الباحث القرآني

ولَمّا عَجِبَ مِنهم في قَوْلِهِمْ هَذا الَّذِي يَقْتَضِي أنَّهم لَمْ يَرَوْا [لَهُ] آيَةً قَطُّ بَعْدَ ما جاءَهم مِنَ الآياتِ الخاصَّةِ بِهِ ما مَلَأ الأقْطارَ، ورَدَّ إلى الصُّمِّ الأسْماعَ، وأنارَ مِنَ العُمْيِ الأبْصارَ؛ ذَكَّرَهم بِآيَةٍ غَيْرِ آيَةِ القُرْآنِ تَشْتَمِلُ عَلى آياتٍ مُسْتَكْثَرَةٍ كافِيَةٍ لِصَلاحِهِمْ، رَتَّبَها – سُبْحانَهُ - (p-١٠٥)قَبْلَ سُؤالِهِمْ تَفَضُّلًا مِنهُ عَلَيْهِمْ دالَّةً عَلى باهِرِ قُدْرَتِهِ عَلى البَعْثِ وغَيْرِهِ مِنَ الآياتِ الَّتِي طَلَبُوها وغَيْرِها وعَلى تَفَرُّدِهِ بِجَمِيعِ الأمْرِ، إذا تَأمَّلُوها حَقَّ تَأمُّلِها كَفَتْهم في جَمِيعِ ما يُرادُ مِنهم، فَقالَ تَعالى: ﴿وما﴾ أيْ: قالُوا ذَلِكَ والحالُ أنَّهُ ما، وهي ناظِرَةٌ أتَمَّ نَظَرٍ إلى قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ﴾ [الأنعام: ٢] أيْ: فَعَلَ ذَلِكَ بِكم وما ﴿مِن دابَّةٍ في الأرْضِ﴾ أيْ: تَدُبُّ أيْ: تَنْتَقِلُ بِرِجْلٍ وغَيْرِ رِجْلٍ ﴿ولا طائِرٍ يَطِيرُ﴾ وقَرَّرَ الحَقِيقَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿بِجَناحَيْهِ﴾ وشَمِلَ ذَلِكَ جَمِيعَ الحَيَوانِ حَتّى ما في البَحْرِ؛ لِأنَّ سَيْرَها في الماءِ إمّا أنْ يَكُونَ دَبِيبًا أوْ طَيَرانًا مَجازًا. ولَمّا كانَ المُرادُ بِالدّابَّةِ والطّائِرِ الِاسْتِغْراقُ - قالَ: ﴿إلا أُمَمٌ﴾ أيْ: يَقْصِدُ مِنها في نَفْسِهِ، ويَقْصِدُ هو نَوْعَهُ ويَنْضَمُّ إلى شَكْلِهِ ﴿أمْثالُكُمْ﴾ أيْ: في ذَلِكَ وفي أنّا خَلَقْناكم ولَمْ يَكُونُوا شَيْئًا وحَفِظْنا جَمِيعَ أحْوالِهِمْ، وقَدَّرْنا كُلَّ أرْزاقِهِمْ وآجالِهِمْ، وجَعَلْنا لَكم فِيهِمْ أحْكامًا جَدَّدْناها لَكم، وجَعَلْنا لِكُلٍّ مِنهم أجَلًا لِلْمَوْتِ لا يَتَعَدّاهُ بَعْدَ أنْ فاوَتْنا بَيْنَهم في الحَياةِ، ولِلْكُلِّ أجَلٌ في عِلْمِنا في البَرْزَخِ مُثْبَتٌ قَبْلَ أنْ نَخْلُقَهم، لا يَنْقُصُ ذَرَّةً ولا يَزِيدُ خَرْدَلَةً، وجَعَلْنا في هَذِهِ الحَيَواناتِ ما هو أقْوى مِنكم وما هو أضْعَفُ، وجَعَلْناكم أقْوى مِنَ الجَمِيعِ بِالعَقْلِ، ولَوْ شِئْنا لَجَعَلْنا لَهُ بَيْنَ قُوَّةِ البَدَنِ والعَقْلِ، ورُبَّما سَلَّطْنا الأضْعَفَ عَلَيْكم كالجَرادِ والفَأْرِ والدُّودِ بِما تَعْجِزُ عَنْهُ عُقُولُكم، ولَوْ شِئْنا لَسَلَّطْنا عَلَيْكم مِن أضْعَفِها خَلْقًا - البَعُوضَ - (p-١٠٦)ما أخَذَ بِأنْفاسِكم ومَنَعَكم القَرارَ وأخْرَجَكم عَنْ حَرَكاتِ الِاخْتِيارِ إلى أنْ أهْلَكَكم جَمِيعًا هَلاكَ نَفْسٍ واحِدَةٍ - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أُمُورٍ تَكِلُّ عَنْها العُقُولُ وتَقِفُ دُونَها نَوافِذُ الفِكْرِ، وهَذا كُلُّهُ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ما فَرَّطْنا﴾ أيْ: تَرَكْنا وأغْفَلْنا لِما لَنا مِنَ القُدْرَةِ الكامِلَةِ والعِلْمِ الشّامِلِ ﴿فِي الكِتابِ﴾ أيْ: اللَّوْحِ المَحْفُوظِ والقُرْآنِ، وأعْرَقَ في النَّفْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن شَيْءٍ﴾ أيْ: لِيَذْهَبَ ذِكْرُهُ كَما يَذْهَبُ العِقْدُ الَّذِي يَنْقَطِعُ سِلْكُهُ فَيَتَفَرَّطُ، بَلْ ذَكَرْنا جَمِيعَ أحْوالِ خَلْقِنا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والمَلائِكَةِ وغَيْرِهِمْ مِن كُلِّ ناطِقٍ وصامِتٍ، فَصارَتْ في غايَةِ الضَّبْطِ حَتّى إنَّ الحَفَظَةَ يَعْرِضُونَ ما يَحْدُثُ مِن عَمَلِ المُكَلَّفِينَ وغَيْرِهِ آخِرَ النَّهارِ عَلى ما كانَ مُثْبَتًا في أُمِّ الكِتابِ فَيَجِدُونَهُ كَما هو، لا يَزِيدُ شَيْئًا ولا يَنْقُصُ، فَيَزْدادُونَ إيمانًا، وأثْبَتْنا في هَذا القُرْآنِ مَجامِعَ الأُمُورِ، فَهو تِبْيانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأحْكامِ الأصْلِيَّةِ والفَرْعِيَّةِ والدِّلالاتِ عَلى كُلِّ ذَلِكَ وأخْبارِ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ وكُلِّ عِلْمٍ يُمْكِنُ أنْ يَحْتاجَهُ المَخْلُوقُ، فَمَن أرادَ الهِدايَةَ هَداهُ بِدَقِيقِ أسْرارِهِ، ومَن أعْرَضَ أوْقَعَهُ في الرَّدى، وعَمِيَ حَتّى عَنْ واضِحِ أنْوارِهِ، والآيَةُ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٤] إلى أنْ قالَ: ”وبَثّ فِيها مِن كُلِّ دابَّة - لِآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ“ .(p-١٠٧) ؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ أفَلا يَكُونُ لَكم في ذَلِكَ آياتٌ تُغْنِيكم عَنْ إرْسالِ الرُّسُلِ فَضْلًا عَنْ أنْ تَتَوَقَّفُوا بَعْدَ إرْسالِهِمْ ولا تَرْضَوْا مِنهم مِن خَوارِقِ العاداتِ إلّا بِما تَقْتَرِحُونَهُ. ولَمّا أشارَ إلى ما شارَكَ فِيهِ سائِرَ الحَيَوانِ لِلْآدَمِيِّينَ مِن أحْوالِ الحَياةِ وغَيْرِها، نَصَّ عَلى الحَشْرِ الَّذِي هو مَحَطُّ الحِكْمَةِ، فَقالَ: ﴿ثُمَّ﴾ أيْ: بَعْدَ طُولِ الحَياةِ والإقامَةِ في البَرْزَخِ ﴿إلى رَبِّهِمْ﴾ أيْ: خاصَّةً، [وبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ عَلى طَرِيقِ كَلامِ القادِرِينَ قَوْلُهُ]: ﴿يُحْشَرُونَ﴾ [أيْ: يُجْمَعُونَ كَرْهًا] بَعْدَ أنْ يُعِيدَهم كُلَّهم كَما بَدَأهم، ويُنْصِفَ كُلَّ مَظْلُومٍ مِنهم مِن ظالِمِهِ، كُلُّ ذَلِكَ [عَلَيْهِ] هَيِّنٌ ﴿ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ [لقمان: ٢٨] والكُلُّ مَحْفُوظُونَ في كِتابٍ مُبِينٍ عَلى اخْتِلافِ أنْواعِهِمْ وتَبايُنِ حَقائِقِهِمْ وأشْخاصِهِمْ وزِيادَتِهِمْ في الجِدِّ عَلى أنْ يُوَجِّهَ نَحْوَهم العَدَّ - سُبْحانَ مَن أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وأحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ، وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب