا يَدُلُّ على أن ما جاءكم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو عَيْنُ كتاب الله. قال تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44] ، وعند هذا يَصِحُّ قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء﴾ والله أعلم. وقال بعضهم: إن هذا عامُّ أُرِيدَ به الخُصوصُ، والمعنى ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفُونَ. قوله: «من شيءٍ» فيه ثلاثةُ أوجه: أحدهما: أن «مِنْ» زائدة في المفعول به، والتقدير: ما فرَّطْنا شَيْئاً، وتضمن «فرطنا» معنى تركنا وأغفَلْنَا، والمعنى ما أغفلنا، ولا تركنا شيئاً. والثاني: أن «مِنْ» تَبْعيضيَّةٌ، أي: ما تركنا ولا أغْفَلْنَا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المُكَلِّفُ. الثالث: أن «من شيء» في مَحَلِّ نصب على المصدرِ، و «من» زائدة فيه أيضاً. ولم يُجزْ أبو البقاء غيره، فإنه قال: «من» زائدة، و «شيء» هنا واقع موقع المصدرِ، أي تفريطاً. وعلى هذا التَّأويل لا يبقى في الآيو حُجَّةٌ لمن ظنَّ أن الكتاب يحتوي على ذِكْرِ كل شيء صَريحاً، ونظير ذلك: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ [آل عمران: 120] . ولا يجوز أن يكون ب «في» ، فلا يتعدَّى بحرف آخر، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء؛ لأن المَعْنَى على خلافه، فبان أن التأويل ما ذكرنا. انتهى. قوله: «يحتوي على ذِكْرِ كل شيء صريحاً» لم يقل به أحدٌ؛ لأنه مُكَابرةٌ في الضروريات. وقرأ الأعرج وعلقمة: «فَرَطْنَا» مُخَفَّفاً، فقيل: هما بِمَعْنَى وعن النقاش: فَرَطنا: أخَّرْنا، كما قالوا: «فرط الله عنك المرض» أي: أزاله. قوله: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون﴾ : قال ابن عبَّاسٍ، والضحاك: حشرها موتها. وقال أبو هريرة: يحشر الله الخَلْقَ كلهم يوم القيامةِ الإنس والجن والبهائم والدَّوَابَّ والطير وكُلَّ شيء، فيأخذ للجمَّاءِ من القَرْنَاءِ، ثم يقول كوني تُراباً، فحينئذٍ يَتَمَنَّى الكافر ويقول: ﴿ياليتني كُنتُ تُرَابا﴾ [النبأ: 40] ، ويتأكد هذا بقوله: ﴿وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ﴾ [التكوير: 5] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب