الباحث القرآني
لمَّا حذَّر أهْلَ الكتاب عن الإغواء والإضلال، حذَّرَ الْمُؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم.
رُوِي أن شأسَ بن قيس اليهوديّ كان عظيمَ الكُفْر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحَسَد، فاتفق أنه مرَّ على نفر من الأوس والخزرج - وهم في مجلسٍ جَمَعَهم يتحدثون، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغُض، فغاظه ما رأى من ألْفتهِمْ، وصلاح ذاتِ بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهليةِ، فقال: قد اجتمع مَلأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها - من قرارٍ، فأمر شابًّا من اليهود - كان معه - فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس على الخَزْرَج - ففعل: فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثَبَ رجلان من الحَيَّيْنِ على الرُّكَب - أوس بن قيظي، أحد بني حارثة، من الأوس وجبار بن صَخْر، أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددتها الآن جَذَعة، فغضب الفريقان جميعاً، وقالا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ، موعدكم الظاهرة - وهي حَرَّة - فخرجوا إليها، وانضمَّت الأوس والخزرج بعضُها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهليةِ، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين - حتى جاءهم فقال: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أبدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأنَا بَيْنَ أظْهُرِكم بَعْدَ إذْ أكْرَمَكُمُ اللهُ بالإسْلاَمِ وقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجَاهِلِيَّةِ، وَألَّفَ بَيْنَكُمْ، فَتَرْجِعُونَ إلَى مَا كُنْتُمْ كُفَّاراً؟ اللهَ الله» فعرف القومُ أنها نزغة من شيطان، وكيدٌ من عدوِّهم، فألْقَوا السلاحَ من أيديهم، وبَكَوْا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سامعين مطيعين، فأنزل الله هذه الآية، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم.
واعلم أن هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها: جميع ما يحاولونه من أنواع الضلالة، فبيَّن - تعالى - أن المؤمنين إذا قَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك - حالاً بعد حال - إلى أن يعودوا كفاراً، واكلفر يوجب الهلاك في الدُّنْيَا بالعداوة والمحاربة، وسفك الدماء، وفي الآخرة بالعذاب الأليم الدائم.
قوله: ﴿يَرُدُّوكُم﴾ رَدَّ، يجوز أن يُضَمَّن معنى: «صَيَّر» فينصب مفعولَيْن.
ومنه قول الشاعر: [الوافر]
1550 - رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ سَعْدٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا
ويجوز ألا يتضمن، فيكون المنصوبُ الثاني حالاً.
قوله: ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يجوز أن يكون منصوباً ب «يَرُدُّوكُمْ» ، وأن يتعلق ب «كَافِرِينَ» ، ويصير المعنى كالمعنى في قوله: ﴿كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ [آل عمران: 86] .
قوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ «كَيْفَ» كلمة تعجُّب، وهو على الله - تعالى - محال، والمراد منه التغليظ والمنع؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيهم - تُزيل الشُّبَه، وتُقَرِّر الحُجج، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه.
قال زيد من أرقم: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، أيُّهَا النَّاسِ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ، فِيهِ الهُدَى والنُّور، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال: وَاهْل بَيْتِي، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي» .
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله﴾ جملة حالية، من فاعل: «تَكْفُرُونَ» .
وكذلك قوله: ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أي: كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين؟ والاعتصام: الامتناع، يقال: اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً، أي: هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به.
وقيل: الاعتصام: الاستمساك، واستعصم بكذا، أي: استمسك به.
ومعنى الآية: ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ. وقيل: ومن يؤمن بالله. وقيل: ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن.
والعِصام: ما يُشدُّ به القربة، وبه يسمَّى الأشخاص، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار، والمِعْصَم: موضع العِصْمَة، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة؛ تشبيهاً بها، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً، وأصل العُصْمة: البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول، والأعْصَم من الوعول: ما في معاصمها بياضٌ، وهي أشدُّها عَدْواً.
قال: [الكامل]
1551 - لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ ... سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا
وعصمه الطعام: منع الجوع منه، تقول العرب: عَصَمَ فلاناً الطعامُ، أي: منعه من الجوع.
وقال أحمد بن يحيى: العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً، وجابراً.
قال: [الرجز]
1552 - فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا ... فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا
ويسمونه عامراً، وأنشد: [الطويل]
1553 - أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر ... يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ
وأبو مالك كنية الجوع.
وفي الحديث - في النساء: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ» وهو الأبيض الرجلين.
وقيل: الأبيض الجناحَين.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ» .
قيل: يا رسولَ الله، وما الغراب الأعصم؟ قال «الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ» .
وفي الحديث: كنا مع عمرو بن العاص، فدخلنا شِعْباً، فإذا نحن بغربان، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين، فقال عَمرو: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ» والمراد منه: التقليل.
قوله: «فقد هدي» جواب الشرط، وجيء ف يالجواب ب «قد» دلالةً على التوقُّع؛ لأن المعتصم متوقع الهداية.
والمعنى: ومن يمتنع بدينِ الله، ويتمسك بدينه، وطاعتهِ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح. وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي: يؤمن بالله.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات، كقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام﴾ [المائدة: 16] وهذا اختيار القفال.
الثاني: أن التقدير: ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم، ليفعل ذلك.
الثالث: أن التقدير: ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة.
الرابع: قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فقد هدي» أي: فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول: إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ، كأن الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصِلاً؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
{"ayahs_start":100,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تُطِیعُوا۟ فَرِیقࣰا مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ یَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡ كَـٰفِرِینَ","وَكَیۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ وَفِیكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن یَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِیَ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ"],"ayah":"وَكَیۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ وَفِیكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن یَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِیَ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق