﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تُطِیعُوا۟ فَرِیقࣰا مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ یَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡ كَـٰفِرِینَ ١٠٠ وَكَیۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ وَفِیكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن یَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِیَ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ ١٠١﴾ [آل عمران ١٠٠-١٠١]
ثم قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا﴾، أولًا هذا الحكم مُصَدَّر بالنداء
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وتصدير الحكم بالنداء يدل على الاهتمام به والعناية به، وذلك لأن النداء يتضمن تنبيه المخاطَب، والتنبيه لا يكون إلا لأمر هام تجب العناية به، ثم صار النداء موجهًا للذين آمنوا من باب الإغراء، من باب الإغراء؛ لأن وصفهم بالإيمان يقتضي أن يقوموا بمقتضى هذا الخطاب الموجه لهمن كما لو قلت لشخص: يا رجل افعل كذا، يعني أن مقتضى رجوليتك أيش؟ أن تفعل هذا، فإذا قلت: يا مؤمن افعل هذا، فالمعنى أنه من مقتضى إيمانك أن تفعل هذا،
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، يعني من مقتضى إيمانكم أن تنتبهوا لما سيُلقى عليكم، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه:
«إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ؛ فَإِمَّا خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ وَإِمَّا شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ »(١)، ثم إن الخطاب بوصف الإيمان يقتضي أن امتثال ذلك من مقتضيات الإيمان، ويقتضي أيضًا أن مخالفته نقص في الإيمان؛ لأن المؤمن يقتضي إيمانه أن يقوم بما أُمِر به، وأن يدع ما نُهِيَ عنه.
* طالب: فيه ناس يا شيخ هم يحبون فعل الخير والسنة، يقول: (...) سنن الناس ينكرون علي (...)، ربما إذا فعلوها ينفر الناس منهم، هل نقول فعلها من الصد؟
* الشيخ: لا، لا يمكن، يعني يقول: بعض الناس يفعل سننًا لا يعرفها الناس، ينكرونها، فهل نقول: إن فعلها من الصد عن سبيل الله؟ لا، ما نقول: إنها من الصد، لكن قد نقول: إن تركها من باب التأليف من سبيل الله، كما ترك النبي عليه الصلاة والسلام بناء الكعبة على قواعد إبراهيم؛ لقرب عهد الناس بالكفر خوفًا عليهم من الفتنة.
* طالب: قلنا إن الإسلام هو دين الله في (...) فموافق للفطرة، الآن نرى أن الملل والأهواء يعني النِّحَل الأخر الناس أسرع إليها ما السبب في ذلك؟
* الشيخ: أيش؟
* طالب: يعني نرى أن الديانات الأخرى غير الإسلام الناس أسرع إليها دخولًا فيها من الشيوعية والاشتراكية والنصرانية، وغير ذلك حتى أن بلادًا إسلامية قد دخلوا، أيش السبب؟
* الشيخ: السبب في ذلك أن هؤلاء..
* الطالب: هذه مخالفة للفطرة.
* الشيخ: نعم هذه مخالفة للفطرة؛ لأنه وُجِد دافع قوي يقوى على الفطرة، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»(٢)، فهؤلاء تجد أنهم عاشوا في أحضان الشيوعية مثلًا، أو درسوا آراءها وأفكارها، أو عاشوا في أحضان الغرب ودرسوا آراءه وأفكاره، فصار هذا المانع حائلًا دون مقتضى الفطرة، وإلا لو تُرِكَ الناس وشأنهم لكانوا على الفطرة.
* طالب: شيخ، خطاب الله سبحانه تعالى لأهل الكتاب: ﴿يا أهل الكتاب لما تصدون﴾ هل هو لعلماء أهل الكتاب ولّا يشمل جميع..؟
* الشيخ: الآية تشمل كل من صد، كل من صد عن سبيل الله، سواء كان من العلماء أو من المتعصبين.
* طالب: كيف يا شيخ يصدون؟
* الشيخ: نعم، العامي فيه عوام الآن يجادلون وهم عوام، أحيانًا يجادلون بأفعال المسلمين، يقولون هذا: شوف الإسلام عندكم كذب وغش وخيانة وخديعة، وما أشبه ذلك فيجادل.
* طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، المنظمات الصليبية والنصرانية يا شيخ الآن رفعت شعار يعني اخلع عنك الإسلام – يقولون- نخلع عنك لباس الفقر والجوع، كذا جهارًا، وما زال بعض المسلمين يا شيخ يجاملونهم؟
* الشيخ: والله كون الناس يجاملونهم ويسكتون في مقابلة هؤلاء لا شك أنه ضعف إيمان، لا شك أنه ضعف الإيمان، والواجب على المسلمين على الحكام أولًا القادرين على أن يبثوا الإسلام ضد هؤلاء الواجب عليهم أن يقوموا لله عز وجل لصد هؤلاء، وأن يكوِّنوا لجانًا في الأمة الإسلامية تدافع هذا الشر.
* طالب: شيخ، عفا الله عنك، إذا كان أهل الكتاب كفروا بآيات الله ويصدون عن سبيل الله، لماذا يسميهم الله سبحانه وتعالى بأهل الكتاب وهم كفروا به؟
* الشيخ: إي نعم، هذا من إقامة الحجة عليهم وشدة التوبيخ لهم، يعني أنتم أهل كتاب عندكم علم ومعرفة ومع ذلك تصدون، فهذا من شدة اللوم والتوبيخ لهم.
* طالب: ما فيه مدح يا شيخ لهم؟
* الشيخ: لا أبدًا، هذا تأكيد الذم بما يشبه المدح.
* الطالب: قول النبي ﷺ للصحابة: «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا»، «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ»(٣) مدح؟
* الشيخ: إي نعم؛ لأن أهل القرآن متمسكين به، لكن هؤلاء أهل كتاب وخالفوه، فكان هذا أشد.
* طالب: أحسن الله إليك، ما هو أفضل الرد على مقولتهم التثليث؟
* الشيخ: أفضل الرد أن نقول: قال نبيكم ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة ١١٧]، وهذان الإلهان اللذان زعموهما مخلوقون، المسيح مخلوق وأمه مريم مخلوقة، فكيف يكون هذا إلهًا، هذا من جهة العقل، أما من جهة الشرع فهذا نبيهم عليه الصلاة والسلام ينكر ذلك عليهم.
* طالب: بعض الدعاة يرغب في دعوة أهله وأولاده وأهل حارته، وبعضهم يرغب يجوب البلاد شرقًا وغربًا، وإذا قيل له: ادعُ أهلك وجيرانك، فقال هو يرغب في أنه يدعو من يكون خارج البلاد، فأيهما المصيب يا شيخ؟
* الشيخ: قال الله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء ٢١٤]، فيبدأ الإنسان بأهله، لكن الإنسان يرغب أن يدعو من خارج؛ لأن أهله على الشرع ما عندهم إلا معاصي أهون من الكفر، فهو يقول: أنا أدعو الناس للدخول في الإسلام، أما أهلي فليس عندهم إلا معاصي ولا يحتاجون إلى دعاية قوية، غاية ما هنالك (...) عن المعصية حتى يدعوها.
* طالب: بعض الناس إذا ترك بعض السنن للتأليف (...) الإسلام الصحيح (...)؟
* الشيخ: نقول: الترك تركان: ترك تعطيل وترك تأليف، ترك التأليف ندع هذا إلى وقت آخر بعد ما يُبَيِّن للناس ويوضح لهم أن هذا (...) حتى يطمئنوا، أما ترك التعطيل يقول: أنا أعطل السنن؛ لأن الناس لا يعملون بها فهذا ليس بصواب.
* طالب: أحسن الله إليك، تعبير بأن لله سبحانه وتعالى صفات منفية وسلبية (...) إذا كانت منفية (...) الله (...)؟
* الشيخ: كلا، تكون من صفاته؛ لأن الوصف إما إثبات وإما نفي، فإذا قلت: فلان ليس يظلم الناس، أو فلان لا يجهل، هذا مدح، لا يظلم لكمال عدله. إي ثابت ما فيه نفي محض، يعني صفات الله ما فيها نفي محض أبدًا.
* الطالب: (...).
* الشيخ: إي نعم، نقول: ثبوتية وسلبية، والسلبية لا تكون مدحًا إلا إذا كمل كماله.
* * *
﴿فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾.
يقول الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وقد تكرر علينا مرارًا أن ما سبقه النداء فإنه معتنى به؛ لأن تصدير الشيء بالنداء يدل على الاهتمام به؛ إذ إن النداء يوجب الانتباه، ثم إن الخطاب بقوله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وفي توجيه الخطاب بهذا الوصف إغراء بقبول ما يأتي، تصديقًا به إن كان خبرًا وامتثالًا له إن كان طلبًا؛ أمرًا أو نهيًا، كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا إن كنتم مؤمنين حقًّا فالأمر كذا وكذا، فيكون فيه إغراء بقبول ما يأتي بعده، كما لو قلت: يا أيها الرجل افعل كذا وكذا، أي أنه بمقتضى رجولتك تفعل كذا وكذا، وفي تصديره بهذا الوصف أو في اختيار هذا الوصف دليل على أن ما سيأتي قبوله من مقتضيات الإيمان، تصديقًا به إن كان خبرًا وامتثالًا له إن كان طلبًا، وفيه أيضًا أن عدم قبوله مما ينافي الإيمان، فهذه أربعة أمور؛ الأمر الأول: إذا صُدِّر الخطاب بالنداء فهو دليل على؟
* طالب: دليل على الإيمان.
* الشيخ: لا، إذا صُدِّر الخطاب بالنداء فهو دليل على أيش؟
* طالب: على الاعتناء بالواحد.
* الشيخ: على الاعتناء به وأهميته، ما وجه ذلك؟
* الطالب: وجه ذلك إن الله عز وجل (...).
* الشيخ: إن النداء يوجب الانتباه، مثل ما أني لما ناديتك انتبهتَ، أليس كذلك؟
* الطالب: بلى.
* الشيخ: الثاني: اختيار الإيمان، اختيار النداء بوصف الإيمان موجِب يراد به أيش؟
* طالب: لكي يكون ألين لقلوبهم بمثل (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: أن يقوموا بما أُمِروا به بمقتضى إيمانهم.
* الشيخ: يعني الإغراء والحث؛ لأن نداء الشخص لوصفه يقتضي أن يهتم بالشيء، نعم. ثالثًا: اختيار وصف الإيمان؟
* طالب: ناداهم بالإيمان ليحثهم على (...).
* الشيخ: هذا الإغراء انتهينا منه.
* طالب: الامتثال إن كان أمرًا والاجتناب إن كان نهيًا من مقتضيات الإيمان.
* الشيخ: والتصديق إن كان خبرًا من مقتضيات الإيمان، تمام، هذه ثلاثة الرابع؟
* طالب: عدم الإعراض عنه أو التكذيب أو عدم امتثال هذا نقص في الإيمان.
* الشيخ: وأن الإعراض عنه رفض يعني من مُنَقِّصات الإيمان. يقول الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، فريقًا بمعنى طائفة، و
﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وهم اليهود والنصارى، فالكتاب لليهود هو التوراة، والكتاب للنصارى هو الإنجيل، وقوله:
﴿فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني: لا جميعهم؛ لأن بعض أهل الكتاب ليسوا على هذا الوصف، فإن منهم من آمن، من أهل الكتاب من آمن، فآمن من النصارى النجاشي، وآمن من اليهود عبد الله بن سلام، وهؤلاء من خيار المؤمنين، لكن فريقًا منهم، يقول:
﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾، يعني: يوجبوا لكم أن ترتدوا بعد الإيمان، سواء كان ذلك بالقتال فيما بينكم كما يُذكر أن رجلًا من اليهود وشى بين الأوس والخزرج وذكّرهم أيام الجاهلية، فثاروا، أي ثار بعضهم على بعض وغضبوا، وقد يكون هذا السبب أو هذا المعنى الذي ذُكِر ضعيفًا، لكن مهما كان الأمر، من أهل الكتاب مَن يريدون منّا أن نرتد عن الإيمان، وقد صرح الله بذلك في آيات أخرى:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾ [البقرة ١٠٩]،
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ [آل عمران ٦٩]، فأهل الكتاب يودون هذا، وتعلمون أن من ود شيئًا سعى في تحصيله، إذن فنحن نعلم أن أهل الكتاب يسعون بكل ما يستطيعون أن يردوا المسلمين عن دينهم، سواء منعوا الناس عن الدخول في دين الإسلام أو أخرجوهم من دين الإسلام بعد دخولهم فيه، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا مطولًا في ذكر الفوائد.
قوله:
﴿يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ﴾، والردة بعد الإيمان أعظم من منع الإيمان من الأصل؛ لأنها إخراج من الإيمان إلى الكفر، ومن المعلوم أن الإنسان لن يخرج من الإيمان إلى الكفر إلا بمحاولات شديدة؛ إذ إن من لم يدخل في الشيء إبعاده عنه أهون ممن أيش؟ ممن دخل فيه وآمن به، ولهذا قال:
﴿مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ﴾، وقوله:
﴿كَافِرِينَ﴾ المراد به الكفر المخرِج عن الملة، لكنهم قد لا يستطيعون أن يُخرجونا من الإيمان بالكلية لكن بالتدريج بما يضعونه أمامنا من معوقات كمال الإيمان حتى ينحل الإيمان شيئًا فشيئًا ولا يبقى في القلوب شيء، وحينئذ يكون الكفر المحض.
ثم قال عز وجل:
﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا﴾ جملة شرطية، أين الجواب؟
﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، وفيه إشكال؛ لأن المعروف أن (إنْ) الشرطية تجزم فعلين؛ الأول فعل الشرط والثاني جواب الشرط، وهنا لم نجد جزمًا في
﴿تُطِيعُوا﴾ ولا في
﴿يَرُدُّوكُمْ﴾؟
* طالب: بحذف النون يا شيخ.
* الشيخ: هذا مجزوم بحذف النون، لماذا يُجزم بحذف النون؟
* الطالب: لأنه من الأفعال الخمسة.
* الشيخ: لأنه من الأفعال الخمسة، هل تعدها لنا؟
* الطالب: الأفعال الخمسة؟
* الشيخ: نعم.
* الطالب: تَفْعَلُونَ، يَفْعَلُونَ، وتَفْعَلَانِ، يَفْعَلَانِ و..
* الشيخ: هات الخامس؟ يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلون.
* الطالب: وتَفْعَلِينَ.
* الشيخ: وتفعلين، تمام. طيب، وقوله:
﴿كَافِرِينَ﴾ حال من الواو في قوله:
﴿يَرُدُّوكُمْ﴾، يعني: يردوكم حال كونكم كافرين.
* طالب: ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ يا شيخ، الجزم؟
* الشيخ: الجزم بحذف النون؛ لأنها من الأفعال الخمسة. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ (كيف) تحتمل وجهين؛ لأنها هي الآن استفهامية، لكن تحتمل وجهين؛ الوجه الأول: الاستبعاد، والوجه الثاني: التعجب، فإذا نظرنا إلى حالهم أنهم تُتلى عليهم آيات الله وفيهم رسوله قلنا: إن ارتدادهم أيش؟ بعيد، بعيد أن يرتدوا على أدبارهم وهو يُتلى عليهم كتاب الله وفيهم رسوله، يشاهدون النبي ﷺ صباحًا ومساء، ويسمعون الآيات التي تنزل عليه فرِدّتهم بعيدة، ولهذا لم تكن الردة إلا بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام، والردة في حياته قليلة جدًّا، والوجه الثاني: أن تكون للتعجب، فيكون هذا تعجبًا من حال من يمكن أن يرتد، فإن الذي يرتد وتتلى عليه آيات الله وفيه رسوله لا شك أن حاله عجيبة؛ لأن الإنسان لو ارتد وهو لم يشاهد الرسول ﷺ ولم يسمع الآيات تنزل يومًا فيومًا لكان له شيء من العذر، ولكن في هذه الحال يسمع آيات الله ويشاهد الرسول ﷺ ليس له عذر إطلاقًا، فيكون الاستفهام لأيش؟ للتعجب، يعني ما أعجب حالكم لو كفرتم! إذن يكون في الآية على الوجهين تأييس للذين أُوتُوا الكتاب أن ينالوا مرادهم من المؤمنين لمحاولة ردتهم، هذا على أي وجه؟ الاستبعاد، يعني مهما حاولوا لا يمكن، وعلى الوجه الثاني يكون توبيخًا لمن حاول أن أيش يرتد، كيف تفعل وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله!
قال:
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾،
﴿تُتْلَى﴾ أي: تُقرأ عليكم، والتلاوة تأتي بمعنى القراءة، أي تُقرأ عليكم، وإذا وقعت من الفاعل فقيل: تَلَى، صار لها معنيان، المعنى الأول: القراءة، والمعنى الثاني: الاتباع، ففي قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة ١٢١]،
﴿يَتْلُونَهُ﴾ يعني: يقرؤونه ويتبعونه، يقرؤونه ويتبعونه، فهنا تُتلى عليهم آيات الله أي: تُقرأ، والذي يقرؤها عليهم رسول الله ﷺ، السند رسول الله ﷺ عن جبريل عن الله،
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء ١٩٢- ١٩٤] فهم يُتلى عليهم بواسطة الرسول ﷺ، وقوله:
﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾ جمع آية وهي العلامة، والمراد بها هنا القرآن، والقرآن آيات، كل آية منه دليل على المتكلم بها وهو الله سبحانه وتعالى على ما له من الصفات المقتضية لتلك الآيات، ولهذا كل آية من القرآن فإنها معجزة، كما قال الله تعالى:
﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ [الطور ٣٤]،
﴿حَدِيثٍ﴾: آية أو عشر آيات أو سورة أو عشر سور أو القرآن كله، كله معجز، وقوله:
﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾، المراد بآيات الله هنا الآيات الشرعية، كذا ولّا لا؟ يتعين أو يجوز أن تكون الآيات الكونية أيضًا؟
* الطلبة: يتعين.
* الشيخ: يتعين أن تكون الآيات الشرعية؛ لأن الآيات الكونية لا تُتلى، لكن يتلى عنها أي يُخبَر عنها ممكن ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [فصلت ٣٧] هذه آيات أيش؟ كونية، يتعين أو لا؟ يتعين، الليل والنهار والشمس والقمر آيات كونية لا غير. ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ (في) للظرفية، (فيكم) أي: في مجتمعكم، فيكم يعني: في مجتمعكم وليس حالًّا فيهم عليه الصلاة والسلام، لكنه في مجتمعهم، كما قال حسان بن ثابت:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ∗∗∗ .....................
فالرسول ﷺ كان في مجتمعهم يشاهدونه صباحًا ومساء، ويغشاهم في مجالسهم، ويعودهم إذا مرضوا، ويزورهم ﷺ في بيوتهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، فمن كان في هذه الحال هل يمكن لشرذمة من أهل الكتاب أن يردوه عن دينه؟ لا.
﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران ١٠١]،
﴿مَنْ يَعْتَصِمْ﴾ أي: يستمسك ويطلب العصمة بالله عز وجل فقد هُدِي إلى صراط مستقيم، وقوله:
﴿يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾ يشمل الاعتصام به توكلًا عليه والاعتصام به تعبدًا له؛ لأن في كل منهما عصمة،
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة ٥]، فمن اعتصم بالله تعبدًا واستعانة
﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وأتى هنا بالفعل الماضي
﴿هُدِيَ﴾ إشارة إلى أن هذا قد ثبت له الهدى سابقًا وواقعًا، سابقًا في اللوح المحفوظ وفي الكتابة حينما تُنفخ فيه الروح في بطن أمه، وواقعًا؛ لأنه اعتصم بالله، وقوله:
﴿هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، حذف الفاعل وذلك لتعدد طرق الهداية، فأعلى الهداة مَن؟ الله عز وجل، ثم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم ورثة الرسول وهم العلماء، فهنا حذف الفاعل ليشمل كل الهداة، وأولهم من؟ الله عز وجل
﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة ١٤٢]، ثم الرسول ﷺ
﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى ٥٢]، ثم ورثة الرسول وهم العلماء
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة ٢٤]، إذن
﴿هُدِيَ﴾ الهداية الأولى من الله ثم الرسول ثم أولو العلم، لكن هداية التوفيق خاصة بالله، لو اجتمع جميع الخلق على أن يهدوا أحدًا هداية توفيق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولكنهم يدُلّون ويحثون ويرغّبون.
وقوله:
﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فيها قراءتان: بالسين والصاد
﴿سراط﴾ و
﴿صراط﴾؛ لأن الصاد والسين تتناوبان دائمًا، وقوله:
﴿صِرَاطٍ﴾ الصراط هو الطريق الواسع، الطريق الواسع يسمى صراطًا، وأصله من (الزَّرْط) بالزاي، وهو الابتلاع بسرعة؛ لأن الطريق الواسع يَلِجُه الناس ويخرجون منه بسرعة بخلاف الضيق فإن الناس يزدحمون فيه ولا يكادون يخرجون منه إلا بمشقة، وقوله:
﴿مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: غير معوَجّ، يعني غير معوج، بل هو مستقيم وهو يشمل الاستقامة نزولًا وارتفاعًا والاستقامة انحرافًا واعتدالًا، إذن هو معتدل وليس فيه نزول ولا ارتفاع؛ لأن الصراط وهو الطريق إذا كان فيه انحراف لم يكن مستقيمًا، إذا كان فيه انحراف لم يكن مستقيمًا، صح؟ إي نعم، ويزداد مسافة أو لا؟ يزداد مسافة، تطول المسافة ويبطئ الوصول إلى الغاية، كذلك إذا كان مختلفًا نزولًا وارتفاعًا فإنه ليس بمستقيم إلا أنه تطول المسافة ويحصل المشقة عند الارتفاع وعند النزول، يحصل المشقة عند النزول؟ نعم.
* الطلبة: ربما.
* الشيخ: لا، كثيرًا، إذا كان النزول نزولًا منخفضًا بشدة فإن الإنسان يتعب في كبح نفسه عن الانحدار بسرعة، على كل حال المستقيم نقول هو المعتدل أيش؟ انحرافًا واستقامة وعلوًّا ونزولًا.
* في هذه الآيات عدة فوائد، أولًا: تحذير المؤمنين من طاعة الكفار؛ لقوله: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ﴾.
* ثانيًا: أن الكفار ولو كانوا أهل كتاب يحاولون غاية المحاولة أن يردوا المؤمنين عن إيمانهم إلى الكفر، وقائل هذا هو الله العالم بما في صدورهم، قد يتظاهرون لنا بالمسالمة والمداهنة، وأنهم أولياء وأنهم أصدقاء، ولكن في قلوبهم الحقد والغل، ومحبة أن نرتد على أعقابنا كافرين، من أين نعلم هذا الذي في قلوبهم وهم يُبدون لنا الود والصداقة والمحبة؟ من القرآن. فإن قال قائل: إن الله يقول: ﴿فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ والفريق مبهم، ما ندري ربما بعضهم على خلاف ذلك، وإذا وُجد الاحتمال بطل الاستدلال، فلا يمكن أن تعين طائفة من أهل الكتاب تقول: هؤلاء يحبون أن نرتد على أعقابنا كافرين، لا يمكن أن تعين ما دام الله يقول: ﴿فَرِيقًا﴾، الفريق مبهم، فإذا قلت: إنهم هؤلاء، قلنا لك: لا، بل بل أولئك، فما هو الميزان إذن؟ نعم.
* طالب: نقول لهم: ﴿فَرِيقًا﴾ يا شيخ نكرة أريد بها العموم.
* الشيخ: لا ما يصلح؛ لأن ﴿فَرِيقًا﴾ واضح تدل على بعض، نعم هي تدل على نكرة فيه فريق.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، نقول: هناك فيه آيات أخرى بيّنت أن كل اليهود والنصارى يريدون إضلال المسلمين، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة ١٢٠].
* الشيخ: نعم، وهذا عام.
* الطالب: إي نعم هذا عام.
* الشيخ: طيب، إذن لنا على هذا جواب بل جوابان؛ الجواب الأول أن الله ذكر في آيات أخرى أن جميع الكفار يودون منا أن نكفر، وهو شامل لأهل الكتاب وغيرهم، ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء ٨٩]، ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة ٢]، ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة ١٠٩]، ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾.
* طالب: كثير.
* الشيخ: كثير، إذن نقول: فيه آيات تدل على أن جميع الكفار ومن ضمنهم أهل الكتاب يودون منا ذلك، الوجه الثاني أن نقول: هذا الفريق المبهم يبينه الواقع، وهو أن من أهل الكتاب مَن آمن، ومن آمن لا يمكن أن يحب من غيره أن يكفر، وحينئذ نقول: المراد بالفريق هنا من لم يؤمن منهم، فكل من لم يؤمن فهو داخل في هذا الفريق.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء الفريق من أهل الكتاب لا يرضون منا بما دون الكفر إلا أن يكون وسيلة إلى الكفر؛ لأن الغاية قال: ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾، وأساليب أهل الكتاب في إضلال المسلمين كثيرة، كثيرة جدًّا متنوعة، منها أن يفتحوا عليهم باب الشهوات؛ فإن باب الشهوات باب واسع، والضيق من أبواب الشهوات يتسع بسرعة، ودليل ذلك قول النبي ﷺ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»(٤)، ولهذا هم قبّحهم الله ولعنة الله على اليهود والنصارى جميعًا هم يسعون جادين بأن يعطوا المرأة ما يسمونه بالحرية، وهي في الحقيقة هي الرق ليست حرية؛ لأن المرأة إذا خرجت عن حدود الله خرجت من رق الدين إلى رق الشيطان، تخرج من رق الدين وهو الرق الحقيقي لأنه عبودية لله إلى رق الشيطان، وإذا خرجت إلى رق الشيطان واسترقها الشيطان صارت عبدًا له هلكت وأَهْلَكت، قال ابن القيم رحمه الله:
هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ ∗∗∗ فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِهربوا من الرق الذي خلقوا له، وما هو الرق الذي خُلِقْنا له؟ عبادة الله عز وجل، وبُلوا يعني ابتلاهم الله برق النفس والشيطان، ولهذا تجدهم يركزون على المرأة على أن تتدهور وتتحرر من عبودية الله لتقع في عبودية الشيطان؛ لأنهم يعلمون أن أشد فتنة على الرجال هي المرأة، يسعون بكل جهدهم على أن تختلط بالرجال وتشاركهم في الأعمال، ويلصقوا منكبها بمنكبه وساقها بساقه، ويذوق حرارتها وتذوق حرارته، ويشم نفَسها وتشم نفسه، وتصافحه وربما تعانقه؛ لأنهم يعلمون أن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة بقي حيوانيًّا بهيميًّا ليس له أي غرض إلا أن يُشبع غريزته - والعياذ بالله - وحينئذ ينسى الدين وما وراء الدين ويرجع بعد ذلك إلى أيش؟ إلى الكفر، لا يستطيعون أن يقولوا للمسلمين: اكفروا؛ لأنهم لو قالوا: اكفروا، ما كفروا، لقالوا: نعم نكفر بالطاغوت ونؤمن بالله ونضرب هامك، لكن هم يأتون بهذه الأساليب التي توجب أن ينزلق الناس بالفسوق، والفسوق بريد الكفر، ثانيًا: يُلقون الأفكار الرديئة الإلحادية الكفرية بين المسلمين باسم: الناس أحرار، دعوا كل أحد يعتنق ما شاء، دعوا كل أحد يقول ما شاء، لا تستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وما أشبه ذلك من الكلمات الرنانة التي إذا سمعها الإنسان قال: هذا هو الدين، ثم تحلل الناس وصار كلٌّ يعمل على ما يريد. ولكن ما هي الطريق التي يتوصلون به إلى هذا؟ الطريق أن يضربوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجعلوا الناس لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن منكر؛ لأنهم يعرفون أنه إذا أُمِر بالمعروف قام المعروف، وإذا نُهِي عن منكر غاب المنكر، فيحاولون أن يقلِّلوا ويُضعفوا من هذه الناهية حتى يبقى الناس لا آمر ولا ناهي، كلٌّ يركب ما شاء. وأيضًا شيء آخر يضربون عليه مسألة الحدود والتعزيرات، يشوِّهون الإسلام بأنه يقطع اليد يد السارق ويرجم الزاني، يشوهون هذا حتى يضعفوا هذه الناحية، ومن المعلوم أنه إذا ضعف الإيمان فلا بد من رادع السلطان، فإن ضعف الإيمان وعُدِم رادع السلطان صارت المسألة فوضى، كلٌّ (...) ما شاء، يفعل ما شاء يكفر يزني يسرق يشرب الخمر، ما يهم؛ لأنه ما فيه حدود رادعة، والإيمان ضعيف بناء على أنهم يقولون: اجعلوا كل إنسان حرًّا في نفسه، ويتحلل الناس بالدين بمثل هذه الطرق، يعني إلقاء الأفكار الرديئة في المسلمين هذه من أساليب اليهود والنصارى التي يضللون بها الناس ويردونهم بعد إيمانهم كافرين. كذلك أيضًا من أساليبهم التي يردون بها الناس عن الكفر أن يزيِّنوا للناس محبة المال وجباية المال بكل ما يكون بحلال أو حرام، فيزيّنوا لهم المكاسب الربوبية بشتى أنواعها، والمكاسب الميسِرية بشتى أنواعها، الربوية معروفة، والميسرية هي التي تتمثل في التأمينات وما أشبهها، فإن التأمينات لا شك أنها من الميسر؛ لأن الْمُؤَمِّن والمؤمَّن له عقدهما دائر بين أيش؟ بين الغُنْم والغُرْم، وهذا هو الميسر تمامًا، والنفس إذا اعتادت على ذلك نسيت كل شيء، صار أكبر همها أن تكتسب هذا المال بالربا؛ لأن الربا يوجب زيادة المال باطراد وزيادة الظلم باطراد، زيادة المال لمن؟ لآخذ الربا، والظلم لموكِل الربا، فتأخذ النفس على الجشع والشح وحب المال وتنسى ما خُلِقت له. كذلك الميسر القِمار على رأسه القمار يجلس المتقامران في مجلس كل واحد عنده خمسة ملايين من الأموال فتحصل لعبة القمار، فإذا بأحدهما يكتسب مال الآخر كله خمسة ملايين، فيصبح هذا عنده عشرة ملايين والثاني ما عنده إلا ثيابه، يخرج من قاعة المقامرة ليس عليه إلا ثيابه، يمكن يقامر على ثيابه ويقول: اشتره مني، إذا غلبه في القمار في ثيابه وأخذ ثيابه قال: أنا أبيعها عليك، أنا ما أخرجك عاري لكن اشترها مني. على كل حال مثل هذه الأساليب التي يلقيها اليهود والنصارى وأشباههم بين المسلمين يجب على المسلمين الحذر منها؛ لأن الله يقول: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾، يجب على المسلمين أن يستمدوا حياتهم ومنهاجهم من أي شيء؟ من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ. وأنا واثق كل الثقة أنهم إذا اعتمدوا في ذلك على الكتاب والسنة فسيطؤون أعناق هؤلاء الكفار؛ لأن الله يقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [الصف ٩]، هذا كلام الله عز وجل، كلام الله الذي يقدر على كل شيء، يعني هو وعد من الله من قادر صادق في وعده، فإذا كان كذلك فلماذا لا نتمسك بديننا؟ لماذا لا نتمسك تمسكًا تامًّا ونظهر الأمة الإسلامية من جديد، من جديد تتمسك بدينها نصًّا وروحًا، لا نصًّا فقط؛ لأن التمسك بالدين نصًّا فقط لا روحًا ليس بشيء، هو تمسك ظاهري يتلاشى عند حدوث النوازل، وأما التمسك نصًّا وروحًا فهو الذي ينتفع به الإنسان في دنياه وآخرته. إذن علينا أن نحذر كيد الذين أوتوا الكتاب وكيد كل كافر؛ لأن الله يقول في الكافرين: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء ٨٩]، وقال في سورة الممتحنة: ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾، فعلينا أن نأخذ بهذه الإرشادات التي أرشدنا الله تعالى إليها، وأن نسير في طريقنا مهتدين بهدي الله، مقتدين برسول الله ﷺ حتى يحصل لنا النصر السعادة والعزة والكرامة في الدنيا والآخرة.
* طالب: شيخ، بالنسبة، نرى آثار ضرب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظاهرًا في العالم الإسلامي، لكن بعض الشباب الملتزم يلقي العبء الكامل على بعض الهيئات ويقول: لم تقم بدورها الكامل وكذا وكذا، فما رأيكم؟
* الشيخ: أنا أقول رأيي في هذا أن كل واحد مقصر، ما كل واحد قام بالواجب عليه، كل واحد في الشعوب الإسلامية وولاة المسلمين مقصر ما قام بالواجب، ولا ينبغي أن نقصر التقصير على طائفة معينة أو هيئة معينة، كلنا مقصرون. الآن الشعب فيما بينهم هل الإنسان إذا رأى منكرًا من أخيه يقول: يا أخي تعال هذا ترى هذا حرام ولا يجوز، اتق الله؟ لا، مع أن هذا ما أحد ممنوع منه، لم يُمنع منه أحد، ومع ذلك ما تجد من يقوم بهذا إلا النادر. بل أنا أذكر يقول واحد: إني خرجت من المسجد في يوم من الأيام ورأيت إنسان مطول ثوبه، فقلت: يا أخي ترى هذا ما يجوز هذا حرام، قال: بِدِينَا، كيف هذا؟ هذا خطاب ده؟ بدينا يعني بداية من ها الحين تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، مع أن الرجل يقول: أنا قلت له بكل أسلوب سهل وزين، لكنه.. فأقول: لو أن الناس عُوِّدوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما جاءت هذه الكلمة من هذا الرجل العامي، لكان يعرف أن هذا هو شأن المسلمين كلهم، «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ»(٥)، والمعروف لا يشترط أن يكون له طائفة معينة من قِبَل الولاة، كل يأمر بالمعروف ينهى عن المنكر لكن بالحكمة. وأنا أقول دائمًا: إن الأمر بالمعروف غير تغيير المنكر، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس هو تغيير المنكر، تغيير المنكر يحتاج إلى سلطة، لكن الأمر ما يحتاج إلى سلطة، كُلٌّ يأمر وينهى، وقد ذكرنا أن هناك ثلاثة أشياء تشتبه على بعض الناس وهي مختلفة: الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغيير، هي مختلفة، والناس، كثير من الناس يظنها واحدة، وليست كذلك.
* طالب: أحسن الله إليك، مثلًا توجد شبهة عند بعض المسلمين وهي أنهم يقولون: لا تطلقوا ألفاظ العداوة هذه على بعض النصارى، ويعتبرونهم أصدقاء ويطلقون عليهم لفظ الصداقة، ويستدلون بقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ [المائدة ٨٢]، ما قولك؟
* الشيخ: قولنا: إن الله عز وجل يقول: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾، فهنا قسم الله تعالى غير المسلمين إلى ثلاثة أقسام: اليهود، والمشركين، والنصارى، وهنا قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾، ولم يقل: والنصارى، ﴿قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾، فلاحظ الفرق. ثم نجد أن الله قال في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة ٥١]، وقال في آية أخرى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وهذا أعم، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال ٧٣]. فهذه ثلاث آيات، فالذين قالوا: إنا نصارى، ليسوا هم النصارى الذين هم أولياء لليهود وللكافرين، هؤلاء قوم معيَّنون وصفهم الله بوصف لا يوجد في بقية النصارى، فقال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة ٨٢،٨٣]. فهذه الطائفة من النصارى هي التي تكون أقرب مودة للذين آمنوا، أما الطائفة التي إذا سمعت ما أُنزل إلى الرسول نفرت وسعت بكل ما تستطيع (...) هذه الذي أُنزل فوالله ليست أقرب مودة من اليهود والمشركين، هم على حد سواء.
* * *﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، قوله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا﴾، أين جواب الشرط في هذه الجملة؟
* طالب: ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾.
* الشيخ: منصوب أو مجزوم؟
* الطالب: مجزوم.
* الشيخ: بأيش؟
* الطالب: بحذف النون.
* الشيخ: مجزوم بحذف النون، طيب، قوله تعالى: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ لماذا عبّر بقوله: ﴿فَرِيقًا﴾ ولم يقل: إن تطيعوا الذين من أهل الكتاب؟
* الطالب: لأن بعض أهل الكتاب قد آمن كعبد الله بن سلام وملك الحبشة وغيرهم ممن آمن، فليسوا كلهم يضلون المؤمنين بل فريق منهم.
* الشيخ: نعم؛ لأن أهل الكتاب منهم من آمن، ومنهم من سالم، ومنهم من هاجم، ثلاثة أقسام؛ من آمن مثل عبد الله بن سلام من اليهود، والنجاشي من النصارى، ومن سالم، ومن هاجم وصار يهاجم المسلمين ويريد إضلالهم، في قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾، الاستفهام هنا؟
* طالب: الاستفهام هنا للاستبعاد.
* الشيخ: للاستبعاد والتعجب أيضًا.
* الطالب: يحتمل وجهين الاستبعاد والتعجب.
* الشيخ: نعم، وجه ذلك؟
* الطالب: يعني كيف حالهم وهم يُتلى عليهم آيات الله وفيهم رسوله يُستبعد أنهم يكفرون.
* الشيخ: أن من كان هكذا تتلى عليه آيات الله وفيهم رسوله فإنهم يبعد جدًّا أن يكفروا، أما إن كفروا فإنه يُتعجب من حالهم، هذا على تقدير أن الاستفهام للتعجب. قوله تعالى:
﴿مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ﴾،
﴿مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ما معنى يعتصم بالله؟
* طالب: يعني يتمسك بشرع الله سبحانه وتعالى وما جاء من الحق.
* الشيخ: لأن في التمسك بذلك عصمة، طيب، لماذا اقترن جواب الشرط بالفاء في قوله: ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾؟
* طالب: اسمية.
* الشيخ: اسمية؟ اسمية ويدخل عليها (قد)؟
* طالب: طلبية.
* الشيخ: طلبية وهي ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ خبر؟!!
* الطالب: خليني اقرأ.
* الشيخ: أيش تقرأ؟
* طالب: دخلت عليها (قد).
* الشيخ: نعم؛ لأن الجواب اقترن بـ (قد)، وقد قيل في ذلك:
اسْــمِــيَّـــةٌ طَــلَــبِــيَّـــةٌوَبِـــجَــامِــــدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَقَدْ وَبِلَنْ وَبِالتَّنْفِيسِ
قوله:
﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الصراط ما هو؟
* طالب: الطريق الواضح، وقيل: الواسع، وهو أصله من السين وقد عُدِّل عنه بالصاد، يعني هو في اللغة السين، ومأخوذ من الزرط وهو الطريق الواسع؛ لأنه خلاف الضيق.
* الشيخ: يتحمل كل ما سلكه، وأما المستقيم فهو ضد المعوج، قلنا: إن المعوج إما أن يكون؟
* الطالب: إما أن يكون انحرافًا يمينًا أو شمالًا أو ارتفاعًا وانخفاضًا.
* الشيخ: أحسنت. طيب نأخذ الفوائد.
* طالب: أخذنا ثلاثة.
* الشيخ: ما هي؟
* الطالب: تحرير المؤمنين من طاعة الكفار، أن الكفار يحاولون أن يردوا المؤمنين عن إيمانهم بعد الدخول، أنهم لا يرضون بما دون الكفر إلا ما هو وسيلة للكفر، وأساليبهم في إغراء المؤمنين كثيرة.
* الشيخ: نعم، بسم الله الرحمن الرحيم. * ومن فوائد هذه الآية: أن طاعة الكفار مخالفة للإيمان؛ لقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فتكون طاعتهم مخالفة لكمال الإيمان، وقد تصل إلى انتفاء الإيمان بالكلية.
* ومن فوائدها أيضًا: أن حرص الكفار على ذلك من أجل إيماننا، وبناء عليه فإننا نُنَزِّل القاعدة السابقة أن ما عُلِّق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف وقوته، وعلى هذا فثقوا أنه كلما ازداد المؤمنون تمسكًا بدينهم ستزداد شراسة الكفار في صدهم عن دينهم، عرفتم هذا؟ ما دام الوصف هو الإيمان فإنه كلما ازددنا تمسكًا بالإيمان ازداد الكفار شراسة في صدنا عن الإيمان، ومثل ذلك أيضًا الطاعة والمعصية، كلما ازداد الناس في الإقبال على الله والتمسك بهديه ازداد أهل الفسوق شراسة في القضاء على هذه القوة في الطاعة.ومن فوائد هذه الآية: أن طاعة الكفار مخالِفة للإيمان؛ لقوله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران ١٠٠]، فتكون طاعتهم مخالفة لكمال الإيمان، وقد تصل إلى انتفاء الايمان بالكلية.
* من فوائدها أيضًا: أن حرص الكفار على ذلك من أجل إيماننا، وبِناء عليه فإننا نُنِّزل القاعدة السابقة أن ما عُلِّقَ على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف وقوته، وعلى هذا فثِقُوا أنه كلما ازداد المؤمنون تمسُّكًا بدينهم ستزداد شراسة الكفار في صدهم عن دينهم، ما دام الوصف هو الإيمان فإنه كلما ازددنا تمسُّكًا بالإيمان ازداد الكفار شراسة في صدنا عن الإيمان، ومثل ذلك أيضًا الطاعة والمعصية كلما ازداد الناس في الإقبال على الله والتمسُّك بهديه ازداد أهل الفسوق شراسة في القضاء على هذه القوة في الطاعة.
* من فوائد هذه الآية: أن من أهل الكتاب مَنْ لا يحاول إضلالنا عن ديننا، يؤخذ من قوله: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، وقد ذكرنا الآن أن أهل الكتاب بالنسبة لهذا الأمر ثلاثة أقسام.ثم قال الله عز وجل:
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ إلى آخره
[آل عمران: ١٠١].
* في هذه الآية من الفوائد: استبعاد أن يكون المؤمن يرتَدُّ كافرًا وهو يتلى عليه كتاب الله وفيهم رسوله، والواقع شاهد بذلك ولهذا لم تحصل الردة إلا بعد موت الرسول ﷺ.
* ومن فوائد هذه الآية: أن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ والإقبال عليهما أعظم مانع يمنع من الكفر، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ يعني: بعيد منكم الكفر إذا كانت تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، آيات الله تتلى علينا الآن، رسوله ليس فينا هو ولكن فينا سنته، فنأخذ من هذا أنه كلما تمسَّكْنا بكتاب الله وسنَّةِ رسوله فإن ذلك سيكون حصنًا منيعًا دون الكفر.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أن القرآن الكريم آية من آيات الله؛ لقوله: ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾.
* ويتفرع على هذه الفائدة: أنه إذا كان آية من آيات الله فإنه لا يمكن أن يأتي أحد بمثله، إذ إن الآية هي العلامة التي تعين مَعْلُومَها، ولو أمكن أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن ما كانت آية لله.
* ومن فوائد هذه الآية: أنه ربما نقول: إن القرآن آية شرعية، وكذلك يتضمن آيات كونية بما أودع الله فيه من الإشارات العظيمة إلى ما في الكون من الآيات من أجل أن نجعل آيات الله تشمل الشرعية وما دلت عليه هذه الشرعية من الآيات الكونية، وإلا ما فيه شك أن الذي يتلى هو الشرعية، لكن هي تضمنت آيات كونية دلَّت عليها مثل قوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس ٣٨ - ٤٠] إلى آيات كثيرة كونية أشار الله إليها. ومثل قوله: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل ٨] فإن هذه الآية آخر جملة فيها تشمل كل ما يمكن الركوب عليه إلى يوم القيمة، ومثل قوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام ٣٨] عند بعض العلماء فإن قوله: ﴿بِجَنَاحَيْهِ﴾ يُخْرِج الذي يطير بالقوة مثل الطائرات الحديدية هذه فإنها ليست من الأمم التي هي أمثالنا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الحث على الاعتصام بالله؛ لقوله: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ﴾.
* ومن فوائدها: بشارة من وُفِّق للاعتصام بالله بأنه مَهْدِيٌّ، وهذه فرد من أفراد البَشارات الكثيرة التي إذا تدبَّرها الإنسان حمد الله سبحانه وتعالى على نعمته أنه قد هداه وأنعم عليه.
* ومن فوائد هذه الآية: أن دين الله عز وجل دين مستقيم؛ لقوله: ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والمراد به صراط الله وهو مستقيم في كل شيء، إن نظرتَ إلى الحقوق وجدتَه مستقيمًا فيها ليس فيه جَوْرٌ، فلله علينا حقوق ولأنفسنا علينا حقوق، ولأهلنا علينا حقوق، ولزائرنا علينا حقوق، ولكل أحد حقٌّ على أحد، قال النبي عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن العاص: «فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»(٦).إذن هذا عدل يعني: ليس فيه جَنَف ولا في حق الخالق عز وجل، حتى حق الخالق لا بد أن يكون لنا حقوق لا نَجْحَف على أنفسنا ولا على مَنْ له حقٌّ علينا، وهذا من استقامة هذا الدين، ولكن نَبَّهْنَا فيما سبق على مسألة وهي أن بعض الناس يقول: إن دين الإسلام دين المساواة، وبَيَّنا أن هذا خطأ بل دين الإسلام دين العدل؛ لأن أكثر ما في القرآن نفي المساواة لا إثبات المساواة ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر ٩] ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ [الرعد ١٦] وآيات كثيرة فيها نفي الاستواء أنه ما يستوي هذا وهذا.لكن العدل
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل ٩٠] وذكرنا أن هذه العبارة دخل فيها من قال: إنه يُسوَّى بين الرجل والمرأة، وبين العالم والجاهل، وبين كل إنسان وآخر، مع الاختلاف في الصفات وتميز كل واحد عن الآخر بصفاته، وهذا لا شك أنه خطأ ولا يأتي الإسلام به، الإسلام يأتي بالعدل أن تُعطي كل ذي حق حقه.
(١) أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (٥٠).
(٢) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١٣٥٩)، ومسلم (٢٦٥٨) من حديث أبي هريرة.
(٣) أخرجه أبي داود (١٤١٦)، والترمذي (٤٥٣) من حديث علي بن أبي طالب.
(٤) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٠٩٦)، ومسلم (٢٧٤٠ / ٩٦) من حديث أسامة بن زيد.
(٥) أخرجه الترمذي (٢١٦٩) من حديث حذيفة بن اليمان.
(٦) أخرجه ابن حبان (٣٢٠)، وأبو يعلى (٨٩٨) من حديث أبي جحيفة.