الباحث القرآني
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الحَدِيثَ عَنْ بَقِيَّةِ حالِهِمْ فَقالَ: ﴿يَكادُ البَرْقُ﴾ أيْ مِن (p-١٢٤)قُوَّةِ لَمْعِهِ وشُعاعِهِ وشِدَّةِ حَرَكَتِهِ وإسْراعِهِ ﴿يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ فَهم يَغُضُّونَها عِنْدَ لَمْعِهِ وخَفْضِهِ في تَرائِبِهِ ورَفْعِهِ، ولَمّا كانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ البَرْقَ يَنْقَضِي لَمَعانُهُ بِسُرْعَةٍ كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ماذا يَصْنَعُونَ عِنْدَ ذَلِكَ ؟ فَقالَ: ﴿كُلَّما﴾ وعَبَّرَ بِها دُونَ إذا دَلالَةً عَلى شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلى إيجادِ المَشْيِ عِنْدَ الإضاءَةِ ﴿أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ﴾ مُبادِرِينَ إلى ذَلِكَ حِراصًا عَلَيْهِ لا يَفْتَرُونَ عَنْهُ في وقْتٍ مِن أوْقاتِ الإضاءَةِ مَعَ أنَّهم يَغُضُّونَ أبْصارَهم ولا يَمُدُّونَها غايَةَ المَدِّ خَوْفًا عَلَيْهِمْ ووُقُوفًا مَعَ الأسْبابِ ووُثُوقًا بِها واعْتِمادًا عَلَيْها وغَفْلَةً عَنْ رَبِّ الأرْبابِ، وهو مَثَلٌ لِما وجَدُوا مِنَ القُرْآنِ مُوافِقًا لِآرائِهِمْ، وعَطَفَ بِإذا لِتَحَقُّقِ خُفُوتِهِ بَعْدَ خُفُوقِهِ. قَوْلُهُ: ﴿وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا﴾ أيْ أوَّلَ حِينِ الإظْلامِ لا يَقْدِرُونَ عَلى التَّقَدُّمِ خُطْوَةً واحِدَةً إشارَةً إلى أنَّهُ لَيْسَتْ لَهم بَصائِرُ يَسِيرُونَ بِها فِيما كَشَفَ البَرْقُ لِأبْصارِهِمْ مِنَ الأرْضِ قَبْلَ الإظْلامِ (p-١٢٥)بَلْ حالَ انْقِطاعِ اللَّمَعانِ يَقِفُونَ لِعَمى بَصائِرِهِمْ ووَحْشَتِهِمْ وجُبْنِهِمْ وغُرْبَتِهِمْ وشَدَّةِ جَزَعِهِمْ وحَيْرَتِهِمْ، وهَكَذا حالُ هَؤُلاءِ لا يَقِيسُونَ ما أشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ القُرْآنِ عَلى ما فَهِمُوهُ.
﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ الباهِرَةُ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ وتَناهِي جَزَعِهِمْ، ودَلَّ عَلى مَفْعُولِ شاءَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ أيْ بِقاصِفِ الرَّعْدِ ولَمْ يُغْنِهِمْ سَدُّ آذانِهِمْ ﴿وأبْصارِهِمْ﴾ بِخاطِفِ البَرْقِ ولَمْ يَمْنَعْهُ غَضُّهم لَها، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ مَشِيءٍ أيْ يَصِحُّ أنْ تَقَعَ عَلَيْهِ المَشِيئَةُ هَذا المُرادُ وإنْ كانَ الشَّيْءُ كَما قالَ سِيبَوَيْهِ يَقَعُ عَلى كُلِّ ما أخْبَرَ عَنْهُ، وهو أعَمُّ العامِّ كَما أنَّ اللَّهَ أخَصُّ الخاصِّ، يَجْرِي عَلى الجِسْمِ والعَرَضِ والقَدِيمِ والمَعْدُومِ والمُحالِ، (p-١٢٦)وقَوْلُ الأشاعِرَةِ: إنَّ المَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، بِمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ بِثابِتٍ في الأعْيانِ مُتَمَيِّزٌ فِيها ﴿قَدِيرٌ﴾ إعْلامًا بِأنَّ قُدْرَتَهُ لا تَتَقَيَّدُ بِالأسْبابِ، قالَ الحَرالِّيُّ: القُدْرَةُ إظْهارُ الشَّيْءِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ ظاهِرٍ. انْتَهى.
ولَعَلَّهُ سُبْحانَهُ قَدَّمَ المَثَلَ الأوَّلَ لِأنَّهُ كالجُزْءِ مِنَ الثّانِي، أوْ لِأنَّهُ مَثَلُ المُنافِقِينَ، جُعِلَتْ مُدَّةُ صِباهم بِنُمُوِّهِمْ وازْدِيادِ عُقُولِهِمُ اسْتِيقادًا مَعَ جَعْلِ اللَّهِ إيّاهم عَلى الفِطْرَةِ القَوِيمَةِ وزَمانِ بُلُوغِهِمْ بِتَمامِ العَقْلِ الغَرِيزِيِّ إضاءَةً؛ والثّانِي مَثَلُ المُنافِقِينَ وهو أبْلَغُ. لِأنَّ الضَّلالَ فِيهِ أشْنَعُ وأفْظَعُ. فالصَّيِّبُ القُرْآنُ الَّذِي انْقادُوا لَهُ ظاهِرًا، والظُّلُماتُ مُتَشابِهَةٌ، والصَّواعِقُ (p-١٢٧)وعِيدُهُ، والبَرْقُ وعْدُهُ، كُلَّما أُنْذِرُوا بِوَعِيدٍ انْقَطَعَتْ قُلُوبُهم خَوْفًا ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: ٤] وكُلَّما بُشِّرُوا انْقادُوا رَجاءً، وإذا عَرَضَ المُتَشابِهُ وقَفُوا تَحَيُّرًا وجَفاءً وكُلُّ ذَلِكَ وُقُوفًا مَعَ الدُّنْيا وانْقِطاعًا إلَيْها، لا نُفُوذَ لَهم إلى ما وراءَها أصْلًا، بَلْ هم كالأنْعامِ، لا نَظَرَ لَهم إلى ما سِوى الجُزْئِيّاتِ والأُمُورِ المُشاهَداتِ،
﴿فَإنْ كانَ لَكم فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ [النساء: ١٤١] ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهم فَأفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٧٣] والكَلامُ الجامِعُ النّافِعُ في ذَلِكَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ سُبْحانَهُ شَبَّهَ في الأوَّلِ مَثَلَهم بِمَثَلِ المُسْتَوْقِدِ لا بِالمُسْتَوْقِدِ، وفي الثّانِي شَبَّهَ مَثَلَهم في خَوْفِهِمُ اللّازِمِ ورَجائِهِمُ المُنْقَطِعِ بِأصْحابِ (p-١٢٨)الصَّيِّبِ لا بِمَثَلِهِمْ؛ فَتَقْدِيرُ الأوَّلِ: مَثَلُهم في أنَّهم سَمِعُوا أوَّلًا الدُّعاءَ ورَأوُا الآياتِ فَأجابُوا الدّاعِيَ إمّا بِالفِعْلِ كالمُنافِقِينَ وإمّا بِالقُوَّةِ في أيّامِ الصِّبا لِما عِنْدَهم مِن سَلامَةِ الفِطَرِ وصِحَّةِ النَّظَرِ، ثُمَّ تَلَذَّذُوا فَرَجَعُوا بِقُلُوبِهِمْ مِن نُورِ ما قالُوهُ بِألْسِنَتِهِمْ مِن كَلِمَةِ التَّقْوى نُطْقًا أوْ تَقْدِيرًا إلى ظُلُماتِ الكُفْرِ، فَلَمْ يَنْفَعْهم سَمْعٌ ولا بَصَرٌ ولا عَقْلٌ، فَصارُوا مِثْلَ البَهائِمِ الَّتِي لا تُطِيعُ الرّاعِيَ إلّا بِالزَّجْرِ البَلِيغِ، مَثَلُهم في هَذا يُشْبِهُ مَثَلَ المُسْتَوْقِدِ في أنَّهُ لَمّا أضاءَتْ نارُهُ رَأى ما حَوْلَهُ، فَلَمّا ذَهَبَتْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى تَقَدُّمٍ ولا تَأخُّرٍ، لِأنَّهُ لا يَنْفَعُ في ذَلِكَ سَمْعٌ ولا كَلامٌ فَإذًا اسْتَوى وُجُودُهُما وعَدَمُهُما، (p-١٢٩)فَصارَ عادِمًا لِلثَّلاثَةِ، فَكانَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ مُساوِيًا لِلْأصَمِّ الأبْكَمِ الأعْمى، فَهو مِثْلُهُ لِكَوْنِهِ لا يَقْدِرُ عَلى مُرادِهِ إلّا إنْ قادَهُ قائِدٌ حِسِّيٌّ، فَهو حِينَئِذٍ مِثْلُ البَهائِمِ الَّتِي لا تُقادُ لِلْمُرادِ إلّا بِقائِدٍ، فاسْتَوى المَثَلانِ وسَيَتَّضِحُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ [البقرة: ١٧١] ولِذَلِكَ كانَتِ النَّتِيجَةُ في كُلٍّ مِنها: ”صُمٌّ. . .“ إلى آخِرِهِ، و”أوْ“ بِمَعْنى الواوِ، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ بِها دُونَها لِأنَّهُ وإنْ كانَ كُلٌّ مِنَ المَثَلَيْنِ صالِحًا لِكُلٍّ مِنَ القِسْمَيْنِ فَإنَّ احْتِمالَ التَّفْصِيلِ غَيْرُ بَعِيدٍ، لِأنَّ الأوَّلَ أظْهَرُ في الأوَّلِ والثّانِي في الثّانِي.
(p-١٣٠)وجَعَلَ الحَرالِّيُّ المَثَلَيْنِ لِلْمُنافِقِينَ فَقالَ: ضَرَبَ لَهم مَثَلَيْنِ لَمّا كانَ لَهم حالانِ ولِلْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ تَنَزُّلانِ، مِنهُ ما يَرْغَبُونَ فِيهِ لِما فِيهِ مِن مَصْلَحَةِ دُنْياهم، فَضَرَبَ لَهُمُ المَثَلَ الأوَّلَ، وقَدَّمَهُ لِأنَّهُ سَبَبُ دُخُولِهِمْ مَعَ الَّذِينَ آمَنُوا لِما رَأوْا مِن مُعاجَلَةِ عِقابِ الَّذِينَ كَفَرُوا في الدُّنْيا؛ ومِنهُ ما يَرْهَبُونَهُ ولا يَسْتَطِيعُونَ سَماعَهُ لِما يَتَضَمَّنُهُ مِن أُمُورٍ شاقَّةٍ عَلَيْهِمْ لا يَحْمِلُها إلّا مُؤْمِنٌ حَقًّا ولا يَتَحَمَّلُها إلّا مَن آمَنَ، ولِما يَلْزَمُ مِنهُ مِن فَضِيحَةِ خِداعِهِمْ فَضَرَبَ لَهُ المَثَلَ الثّانِيَ؛ فَلَنْ يَخْرُجَ حالُهم عِنْدَ نُزُولِ نُجُومِ القُرْآنِ عَنْ مُقْتَضى هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ. انْتَهى. وضَرْبُ الأمْثالِ المَنهِيُّ إلى الحَمْدِ المُنْتَهِي إلى الإحاطَةِ بِكُلِّ حَدٍّ لا سِيَّما في أُصُولِ الدِّينِ الكاشِفُ لِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ المُوصِلُ إلى اليَقِينِ في الإيمانِ بِالغَيْبِ المُحَقِّقُ لِما لِلَّهِ تَعالى مِن صِفاتِ الكَمالِ الدّافِعُ لِلشُّكُوكِ الحافِظُ في طَرِيقِ السُّلُوكِ مِمّا اخْتَصَّ بِهِ القُرْآنُ مِن حَيْثُ كانَ مَنهِيًّا إلى الحَمْدِ ومُفْصِحًا بِهِ فَكانَ حَرْفُ الحَمْدِ، وذَلِكَ أنَّهُ حَرْفٌ عامٌّ مُحِيطٌ شامِلٌ (p-١٣١)لِجَمِيعِ الأُمُورِ كافِلٌ بِكُلِّ الشَّرائِعِ في سائِرِ الأزْمانِ؛ فَكانَ أحَقُّ الرُّسُلِ بِهِ مَن كانَتْ رِسالَتُهُ عامَّةً لِجَمِيعِ الخَلْقِ وكِتابُهُ شامِلًا لِجَمِيعِ الأمْرِ وهو أحْمَدُ ومُحَمَّدٌ ﷺ .
قالَ الإمامُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ في كِتابِهِ ”عُرْوَةِ المِفْتاحِ“: هَذا الحَرْفُ لِإحاطَتِهِ أُنْزِلَ وِتْرًا وسائِرُ الحُرُوفِ أشْفاعٌ لِاخْتِصاصِها، ووَجْهُ إنْزالِهِ تَفْهِيمُ ما غَمَضَ مِنَ المُغَيَّباتِ بِضَرْبِ مَثَلٍ مِنَ المَشْهُوداتِ، ولَمّا كانَ لِلْأمْرِ تَنَزُّلاتٌ ولِلْخَلْقِ تَطَوُّراتٌ؛ كانَ الأظْهَرُ مِنها مَثَلًا لِما هو دُونَهُ في الظُّهُورِ، وكُلَّما ظَهَرَ مَمْثُولٌ صارَ مَثَلًا لِما هو أخْفى مِنهُ، فَكانَ لِذَلِكَ أمْثالًا عَدَدًا، مِنها مَثَلٌ لَيْسَ بِمَمْثُولٍ لِظُهُورِهِ، ومَمْثُولاتٌ تَصِيرُ أمْثالًا لِما هو أخْفى مِنها إلى أنْ تَنْتَهِيَ الأمْثالُ إلى غايَةِ مَحْسُوسٍ أوْ مَعْلُومٍ، فَتَكُونُ تِلْكَ الغايَةُ مَثَلًا أعْلى كالسَّماواتِ والأرْضِ فِيما يُحَسُّ، والعَرْشِ والكُرْسِيِّ فِيما يُعْلَمُ ﴿ولَهُ المَثَلُ الأعْلى في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الروم: ٢٧] ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ (p-١٣٢)العَرْشَ ومَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [غافر: ٧] وذَلِكَ المَثَلُ الأعْلى لِإحاطَتِهِ اسْمُهُ الحَمْدُ ﴿ولَهُ الحَمْدُ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الروم: ١٨] وأحْمَدُهُ أنْهاهُ وأدْناهُ إلى اللَّهِ تَعالى بِحَيْثُ لا يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى واسِطَةٌ، فَلِذَلِكَ ما اسْتَحَقَّ أكْمَلُ الخَلْقِ وأجْمَعُهُ وأكْمَلُ الأمْرِ وأجْمَعُهُ الِاخْتِصاصَ بِالحَمْدِ، فَكانَ أكْمَلُ الأُمُورِ سُورَةَ الحَمْدِ وكانَ أكْمَلُ الخَلْقِ صُورَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧] ودُونَ المَثَلِ الأعْلى الجامِعِ الأمْثالِ العِلْيَة المُفَصَّلَةِ مِنهُ ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلا مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] ولِإحاطَةِ أمْرِ اللَّهِ وكَمالِهِ في كُلِّ شَيْءٍ يَصِحُّ أنْ يَضْرِبَهُ مَثَلًا ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها﴾ [البقرة: ٢٦] ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١] ولِلْمَثَلِ حُكْمٌ مِن مَمْثُولِهِ، إنْ كانَ حَسَنًا حَسُنَ مَثَلُهُ، وإنْ كانَ سَيِّئًا ساءَ مَثَلُهُ؛ ولَمّا كانَ أعْلى الأمْثالِ الحَمْدَ كانَ أوَّلُ الفاتِحَةِ الحَمْدَ، ولَمّا كانَ أخْفى أمْرِ الخَلْقِ النِّفاقَ كانَ أوَّلُ مَثَلٍ في التَّرْتِيبِ مَثَلَ النِّفاقِ، وهو أدْنى مَثَلٍ لِما خَفِيَ مِن أمْرِ الخَلْقِ، كَما أنَّ الحَمْدَ أعْلى مَثَلٍ غابَ مِن أمْرِ الحَقِّ؛ (p-١٣٣)وبَيْنَ الحَدَّيْنِ أمْثالٌ حَسَنَةٌ وسَيِّئَةٌ ”مَثَل الجَنَّة الَّتِي وعد المُتَّقُونَ“ الآيَتَيْنِ،
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها﴾ [الجمعة: ٥] ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ﴾ [الأعراف: ١٧٦] الآيَتَيْنِ. وبِقَدْرِ عُلُوِّ المَثَلِ أوْ دُنُوِّهُ أوْ تَوَسُّطِهِ يَتَزايَدُ لِلْمُؤْمِنِ الإيمانُ ولِلْعالِمِ العِلْمُ ولِلْفاهِمِ الفَهْمُ، وبِضِدِّ ذَلِكَ لِمَنِ اتَّصَفَ بِأضْدادِ تِلْكَ الأوْصافِ،
﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦] ومَعْرِفَةُ أمْثالِ القُرْآنِ المُعَرِّفَةَ إحاطَةَ مَمْثُولاتِها وعِلْمَ آياتِهِ، المُعْلِمَةَ اخْتِصاصَ مَعْلُوماتِها هو حَظُّ العَقْلِ واللُّبِّ وحَرْفِهِ مِنَ القُرْآنِ، ولِكُلِّ حَرْفٍ اخْتِصاصٌ بِحَظٍّ مِن تَدَرُّكِ الإنْسانِ وأعْمالِ القُلُوبِ والأنْفُسِ والأبْدانِ، فَمَن يُسِّرَ لَهُ القِراءَةُ والعَمَلُ بِحَرْفٍ مِنهُ اكْتَفى، ومَن جُمِعَ لَهُ قِراءَةُ جَمِيعِ أحْرُفِهِ عِلْمًا وعَمَلًا فَقَدْ أتَمَّ ووَفّى، وبِذَلِكَ يَكُونُ القارِئُ مِنَ القُرّاءِ الَّذِينَ قالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّهم أعَزُّ مِنَ الكِبْرِيتِ الأحْمَرِ»، يخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ والله ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
ثُمَّ قالَ فِيما بِهِ يَحْصُلُ قِراءَةُ هَذا الحَرْفِ: اعْلَمْ أنَّ قِراءَةَ الأحْرُفِ (p-١٣٤)السِّتَّةِ تَمامًا وفاءٌ بِتَفْصِيلِ العِبادَةِ، لِأنَّها أشْفاعٌ؛ ثَلاثَةٌ لِلتَّخَلُّصِ والتَّخَلِّي، وثَلاثَةٌ لِلْعَمَلِ والتَّحَلِّي، لِأنَّ تَرْكَ الحَرامِ طُهْرَةُ البَدَنِ وتَرْكَ النَّهْيِ طُهْرَةُ النَّفْسِ وتَرْكَ التَّعَرُّضِ لِلْمُتَشابِهِ طُهْرَةُ القَلْبِ، ولِأنَّ تَناوُلَ الحَلالِ زَكاءُ البَدَنِ، وطاعَةَ الأمْرِ زَكاءُ النَّفْسِ، وتَحَقُّقَ العُبُودِيَّةِ بِمُقْتَضى حَرْفِ المُحْكَمِ نُورُ القَلْبِ.
وأمّا قِراءَةُ حَرْفِ الأمْثالِ؛ فَهو وفاءُ العِبادَةِ بِالقَلْبِ جَمْعًا ودَوامًا ﴿ولَهُ الدِّينُ واصِبًا﴾ [النحل: ٥٢] و﴿الَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾ [المعارج: ٢٣] فالَّذِي يَحْصُلُ: قِراءَةُ هَذا الحَرْفِ إنَّما هو خاصٌّ بِالقَلْبِ؛ لِأنَّ أعْمالَ الجَوارِحِ وأحْوالَ النَّفْسِ قَدِ اسْتَوْفَتْها الأحْرُفُ السِّتَّةُ التَّفْصِيلِيَّةُ، والَّذِي يَخُصُّ القَلْبَ بِقِراءَةِ هَذا الحَرْفِ هو المَعْرِفَةُ التّامَّةُ المُحِيطَةُ بِأنَّ كُلَّ الخَلْقِ دَقِيقَهُ وجَلِيلَهُ خَلْقُ اللَّهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ في شَيْءٍ مِنهُ، وأنَّهُ جَمِيعَهُ مَثَلٌ لِكُلِّيَّةِ أمْرِ اللَّهِ القائِمِ بِكُلِّيَّةِ ذَلِكَ الخَلْقِ، وأنَّ كُلِّيَّةَ ذَلِكَ الأمْرِ الَّذِي هو مَمْثُولٌ لِمَثَلِ الخَلْقِ هو مَثَلٌ لِلَّهِ تَعالى: ﴿ولَهُ المَثَلُ الأعْلى﴾ [الروم: ٢٧] وأنَّ تَفاصِيلَ ذَلِكَ الخَلْقِ المُحِيطاتِ أمْثالٌ لِقِيامِها مِن تَفاصِيلِ ذَلِكَ الأمْرِ المُحِيطاتِ بِها، وأنَّ تَفاصِيلَ الأمْرِ المُحِيطاتِ أمْثالٌ لِأسْماءِ اللَّهِ تَعالى الحُسْنى بِما هي مُحِيطَةٌ؛ ولِجَمْعِ هَذا الحَرْفِ لَمْ يَصِحَّ إنْزالُهُ إلّا عَلى الخَلْقِ الجامِعِ الآدَمِيِّ الَّذِي هو صَفْوَةُ اللَّهِ وفِطْرَتُهُ، وعَلى سَيِّدِ الآدَمِيِّينَ مُحَمَّدٍ خاتَمِ النَّبِيِّينَ وهو خاصَّتُهُ وخاصَّةُ آلِهِ، وعَنْهُ (p-١٣٥)كَمَلَ الدِّينُ بِالإحْسانِ، وصَفا العِلْمُ بِالإيقانِ، وشُوهِدَ في الوَقْتِ الحاضِرِ، ما بَيْنَ حَدِّيِ الأزَلِ الماضِي والأبَدِ الغابِرِ، وعَنْ تَمامِ اليَقِينِ والإحْسانِ تَحَقَّقَ الفَناءُ لِكُلِّ فانٍ، وبَقِيَ وجْهُ رَبِّ مُحَمَّدٍ ذِي الجَلالِ والإكْرامِ، وكانَ هَذا الحَرْفُ بِما اسْمُهُ الحَمْدُ هو لِكُلِّ شَيْءٍ بِداءٌ وخِتامٌ. انْتَهى.
{"ayah":"یَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ یَخۡطَفُ أَبۡصَـٰرَهُمۡۖ كُلَّمَاۤ أَضَاۤءَ لَهُم مَّشَوۡا۟ فِیهِ وَإِذَاۤ أَظۡلَمَ عَلَیۡهِمۡ قَامُوا۟ۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَـٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق