الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾
أي لا يعلمون حكمته تعالى ومصلحة عباده في الامتناع من إنزال الآيات التي يقترحها الناس على الأنبياء وليس المراد أن أكثر الناس لا يعلمون أن الله قادر فإنه لم ينازع في قدرة الله أحد من المقرين بوجوده سبحانه ولكن حكمته في ذلك لا يعلمها أكثر الناس.
* (فائدة)
ومن فهم هذا فهم سر اقتران قوله تعالى: ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكم ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ بقوله تعالى: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾
وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة وأن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه بل جعلها أمما وهداها إلى غاياتها ومصالحها وكيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم فهذه أحد أنواع الهداية وأعمها.
* (فصل)
قال ابن عباس في رواية عطاء: ": ﴿إلاَّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ﴾ يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني" مثل قوله تعالى: ﴿وَإنْ مِن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾ ومثل قوله: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ والطَّيْرُ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوُابّ﴾ وقوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ﴾ ويدل عليه قوله تعالى: ﴿يا جِبالُ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ﴾ ويدل عليه قوله: ﴿وَأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْل﴾ وقوله: ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ يا أيُّها النَّمْلُ﴾ وقول سليمان: ﴿عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ وقال مجاهد: " ﴿أمم أمثالكم﴾ أصناف مصنفة تعرف بأسمائها"
وقال الزجاج: " ﴿أمم أمثالكم﴾ في أنها تبعث"
وقال ابن قتيبة: " ﴿أمم أمثالكم﴾ في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك"
وقال سفيان بن عيينة: "ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم"
فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام عافته فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمه لم يحفظ واحدة منها وإن أخطأ رجل ترواه وحفظه.
قال الخطابي: "ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة" وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعا لظاهره وجب المصير إلى باطنه وقد أخبر الله عن وجود المماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة وعدم من جهة النطق والمعرفة فوجب أن يكون منصرفا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك انتهى كلامه والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبا محتالا وبعضها متوكلا غير محتال وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقا مضمونا وأمرا مقطوعا وبعضها يدخر وبعضها لا تكسب له وبعض الذكورة يعول ولده وبعضها لا يعرف ولده ألبتة، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه، وجعل بعض الحيوانات يتمها من قبل أمهاتها وبعضها يتمها من قبل آبائها وبعضها لا يلتمس الولد وبعضها يستفرغ الهم في طلبه وبعضها يعرف الإحسان ويشكره وبعضها ليس ذلك عنده شيئا وبعضها يؤثر على نفسه وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحدا يدنو منه وبعضها يحب السفاد ويكثر منه وبعضها لا يفعله في السنة إلا مرة وبعضها يقتصر على أنثاه وبعضها لا يقف على أنثى ولو كانت أمه أو أخته وبعضها لا تمكن غير زوجها من نفسها وبعضها لا ترد يد لامس وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار وبعضها لا يأكل إلا الطيب وبعضها لا يأكل إلا الخبائث وبعضها يجمع بين الأمرين وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها وبعضها يؤذي من لا يؤذيها وبعضها حقود لا تنسى الإساءة وبعضها لا يذكرها ألبتة وبعضها لا يغضب وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يسترضى حتى يرضى وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك ألبتة وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده وبعضها يقبل التعليم بسرعة وبعضها مع الطول وبعضها لا يقبل ذلك بحال وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته فإن فيما أودعها من غرائب المعارف وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثا ولم يترك سدى وأن له سبحانه في كل مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهانا قاطعا يدل على أنه رب كل شيء ومليكه وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم.
* (فصل)
وقد اختلف في الكتاب هاهنا هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ على قولين فقالت طائفة المراد به القرآن وهذا من العام المراد به الخاص أي ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه كقوله: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ ويجوز أن يكون من العام المراد به عمومه والمراد أن كل شيء ذكر فيه مجملا ومفصلا كما قال ابن مسعود: "وقد لعن الواصلة والمستوصلة ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه فقالت امرأة لقد قرأت القرآن فما وجدته فقال إن كنت قرأتيه فقد وجدته قال تعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ ولعن رسول الله ﷺ الواصلة والمستوصلة"
وقال الشافعي ما نزل بأحد من المسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الدلالة عليها.
وقالت طائفة المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس وكان هذا القول أظهر في الآية والسياق يدل عليه فإنه قال: ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكُم﴾
وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأكل والتقدير الأول وأنها لم تخلق سدى بل هي معبدة مذللة قد قدر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ثم قال إلى ربهم يحشرون فذكر مبدأها ونهايتها وأدخل بين هاتين الحالتين قوله: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ أي كلها قد كتبت وقدرت وأحصيت قبل أن توجد فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي وإنما يناسب ذكر الكتاب الأول.
ولمن نصر القول الأول أن يجيب عن هذا بأن في ذكر القرآن هاهنا الإخبار عن تضمنه لذكر ذلك والإخبار به فلم نفرط فيه من شيء بل أخبرناكم بكل ما كان وما هو كائن إجمالا وتفصيلا ويرجحه أمر آخر وهو أن هذا ذكر عقيب قوله: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ فنبههم على أعظم الآيات وأدلها على صدق رسول الله ﷺ وهو الكتاب الذي يتضمن بيان كل شيء ولم يفرط فيه من شيء ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السماوات والأرض وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق وكمال قدرته وعلمه وسعة ملكه وكثرة جنوده والأمم التي يحصيها غيره وهذا يتضمن أنه لا إله غيره ولا رب سواه وأنه رب العالمين فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلامه فهذا استدلال بأمره وذاك بخلقه: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾.
وشهد لهذا أيضا قوله: ﴿وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وإنَّما أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
ولمن نصر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أن يقول لما سألوا آية أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك فإنه قادر على ذلك وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم وإحسانه إليهم أذلوا أنزلها على وفق اقتراحهم لعوجلوا بالعقوبة أن لم يؤمنوا ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة التي لا يحصي عددها إلا هو فمن قدر على خلق هذه الأمم مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها كيف يعجز عن إنزال آية ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأن هؤلاء الأمم قد أحصاهم وكتبهم وقدر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من شيء ثم يميتهم ثم يحشرهم إليه والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات عن النظر والاعتبار الذي يؤديهم إلى معرفة ربوبيته ووحدانيته وصدق رسله ثم أخبر أن الآيات لا تستقل بالهدى ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر بل الأمر كله له من يشأ يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فهو أظهر القولين والله أعلم.
* (فصل)
قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّ هَذِهِ القُلُوبَ جَوّالَةٌ، فَمِنها ما يَجُولُ حَوْلَ العَرْشِ، ومِنها ما يَجُولُ حَوْلَ الحُشِّ.
مَسْخُ القَلْبِ
وَمِنها: مَسْخُ القَلْبِ، فَيُمْسَخُ كَما تُمْسَخُ الصُّورَةُ، فَيَصِيرُ القَلْبُ عَلى قَلْبِ الحَيَوانِ الَّذِي شابَهَهُ في أخْلاقِهِ وأعْمالِهِ وطَبِيعَتِهِ، فَمِنَ القُلُوبِ ما يُمْسَخُ عَلى قَلْبِ خِنْزِيرٍ لِشِدَّةِ شَبَهِ صاحِبِهِ بِهِ، ومِنها ما يُمْسَخُ عَلى قَلْبِ كَلْبٍ أوْ حِمارٍ أوْ حَيَّةٍ أوْ عَقْرَبٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وهَذا تَأْوِيلُ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكُمْ﴾ [الأنعام: ٣٨].
قالَ: مِنهم مَن يَكُونُ عَلى أخْلاقِ السِّباعِ العادِيَةِ، ومِنهم مَن يَكُونُ عَلى أخْلاقِ الكِلابِ وأخْلاقِ الخَنازِيرِ وأخْلاقِ الحَمِيرِ، ومِنهم مَن يَتَطَوَّسُ في ثِيابِهِ كَما يَتَطَوَّسُ الطّاوُوسُ في رِيشِهِ، ومِنهم مَن يَكُونُ بَلِيدًا كالحِمارِ، ومِنهم مَن يُؤْثِرُ عَلى نَفْسِهِ كالدِّيكِ، ومِنهم مِن يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ كالحَمامِ، ومِنهُمُ الحَقُودُ كالجَمَلِ، ومِنهُمُ الَّذِي هو خَيْرٌ كُلُّهُ كالغَنَمِ، ومِنهم أشْباهُ الثَّعالِبِ الَّتِي تَرُوغُ كَرَوَغانِها، وقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ تَعالى أهْلَ الجَحِيمِ والغَيِّ بِالحُمُرِ تارَةً، وبِالكَلْبِ تارَةً، وبِالأنْعامِ تارَةً، وتَقْوى هَذِهِ المُشابَهَةُ باطِنًا حَتّى تَظْهَرَ في الصُّورَةِ الظّاهِرَةِ ظُهُورًا خَفِيًّا، يَراهُ المُتَفَرِّسُونَ، وتَظْهَرُ في الأعْمالِ ظُهُورًا يَراهُ كُلُّ أحَدٍ، ولا يَزالُ يَقْوى حَتّى تُسْتَشْنَعَ الصُّورَةُ، فَتَنْقَلِبُ لَهُ الصُّورَةُ بِإذْنِ اللَّهِ، وهو المَسْخُ التّامُّ، فَيَقْلِبُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى الصُّورَةَ الظّاهِرَةَ عَلى صُورَةِ ذَلِكَ الحَيَوانِ، كَما فَعَلَ بِاليَهُودِ وأشْباهِهِمْ، ويَفْعَلُ بِقَوْمٍ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ يَمْسَخُهم قِرَدَةً وخَنازِيرَ.
فَسُبْحانَ اللَّهِ! كَمْ مِن قَلْبٍ مَنكُوسٍ وصاحِبُهُ لا يَشْعُرُ؟ وقَلْبٍ مَمْسُوخٍ وقَلْبٍ مَخْسُوفٍ بِهِ؟ وكَمْ مِن مَفْتُونٍ بِثَناءِ النّاسِ عَلَيْهِ ومَغْرُورٍ بِسِتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ ومُسْتَدْرَجٍ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ وكُلُّ هَذِهِ عُقُوباتٌ وإهاناتٌ ويَظُنُّ الجاهِلُ أنَّها كَرامَةٌ.
* (فصل آخر)
مِنَ النُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ ما هي عَلى نُفُوسِ الحَيَواناتِ العادِيَّةِ وغَيْرِها، وهَذا هو تَأْوِيلُ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكم ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨].
وَعَلى هَذا الشَّبَهِ اعْتِمادُ أهْلِ التَّعْبِيرِ لِلرُّؤْيا في رُؤْيَةِ هَذِهِ الحَيَواناتِ في المَنامِ عِنْدِ الإنْسانِ وفي دارِهِ، أوْ أنَّها تُحارِبُهُ، وهو كَما اعْتَمَدُوهُ، وقَدْ وقَعَ لَنا ولِغَيْرِنا مِن ذَلِكَ في المَنامِ وقائِعُ كَثِيرَةٌ فَكانَ تَأْوِيلُها مُطابِقًا لِأقْوامٍ عَلى طِباعِ تِلْكَ الحَيَواناتِ، وقَدْ رَأى النَّبِيُّ ﷺ في قِصَّةِ أُحُدٍ بَقَرًا تُنْحَرُ فَكانَ مَن أُصِيبُ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِنَحْرِ الكُفّارِ، فَإنَّ البَقَرَ أنْفَعُ الحَيَواناتِ لِلْأرْضِ وبِها صَلاحُها وفَلاحُها مَعَ ما فِيها مِنَ السَّكِينَةِ والمَنافِعِ والذِّلِّ بِكَسْرِ الذّالِ فَإنَّها ذَلُولٌ مُذَلَّلَةٌ مُنْقادَةٌ غَيْرُ أبِيَّةٍ، والجَوامِيسُ كِبارُهم ورُؤَساؤُهُمْ، رَأى عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ كَأنَّ دِيكًا نَقَرَهُ ثَلاثَ نَقَراتٍ فَكانَ طَعْنَ أبِي لُؤْلُؤَةَ لَهُ، والدِّيكُ رَجُلٌ أعْجَمِيٌّ شِرِّيرٌ.
وَمِنَ النّاسِ مَن طَبْعُهُ طَبْعُ خِنْزِيرٍ يَمُرُّ بِالطَّيِّباتِ فَلا يَلْوِي عَلَيْها، فَإذا قامَ الإنْسانُ عَنْ رَجِيعِهِ قَمَّهُ، وهَكَذا كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَسْمَعُ مِنكَ ويَرى مِنَ المَحاسِنِ أضْعافَ أضْعافِ المَساوِئِ فَلا يَحْفَظُها ولا يَنْقُلُها ولا تُناسِبُهُ، فَإذا رَأى سَقْطَةً أوْ كَلِمَةً عَوْراءَ وجَدَ بُغْيَتَهُ وما يُناسِبُها فَجَعَلَها فاكِهَتَهُ ونُقْلَهُ.
وَمِنهم مَن هو عَلى طَبِيعَةِ الطّاوُسِ لَيْسَ لَهُ إلّا التَّطَوُّسُ والتَّزَيُّنُ بِالرِّيشِ ولَيْسَ وراءَ ذَلِكَ مِن شَيْءٍ.
وَمِنهم مَن هو عَلى طَبِيعَةِ الجَمَلِ أحْقَدِ الحَيَوانِ، وأغْلَظِهِ كَبِدًا.
وَمِنهم مَن هو عَلى طَبِيعَةِ الدُّبِّ أبْكَمُ خَبِيثٌ وعَلى طَبِيعَةِ القِرْدِ.
وَأحْمَدُ طَبائِعِ الحَيَواناتِ طَبائِعُ الخَيْلِ الَّتِي هي أشْرَفُ الحَيَواناتِ نُفُوسًا، وأكْرَمُها طَبْعًا وكَذَلِكَ الغَنَمُ، وكُلُّ مَن ألِفَ ضَرْبًا مِن ضُرُوبِ هَذِهِ الحَيَواناتِ اكْتَسَبَ مِن طَبْعِهِ وخُلُقِهِ، فَإنْ تَغَذّى بِلَحْمِهِ كانَ الشَّبَهُ أقْوى فَإنَّ الغاذِيَ شَبِيهٌ بِالمُغْتَذى.
وَلِهَذا حَرَّمَ اللَّهُ أكْلَ لُحُومِ السِّباعِ وجَوارِحِ الطَّيْرِ لِما تُورِثُ آكِلَها مِن شِبْهِ نُفُوسِها بِها، واللَّهُ أعْلَمُ.
والمَقْصُودُ أنَّ أصْحابَ هَذا المَشْهَدِ لَيْسَ لَهم شُهُودٌ سِوى مِثْلِ نُفُوسِهِمْ وشَهَواتِهِمْ لا يَعْرِفُونَ ما وراءَ ذَلِكَ ألْبَتَّةَ.
{"ayahs_start":37,"ayahs":["وَقَالُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰۤ أَن یُنَزِّلَ ءَایَةࣰ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ","وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرࣲ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءࣲۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ"],"ayah":"وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرࣲ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءࣲۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق