الباحث القرآني

ثم ثنى اللَّه سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح. وكما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ: يُوحُونَ بالخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً ... وَحْىَ المُلَاحِظِ خِيفةَ الرُّقَباءِ [[أنشده الجاحظ. وروى «يرمون» استعار الرمي لإخراج الكلام من الفم بكثرة على طريق التصريح. ويقال: وحى له، وإليه وحيا، وأوحى له وإليه إيحاء: إذا ألقى إليه الكلام، أو أشار له به، وألهمه إياه. فالوحى مصدر وحى أو اسم مصدر أوحى، واللحظ: الاشارة بطرف العين يمنة أو يسرة. واللاحظ وصف بحسب الأصل، وهو اسم لطرف العين. ولذلك جمع على لواحظ، ونسب الوحى إليها لأنها آلة. ويجوز أنه جمع لاحظة عنق للنسائى أى يتكلمون بالخطب الطوال تارة عند الأمن، ويوحون وحيا باللواحظ تارة أخرى، لخوفهم من الرقباء، فلكل مقام عندهم مقال.]] ومما ثنى من التمثيل في التنزيل قوله: (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) وألا ترى إلى ذى الرمّة كيف صنع في قصيدته؟: أَذَاكَ أَمْ نَمَشٌ بالْوَشْىِ أَكْرَعُهُ ... ............... ... أَذَاكَ أَمْ خَاضِبٌ بالسَّىِّ مَرْتَعُهُ ... .............. [[أذاك أم نمش بالوشي أكرعه ... مسفع الخد عاد ناشط شبب أذاك أم خاضب بالسي مرتعه ... أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب لذي الرمة يصف ناقته شبهها أولا بحمار الوحش، ثم قال: أذاك الحمار تشبهه ناقتي أم تمش. والتمش بالتحريك-: تفرق اللون. وكحذر: متفرق اللون. والوشي: لون يخالف لون بقية الشيء. والأكرع: جمع كراع وهو الساق والمسفع: الأسود- من السفعة- وهي السواد. والناشط: الخارج من أرض لأخرى. والشبب- كحذر أيضا- المسن من بقر الوحش. ثم قال أذاك الثور يشبهها، أم خاضب؟ وهو الظليم الذي احمرت ساقاه، أو اصفرتا من أكل الربيع. والسى: المستوى من الأرض، واسم موضع بعينه. والمرتع: مصدر أو اسم مكان مظروف في أوسع منه. ومنقلب: راجع من المرعى إلى أفراخه الثلاثين. فيكون أسرع ما يكون، فهي كذلك سريعة السير. وأكرعه فاعل بالظرف أو فاعل نمش. ومرتعه: فاعله بالظرف، أو مبتدأ والظرف خبر له.]] .... فإن قلت: قد شبه المنافق في التمثيل الأوّل بالمستوقد نارا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، فماذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات وبالرعد وبالبرق وبالصواعق؟ قلت: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب، لأنّ القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر. وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات. وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوى صيب. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. فإن قلت: هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات؟ وهلا صرح به كما في قوله: (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) ، وفي قول امرئ القيس: كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِى؟ [[لامرئ القيس يصف العقاب وهي تأكل صغار الطير إلا قلوبها، فلذلك كثرت عندها، ويصف نفسه بالشجاعة، حيث وصل إلى رؤية ذلك فقال: كأن قلوب الطير حال كونها رطبا بعضها ويابسا بعضها، حال كونها عند وكر العقاب- أى عشها-: العناب، وهو ثمر أحمر رطب، فهو راجع للبعض الرطب. والحشف: الجاف الرديء من التمر البالي الهالك، فهو راجع للبعض اليابس، ففيه لف ونشر مرتب، وفيه طباق التضاد بين الرطب واليابس. ويجوز أن رطباً ويابسا نصب على البدل من قلوب الطير، أى كأن الرطب واليابس منها: العناب والحشف. وبدل البعض لا يجب فيه ضمير يرجع للبدل منه، وإن كانت الأولى ذلك.]] قلت: كما جاء ذلك صريحاً فقد جاء مطويا ذكره على سنن الاستعارة، كقوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ) . والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه: أنّ التمثلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل، بيانه: أنّ العرب تأخذ أشياء فرادى، معزولا بعضها من بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا، بأخرى مثلها كقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) الآية. الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار، لا يشعر من ذلك إلا بما يمرّ بدفيه من الكدّ والتعب. وكقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئا واحدا، فلا. فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. فإن قلت: الذي كنت تقدّره في المفرّق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك «أو كمثل ذوى صيب» هل تقدّر مثله في المركب منه؟ قلت: لولا طلب الراجع في قوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره لأنى أراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا علىّ أوَلِىَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله. ألا ترى إلى قوله: (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية، كيف ولى الماء الكاف، وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره. ومما هو بين في هذا قول لبيد: وما النَّاسُ إلّا كالدِّيَارِ وأَهْلُهَا ... بِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وغَدْواً بَلَاقِعُ [[لم يرد تشبيه الناس بالديار ذاتها، وإنما أراد تشبيه حالهم مع الدنيا بحال الديار مع أهلها. وقوله: «وأهلها بها» جملة حالية. و «يوم حلوها» نصب بعامل المجرور قبله المحذوف. و «غدوا بلاقع» أى وهي في غد بلاقع، جمع بلقع: أى قفر خالي. والشائع استعمال «الغد» كاليد، فظهرت واوه هنا على الأصل. وعبر بالغد ومراده به الزمن القريب، كما يقال أفعله بكرة. والمراد بعد أيام قليلة، فالجامع سرعة الفناء والزوال بعد البهجة والنضرة. ولك جعله من تشبيه المفرد بالمفرد بجامع أن الناس تكون فيها الأرواح، فهي زاهية باهية، ثم تنزع منها فتصير خالية خاوية كالدار تكون عامرة بأهلها فتصبح خرابا. وهذا على رفع أهلها. وأما على جره عطفاً على الديار فيتعين الأول، ويكون «بها» متعلق بمحذوف حال من أهلها. والباء بمعنى «في» على التقديرين.]] لم يشبه الناس بالديار، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم، بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها، وتركها خلاء خاوية. فان قلت: أى التمثيلين أبلغ؟ قلت: الثاني، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته، ولذلك أُخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. فإن قلت: لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك؟ قلت: أو في أصلها لتساوى شيئين فصاعدا في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوى في غير الشك، وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، ومنه قوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، أى الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذلك قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ) معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. والصيب: المطر الذي يصوّب، أى ينزل ويقع. ويقال للسحاب: صيب أيضا. قال الشماخ: وأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ [[أرسما جديداً من سعاد تجنب ... عفت روضة الأجداد منه فينقب عفا آية نسج الجنوب مع الصبا ... وأسحم دان صادق الوعد صيب للشماخ. وقيل للنابغة الذبياني وقيل للهيثم بن خوار. يقال: جنبه، باعده أو أصاب جانبه. وعفى المنزل: درس وهلك، وعفته الريح: أهلكته ودرسته. والجد- بالضم- البئر التي في موضع كثير الكلأ. والجدد: الأرض الصلبة، ضد الحبار. والأجداد جمع للأول أو للثاني. والجدد: الطرائق المنعطفة من الرمل. ويجوز أن الأجداد جمعه أيضاً، لكن على روايته «روضة» بالنصب والاضافة للضمير. والأجداد بالرفع. والنقب- كالشعب-: الطريق المطمئن في الجبل. ونقب المكان ينقب: صار ذا نقب. وكذلك يشعب صار ذا شعب. هذا والمتبادر أنه بالعين بدل القاف، أى يقفر، من النقبة وهي الاقفار. والآي واحده آية، بمعنى العلامات والآثار. وشبه اختلاف الرياح على وجوه منضبطة بالنسج على طريق التصريحية. والأسحم: الأسود، وهو صفة السحاب. والداني: القريب. وروى «داج» والداجي المظلم. والصيب: كثير الأمطار. والاستفهام تعجبي. يقول: أتعجب من مباعدتنا الرسم الجديد من دار سعاد؟ أو أتعجب من مرورنا بجانب رسم سعاد الجديد الذي هلكت آثاره فصار طرقا متسعة؟ والذي محا أثره هو اختلاف الرياح وتتابع الأمطار. فعفا استئناف بيانى. وشبه السحاب برجل صدق وعده على طريق المكنية. والصدق والوعد تخييل. وروى الرعد بالراء، شبه رعده بالخبر الصادق. وصيب: فيعل من صاب يصوب، إذا نزل مائلا إلى جهة، كسيد من ساد يسود.]] وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل. كما نكرت النار في التمثيل الأول. وقرئ: كصائب، والصيب أبلغ. والسماء: هذه للمظلة. وعن الحسن: أنها موج مكفوف. فان قلت: قوله: (مِنَ السَّماءِ) ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء. قلت: الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوّب من سماء، أى من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأنّ كل أفق من آفاقها سماء، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله: (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) . الدليل عليه قوله: ومِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنا وسَمَاءِ [[فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومن بعد أرض بيننا وسماء «أوه» بالتشديد مع فتح الواو وكسرها مبنى على السكون. وروى بضم الهمزة وسكون الواو. وفيه لغة ثالثة بابدال الواو ألف مد مبنى فيهما على الكسر: اسم فعل للتوجع. وما زائدة بعد إذا للدلالة على تعميم الأوقات. يقول: أتوجع من تذكر المحبوبة كلما تذكرتها، ومن بعد ما بيننا من قطعة أرض وقطعة سماء تقابل تلك القطعة فأطلق الأرض والسماء على بعض كل منهما، وذكرهما لافادة ذلك، لكن المقرر عندهم أن التنوين إنما يفيد التبعيض في الأفراد لا في الأجزاء، فلا يتم ما تقدم إلا بعد ادعاء أن السماء تطلق على بعض تلك المظلة، والأرض على بعض هذه المقلة ليكون البعض فرداً من الأفراد لا جزءاً من الأجزاء. وذكر السماء دلالة على تناهى البعد في الأرض، لأنه يظهر فيها قبل ظهوره في السماء. ويجوز أن المراد تشبيه البعد بينهما بالبعد بين السماء والأرض. وعليه فالتنوين للتهويل والتعظيم.]] والمعنى أنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء، كما جاء بصيب. وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتنكير. أمد ذلك بأن جعله مطبقا. وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر. ويؤيده قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) . فان قلت: بم ارتفع ظلمات؟ قلت: بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف. والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك من الارتعاد. والبرق الذي يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقا إذا لمع. فان قلت: قد جعل الصيب مكانا للظلمات فلا يخلو من أن يراد به السحاب أو المطر، فأيهما أريد فما ظلماته؟ قلت: أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقا فظلمتا سجمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل. وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل. فان قلت: كيف يكون المطر مكانا للبرق والرعد وإنما مكانهما السحاب؟ قلت إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة فهما فيه. ألا تراك تقول: فلان في البلد، وما هو منه الا في حيز يشغله جرمه. فان قلت: هلا جمع الرعد والبرق أخذا بالأبلغ كقول البحتري: يَا عَارِضاً مُتَلِّفعاً ببُرُودِهِ ... يَخْتالُ بَيْنَ بُرُوقِهِ ورُعُودِهِ [[يا عارضا متلفعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده إن شئت عدت لأرض تجد عودة ... فحللت بين عقيقه وزروده لتجود في ربع بمنعرج اللوى ... قفر تبدل وحشة من غيده للبحترى يخاطب السحاب لأنه شبهه لتكاثفه وتراكمه بإنسان متلفع بثيابه. وإثبات التلفع بالبرود والاختيال تخييل وبنى على ذلك إثبات المشيئة وجمع البرق والرعد مع أنهما مصدر ان للدلالة على الكثرة والتعدد المرات. والعقيق والزرود موضعان بعينهما. والمنعرج- على زنة اسم المفعول- المكان الذي ينعطف فيه السائر يمنة ويسرة. واللوى الرمل الملتوى. والأغيد: الناعم الجميل، مؤنثه غيداء، والغيد- كالبيض- جمعه. والجود: الأمطار. يلتمس من السحاب المعترض في الأفق أن يمطر في ربع الأحبة بالمكان المنعطف، ثم وصف الربع بأنها قفر لا نبات فيه، وصار فيه وحشة بالوحوش بدل الأنس بالأحبة.]] وكما قيل ظلمات؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد العينان، ولكنهما لما كانا مصدرين في الأصل- يقال: رعدت السماء رعداً وبرقت برقا-، روعي حكم أصلهما بأن ترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع. والثاني: أن يراد الحدثان كأنه قيل: وإرعاد وإبراق. وإنما جاءت هذه الأشياء منكرات، لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات داجية، ورعد قاصف، وبرق خاطف. وجاز رجوع الضمير في يجعلون إلى أصحاب الصيب مع كونه محذوفا قائما مقامه الصيب، كما قال: (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ، لأن المحذوف باق معناه وإن سقط لفظه. ألا ترى إلى حسان كيف عوّل على بقاء معناه في قوله: يُسْقَوْنَ مِنْ وِرْدِ البَرِيصِ عليْهِمُ ... بَرْدَي يُصَفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ [[للَّه در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول يسقون من ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيق السلسل لحسان بن ثابت يذكر أيام ملوك الشام الغسانيين. والعصابة: الجماعة على رأى واحد. وجلق- بالتشديد- اسم أعجمى لبلد. «وفي الزمان» متعلق بمحذوف صفة ليوم الواقع ظرفا للمنادمة، وهي المحادثة على الشراب. والبريص اسم واد. ويروى- بفتحتان-: علم لنهر بدمشق وحبل بالحجاز واسم للبحر. ويصفق: أى يمتزج. وقيل «يتصفى» ينقله من إناء إلى آخر. ولعله رواه «يصفى» من التصفية. والرحيق: الصافي. والسلسل: السهل المساغ «ومن ورد» مفعول أول، و «عليهم» قيل متعلق بمحذوف حال من الضمير المنوي في ورد. والظاهر أنه متعلق بورد أى أقبل ونزل. و «بردي» مفعول ثان. و «يصفق» جملة حالية. والمعنى: أن كل من ورد عليهم البريص يسقونه ماء بردي حال كونه يصفق على ما مر. ويجوز أن يكون معناه تتلاطم أمواجه فالباء للملابسة. ويحتمل أن فيه قلباً. والأصل يصفق الرحيق السلسل به، ولعل ذلك كناية عن كرمهم لإكثارهم العطاء. وقيل الرحيق السلسل الخمر الصافية السهلة. والمعنى على التشبيه، أى بماء كأنه الخمر. والظاهر بقاؤه على حقيقته، ويكون ذلك قبل تحريمها وهو أوقع في مقام المدح. فان قلت: «بردي» مؤنث، فلم قال «يصفق» بالتذكير؟ قلت: هناك مضاف مذكر حذف، فقام المضاف إليه مقامه في الاعراب والتذكير. والأصل: ماء بردي.]] حيث ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردي، ولا محل لقوله: (يَجْعَلُونَ) لكونه مستأنفا، لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدّة والهول، فكأن قائلا قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ثم قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل: يكاد البرق يخطف أبصارهم. فان قلت: رأيس الأصبع هو الذي يجعل في الأذن [[قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت المجعول من الأصابع في الآذان رءوسها ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: لأن فيه إشعاراً بأنهم يبالغون في إدخال أصابعهم في آذانهم فوق العادة المعتادة في ذلك فرارا من شدة الصوت.]] فهلا قيل أناملهم؟ قلت: هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها، كقوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) ، (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضا ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل. فان قلت: فالأصبع التي تسدّ بها الأذن أصبع خاصة، [[قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فالأصبع التي تسد بها الأذن ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: لا ورود لهذين السؤالين. أما الأول فلأنه غير لازم أن يسدرا في تلك الحالة بالسبابة ولا بد فإنها حالة حيرة ودهش، فأى أصبع اتفق أن يسدوا بها فعلوا غير معرجين على ترتيب معتاد في ذلك، فذكر مطلق الأصابع أدل على الدهش والحيرة. أو فلعلهم يؤثرون في هذا الحال سد آذانهم بالوسطى، لأنها أصم للأذن وأحجب للصوت فلم يلزم اقتصارهم على السبابة. وأما السؤال الثاني فمفرع على الأول، وقد ظهر بطلانه وأيضا ففيه مزيد ركاكة، إذ الغرض تشبيه حال المنافقين بحال أمثالهم من ذوى الحيرة، فكيف يليق أن يكنى عن أصابعهم بالمسبحات؟ ولعل ألسنتهم ما سبحت اللَّه قط. ثم إذا كان الغرض من التمثيل تصوير المعاني في الأذهان تصوير المحسوسات، فذلك خليق بذكر الصرائح واجتناب الكنايات والرموز.]] فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدّعاءة. فان قلت: فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت: هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثوها بعد. وقوله مِنَ الصَّواعِقِ متعلق بيجعلون، أى: من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم، كقولك: سقاه من العيمة [[قوله «سقاه من العيمة» هي شهوة اللبن، وقيل شدة شهوته. أفاده الصحاح. (ع)]] . والصاعقة: قصفة رعد تنقض معها شقة من نار، قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق أى مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى: (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) . وقرأ الحسن: من الصواقع وليس بقلب للصواعق، لأنّ كلا البناءين سواء في التصرف، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته. ونظيره «جبذ» في «جذب» ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف. وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد، والتاء مبالغة كما في الراوية، أو مصدرا كالكاذبة والعافية. وقرأ ابن أبى ليلى: حذار الموت، وانتصب على أنه مفعول له كقوله: وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ [[وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذى أود قومته فتقوما وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما لحاتم الطائي. وقيل للأحنف بن قيس. يقول: ورب عوراء، أى كلمة قبيحة، قد أعرضت عن المؤاخذة بها فلم تضرني. ورب ذى أود- أى اعوجاج- كالعصى المعوجة، قومته وعدلته بالمحاربة فتقوم. وقسم الأعراض إلى قسمين: لكل منهما علة مخصوصة فقال: وأغفر عوراء الكريم، أى قبيحته، لأجل ادخارى إياه، فادخاره: مفعول له نصب بأغفر، وإن عرف بالاضافة. وأعرض عن شتمي للرجل اللئيم تكرما منى كى لا أكون مثله. ويجوز أن المعنى: عن مؤاخذة اللئيم لشتمه لي تكرما منى. فتكرما: مفعول نصب بأعرض. والقول بأن تكرما علة لأعرض وأغفر: قول من لم يذق طعم الكلام.]] والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. وإحاطة اللَّه بالكافرين مجاز. والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة اعتراض لا محل لها. والخطف: الأخذ بسرعة. وقرأ مجاهد (يخطف) بكسر الطاء، والفتح أفصح وأعلى، وعن ابن مسعود: يختطف. وعن الحسن: يخطف، بفتح الياء والخاء، وأصله يختطف. وعنه: يخطف، بكسرهما على إتباع الياء الخاء. وعن زيد بن على: يخطف، من خطف. وعن أبىّ: يتخطف، من قوله: (يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول: كيف يصنعون في تارتى خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا من البرق خفقة، مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفى وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء اللَّه لزاد في قصيف الرعد فأصمهم، أو في ضوء البرق [[قوله «أو في ضوء البرق» لعله وفي. (ع)]] فأعماهم. وأضاء: إما متعد بمعنى: كلما نوّر لهم ممشى ومسلكا أخذوه والمفعول محذوف. وإما غير متعد بمعنى: كلما لمع لهم مَشَوْا في مطرح نوره وملقى ضوئه. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة: كلما ضاء لهم والمشي: جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعى. فإذا ازداد فهو عدو. فإن قلت: كيف قيل مع الإضاءة: كلما، ومع الإظلام: إذا؟ قلت لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس. وأظلم: يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر، وأن يكون متعديا منقولا من ظلم الليل، [[قوله «منقولا من ظلم الليل» في الصحاح «ظلم الليل بالكسر وأظلم» بمعنى، عن الفراء (ع)]] وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب: أظلم، على ما لم يسم فاعله. وجاء في شعر حبيب ابن أوس: هُمَا أَظْلَمَا حالَىَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلَامَيْهُما عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ [[أحاولت إرشادى فعقلى مرشدي ... أم استمت تأديبى فدهرى مؤدبى هما أظلما حالى ثمت أجليا ... ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب شجي في حلوق الحادثات مشرق ... به عزمه في الترهات مغرب لأبى تمام. ويقال لحبيب بن أوس. وحاول الشيء: أراده وحام حول تحصيله. واستام الشيء: قصده وتتبع سماته وتعرفه بها. ويروى: أم اشتقت. وقوله «عن وجه أمرد أشيب» فيه تجريد، أى عن وجه رجل أمرد كناية عن حسن الخلق. أشيب كناية عن جودة الرأى اللازمة لكمال الرجولية. والأول كناية عن المضي في طرق الهزل. والثاني كناية عن المضي في طرق الجد، فلذلك اجتمعا معا في زمان واحد. ويحتمل أنه شاب مع أنه أمرد من كثرة حوادث الدهر. والشجي: ما نشب في الحلق لا يصعد ولا ينزل. والمشرق المغرب: الذاهب شرقا وغربا. والمراد التعميم. والترهة: فارسى معرب بمعنى الطريق الصغيرة غير الجادة، والجمع ترهات وتراريه. ثم استعير للباطل وصار اسما له، والمعنى: إن أردت مرشدي فهو عقلى، أو مؤدبى فدهرى. فالاستفهام بمعنى الشرط مجاراً، ويحتمل أنه توبيخي والفاء تعليلية لمحذوف، أى لا ينبغي إرادة إرشادى ولا تأديبى، فان دهري وعقلى تكفلا بذلك. وبين ذلك بقوله «هما أظلما» واستعمال أظلم متعديا لغة رديئة. وحالى: مفعول. والاظلام استعارة لتنغيص العيش وتكدير الخاطر. وأجليا: أزالا وكشفا ظلاميهما. والظلامان: استعارة للتكدر والتنغص. وقوله «شجى» بدل من الأمرد، أى كالشجى. وشبه الحوادث بحيوانات لها حلوق على طريق المكنية والحلوق تخييل لذلك. والمعنى أن الحوادث صارت لا تؤثر فيه ومضى به عزمه في جميع طرق الهزل كما مضى به في الجد، وبين مشرق مغرب طباق التضاد.]] وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه. ومعنى قامُوا وقفوا وثبتوا في مكانهم. ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وقام الماء: جمد. ومفعول شاءَ محذوف، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى: ولو شاء اللَّه أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و «أراد» لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله: فلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِى دَماً لَبَكَيْتُهُ [[ملكت دموع العين حين رددتها ... إلى ناظري والعين كالقلب تدمع ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع لابن يعقوب إسحاق بن حسان الخذيمى، يرثى أبا الهيذام عامر بن عمار أمير عرب الشام. يقول: غلبت دموع عينى وقدرت عليها حين رددتها إلى مكانها. ويروى «ثم رددتها» والحال أنها تدمع دمعا كالقلب في الحمرة والحرقة، أو بدمع على وجه التبعية للقلب. ويروى «فالعين في القلب» مبالغة في فكره وحزنه المضمر فيه. وذكر مفعول المشيئة مع أنه صار في استعمالهم نسيا منسياً لأنه شيء مستغرب فحسن ذكره. وضمن «أبكى» معنى أدمع، فعداه إلى الدم مع أنه لا يتعدى إلا إلى المبكى عليه. وشبه الصبر بكريم أو ببيت له ساحة على سبيل المكنية. والمراد أنه يترك الجزع ويعدل إلى الصبر فيتصف به.]] وقوله تعالى «لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا، (لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) . وأراد: ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق. وقرأ ابن أبى عبلة: لأذهب بأسماعهم، بزيادة الباء كقوله: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) . والشيء: ما صح أن يعلم ويخبر عنه. قال سيبويه- في ساقة الباب المترجم بباب مجارى أواخر الكلم من العربية-: وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟. والشيء: مذكر، وهو أعم العام: كما أن اللَّه أخص الخاص يجرى على الجسم والعرض والقديم. تقول: شيء لا كالأشياء أى معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال فان قلت: كيف قيل عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل [[قال محمود رحمه اللَّه: «وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: هذا الذي أورده خطأ على الأصل والفرع. أما على الأصل، فلأن الشيء لا يتناول إلا الموجود عند أهل السنة. وأما على الفرع، فلأنا وإن فرعنا على معتقد القدرية- والشيء عندهم إنما يتناول الموجود والمعدوم الذي يصح وجوده فلا يتناول المستحيل- إذاً على هذا التفريع ما يراده إياه نقضاً غير مستقيم على المذهبين. وأما المقدور بين قادرين، فإنها ورطة إنما يستاق إليها القدرية الذين يعتقدون أن ما تعلقت به قدرة العبد استحال أن يتعلق به قدرة الرب، إذ قدرة العبد خالقة فيستغنى الفعل بها عن قدرة خالق آخر- تعالى اللَّه عما يشركون علوا كبيرا- وأما أهل السنة فالقادر الخالق عندهم واحد، وهو اللَّه الواحد الأحد، فتتعلق قدرته تعالى بالفعل فيخلقه، وتتعلق به قدرة العبد تعلق اقتران لا تأثير فلذلك لم يخلق مقدور بين قادرين على هذا التفسير. وقد حشى الزمخشري في أدراج كلامه هذا سلب القدرة القديمة وجحدها، وجعل اللَّه تعالى قادراً بالذات لا بالقدرة، دس ذلك تحت قوله: وفي الأشياء ما لا تعلق به لذات القادر، ولم يقل لقدرة القادر، فليتفطن لدفائنه. وكم من ضلالة استدسها في هذه المقالة واللَّه الموفق. فان قيل: أيها الأشعرية، إذا كان الشيء عندكم هو الموجود، فما معنى القدرة عليه بعد وجوده وبقائه، واللَّه تعالى يقول وهو أصدق القائلين: (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ؟ قلنا: القدرة تتعلق بمقدورها فتوجده فيكون حينئذ شيئا فلما كان مآل ما تعلقت به القدرة إلى الشيء حتما، صح إطلاق الشيء عليه، وهو من وادى: «من قتل قتيلا فله سلبه» وإذا سموا الشيء باسم ما يؤول إليه غالباً، فما يؤول إليه حتما أجدر.]] وفعل قادر آخر [[قوله «وفعل قادر آخر» لعله مبنى على مذهب المعتزلة أن العبد هو الفاعل لأفعاله الاختيارية. ومذهب أهل السنة أن فاعلها في الحقيقة هو اللَّه تعالى. (ع)]] ؟ قلت: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها، فكأنه قيل: على كل شيء مستقيم قدير. ونظيره: فلان أمير على الناس أى على من وراءه منهم، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس. وأما الفعل بين قادرين فمختلف فيه. فإن قلت: ممّ اشتقاق القدير؟ قلت: من التقدير، لأنه يوقع فعله على مقدار قوّته واستطاعته وما يتميز به عن العاجز.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب