الباحث القرآني

﴿يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ اسْتِئْنافٌ ثانٍ كَأنَّهُ جَوابٌ لِمَن يَقُولُ: ما حالُهم مَعَ تِلْكَ الصَّواعِقِ؟ وكادَ مِن أفْعالِ المُقارَبَةِ، وُضِعَتْ لِمُقارَبَةِ الخَبَرِ مِنَ الوُجُودِ لِعُرُوضِ سَبَبِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ، إمّا لِفَقْدِ شَرْطٍ، أوْ لِوُجُودِ مانِعٍ وعَسى مَوْضُوعَةٌ لِرَجائِهِ، فَهي خَبَرٌ مَحْضٌ ولِذَلِكَ جاءَتْ مُتَصَرِّفَةً بِخِلافِ عَسى، وخَبَرُها مَشْرُوطٌ فِيهِ أنْ يَكُونَ فِعْلًا مُضارِعًا تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ المَقْصُودُ بِالقُرْبِ مِن غَيْرِ أنْ، لِتَوْكِيدِ القُرْبِ بِالدَّلالَةِ عَلى الحالِ، وقَدْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ حَمْلًا لَها عَلى عَسى، كَما تُحْمَلُ عَلَيْها بِالحَذْفِ مِن خَبَرِها لِمُشارَكَتِهِما في أصْلِ مَعْنى المُقارَبَةِ. والخَطْفُ الأخْذُ بِسُرْعَةٍ وقُرِئَ (يَخْطِفُ) بِكَسْرِ الطّاءِ ويَخْطَفُ عَلى أنَّهُ يَخْتَطِفُ، فَنُقِلَتْ فَتْحَةُ التّاءِ إلى الخاءِ ثُمَّ أُدْغِمَتْ في الطّاءِ، ويَخْطِفُ بِكَسْرِ الخاءِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ واتِّباعِ الياءِ لَها، ويَخْطِفُ ويَتَخَطَّفُ. ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا﴾ اسْتِئْنافٌ ثالِثٌ كَأنَّهُ قِيلَ: ما يَفْعَلُونَ في تارَتَيْ خُفُوقِ البَرْقِ، وخِفْيَتِهِ؟ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ. وأضاءَ إمّا مُتَعَدٍّ والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ بِمَعْنى كُلَّما نَوَّرَ لَهم مَمْشى أخَذُوهُ، أوْ لازِمٌ بِمَعْنًى، كُلَّما لَمَعَ لَهم مَشَوْا في مَطْرَحِ نُورِهِ، وكَذَلِكَ أظْلَمَ فَإنَّهُ جاءَ مُتَعَدِّيًا مَنقُولًا مِن ظُلْمِ اللَّيْلِ، ويَشْهَدُ لَهُ قِراءَةُ أظْلَمَ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وقَوْلُ أبِي تَمامٍ: ؎ هُما أظْلَما حالَيَّ ثَمَّةَ أجْلَيا... ظَلامَيْهِما عَنْ وجْهِ أمْرَدَ أشْيَبِ فَإنَّهُ وإنْ كانَ مِنَ المُحْدَثِينَ لَكِنَّهُ مِن عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَجْعَلَ ما يَقُولُهُ بِمَنزِلَةِ ما يَرْوِيهِ. وإنَّما قالَ مَعَ الإضاءَةِ (كُلَّما) ومَعَ الإظْلامِ (إذا) لِأنَّهم حُرّاصٌ عَلى المَشْيِ، فَكُلَّما صادَفُوا مِنهُ فُرْصَةً انْتَهَزُوها ولا كَذَلِكَ التَّوَقُّفُ. ومَعْنى ﴿قامُوا﴾ وقَفُوا، ومِنهُ قامَتِ السُّوقُ إذا رَكَدَتْ، وقامَ الماءُ إذا جَمُدَ. ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ أيْ ولَوْ شاءَ اللَّهُ أنْ يَذْهَبَ بِسَمْعِهِمْ بِقَصِيفِ الرَّعْدِ وأبْصارِهِمْ بِوَمِيضِ البَرْقِ لَذَهَبَ بِهِما، فَحُذِفَ المَفْعُولُ لِدَلالَةِ الجَوابِ عَلَيْهِ، ولَقَدْ تَكاثَرَ حَذْفُهُ في شاءَ وأرادَ حَتّى لا يَكادَ يَذَّكَّرُ إلّا في الشَّيْءِ المُسْتَغْرَبِ كَقَوْلِهِ: ؎ فَلَوْ شِئْتُ أنْ أبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ ﴿وَلَوْ﴾ مِن حُرُوفِ الشَّرْطِ، وظاهِرُها الدَّلالَةُ عَلى انْتِفاءِ الأوَّلِ لِانْتِفاءِ الثّانِي، ضَرُورَةُ انْتِفاءِ المَلْزُومِ عِنْدَ انْتِفاءِ لازِمِهِ، وقُرِئَ: لَأذْهَبَ بِأسْماعِهِمْ، بِزِيادَةِ الباءِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ . وَفائِدَةُ هَذِهِ الشُّرْطِيَّةِ إبْداءُ المانِعِ لِذَهابِ سَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ مَعَ قِيامِ ما يَقْتَضِيهِ، والتَّنْبِيهُ عَلى أنَّ تَأْثِيرَ (p-53)الأسْبابِ في مُسَبِّباتِها مَشْرُوطٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى، وأنَّ وجُودَها مُرْتَبِطٌ بِأسْبابِها واقِعٌ بِقُدْرَتِهِ وقَوْلِهِ. ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كالتَّصْرِيحِ بِهِ والتَّقْرِيرِ لَهُ. والشَّيْءُ يَخْتَصُّ بِالمَوْجُودِ، لِأنَّهُ في الأصْلِ مَصْدَرَ شاءَ أُطْلِقَ بِمَعْنى شاءَ تارَةً، وحِينَئِذٍ يَتَناوَلُ البارِئَ تَعالى كَما قالَ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ وبِمَعْنى مُشِيءٍ أُخْرى، أيْ مُشِيءٌ وُجُودَهُ وما شاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ فَهو مَوْجُودٌ في الجُمْلَةِ وعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فَهُما عَلى عُمُومِهِما بِلا مَثْنَوِيَّةٍ. والمُعْتَزِلَةُ لَمّا قالُوا الشَّيْءَ ما يَصِحُّ أنْ يُوجَدَ وهو يَعُمُّ الواجِبَ والمُمْكِنَ، أوْ ما يَصِحُّ أنْ يُعْلَمَ ويُخْبَرَ عَنْهُ فَيَعُمُّ المُمْتَنِعَ أيْضًا، لَزِمَهُمُ التَّخْصِيصُ بِالمُمْكِنِ في المَوْضِعَيْنِ بِدَلِيلِ العَقْلِ. والقُدْرَةُ: هو التَّمَكُّنُ مِن إيجادِ الشَّيْءِ. وقِيلَ صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّمَكُّنَ، وقِيلَ قُدْرَةُ الإنْسانِ، هَيْئَةٌ بِها يُتَمَكَّنُ مِنَ الفِعْلِ، وقُدْرَةُ اللَّهِ تَعالى: عِبارَةٌ عَنْ نَفْيِ العَجْزِ عَنْهُ، والقادِرُ هو الَّذِي إنْ شاءَ فَعَلَ وإنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَفْعَلْ، والقَدِيرُ الفَعّالُ لِما يَشاءُ عَلى ما يَشاءُ ولِذَلِكَ قَلَّما يُوصَفُ بِهِ غَيْرُ البارِي تَعالى، واشْتِقاقُ القُدْرَةِ مِنَ القَدَرِ لِأنَّ القادِرَ يُوقِعُ الفِعْلَ عَلى مِقْدارِ قُوَّتِهِ، أوْ عَلى مِقْدارِ ما تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الحادِثَ حالَ حُدُوثِهِ والمُمْكِنَ حالَ بَقائِهِ مَقْدُورانِ وأنَّ مَقْدُورَ العَبْدِ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعالى، لِأنَّهُ شَيْءٌ وكُلُّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ لِلَّهِ تَعالى. والظّاهِرُ أنَّ التَّمْثِيلَيْنِ مِن جُمْلَةِ التَّمْثِيلاتِ المُؤَلَّفَةِ، وهو أنْ يُشَبِّهَ كَيْفِيَّةً مُنْتَزَعَةً مِن مَجْمُوعٍ تَضامَّتْ أجْزاؤُهُ وتَلاصَقَتْ حَتّى صارَتْ شَيْئًا واحِدًا بِأُخْرى مِثْلِها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها﴾ الآيَةَ، فَإنَّهُ تَشْبِيهُ حالِ اليَهُودِ في جَهْلِهِمْ بِما مَعَهم مِنَ التَّوْراةِ، بِحالِ الحِمارِ في جَهْلِهِ بِما يَحْمِلُ مِن أسْفارِ الحِكْمَةِ. والغَرَضُ مِنهُما تَمْثِيلُ حالِ المُنافِقِينَ مِنَ الحَيْرَةِ والشِّدَّةِ، بِما يُكابِدُ مَنِ انْطَفَأتْ نارُهُ بَعْدَ إيقادِها في ظُلْمَةٍ، أوْ بِحالِ مَن أخَذَتْهُ السَّماءُ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مَعَ رَعْدٍ قاصِفٍ وبَرْقٍ خاطِفٍ وخَوْفٍ مِنَ الصَّواعِقِ. ويُمْكِنُ جَعْلُهُما مِن قَبِيلِ التَّمْثِيلِ المُفْرَدِ، وهو أنْ تَأْخُذَ أشْياءَ فُرادى فَتُشَبِّهَها بِأمْثالِها كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ﴾ ﴿وَلا الظُّلُماتُ ولا النُّورُ﴾ ﴿وَلا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ﴾ وقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ كَأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا ويابِسًا... ∗∗∗ لَدى وكْرِها العُنّابُ والحَشَفُ البالِي بِأنْ يُشَبِّهَ في الأوَّلِ: ذَواتَ المُنافِقِينَ بِالمُسْتَوْقِدِينَ، وإظْهارَهُمُ الإيمانَ بِاسْتِيقادِ النّارِ وما انْتَفَعُوا بِهِ مِن حَقْنِ الدِّماءِ وسَلامَةِ الأمْوالِ والأوْلادِ وغَيْرِ ذَلِكَ بِإضاءَةِ النّارِ ما حَوْلَ المُسْتَوْقِدِينَ، وزَوالَ ذَلِكَ عَنْهم عَلى القُرْبِ بِإهْلاكِهِمْ وبِإفْشاءِ حالِهِمْ وإبْقائِهِمْ في الخَسارِ الدّائِمِ والعَذابِ السَّرْمَدِ بِإطْفاءِ نارِهِمْ والذَّهابِ بِنُورِهِمْ. وَفِي الثّانِي: أنْفُسَهم بِأصْحابِ الصَّيِّبِ وإيمانَهُمُ المَخالِطَ بِالكُفْرِ والخِداعِ بِصَيِّبٍ فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ، مِن حَيْثُ إنَّهُ وإنْ كانَ نافِعًا في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَمّا وُجِدَ في هَذِهِ الصُّورَةِ عادَ نَفْعُهُ ضَرًّا ونِفاقُهم حَذَرًا عَنْ نِكاياتِ المُؤْمِنِينَ، وما يَطْرُقُونَ بِهِ مَن سِواهم مِنَ الكَفَرَةِ بِجَعْلِ الأصابِعِ في الآذانِ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوْتِ، مِن حَيْثُ إنَّهُ لا يَرُدُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ تَعالى شَيْئًا، ولا يَخْلُصُ مِمّا يُرِيدُ بِهِمْ مِنَ المَضارِّ وتَحَيُّرِهم لِشِدَّةِ الأمْرِ وجَهْلِهِمْ بِما يَأْتُونَ، ويُذْرُونَ بِأنَّهم كُلَّما صادَفُوا مِنَ البَرْقِ خَفْقَةً انْتَهَزُوها فُرْصَةً مَعَ خَوْفِ أنْ تَخْطِفَ أبْصارَهم فَخَطَوْا خُطًى يَسِيرَةً، ثُمَّ إذا خَفِيَ وفَتَرَ لَمَعانُهُ بَقُوا مُتَقَيِّدِينَ لا حَراكَ بِهِمْ. وقِيلَ: شَبَّهَ الإيمانَ والقُرْآنَ وسائِرَ ما أُوتِيَ الإنْسانُ مِنَ المَعارِفِ الَّتِي هي سَبَبُ الحَياةِ الأبَدِيَّةِ بِالصَّيِّبِ الَّذِي بِهِ حَياةُ الأرْضِ. وما ارْتُكِبَتْ بِها مِنَ الشُّبَهِ المُبْطِلَةِ، واعْتَرَضَتْ دُونَها مِنَ الِاعْتِراضاتِ المُشَكِّكَةِ بِالظُّلُماتِ. وشَبَّهَ ما فِيها مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ بِالرَّعْدِ، وما فِيها مِنَ الآياتِ الباهِرَةِ بِالبَرْقِ، وتَصامَّهم عَمّا يَسْمَعُونَ مِنَ الوَعِيدِ بِحالِ مَن يَهُولُهُ الرَّعْدُ فَيَخافُ صَواعِقَهُ فَيَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَنْها مَعَ أنَّهُ لا خَلاصَ لَهم مِنها وهو مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾ . واهْتِزازَهم لِما يَلْمَعُ لَهم مِن رُشْدٍ يُدْرِكُونَهُ، أوْ رِفْدٍ تَطْمَحُ إلَيْهِ أبْصارُهم بِمَشْيِهِمْ في مَطْرَحِ ضَوْءِ البَرْقِ كُلَّما أضاءَ لَهُمْ، وتَحَيُّرَهم وتَوَقُّفَهم في الأمْرِ حِينَ تَعْرِضُ لَهم شُبْهَةٌ، أوْ تُعِنُّ لَهم مُصِيبَةٌ بِتَوَقُّفِهِمْ إذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ. وَنَبَّهَ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ عَلى أنَّهُ تَعالى جَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ (p-54)لِيَتَوَسَّلُوا بِها إلى الهُدى والفَلاحِ، ثُمَّ إنَّهم صَرَفُوها إلى الحُظُوظِ العاجِلَةِ، وسَدُّوها عَنِ الفَوائِدِ الآجِلَةِ، ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهم بِالحالَةِ الَّتِي يَجْعَلُونَها لِأنْفُسِهِمْ، فَإنَّهُ عَلى ما يَشاءُ قَدِيرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب