الباحث القرآني

﴿وكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ أيْ عَلى أيِّ حالٍ يَقَعُ مِنكُمُ الكُفْرُ ﴿وأنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكم آياتُ اللَّهِ﴾ الدّالَّةُ عَلى تَوْحِيدِهِ ونُبُوَّةِ نَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ﴿وفِيكم رَسُولُهُ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُعْلِمُكُمُ الكِتاب والحِكْمَة ويُزَكِّيكم بِتَحْقِيقِ الحَقِّ وإزاحَةِ الشُّبَهِ، والجُمْلَةُ وقَعَتْ حالًا مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ في ( تَكْفُرُونَ ) والمُرادُ اسْتِبْعادُ أنْ يَقَعَ مِنهُمُ الكُفْرُ وعِنْدَهم ما يَأْباهُ. وقِيلَ: المُرادُ التَّعْجِيبُ أيْ لا يَنْبَغِي لَكم أنْ تَكْفُرُوا في سائِرِ الأحْوالِ لا سِيَّما في هَذِهِ الحالِ الَّتِي فِيها الكُفْرُ أفْظَعُ مِنهُ في غَيْرِها؛ ولَيْسَ المُرادُ إنْكارَ الواقِعِ كَما في ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا﴾ الآيَةَ، وقِيلَ: المُرادُ بِكُفْرِهِمْ فِعْلُهم أفْعالَ الكَفَرَةِ كَدَعْوى الجاهِلِيَّةِ، فَلا مانِعَ مِن أنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهامُ لِإنْكارِ الواقِعِ، والأوَّلُ أوْلى، وفي الآيَةِ تَأْيِيسٌ لِلْيَهُودِ مِمّا رامُوهُ، والأكْثَرُونَ عَلى تَخْصِيصِ هَذا الخِطابِ بِأصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أوِ الأوْسِ والخَزْرَجِ مِنهم، ومِنهم مَن جَعَلَهُ عامًا لِسائِرِ المُؤْمِنِينَ وجَمِيعِ الأُمَّةِ، وعَلَيْهِ مَعْنى كَوْنِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيهِمْ، إنَّ آثارَهُ وشَواهِدَ نُبُوَّتِهِ فِيهِمْ؛ لِأنَّها باقِيَةٌ حَتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ، ولَمْ يُسْنِدْ سُبْحانَهُ التِّلاوَةَ إلى رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إشارَةً إلى اسْتِقْلالِ كُلٍّ مِنَ الأمْرَيْنِ في البابِ، وإيذانًا بِأنَّ التِّلاوَةَ كافِيَةٌ في الغَرَضِ مِن أيِّ تالٍ كانَتْ. (p-17)﴿ومَن يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾ إمّا أنْ يُقَدَّرَ مُضافٌ أيْ ومَن يَعْتَصِمْ بِدِينِ اللَّهِ، والِاعْتِصامُ بِمَعْنى التَّمَسُّكِ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وإمّا أنْ لا يُقَدَّرَ فَيُجْعَلُ الِاعْتِصامُ بِاللَّهِ اسْتِعارَةً لِلِالتِجاءِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، قالَ الطِّيبِيُّ: وعَلى الأوَّلِ تَكُونُ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلى ﴿وأنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ أيْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ، أيْ والحالُ أنَّ القُرْآنَ يُتْلى عَلَيْكم وأنْتُمْ عالِمُونَ بِحالِ المُعْتَصَمِ بِهِ جَلَّ شَأْنُهُ، وعَلى الثّانِي تَكُونُ تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا﴾ إلَخْ؛ لِأنَّ مَضْمُونَهُ أنَّكم إنَّما تُطِيعُونَهم لِما تَخافُونَ مِن شُرُورِهِمْ ومَكايِدِهِمْ فَلا تَخافُوهم والتَجِئُوا إلى اللَّهِ تَعالى في دَفْعِ شُرُورِهِمْ ولا تُطِيعُوهم، أما عَلِمْتُمْ أنَّ مَنِ التَجَأ إلى اللَّهِ تَعالى كَفاهُ شَرَّ ما يَخافُهُ فَعَلى الأوَّلِ جِيءَ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ لِإنْكارِ الكُفْرِ مَعَ هَذا الصّارِفِ القَوِيِّ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ إلَخْ، وعَلى الثّانِي لِلْحَثِّ عَلى الِالتِجاءِ، ويُحْتَمَلُ عَلى الأوَّلِ التَّذْيِيلُ، وعَلى الثّانِي الحالُ أيْضًا فافْهَمْ، و( مَن ) شَرْطِيَّةٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ( 101 ) جَوابُ الشَّرْطِ، ولِكَوْنِهِ ماضِيًا مَعَ قَدْ أفادَ الكَلامُ تَحَقُّقَ الهُدى حَتّى كَأنَّهُ قَدْ حَصَلَ، قِيلَ: والتَّنْوِينُ لِلتَّفْخِيمِ، ووَصْفُ الصِّراطِ بِالِاسْتِقامَةِ لِلتَّصْرِيحِ بِالرَّدِّ عَلى الَّذِينَ يَبْغُونَ لَهُ عِوَجًا، والصِّراطُ المُسْتَقِيمُ وإنْ كانَ هو الدِّينَ الحَقَّ في الحَقِيقَةِ، والِاهْتِداءُ إلَيْهِ هو الِاعْتِصامُ بِهِ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ لَمّا اخْتَلَفَ الِاعْتِبارانِ وكانَ العُنْوانُ الأخِيرُ مِمّا يَتَنافَسُ فِيهِ المُتَنافِسُونَ أُبْرِزَ في مَعْرِضِ الجَوابِ لِلْحَثِّ والتَّرْغِيبِ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فازَ﴾ انْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا عَلى ما فِيهِ إنَّما يَحْتاجُ إلَيْهِ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الِاعْتِصامِ بِاللَّهِ الإيمانَ بِهِ سُبْحانَهُ والتَّمَسُّكَ بِدِينِهِ كَما قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وأمّا إذا كانَ المُرادُ مِنهُ الثِّقَةَ بِاللَّهِ تَعالى والتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ والِالتِجاءَ إلَيْهِ كَما رُوِيَ عَنْ أبِي العالِيَةِ فَيَبْعُدُ الِاحْتِياجُ، وعَلى هَذا يَكُونُ المُرادُ مَنَ الِاهْتِداءِ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ النَّجاةَ والظَّفَرَ بِالمَخْرَجِ، فَقَدْ أخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: أوْحى اللَّهُ تَعالى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ما مِن عَبْدٍ يَعْتَصِمُ بِي مِن دُونِ خَلْقِي وتَكِيدُهُ السَّمَواتُ والأرْضُ إلّا جَعَلْتُ لَهُ مِن ذَلِكَ مَخْرَجًا، وما مِن عَبْدٍ يَعْتَصِمُ بِمَخْلُوقٍ مِن دُونِي إلّا قَطَعْتُ أسْبابَ السَّماءِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وأسَخْتُ الأرْضَ مِن تَحْتِ قَدَمَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب