الباحث القرآني

عَطَفَ هَذا المَثَلَ عَلى المَثَلِ الأوَّلِ بِحَرْفِ الشَّكِّ لِقَصْدِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ المَثَلَيْنِ: أيْ مَثِّلُوهم بِهَذا أوْ هَذا، وهي وإنْ كانَتْ في الأصْلِ لِلشَّكِّ فَقَدْ تَوَسَّعَ فِيها حَتّى صارَتْ لِمُجَرَّدِ التَّساوِي مِن غَيْرِ شَكٍّ - وقِيلَ: إنَّها بِمَعْنى الواوِ، قالَهُ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ، وأنْشَدَ: وقَدْ زَعَمَتْ لَيْلى بِأنِّي فاجِرٌ لِنَفْسِي تُقاها أوْ عَلَيْها فُجُورُها وقالَ آخَرُ: ∗∗∗ نالَ الخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَرًاكَما أتى رَبَّهُ مُوسى عَلى قَدَرِ والمُرادُ بِالصَّيِّبِ: المَطَرُ، واشْتِقاقُهُ مِن صابَ يَصُوبُ: إذا نَزَلَ. قالَ عَلْقَمَةُ: ∗∗∗ فَلا تَعْدِلِي بَيْنِي وبَيْنَ مُغَمَّرٍسَقَتْكِ رَوايا المَوْتِ حَيْثُ تَصُوبُ وأصْلُهُ صَيُّوبٌ، اجْتَمَعَتِ الياءُ والواوُ وسُبِقَتْ إحْداهُما بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغَمَتْ، كَما فَعَلُوا في مَيِّتٍ وسَيِّدٍ. والسَّماءُ في الأصْلِ: كُلُّ ما عَلاكَ فَأظَلَّكَ. ومِنهُ قِيلَ لِسَقْفِ البَيْتِ سَماءٌ. والسَّماءُ أيْضًا: المَطَرُ سُمِّيَ بِها لِنُزُولِهِ مِنها، وفائِدَةُ ذِكْرِ نُزُولِهِ مِنَ السَّماءِ مَعَ كَوْنِهِ لا يَكُونُ إلّا مِنها أنَّهُ لا يَخْتَصُّ نُزُولُهُ بِجانِبٍ مِنها دُونَ جانِبٍ، وإطْلاقُ السَّماءِ عَلى المَطَرِ واقِعٌ كَثِيرًا في كَلامِ العَرَبِ، فَمِنهُ قَوْلُ حَسّانٍ: ∗∗∗ دِيارٌ مِن بَنِي الحَسْحاسِ قَفْرٌتُعَفِّيها الدَّوامِسُ والسَّماءُ وقالَ آخَرُ: ؎إذا نَزَلَ السَّماءُ بِأرْضِ قَوْمٍ والظُّلُماتُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها، وإنَّما جَمَعَها إشارَةً إلى أنَّهُ انْضَمَّ إلى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ظُلْمَةُ الغَيْمِ. والرَّعْدُ: اسْمٌ لِصَوْتِ المَلَكِ الَّذِي يَزْجُرُ السَّحابَ. وقَدْ أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: سَألَتِ اليَهُودُ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَنِ الرَّعْدِ ما هو ؟ قالَ: «مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ بِيَدِهِ مَخارِيقُ مِن نارٍ يَسُوقُ بِها السَّحابَ حَيْثُ شاءَ اللَّهُ، قالُوا: فَما هَذا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ ؟ قالَ: زَجْرَهُ بِالسَّحابِ إذا زَجَرَهُ حَتّى يَنْتَهِيَ إلى حَيْثُ أُمِرَ. قالَتْ: صَدَقْتَ» الحَدِيثَ بِطُولِهِ، وفي إسْنادِهِ مَقالٌ. قالَ القُرْطُبِيُّ: وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ أكْثَرُ العُلَماءِ - وقِيلَ: هو اضْطِرابُ أجْرامِ (p-٣٥)السَّحابِ عِنْدَ نُزُولِ المَطَرِ مِنها، وإلى هَذا ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ تَبَعًا لِلْفَلاسِفَةِ وجَهَلَةِ المُتَكَلِّمِينَ وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، والبَرْقُ: مِخْراقُ حَدِيدٍ بِيَدِ المَلَكِ الَّذِي يَسُوقُ السَّحابَ، وإلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابَةِ وجُمْهُورُ عُلَماءِ الشَّرِيعَةِ لِلْحَدِيثِ السّابِقِ. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ تَبَعًا لِلْفَلاسِفَةِ: إنَّ البَرْقَ ما يَنْقَدِحُ مِنَ اصْطِكاكِ أجْرامِ السَّحابِ المُتَراكِمَةِ مِنَ الأبْخِرَةِ المُتَصَعِّدَةِ المُشْتَمِلَةِ عَلى جُزْءٍ نارِيٍّ يَتَلَهَّبُ عِنْدَ الِاصْطِكاكِ. وقَوْلُهُ: ﴿يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها كَأنَّ قائِلًا قالَ: فَكَيْفَ حالُهم عِنْدَ ذَلِكَ الرَّعْدِ ؟ فَقِيلَ: يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ. وإطْلاقُ الأُصْبُعِ عَلى بَعْضِها مَجازٌ مَشْهُورٌ، والعَلاقَةُ الجُزْئِيَّةُ والكُلِّيَّةُ لِأنَّ الَّذِي يُجْعَلُ في الأُذُنِ إنَّما هو رَأْسُ الأُصْبُعِ كُلِّها. والصَّواعِقُ ويُقالُ الصَّواقِعُ: هي قِطْعَةُ نارٍ تَنْفَصِلُ مِن مِخْراقِ المَلَكِ الَّذِي يَزْجُرُ السَّحابَ عِنْدَ غَضَبِهِ وشِدَّةِ ضَرْبِهِ لَها، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما في حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنا بَعْضَهُ قَرِيبًا وبِهِ قالَ كَثِيرٌ مِن عُلَماءِ الشَّرِيعَةِ. ومِنهم مَن قالَ: إنَّها نارٌ تَخْرُجُ مِن فَمِ المَلَكِ. وقالَ الخَلِيلُ: هي الواقِعَةُ الشَّدِيدَةُ مِن صَوْتِ الرَّعْدِ، يَكُونُ مَعَها أحْيانًا قِطْعَةُ نارٍ تَحْرِقُ ما أتَتْ عَلَيْهِ. وقالَ أبُو زَيْدٍ: الصّاعِقَةُ نارٌ تَسْقُطُ مِنَ السَّماءِ في رَعْدٍ شَدِيدٍ. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ تَبَعًا لِلْفَلاسِفَةِ ومَن قالَ بِقَوْلِهِمْ: إنَّها نارٌ لَطِيفَةٌ تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحابِ إذا اصْطَكَّتْ أجْرامُها. وسَيَأْتِي في سُورَةِ الرَّعْدِ إنْ شاءَ اللَّهُ في تَفْسِيرِ الرَّعْدِ والبَرْقِ والصَّواعِقِ ما لَهُ مَزِيدُ فائِدَةٍ وإيضاحٍ. ونَصَبَ حَذَرَ المَوْتِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ. وقالَ الفَرّاءُ: مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ. والمَوْتُ: ضِدُّ الحَياةِ. والإحاطَةُ الأخْذُ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ حَتّى لا تَفُوتَ المُحاطَ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ. وقَوْلُهُ: ﴿يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصارَهم﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ حالُهم مَعَ ذَلِكَ البَرْقِ ؟ ويَكادُ: يُقارِبُ. والخَطْفُ: الأخْذُ بِسُرْعَةٍ، ومِنهُ سُمِّيَ الطَّيْرُ خَطّافًا لِسُرْعَتِهِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ " يَخْطِفُ " بِكَسْرِ الطّاءِ، والفَتْحُ أفْصَحُ. وقَوْلُهُ: ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ في تارَتَيْ خُفُوقِ البَرْقِ وسُكُونِهِ، وهو تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الأمْرِ عَلى المُنافِقِينَ بِشِدَّتِهِ عَلى أهْلِ الصَّيِّبِ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ بِالزِّيادَةِ في الرَّعْدِ والبَرْقِ ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهَذا مِن جُمْلَةِ مَقْدُوراتِهِ سُبْحانَهُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أوْ كَصَيِّبٍ هو المَطَرُ ضُرِبَ مَثَلُهُ في القُرْآنِ فِيهِ ظُلُماتٌ يَقُولُ ابْتِلاءٌ ( ورَعْدٌ وبَرْقٌ ) تَخْوِيفٌ ﴿يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ يَقُولُ: يَكادُ مُحْكَمُ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلى عَوْراتِ المُنافِقِينَ ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ﴾ يَقُولُ: كُلَّما أصابَ المُنافِقُونَ مِنَ الإسْلامِ عِزًّا اطْمَأنُّوا، فَإنْ أصابَ الإسْلامَ نَكْبَةٌ قامُوا لِيَرْجِعُوا إلى الكُفْرِ كَقَوْلِهِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ [الحج: ١١] الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ قالُوا: كانَ رَجُلانِ مِنَ المُنافِقِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ هَرَبا مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ إلى المُشْرِكِينَ، فَأصابَهُما هَذا المَطَرُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ رَعْدٌ شَدِيدٌ وصَواعِقُ وبَرْقٌ، فَجَعَلا كُلَّما أصابَهُما الصَّواعِقُ يَجْعَلانِ أصابِعَهُما في آذانِهِما مِنَ الفَرَقِ أنْ تَدْخُلَ الصَّواعِقُ في مَسامِعِهِما فَتَقْتُلُهُما، وإذا لَمَعَ البَرْقُ مَشَيا في ضَوْئِهِ وإذا لَمْ يَلْمَعْ لَمْ يُبْصِرا قاما مَكانَهُما لا يَمْشِيانِ فَجَعَلا يَقُولانِ: لَيْتَنا قَدْ أصْبَحْنا فَنَأْتِيَ مُحَمَّدًا فَنَضَعَ أيْدِيَنا في يَدِهِ، فَأصْبَحا فَأتَياهُ فَأسْلَما ووَضَعا أيْدِيَهُما في يَدِهِ وحَسُنَ إسْلامُهُما فَضَرَبَ اللَّهُ شَأْنَ هَذَيْنِ المُنافِقَيْنِ الخارِجَيْنِ مَثَلًا لِلْمُنافِقِينَ الَّذِينَ بِالمَدِينَةِ، وكانَ المُنافِقُونَ إذا حَضَرُوا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ جَعَلُوا أصابِعَهم في آذانِهِمْ فَرَقًا مِن كَلامِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ شَيْءٌ أوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقْتَلُوا، كَما كانَ ذَلِكَ المُنافِقانِ الخارِجانِ يَجْعَلانِ أصابِعَهُما في آذانِهِما، وإذا أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ: أيْ فَإذا كَثُرَتْ أمْوالُهم وأوْلادُهم وأصابُوا غَنِيمَةً وفَتْحًا مَشَوْا فِيهِ وقالُوا: إنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ حِينَئِذٍ صَدَقَ واسْتَقامُوا عَلَيْهِ، كَما كانَ ذانِكَ المُنافِقانِ يَمْشِيانِ إذا أضاءَ لَهُمُ البَرْقُ، وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا فَكانُوا إذا هَلَكَتْ أمْوالُهم وأوْلادُهم وأصابَهُمُ البَلاءُ قالُوا: هَذا مِن أجْلِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، وارْتَدُّوا كُفْرًا كَما قامَ المُنافِقانِ حِينَ أظْلَمَ البَرْقُ عَلَيْهِما. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أوْ كَصَيِّبٍ قالَ: هو المَطَرُ وهو مَثَلٌ لِلْمُنافِقِ في ضَوْئِهِ يَتَكَلَّمُ بِما مَعَهُ مِن كِتابِ اللَّهِ مُراءاةَ النّاسِ، فَإذا خَلا وحْدَهُ عَمِلَ بِغَيْرِهِ فَهو في ظُلْمَةٍ ما أقامَ عَلى ذَلِكَ. وأمّا الظُّلُماتُ: فالضَّلالاتُ. وأمّا البَرْقُ: فالإيمانُ، وهم أهْلُ الكِتابِ، وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ: فَهو رَجُلٌ يَأْخُذُ بِطَرَفِ الحَقِّ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُجاوِزَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا نَحْوَ ما سَلَفَ. وقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ. واعْلَمْ أنَّ المُنافِقِينَ أصْنافٌ، فَمِنهم مَن يُظْهِرُ الإسْلامَ ويُبْطِنُ الكُفْرَ، ومِنهم مَن قالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ كَما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقًا خالِصًا، ومَن كانَتْ فِيهِ واحِدَةٌ مِنهُنَّ كانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتّى يَدَعَها: مَن إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ» ووَرَدَ بِلَفْظِ أرْبَعٌ وزادَ «وإذا خاصَمَ فَجَرَ» . ووَرَدَ بِلَفْظِ «وإذا عاهَدَ غَدَرَ» . وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ ومَن تَبِعَهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ لِصِنْفٍ واحِدٍ مِنَ المُنافِقِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب