الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يَرُدُّوكم بَعْدَ إيمانِكم كافِرِينَ﴾ ﴿وكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكم آياتُ اللَّهِ وفِيكم رَسُولُهُ ومَن يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَذَّرَ الفَرِيقَ مِن أهْلِ الكِتابِ في الآيَةِ الأُولى عَنِ الإغْواءِ والإضْلالِ حَذَّرَ المُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الآيَةِ عَنْ إغْوائِهِمْ وإضْلالِهِمْ ومَنعِهِمْ عَنْ الِالتِفاتِ إلى قَوْلِهِمْ، رُوِيَ «أنْ شاسَ بْنَ قَيْسٍ اليَهُودِيَّ كانَ عَظِيمَ الكُفْرِ شَدِيدَ الطَّعْنِ عَلى المُسْلِمِينَ شَدِيدَ الحَسَدِ، فاتُّفِقَ أنَّهُ مَرَّ عَلى نَفَرٍ مِنَ الأنْصارِ مِنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ فَرَآهم في مَجْلِسٍ لَهم يَتَحَدَّثُونَ، وكانَ قَدْ زالَ ما كانَ بَيْنَهم في الجاهِلِيَّةِ مِنَ العَداوَةِ بِبَرَكَةِ الإسْلامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى اليَهُودِيِّ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ وذَكَّرَهم ما كانَ بَيْنَهم مِنَ الحُرُوبِ قَبْلَ ذَلِكَ وقَرَأ عَلَيْهِمْ بَعْضَ ما قِيلَ في تِلْكَ الحُرُوبِ مِنَ الأشْعارِ فَتَنازَعَ القَوْمُ وتَغاضَبُوا وقالُوا: السِّلاحَ السِّلاحَ، فَوَصَلَ الخَبَرُ إلى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَن مَعَهُ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، وقالَ: أتَرْجِعُونَ إلى أحْوالِ الجاهِلِيَّةِ وأنا بَيْنَ أظْهُرِكم، وقَدْ أكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِالإسْلامِ وألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكم فَعَرَفَ القَوْمُ أنَّ ذَلِكَ كانَ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ، ومِن كَيْدِ ذَلِكَ اليَهُودِيِّ، فَألْقَوُا السِّلاحَ وعانَقَ بَعْضُهم بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَما كانَ يَوْمٌ أقْبَحَ أوَّلًا وأحْسَنَ آخِرًا مِن ذَلِكَ اليَوْمِ»، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، فَقَوْلُهُ: ﴿إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ هَذِهِ الواقِعَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ جَمِيعَ ما يُحاوِلُونَهُ مِن أنْواعِ الإضْلالِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ المُؤْمِنِينَ إنْ لانُوا وقَبِلُوا مِنهم قَوْلَهم أدّى ذَلِكَ حالًا بَعْدَ حالٍ إلى أنْ يَعُودُوا كُفّارًا، والكُفْرُ يُوجِبُ الهَلاكَ في الدُّنْيا والدِّينِ، أمّا في الدُّنْيا فَبِوُقُوعِ العَداوَةِ والبَغْضاءِ وهَيَجانِ الفِتْنَةِ وثَوَرانِ المُحارَبَةِ المُؤَدِّيَةِ إلى سَفْكِ الدِّماءِ، وأمّا في الدِّينِ فَظاهِرٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكم آياتُ اللَّهِ وفِيكم رَسُولُهُ﴾ وكَلِمَةُ (كَيْفَ) تَعَجُّبٌ، والتَّعَجُّبُ إنَّما يَلِيقُ بِمَن لا يَعْلَمُ السَّبَبَ، وذَلِكَ عَلى اللَّهِ مُحالٌ، والمُرادُ مِنهُ المَنعُ والتَّغْلِيظُ وذَلِكَ لِأنَّ تِلاوَةَ آياتِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حالًا بَعْدَ حالٍ مَعَ كَوْنِ الرَّسُولِ فِيهِمُ، الَّذِي يُزِيلُ كُلَّ شُبْهَةٍ ويُقَرِّرُ كُلَّ حُجَّةٍ، كالمانِعِ مِن وُقُوعِهِمْ في الكُفْرِ، فَكانَ صُدُورُ الكُفْرِ عَلى الَّذِينَ كانُوا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ أبْعَدَ مِن هَذا الوَجْهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يَرُدُّوكم بَعْدَ إيمانِكم كافِرِينَ﴾ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المَقْصِدَ الأقْصى لِهَؤُلاءِ اليَهُودِ والمُنافِقِينَ أنْ يَرُدُّوا المُسْلِمِينَ عَنِ الإسْلامِ ثُمَّ أرْشَدَ المُسْلِمِينَ إلى أنَّهُ يَجِبُ أنْ لا يَلْتَفِتُوا إلى قَوْلِهِمْ، بَلِ الواجِبُ أنْ يَرْجِعُوا عِنْدَ كُلِّ شُبْهَةٍ يَسْمَعُونَها مِن هَؤُلاءِ اليَهُودِ إلى الرَّسُولِ ﷺ، حَتّى يَكْشِفَ عَنْها ويُزِيلَ وجْهَ الشُّبْهَةِ فِيها.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ومَن يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والمَقْصُودُ: أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الوَعِيدَ أرْدَفَهُ بِهَذا (p-١٤٠)الوَعْدِ، والمَعْنى: ومَن يَتَمَسَّكْ بِدِينِ اللَّهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حَثًّا لَهم عَلى الِالتِجاءِ إلَيْهِ في دَفْعِ شُرُورِ الكُفّارِ. والِاعْتِصامُ في اللُّغَةِ الِاسْتِمْساكُ بِالشَّيْءِ وأصْلُهُ مِنَ العِصْمَةِ، والعِصْمَةُ المَنعُ في كَلامِ العَرَبِ، والعاصِمُ المانِعُ، واعْتَصَمَ فُلانٌ بِالشَّيْءِ إذا تَمَسَّكَ بِالشَّيْءِ في مَنعِ نَفْسِهِ مِنَ الوُقُوعِ في آفَةٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف: ٣٢] قالَ قَتادَةُ: ذَكَرَ في الآيَةِ أمْرَيْنِ يَمْنَعانِ عَنِ الوُقُوعِ في الكُفْرِ. أحَدُهُما: تِلاوَةُ كِتابِ اللَّهِ. والثّانِي: كَوْنُ الرَّسُولِ فِيهِمْ، أمّا الرَّسُولُ ﷺ فَقَدْ مَضى إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، وأمّا الكِتابُ فَباقٍ عَلى وجْهِ الدَّهْرِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أصْحابُنا عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعالى، قالُوا: لِأنَّهُ جَعَلَ اعْتِصامَهم هِدايَةً مِنَ اللَّهِ، فَلَمّا جُعِلَ ذَلِكَ الِاعْتِصامُ فِعْلًا لَهم وهِدايَةً مِنَ اللَّهِ ثَبَتَ ما قُلْناهُ، أمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الهِدايَةِ الزِّيادَةُ في الألْطافِ المُرَتَّبَةِ عَلى أداءِ الطّاعاتِ كَما قالَ تَعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾ [المائدة: ١٦] وهَذا اخْتارَهُ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ. والثّانِي: أنَّ التَّقْدِيرَ مَن يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَنِعْمَ ما فَعَلَ فَإنَّهُ إنَّما هُدِيَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ. الثّالِثُ: أنَّ مَن يَعْتَصِمُ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ. والرّابِعُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ أيْ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الهُدى لا مَحالَةَ، كَما تَقُولُ: إذا جِئْتَ فُلانًا فَقَدْ أفْلَحْتَ، كَأنَّ الهُدى قَدْ حَصَلَ فَهو يُخْبِرُ عَنْهُ حاصِلًا وذَلِكَ لِأنَّ المُعْتَصِمَ بِاللَّهِ مُتَوَقِّعٌ لِلْهُدى كَما أنَّ قاصِدَ الكَرِيمِ مُتَوَقِّعٌ لِلْفَلاحِ عِنْدَهُ.
{"ayahs_start":100,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تُطِیعُوا۟ فَرِیقࣰا مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ یَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡ كَـٰفِرِینَ","وَكَیۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ وَفِیكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن یَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِیَ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ"],"ayah":"وَكَیۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ وَفِیكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن یَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِیَ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق