الباحث القرآني
﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكُمْ﴾ . قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: (p-١١٩)ومَوْضِعُ الِاحْتِجاجِ مِن هَذِهِ الآيَةِ؛ أنَّ اللَّهَ رَكَّبَ في المُشْرِكِينَ عُقُولًا، وجَعَلَ لَهم أفْهامًا ألْزَمَهم بِها أنْ يَتَدَبَّرُوا أمْرَ الرَّسُولِ ﷺ، كَما جَعَلَ لِلدَّوابِّ والطَّيْرِ أفْهامًا، يَعْرِفُ بِها بَعْضُها إشارَةَ بَعْضٍ، وهَدى الذَّكَرَ مِنها لِإتْيانِ الأُنْثى، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى نَفاذِ قُدْرَةِ المُرَكِّبِ ذَلِكَ فِيها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ؛ التَّنْبِيهُ عَلى آياتِ اللَّهِ المَوْجُودَةِ في أنْواعِ مَخْلُوقاتِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَما الغَرَضُ في ذِكْرِ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ: الدَّلالَةُ عَلى عِظَمِ قُدْرَتِهِ، ولُطْفِ عِلْمِهِ، وسَعَةِ سُلْطانِهِ، وتَدْبِيرِهِ تِلْكَ الخَلائِقَ المُتَفاوِتَةَ الأجْناسِ المُتَكاثِرَةَ الأصْنافِ، وهو لِما لَها، وما عَلَيْها مُهَيْمِنٌ عَلى أحْوالِها، لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وأنَّ المُكَلَّفِينَ لَيْسُوا مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ دُونَ مَن عَداهم مِن سائِرِ الحَيَوانِ. انْتَهى.
والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ هَؤُلاءِ قَوْلَهم ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ [الأنعام: ٣٧]، ولَمْ يَعْتَبِرُوا ما نَزَلَ مِنَ الآياتِ، وأُجِيبُوا بِأنَّ القُدْرَةَ صالِحَةٌ لِإنْزالِ آيَةٍ، وهي الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوها، ونُبِّهُوا عَلى جَهْلِهِمْ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ آيَةٍ وآيَةٍ، أُخْبِرُوا أنَّهم أنْفُسَهم، وجَمِيعَ الحَيَوانِ غَيْرَهم مُتَماثِلُونَ في تَعَلُّقِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ بِالجَمِيعِ، فَلا فَرْقَ بَيْنَ خَلْقِ مَن كُلِّفَ، وما لَمْ يُكَلَّفْ في تَعَلُّقِ القُدْرَةِ بِهِما، وإبْرازِهِما مِن صَرْفِ العَدَمِ إلى صَرْفِ الوُجُودِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: القُدْرَةُ تَعَلَّقَتْ بِالآياتِ كُلِّها مُقْتَرَحِها وغَيْرِ مُقْتَرَحِها، كَما تَعَلَّقَتْ بِخَلْقِكم، وخَلْقِ سائِرِ الحَيَوانِ، فالإمْكانُ هو الجامِعُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ؛ ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿إلّا أُمَمٌ أمْثالُكُمْ﴾ يَعْنِي في تَعَلُّقِ القُدْرَةِ بِإيجادِها، كَتَعَلُّقِها بِإيجادِكم، وكَذَلِكَ الآياتُ. وفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّ الآياتِ الوارِدَةَ عَلى أيْدِي الأنْبِياءِ، عَلَيْهِمُ السَّلامُ، قَدْ تَكُونُ بِاخْتِراعِ أعْيانٍ، كالماءِ الَّذِي نَبَعَ مِن بَيْنِ الأصابِعِ، والطَّعامِ الَّذِي تَكَثَّرَ مِن قَلِيلٍ، كَما أنَّ المَخْلُوقاتِ هي أعْيانٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعالى، وكَأنَّ النِّسْبَةَ بِمُماثَلَةِ الحَيَوانِ لِلْإنْسانِ دُونَ ذِكْرِ الجَمادِ ودُونَ ذِكْرِ ما يَعُمُّها مِن حَيْثُ قُوَّةُ المُماثَلَةِ في الشُّعُورِ بِالأشْياءِ، والِاهْتِداءِ إلى كَثِيرٍ مِنَ المَصالِحِ، بِخِلافِ الجَمادِ، وإنْ كانَتِ القُدْرَةُ مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ المَخْلُوقاتِ. ودابَّةٌ تَقَدَّمَ شَرْحُها، وهي هُنا في سِياقِ النَّفْيِ مَصْحُوبَةً بِـ (مِنِ) الَّتِي تُفِيدُ اسْتِغْراقَ الجِنْسِ، فَهي عامَّةٌ تَشْمَلُ كُلَّ ما يَدُبُّ، فَيَنْدَرِجُ فِيها الطّائِرُ، فَذِكْرُ الطّائِرِ بَعْدَ ذِكْرِ الدّابَّةِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وذِكْرُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، وصارَ مِن بابِ التَّجْرِيدِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البقرة: ٩٨]، بَعْدَ ذِكْرِ المَلائِكَةِ. وإنَّما جُرِّدَ الطّائِرُ؛ لِأنَّ تَصَرُّفَهُ في الوُجُودِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانِ، أبْلَغُ في القُدْرَةِ، وأدَلُّ عَلى عِظَمِها مِن تَصَرُّفِ غَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانِ في الأرْضِ، إذِ الأرْضُ جِسْمٌ كَثِيفٌ يُمْكِنُ تَصَرُّفُ الأجْرامِ عَلَيْها، والهَواءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ، لا يُمْكِنُ عادَةً تَصَرُّفُ الأجْرامِ الكَثِيفَةِ فِيها، إلّا بِباهِرِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿ألَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللَّهُ﴾ [النحل: ٧٩] . وجاءَ قَوْلُهُ في الأرْضِ إشارَةً إلى تَعْمِيمِ جَمِيعِ الأماكِنِ. لَمّا كانَ لَفْظُ مِن دابَّةٍ، وهو المُتَصَرِّفُ أتى بِالمُتَصَرَّفِ فِيهِ عامًّا، وهو الأرْضُ، وتَشْمَلُ الأرْضُ البَرَّ والبَحْرَ. ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: (ولا طائِرٍ) لِأنَّهُ لا طائِرَ إلّا يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ؛ ولِيَرْفَعَ المَجازَ الَّذِي كانَ يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ: (ولا طائِرٍ)، لَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، ألا تَرى إلى اسْتِعارَةِ الطّائِرِ لِلْعَمَلِ في قَوْلِهِ: ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] ؟ وقَوْلِهِمْ: طارَ لِفُلانٍ كَذا في القِسْمَةِ؛ أيْ سَهْمُهُ. وطائِرُ السَّعْدِ والنَّحْسِ. وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى تَصَوُّرِ هَيْئَتِهِ عَلى حالَةِ الطَّيَرانِ، واسْتِحْضارٌ لِمُشاهَدَةِ هَذا الفِعْلِ الغَرِيبِ. وجاءَ الوَصْفُ بِلَفْظِ يَطِيرُ؛ لِأنَّهُ مُشْعِرٌ بِالدَّيْمُومَةِ والغَلَبَةِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ أحْوالِ الطّائِرِ كَوْنُهُ يَطِيرُ، وقَلَّ ما يَسْكُنُ، حَتّى أنَّ المَحْبُوسَ مِنها يَكْثُرُ وُلُوعُهُ بِالطَّيَرانِ في المَكانِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ مِن قَفَصٍ وغَيْرِهِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، ولا طائِرٌ، بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى مَوْضِعِ دابَّةٍ. وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ، في الأرْضِ، في مَوْضِعِ رَفْعِ صِفَةٍ عَلى مَوْضِعِ دابَّةٍ، وكَذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ يَطِيرُ، ويَتَعَيَّنُ ذَلِكَ في قِراءَةِ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ. والباءُ في بِجَناحَيْهِ لِلِاسْتِعانَةِ، كَقَوْلِهِ: كَتَبْتُ بِالقَلَمِ. و(إلّا أُمَمٌ)، هو خَبَرُ المُبْتَدَأِ (p-١٢٠)الَّذِي هو مِن دابَّةٍ ولا طائِرٍ وجُمِعَ الخَبَرُ وإنْ كانَ المُبْتَدَأُ مُفْرَدًا حَمْلًا عَلى المَعْنى؛ لِأنَّ المُفْرَدَ هُنا لِلِاسْتِغْراقِ. والمِثْلِيَّةُ هُنا، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أمْثالُكم مَكْتُوبَةٌ أرْزاقُها، وآجالُها، وأعْمالُها، كَما كُتِبَتْ، أرْزاقُكم، وآجالُكم، وأعْمالُكُمُ انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُماثِلَةٌ لِلنّاسِ في الخَلْقِ والرِّزْقِ والحَياةِ والمَوْتِ والحَشْرِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، واخْتِيارُ الزَّجّاجِ المُماثَلَةَ في أنَّها تُجازى بِأعْمالِها، وتُحاسَبُ، ويَقْتَصُّ لِبَعْضِها مِن بَعْضٍ عَلى ما رُوِيَ في الأحادِيثِ. وقالَ مَكِّيٌّ: في أنَّها تَعْرِفُ اللَّهَ تَعالى، وتَعْبُدُهُ. وهَذا قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ، قالَ: مَعْناهُ إلّا أجْناسٌ يَعْرِفُونَ اللَّهَ ويَعْبُدُونَهُ. ونَقَلَهُ الواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ أنَّ المُماثَلَةَ حَصَلَتْ مِن حَيْثُ أنَّهم يَعْرِفُونَ اللَّهَ، ويُوَحِّدُونَهُ، ويَحْمَدُونَهُ، ويُسَبِّحُونَهُ. وإلَيْهِ ذَهَبَتْ طائِفَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وبِقَوْلِهِ في صِفَةِ الحَيَوانِ: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: ٤١] وبِما بِهِ خاطَبَ النَّمْلَ، وخاطَبَ الهُدْهُدَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في قَوْلِ مَكِّيٍّ: وهَذا قَوْلُ خَلَفٍ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المُماثَلَةُ في كَوْنِها أُمَمًا لا غَيْرَ. كَما تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مِثْلِكَ؛ أيْ في أنَّهُ رَجُلٌ. ويَصِحُّ في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأوْصافِ، إلّا أنَّ الفائِدَةَ في هَذِهِ أنْ تَكُونَ المُماثَلَةُ في أوْصافٍ غَيْرِ كَوْنِها أُمَمًا. قالَ مُجاهِدٌ: إلّا أصْنافٌ مُصَنَّفَةٌ. وقالَ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: المُماثَلَةُ وقَعَتْ بَيْنَها، وبَيْنَ بَنِي آدَمَ مِن قِبَلِ أنَّ بَعْضَهم يَفْقَهُ عَنْ بَعْضٍ. وقالَ ابْنُ عِيسى: أمْثالُكم في الحاجَةِ إلى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُهم فِيما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ مِن قُوتٍ يَقُوتُهم، وإلى لِباسٍ يَسْتُرُهم، وإلى سَكَنٍ يُوارِيهِمْ. ورُوِيَ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ أنَّهُ قالَ: أُبْهِمَتْ عُقُولُ البُهْمِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، إلّا عَنْ أرْبَعَةِ أشْياءَ: الإلَهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وطَلَبِ الرِّزْقِ، ومَعْرِفَةِ الذَّكَرِ والأُنْثى، وتَهَيُّؤِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما لِصاحِبِهِ. وقِيلَ: المُماثَلَةُ في كَوْنِها جَماعاتٍ مَخْلُوقَةً يُشْبِهُ بَعْضُها بَعْضًا، ويَأْنَسُ بَعْضُها بِبَعْضٍ، وتَتَوالَدُ كالإنْسِ. ورَوى أبُو سُلَيْمانَ الخَطّابِيُّ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ؛ أنَّهُ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، وقالَ: ما في الأرْضِ آدَمِيٌّ إلّا وفِيهِ شَبَهٌ مِن بَعْضِ البَهائِمِ، فَمِنهم مَن يُقْدِمُ إقْدامَ الأسَدِ، ومِنهم مَن يَعْدُو عَدْوَ الذِّئْبِ، ومِنهم مَن يَنْبَحُ نُباحَ الكِلابِ، ومِنهم مَن يَتَطَوَّسُ كَفِعْلِ الطّاوُوسِ، ومِنهم مَن يَشْرَهَ شَرَهَ الخِنْزِيرِ. وفي رِوايَةٍ؛ مِنهم مَن يُشْبِهُ الخِنْزِيرَ، إذا أُلْقِيَ إلَيْهِ الطَّعامُ الطَّيِّبُ، تَرَكَهُ، وإذا قامَ الرَّجُلُ مِن رَجِيعِهِ، ولَغَ فِيهِ. وكَذَلِكَ تَجِدُ مِنَ الآدَمِيِّينَ مَن لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً، لَمْ يَحْفَظْ مِنها واحِدَةً. فَإنْ أخْطَأتْ واحِدَةٌ حَفِظَها، ولَمْ يَجْلِسْ مَجْلِسًا رَواها عَنْكَ.
﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ ما تَرَكْنا وما أغْفَلْنا، والكِتابُ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ. والمَعْنى؛ وما أغْفَلْنا فِيهِ مِن شَيْءٍ لَمْ نَكْتُبْهُ، ولَمْ نُثْبِتْ ما وجَبَ أنْ يُثْبَتَ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، أوِ القُرْآنُ، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِياقُ الآيَةِ والمَعْنى. وبَدَأ بِهِ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وذَكَرَ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ، فَعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ: مِن شَيْءٍ عَلى عُمُومِهِ، وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ يَكُونُ مِنَ العامِّ الَّذِي يُرادُ بِهِ الخاصُّ، فالمَعْنى مِن شَيْءٍ يَدْعُو إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وتَكالِيفِهِ. وكَثِيرًا ما يَسْتَدِلُّ بَعْضُ الظّاهِرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ يُشِيرُ إلى أنَّ الكِتابَ تَضَمَّنَ الأحْكامَ التَّكْلِيفِيَّةَ كُلَّها. والتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ، فَحَقُّهُ أنْ يَتَعَدّى بِـ (في)، كَقَوْلِهِ: ﴿عَلى ما (p-١٢١)فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٦]، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ قَدْ ضَمِنَ ما أغْفَلْنا، وما تَرَكْنا، ويَكُونُ (مِن شَيْءٍ) في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ، و(مِن) زائِدَةٌ، والمَعْنى: ما تَرَكْنا وما أغْفَلْنا في الكِتابِ شَيْئًا يُحْتاجُ إلَيْهِ مِن دَلائِلِ الإلَهِيَّةِ والتَّكالِيفِ. ويَبْعُدُ جَعْلُ (مِن) هُنا تَبْعِيضِيَّةً، وأنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ما فَرَّطْنا في الكِتابِ بَعْضَ شَيْءٍ يَحْتاجُ إلَيْهِ المُكَلَّفُ، وإنْ قالَهُ بَعْضُهم. وجَعَلَ أبُو البَقاءِ هُنا مِن شَيْءٍ واقِعًا مَوْقِعَ المَصْدَرِ؛ أيْ تَفْرِيطًا، قالَ: وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ، لا يَبْقى في الآيَةِ حُجَّةٌ لِمَن ظَنَّ أنَّ الكِتابَ يَحْتَوِي عَلى ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ تَصْرِيحًا، ونَظِيرُ ذَلِكَ ﴿لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٢٠] أيْ ضَرَرًا انْتَهى. وما ذَكَرَهُ مِن أنَّهُ لا يَبْقى عَلى هَذا التَّأْوِيلِ حُجَّةٌ لِمَن ذَكَرَ، لَيْسَ كَما ذَكَرَ؛ لِأنَّهُ إذا تَسَلَّطَ النَّفْيُ عَلى المَصْدَرِ كانَ المَصْدَرُ مَنفِيًّا عَلى جِهَةِ العُمُومِ، ويَلْزَمُ مِن نَفْيِ هَذا العُمُومِ، نَفْيُ أنْواعِ المَصْدَرِ، ونَوْعِ مُشَخَّصاتِهِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ لا قِيامَ، فَهَذا نَفْيٌ عامٌّ، فَيَنْتَفِي مِنهُ جَمِيعُ أنْواعِ القِيامِ، ومُشَخّاصِتِهِ كَقِيامِ زَيْدٍ وقِيامِ عَمْرٍو، وما أشْبَهَ ذَلِكَ، فَإذا نُفِيَ التَّفْرِيطُ عَلى طَرِيقَةِ العُمُومِ، كانَ ذَلِكَ نَفْيًا لِجَمِيعِ أنْواعِ التَّفْرِيطِ ومُشَخَّصاتِهِ ومُتَعَلِّقاتِهِ، فَيَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنَّ الكِتابَ يَحْتَوِي عَلى ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ. وقَرَأ الأعْرَجُ وعَلْقَمَةُ (ما فَرَّطْنا) بِتَحْفِيفِ الرّاءِ، والمَعْنى واحِدٌ. وقالَ النَّقّاشُ: مَعْنى (فَرَطْنا) مُخَفَّفَةً أخَّرْنا، كَما قالُوا: فَرَطَ اللَّهُ عَنْكَ المَرَضَ أيْ أزالَهُ.
﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ الظّاهِرُ في الضَّمِيرِ أنَّهُ عائِدٌ عَلى ما تَقَدَّمَ، وهو الأُمَمُ كُلُّها مِنَ الطَّيْرِ والدَّوابِّ. وقالَ قَوْمٌ: هو عائِدٌ عَلى الكُفّارِ، لا عَلى أُمَمٍ، وما تَخَلَّلَ بَيْنَهُما كَلامٌ مُعْتَرِضٌ وإقامَةٌ وحُجَجٌ، ويُرَجِّحُ هَذا القَوْلَ، كَوْنُهُ جاءَ بِهِمْ، وبِالواوِ الَّتِي هي لِلْعُقَلاءِ، ولَوْ كانَ عائِدًا عَلى أُمَمِ الطَّيْرِ والدَّوابِّ، لَكانَ التَّرْكِيبُ، ثُمَّ إلى رَبِّها تُحْشَرُ. ويُجابُ عَنْ هَذا؛ بِأنَّها لَمّا كانَتْ مُمْتَثِلَةً لَمّا أرادَ اللَّهُ مِنها، أُجْرِيَتْ مَجْرى العُقَلاءِ. وأصْلُ الحَشْرِ الجَمْعُ، ومِنهُ فَحَشَرَ فَنادى. والظّاهِرُ أنَّهُ يُرادُ بِهِ البَعْثُ يَوْمَ القِيامَةِ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ، فَتُحْشَرُ البَهائِمُ والدَّوابُّ والطَّيْرُ، وفي ذَلِكَ حَدِيثٌ يَرْوِيهِ يَزِيدُ بْنُ الأصَمِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: يَحْشُرُ اللَّهُ الخَلْقَ كُلَّهم يَوْمَ القِيامَةِ البَهائِمَ والدَّوابَّ والطَّيْرَ وكُلَّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِن عَدْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ يَوْمَئِذٍ أنْ يَأْخُذَ لِلْجَمّاءِ مِنَ القَرْناءِ، ثُمَّ يَقُولَ: كُونِي تُرابًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَقُولُ الكافِرُ يالَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا﴾ [النبإ: ٤٠] . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ في آخَرِينَ: حَشْرُ الدَّوابِّ مَوْتُها؛ لِأنَّ الدَّوابَّ لا تَكْلِيفَ عَلَيْها، ولا تَرْجُو ثَوابًا، ولا تَخافُ عِقابًا، ولا تَفْهَمُ خِطابًا انْتَهى. ومَن ذَهَبَ هَذا المَذْهَبَ، تَأوَّلَ حَدِيثَ أبِي هُرَيْرَةَ عَلى مَعْنى التَّمْثِيلِ في الحِسابِ والقَصّاصِ، حَتّى يَفْهَمَ كُلُّ مُكَلَّفٍ أنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنهُ، ولا مَحِيصَ، وأنَّهُ العَدْلُ المَحْضُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والقَوْلُ في الأحادِيثِ المُتَضَمِّنَةِ أنَّ اللَّهَ يَقْتَصُّ لِلْجَمّاءِ مِنَ القَرْناءِ، أنَّها كِنايَةٌ عَنِ العَدْلِ، ولَيْسَتْ بِحَقِيقَةِ قَوْلِ مَرْذُولٍ يَنْحُو إلى القَوْلِ بِالرُّمُوزِ ونَحْوِها انْتَهى. وقالَ ابْنُ فُورَكٍ: القَوْلُ بِحَشْرِها مَعَ بَنِي آدَمَ أظْهَرُ انْتَهى. وعَلى القَوْلِ بِحَشْرِ البَهائِمِ مَعَ النّاسِ، اخْتَلَفُوا في المَعْنى الَّذِي تُحْشَرُ لِأجْلِهِ، فَذَهَبَ أهْلُ السُّنَّةِ أنَّها لِإظْهارِ القُدْرَةِ عَلى الإعادَةِ، وفي ذَلِكَ تَخْجِيلٌ لِمَن أنْكَرَ ذَلِكَ، فَقالَ: مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ ؟ وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: يَحْشُرُ اللَّهُ البَهائِمَ والطَّيْرَ؛ لِإيصالِ الأعْواضِ إلَيْها، وكَذَلِكَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَيُعَوِّضُهُما ويُنْصِفُ بَعْضَها مِن بَعْضٍ، كَما رُوِيَ أنَّهُ يَأْخُذُ لِلْجَمّاءِ مِنَ القُرَناءِ انْتَهى. وطَوَّلَ المُعْتَزِلَةُ في إيصالِ التَّعْوِيضِ عَنْ آلامِ البَهائِمِ وضَرَرِها، وأنَّ ذَلِكَ واجِبٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، وفَرَّعُوا فُرُوعًا، واخْتَلَفُوا في العِوَضِ، أهْوَ مُنْقَطِعٌ، أمْ دائِمٌ ؟ فَذَهَبَ القاضِي وأكْثَرُ مُعْتَزِلَةِ البَصْرَةِ إلى أنَّهُ مُنْقَطِعٌ، فَبَعْدَ تَوْفِيَةِ العِوَضِ، يَجْعَلُها تُرابًا، وقالَ أبُو القاسِمِ البَلْخِيُّ: يَجِبُ كَوْنُ العِوَضِ دائِمًا. وقِيلَ: تَدْخُلُ البَهائِمُ الجَنَّةَ وتُعَوَّضُ عَنْ ما نالَها مِنَ الآلامِ. وكُلُّ ما قالَتْهُ المُعْتَزِلَةُ مَبْناهُ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى يَجِبُ عَلَيْهِ إيصالُ الأعْواضِ إلى البَهائِمِ عَنِ الآلامِ الَّتِي حَصَلَتْ لَها في الدُّنْيا. ومَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ الإيجابَ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ.
{"ayah":"وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرࣲ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءࣲۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق