الباحث القرآني

﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ﴾ عَطْفٌ عَلى التَّمْثِيلِ السّابِقِ وهو قَوْلُهُ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] أُعِيدَ تَشْبِيهُ حالِهِمْ بِتَمْثِيلٍ آخَرَ وبِمُراعاةِ أوْصافٍ أُخْرى فَهو تَمْثِيلٌ لِحالِ المُنافِقِينَ المُخْتَلِطَةِ بَيْنَ جَواذِبَ ودَوافِعَ (p-٣١٥)- حِينَ يُجاذِبُ نُفُوسَهم جاذِبُ الخَيْرِ عِنْدَ سَماعِ مَواعِظِ القُرْآنِ وإرْشادِهِ، وجاذِبُ الشَّرِّ مِن أعْراقِ النُّفُوسِ والسُّخْرِيَةِ بِالمُسْلِمِينَ - بِحالِ صَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ اخْتَلَطَتْ فِيهِ غُيُوثٌ وأنْوارٌ ومُزْعِجاتٌ وأكْدارٌ، جاءَ عَلى طَرِيقَةِ بُلَغاءِ العَرَبِ في التَّفَنُّنِ في التَّشْبِيهِ وهم يَتَنافَسُونَ فِيهِ لاسِيَّما التَّمْثِيلِيُّ مِنهُ وهي طَرِيقَةٌ تَدُلُّ عَلى تَمَكُّنِ الواصِفِ مِنَ التَّوْصِيفِ والتَّوَسُّعِ فِيهِ. وقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مِنِ اسْتِعْمالِهِمْ فَرَأيْتُهم قَدْ يَسْلُكُونَ طَرِيقَةَ عَطْفِ تَشْبِيهٍ عَلى تَشْبِيهٍ كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ في مُعَلَّقَتِهِ: ؎أصاحِ تَرى بَرْقًا أُرِيكَ ومِيضَهُ كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ ؎يُضِيءُ سَناهُ أوْ مَصابِيحِ راهِبٍ ∗∗∗ أمالَ السَّلِيطُ بِالذُّبالِ المُفَتَّلِ وقَوْلِ لَبِيدٍ في مُعَلَّقَتِهِ يَصِفُ راحِلَتَهُ: ؎فَلَها هِبابٌ في الزِّمامِ كَأنَّها ∗∗∗ صَهْباءُ خَفَّ مَعَ الجَنُوبِ جِهامُها ؎أوْ مُلْمِعٍ وسَقَتْ لِأحْقَبَ لاحَهُ ∗∗∗ طَرْدُ الفُحُولِ وضَرْبُها وكِدامُها وكَثُرَ أنْ يَكُونَ العَطْفُ في نَحْوِهِ بَأوْ دُونَ الواوِ، وأوْ مَوْضُوعَةٌ لِأحَدِ الشَّيْئَيْنِ أوِ الأشْياءِ فَيَتَوَلَّدُ مِنها مَعْنى التَّسْوِيَةِ، ورُبَّما سَلَكُوا في إعادَةِ التَّشْبِيهِ مَسْلَكَ الِاسْتِفْهامِ بِالهَمْزَةِ أيْ لِتَخْتارَ التَّشْبِيهَ بِهَذا أمْ بِذَلِكَ، وذَلِكَ كَقَوْلِ لَبِيدٍ عَقِبَ البَيْتَيْنِ السّابِقِ ذِكْرُهُما: ؎أفَتِلْكَ أمْ وحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ ∗∗∗ خَذَلَتْ وهادِيَةُ الصِّوارِ قِوامُها وقالَ ذُو الرُّمَّةِ في تَشْبِيهِ سَيْرِ ناقَتِهِ الحَثِيثِ: ؎وثْبَ المُسَحَّجُ مِن عاناتِ مُعَقُلَةٍ ∗∗∗ كَأنَّهُ مُسْتَبانُ الشَّكِّ أوْ جَنِبُ (p-٣١٦)ثُمَّ قالَ: ؎أذاكَ أمْ نَمِشٌ بِالوَشْيِ أكْرُعُهُ ∗∗∗ مُسَفَّعُ الخَدِّ غادٍ ناشِعٌ شَبَبُ ثُمَّ قالَ: ؎أذاكَ أمْ خاضِبٌ بِالسِّيِّ مَرْتَعُهُ ∗∗∗ أبُو ثَلاثِينَ أمْسى وهْوَ مُنْقَلِبُ ورُبَّما عَطَفُوا بِالواوِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ﴾ [الزمر: ٢٩] الآيَةَ ثُمَّ قالَ ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ [النحل: ٧٦] الآيَةَ. وقَوْلِهِ ﴿وما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ﴾ [فاطر: ١٩] ﴿ولا الظُّلُماتُ ولا النُّورُ﴾ [فاطر: ٢٠] ﴿ولا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ﴾ [فاطر: ٢١] الآيَةَ. بَلْ ورُبَّما جَمَعُوا بِلا عَطْفٍ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿حَتّى جَعَلْناهم حَصِيدًا خامِدِينَ﴾ [الأنبياء: ١٥] وهَذِهِ تَفَنُّناتٌ جَمِيلَةٌ في الكَلامِ البَلِيغِ، فَما ظَنُّكَ بِها إذا وقَعَتْ في التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ، فَإنَّهُ لِعِزَّتِهِ مُفْرَدًا تَعِزُّ اسْتِطاعَةُ تَكْرِيرِهِ. وأوْ عَطَفَتْ لَفْظَ صَيِّبٍ عَلى الَّذِي اسْتَوْقَدَ بِتَقْدِيرِ ”مَثَلِ“ بَيْنِ الكافِ وصَيِّبٍ. وإعادَةُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ مَعَ حَرْفِ العَطْفِ المُغْنِي عَنْ إعادَةِ العامِلِ، وهَذا التَّكْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ في كَلامِهِمْ وحُسْنُهُ هُنا أنَّ فِيهِ إشارَةً إلى اخْتِلافِ الحالَيْنِ المُشَبَّهَيْنِ كَما سَنُبَيِّنُهُ، وهم في الغالِبِ لا يُكَرِّرُونَهُ في العَطْفِ. والتَّمْثِيلُ هُنا لِحالِ المُنافِقِينَ حِينَ حُضُورِهِمْ مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وسَماعِهِمُ القُرْآنَ وما فِيهِ مِن آيِ الوَعِيدِ لِأمْثالِهِمْ وآيِ البِشارَةِ، فالغَرَضُ مِن هَذا التَّمْثِيلِ تَمْثِيلُ حالَةٍ مُغايِرَةٍ لِلْحالَةِ الَّتِي مُثِّلَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ [البقرة: ١٧] بِنَوْعِ إطْلاقٍ وتَقْيِيدٍ. فَقَوْلُهُ ﴿أوْ كَصَيِّبٍ﴾ تَقْدِيرُهُ أوْ كَفَرِيقٍ ذِي صَيْبٍ أيْ كَقَوْمٍ عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ [البقرة: ١٧] دَلَّ عَلى تَقْدِيرِ قَوْمٍ قَوْلُهُ ﴿يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ﴾ وقَوْلُهُ (p-٣١٧)﴿يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ الآيَةَ. لِأنَّ ذَلِكَ لا يَصِحُّ عَوْدُهُ إلى المُنافِقِينَ فَلا يَجِيءُ فِيهِ ما جازَ في قَوْلِهِ ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] إلَخْ. فَشُبِّهَتْ حالُ المُنافِقِينَ بِحالِ قَوْمٍ سائِرِينَ في لَيْلٍ بِأرْضِ قَوْمٍ أصابَها الغَيْثُ وكانَ أهْلُها كانِّينَ في مَساكِنِهِمْ كَما عُلِمَ ذَلِكَ مِن قَوْلِهِ ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ﴾ فَذَلِكَ الغَيْثُ نَفَعَ أهْلَ الأرْضِ ولَمْ يُصِبْهم مِمّا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الرَّعْدِ والصَّواعِقِ ضُرٌّ ولَمْ يَنْفَعِ المارِّينَ بِها وأضَرَّ بِهِمْ ما اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الظُّلُماتِ والرَّعْدِ والبَرْقِ، فالصَّيِّبُ مُسْتَعارٌ لِلْقُرْآنِ وهُدى الإسْلامِ وتَشْبِيهُهُ بِالغَيْثِ وارِدٌ. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدى كَمَثَلِ الغَيْثِ أصابَ أرْضًا فَكانَ مِنها نَقِيَّةٌ» إلَخْ. وفي القُرْآنِ ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ﴾ [الحديد: ٢٠] ولا تَجِدُ حالَةً صالِحَةً لِتَمْثِيلِ هَيْئَةِ اخْتِلاطِ نَفْعٍ وضُرٍّ مِثْلَ حالَةِ المَطَرِ والسَّحابِ وهو مِن بَدِيعِ التَّمْثِيلِ القُرْآنِيِّ، ومِنهُ أخَذَ أبُو الطَّيِّبِ قَوْلَهُ: ؎فَتًى كالسَّحابِ الجَوْنِ يُرْجى ويُتَّقى ∗∗∗ يَرَجّى الحَيا مِنهُ وتُخْشى الصَّواعِقُ والظُّلُماتُ مُسْتَعارٌ لِما يَعْتَرِي الكافِرِينَ مِنَ الوَحْشَةِ عِنْدَ سَماعِهِ كَما تَعْتَرِي السّائِرَ في اللَّيْلِ وحْشَةُ الغَيْمِ لِأنَّهُ يَحْجُبُ عَنْهُ ضَوْءَ النُّجُومِ والقَمَرِ. والرَّعْدُ لِقَوارِعِ القُرْآنِ وزَواجِرِهِ. والبَرْقُ لِظُهُورِ أنْوارِ هَدْيِهِ مِن خِلالِ الزَّواجِرِ، فَظَهَرَ أنَّ هَذا المُرَكَّبَ التَّمْثِيلِيَّ صالِحٌ لِاعْتِباراتِ تَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ وهو أعْلى التَّمْثِيلِ. والصَّيِّبُ فَيْعَلٌ مِن صابَ يُصُوبُ صَوْبًا إذا نَزَلَ بِشِدَّةٍ، قالَ المَرْزُوقِيُّ إنَّ ياءَهُ لِلنَّقْلِ مِنَ المَصْدَرِيَّةِ إلى الإسْمِيَّةِ فَهو وصْفٌ لِلْمَطَرِ بِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ الحاصِلَةِ مِن كَثافَةِ السَّحابِ ومِن ظَلامِ اللَّيْلِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ لَيْسَ بِقَيْدٍ لِلصَّيِّبِ وإنَّما هو وصْفٌ كاشِفٌ جِيءَ بِهِ لِزِيادَةِ اسْتِحْضارِ صُورَةِ الصَّيِّبِ في هَذا التَّمْثِيلِ إذِ المَقامُ مَقامُ إطْنابٍ كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِن عَلِ إذْ قَدْ عَلِمَ السّامِعُ أنَّ السَّيْلَ لا يَحُطُّ جُلْمُودَ صَخْرٍ إلّا مِن أعْلى ولَكِنَّهُ أرادَ التَّصْوِيرَ، وكَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] وقَوْلِهِ ﴿كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ في الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٧١] وقالَ تَعالى ﴿فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ﴾ [الأنفال: ٣٢] والسَّماءُ تُطْلَقُ عَلى الجَوِّ المُرْتَفِعِ فَوْقَنا الَّذِي نَخالُهُ قُبَّةً زَرْقاءَ، وعَلى الهَواءِ المُرْتَفِعِ قالَ تَعالى ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصْلُها ثابِتٌ وفَرْعُها في السَّماءِ﴾ [إبراهيم: ٢٤] وتُطْلَقُ عَلى السَّحابِ، وتُطْلَقُ عَلى المَطَرِ (p-٣١٨)نَفْسِهِ، فَفي الحَدِيثِ: خَطَبَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إثْرَ سَماءٍ إلَخْ، ولَمّا كانَ تَكَوُّنُ المَطَرِ مِنَ الطَّبَقَةِ الزَّمْهَرِيرِيَّةِ المُرْتَفِعَةِ في الجَوِّ جُعِلَ ابْتِداؤُهُ مِنَ السَّماءِ وتَكَرَّرَ ذَلِكَ في القُرْآنِ. ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ تَقْيِيدًا لِلصَّيِّبِ إمّا بِمَعْنى: مِن جَمِيعِ أقْطارِ الجَوِّ إذا قُلْنا: إنَّ التَّعْرِيفَ في السَّماءِ لِلِاسْتِغْراقِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ في الكَشّافِ عَلى بُعْدٍ فِيهِ إذْ لَمْ يُعْهَدُ دُخُولُ لامِ الِاسْتِغْراقِ إلّا عَلى اسْمٍ كُلِّيٍّ ذِي أفْرادٍ دُونَ اسْمِ كُلٍّ ذِي أجْزاءٍ فَيَحْتاجُ لِتَنْزِيلِ الأجْزاءِ مَنزِلَةَ أفْرادِ الجِنْسِ - ولا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ في الِاسْتِعْمالِ - فالَّذِي يَظْهَرُ لِي - إنْ جَعَلْنا قَوْلَهُ ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ قَيْدًا لِلصَّيِّبِ - أنَّ المُرادَ مِنَ السَّماءِ أعْلى الِارْتِفاعِ، والمَطَرُ إذا كانَ مِن سَمْتٍ مُقابِلٍ وكانَ عالِيًا كانَ أدْوَمَ، بِخِلافِ الَّذِي يَكُونُ مِن جَوانِبِ الجَوِّ ويَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الأرْضِ غَيْرَ مُرْتَفِعٍ. وضَمِيرُ ”فِيهِ“ عائِدٌ إلى صَيِّبٍ، والظَّرْفِيَّةُ مَجازِيَّةٌ بِمَعْنى مَعَهُ، والظُّلُماتُ مَضى القَوْلُ فِيهِ آنِفًا، والمُرادُ بِالظُّلُماتِ ظَلامُ اللَّيْلِ أيْ كَسَحابٍ في لَوْنِهِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وسَحابَةُ اللَّيْلِ أشَدُّ مَطَرًا وبَرْقًا وتُسَمّى سارِيَةً. والرَّعْدُ أصْواتٌ تَنْشَأُ في السَّحابِ. والبَرْقُ لامِعٌ نارِيٌّ مُضِيءٌ يَظْهَرُ في السَّحابِ، والرَّعْدُ والبَرْقُ يَنْشَآنِ في السَّحابِ مِن أثَرٍ كَهْرَبائِيٍّ يَكُونُ في السَّحابِ، فَإذا تَكاثَفَتْ سَحابَتانِ في الجَوِّ إحْداهُما كَهْرَباؤُها أقْوى مِن كَهْرَباءِ الأُخْرى وتَحاكَّتا جَذَبَتِ الأقْوى مِنهُما الأضْعَفَ فَحَدَثَ بِذَلِكَ انْشِقاقٌ في الهَواءِ بِشِدَّةٍ وسُرْعَةٍ فَحَدَثَ صَوْتٌ قَوِيٌّ هو المُسَمّى الرَّعْدَ، وهو فَرْقَعَةٌ هَوائِيَّةٌ مِن فِعْلِ الكَهْرَباءِ، ويَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ التِقاءُ الكَهْرَباءَيْنِ، وذَلِكَ يُسَبِّبُ انْقِداحَ البَرْقِ. وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الصَّيِّبَ تَشْبِيهٌ لِلْقُرْآنِ وأنَّ الظُّلُماتِ والرَّعْدَ والبَرْقَ تَشْبِيهٌ لِنَوازِعِ الوَعِيدِ بِأنَّها تَسُرُّ أقْوامًا وهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِالغَيْثِ وتَسُوءُ المُسافِرِينَ غَيْرَ أهْلِ تِلْكَ الدّارِ، فَكَذَلِكَ الآياتُ تَسُرُّ المُؤْمِنِينَ إذْ يَجِدُونَ أنْفُسَهم ناجِينَ مِن أنْ تَحِقَّ عَلَيْهِمْ، وتَسُوءُ المُنافِقِينَ إذْ يَجِدُونَها مُنْطَبِقَةً عَلى أحْوالِهِمْ. * * * (p-٣١٩)﴿يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾ ﴿يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصارَهم كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمُ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الأظْهَرُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يَجْعَلُونَ حالًا اتَّضَحَ بِها المَقْصُودُ مِنَ الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها؛ لِأنَّها كانَتْ مُجْمَلَةً، وأمّا جُمْلَةُ ﴿يَكادُ البَرْقُ﴾ فَيَجُوزُ كَوْنُها حالًا مِن ضَمِيرِ ”يَجْعَلُونَ“ لِأنَّ بِها كَمالَ إيضاحِ الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها، ويَجُوزُ كَوْنُها اسْتِئْنافًا لِبَيانِ حالِ الفَرِيقِ عِنْدَ البَرْقِ نَشَأ عَنْ بَيانِ حالِهِمْ عِنْدَ الرَّعْدِ. وجُمْلَةُ ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ﴾ حالٌ مِنَ البَرْقِ أوْ مِن ضَمِيرِ أبْصارِهِمْ لا غَيْرَ، وفي هَذا تَشْبِيهٌ لِجَزَعِ المُنافِقِينَ مِن آياتِ الوَعِيدِ بِما يَعْتَرِي القائِمَ تَحْتَ السَّماءِ حِينَ الرَّعْدِ والبَرْقِ والظُّلُماتِ فَهو يَخْشى اسْتِكاكَ سَمْعِهِ ويَخْشى الصَّواعِقَ حَذَرَ المَوْتِ ويُعَشِّيهِ البَرْقُ حِينَ يَلْمَعُ بِإضاءَةٍ شَدِيدَةٍ ويُعَمِّي عَلَيْهِ الطَّرِيقَ بَعْدَ انْقِطاعِ لَمَعانِهِ. وقَوْلُهُ ﴿كُلَّما أضاءَ لَهُمْ﴾ تَمْثِيلٌ لِحالِ حَيْرَةِ المُنافِقِينَ بِحالِ حَيْرَةِ السّائِرِينَ في اللَّيْلِ المُظْلِمِ المُرْعِدِ المُبْرِقِ. وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾ اعْتِراضٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأنَّ المَقْصُودَ التَّمْثِيلُ لِحالِ المُنافِقِينَ في كُفْرِهِمْ لا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ في التَّمْثِيلِ. وقَوْلُهُ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ رُجُوعٌ إلى وعِيدِ المُنافِقِينَ الَّذِينَ هُمُ المَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ، فالضَّمائِرُ الَّتِي في جُمْلَةِ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ﴾ راجِعَةٌ إلى أصْلِ الكَلامِ، وتَوْزِيعُ الضَّمائِرِ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ. فَعَبَّرَ عَنْ زَواجِرِ القُرْآنِ بِالصَّواعِقِ وعَنِ انْحِطاطِ قُلُوبِ المُنافِقِينَ وهي البَصائِرُ عَنْ قَرارِ نُورِ الإيمانِ فِيها بِخَطْفِ البَرْقِ لِلْأبْصارِ، وإلى نَحْوٍ مِن هَذا يُشِيرُ كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ نَقْلًا عَنْ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، وهو مَجازٌ شائِعٌ، يُقالُ: فُلانٌ يَرْعُدُ ويَبْرُقُ، عَلى أنَّ بِناءَهُ هُنا عَلى المَجازِ السّابِقِ يَزِيدُهُ قَبُولًا، وعَبَّرَ عَمّا يَحْصُلُ لِلْمُنافِقِينَ مِنَ الشَّكِّ في صِحَّةِ اعْتِقادِهِمْ بِمَشْيِ السّارِي في ظُلْمَةٍ إذا أضاءَ لَهُ البَرْقُ، وعَنْ إقْلاعِهِمْ عَنْ ذَلِكَ الشَّكِّ حِينَ رُجُوعِهِمْ إلى كُفْرِهِمْ بِوُقُوفِ الماشِي عِنْدَ انْقِطاعِ البَرْقِ عَلى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِتَهْدِيدٍ لا يُناسِبُ إلّا المُشَبَّهِينَ وهو (p-٣٢٠)ما أفادَهُ الِاعْتِراضُ بِقَوْلِهِ ﴿واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾ وقَوْلِهِ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ فَجاءَ بِهَذِهِ الجُمَلِ الحالِيَّةِ والمُسْتَأْنَفَةِ تَنْبِيهًا عَلى وجْهِ الشَّبَهِ وتَقْرِيرًا لِقُوَّةِ مُشابَهَةِ الزَّواجِرِ وآياتِ الهُدى والإيمانِ بِالرَّعْدِ والبَرْقِ في حُصُولِ أثَرَيِ النَّفْعِ والضُّرِّ عَنْهُما مَعَ تَفَنُّنٍ في البَلاغَةِ وطَرائِقِ الحَقِيقَةِ والمَجازِ. وجَعَلَ في الكَشّافِ الجُمَلَ الثَّلاثَ مُسْتَأْنَفًا بَعْضَها عَنْ بَعْضٍ بِأنْ تَكُونَ الأُولى اسْتِئْنافًا عَنْ جُمْلَةِ ﴿أوْ كَصَيِّبٍ﴾ والثّانِيَةُ وهي ﴿يَكادُ البَرْقُ﴾ مُسْتَأْنَفَةً عَنْ جُمْلَةِ (يَجْعَلُونَ) لِأنَّ الصَّواعِقَ تَسْتَلْزِمُ البَرْقَ، والثّالِثَةُ وهي ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا﴾ مُسْتَأْنَفَةً عَنْ قَوْلِهِ ﴿يَكادُ البَرْقُ﴾ والمَعْنى عَلَيْهِ ضَعِيفٌ وهو في بَعْضِها أضْعَفُ مِنهُ في بَعْضٍ كَما أشَرْنا إلَيْهِ آنِفًا. والجَعْلُ والأصابِعُ مُسْتَعْمَلانِ في حَقِيقَتِهِما عَلى قَوْلِ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ لِأنَّ الجَعْلَ هو هُنا بِمَعْنى النَّوْطِ، والظَّرْفِيَّةُ لا تَقْتَضِي الإحاطَةَ فَجَعْلُ بَعْضِ الإصْبَعِ في الأُذُنِ هو جَعْلٌ لِلْإصْبَعِ، فَتَمَثُّلُ بَعْضِ عُلَماءِ البَيانِ بِهَذِهِ الآيَةِ لِلْمَجازِ الَّذِي عَلاقَتُهُ الجُزْئِيَّةُ تَسامُحٌ، ولِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ صاحِبُ الكَشّافِ بِقَوْلِهِ: هَذا مِنَ الِاتِّساعاتِ في اللُّغَةِ الَّتِي لا يَكادُ الحاصِرُ يَحْصُرُها كَقَوْلِهِ ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] ﴿فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ [المائدة: ٣٨] ومِنهُ قَوْلُكَ مَسَحْتُ بِالمِندِيلِ، ودَخَلْتُ البَلَدَ، وقِيلَ: ذَلِكَ مَجازٌ في الأصابِعِ، وقِيلَ: مَجازٌ في الجَعْلِ: ولِمَن شاءَ أنْ يَجْعَلَهُ مَجازًا في الظَّرْفِيَّةِ فَتَكُونُ تَبَعِيَّةً لِكَلِمَةِ ”في“ . و(مِن) في قَوْلِهِ ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾ لِلتَّعْلِيلِ أيْ لِأجْلِ الصَّواعِقِ إذِ الصَّواعِقُ هي عِلَّةُ جَعْلِ الأصابِعِ في الآذانِ ولا ضَيْرَ في كَوْنِ الجَعْلِ لِاتِّقائِها حَتّى يُقالَ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ مُضافٍ نَحْوَ تَرْكٍ واتِّقاءٍ إذْ لا داعِيَ إلَيْهِ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهم: ”سَقاهُ مِنَ العَيْمَةِ“ بِفَتْحِ العَيْنِ وسُكُونِ الياءِ وهي شَهْوَةُ اللَّبَنِ لِأنَّ العَيْمَةَ سَبَبُ السَّقْيِ والمَقْصُودُ زَوالُها إذِ المَفْعُولُ لِأجْلِهِ هو الباعِثُ وُجُودُهُ عَلى الفِعْلِ سَواءً كانَ مَعَ ذَلِكَ غايَةً لِلْفِعْلِ وهو الغالِبُ أمْ لَمْ يَكُنْ كَما هُنا. والصَّواعِقُ جَمْعُ صاعِقَةٍ وهي نارٌ تَنْدَفِعُ مِن كَهْرَبائِيَّةِ الأسْحِبَةِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. وقَوْلُهُ ﴿حَذَرَ المَوْتِ﴾ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ وهو هُنا عِلَّةٌ وغايَةٌ مَعًا. ومِن بَدِيعِ هَذا التَّمْثِيلِ أنَّهُ مَعَ ما احْتَوى عَلَيْهِ مِن مَجْمُوعِ الهَيْئَةِ المُرَكَّبَةِ المُشَبَّهِ بِها حالُ المُنافِقِينَ حِينَ مُنازَعَةِ الجَواذِبِ لِنُفُوسِهِمْ مِن جَواذِبِ الِاهْتِداءِ وتَرْقُبِها ما يُفاضُ عَلى نُفُوسِهِمْ مِن قَبُولِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ وإرْشادِهِ مَعَ جَواذِبِ الإصْرارِ عَلى الكُفْرِ وذَبِّهِمْ عَنْ أنْفُسِهِمْ أنْ يَعْلَقَ بِها ذَلِكَ الإرْشادُ حِينَما يَخْلُونَ إلى شَياطِينِهِمْ، هو مَعَ ذَلِكَ قابِلٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ في (p-٣٢١)مُفْرَداتِهِ إلى تَشابِيهَ مُفْرَدَةٍ بِأنْ يُشَبَّهَ كُلُّ جُزْءٍ مِن مَجْمُوعِ الهَيْئَةِ المُشَبَّهَةِ لِجُزْءٍ مِن مَجْمُوعِ هَيْئَةِ قَوْمٍ أصابَهم صَيِّبٌ مَعَهُ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وصَواعِقُ لا يُطِيقُونَ سَماعَ قَصْفِها ويَخْشَوْنَ المَوْتَ مِنها وبَرْقٌ شَدِيدٌ يَكادُ يَذْهَبُ بِأبْصارِهِمْ، وهم في حَيْرَةٍ بَيْنَ السَّيْرِ وتَرْكِهِ. وقَوْلُهُ ﴿واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾ اعْتِراضٌ راجِعٌ لِلْمُنافِقِينَ إذْ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ التَّمَثُّلُ واتَّضَحَ مِنهُ حالُهم فَآنَ أنْ يُنَبَّهَ عَلى وعِيدِهِمْ وتَهْدِيدِهِمْ، وفي هَذا رُجُوعٌ إلى أصْلِ الغَرَضِ كالرُّجُوعِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ﴾ [البقرة: ١٧] إلَخْ كَما تَقَدَّمَ، إلّا أنَّهُ هُنا وقَعَ بِطَرِيقِ الِاعْتِراضِ. والإحاطَةُ اسْتِعارَةٌ لِلْقُدْرَةِ الكامِلَةِ شُبِّهَتِ القُدْرَةُ الَّتِي لا يَفُوتُها المَقْدُورُ بِإحاطَةِ المُحِيطِ بِالمُحاطِ عَلى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ أوِ التَّمْثِيلِيَّةِ، وإنْ لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ ما يَدُلُّ عَلى جَمِيعِ المُرَكَّبِ الدّالِّ عَلى الهَيْئَةِ المُشَبَّهَةِ بِها، وقَدِ اسْتُعْمِلَ هَذا الخَبَرُ في لازِمِهِ وهو أنَّهُ لا يُفْلِتُهم وأنَّهُ يُجازِيهِمْ عَلى سُوءِ صُنْعِهِمْ. والخَطْفُ الأخْذُ بِسُرْعَةٍ. و”كُلَّما“ كَلِمَةٌ تُفِيدُ عُمُومَ مَدْخُولِها، وما كافَّةٌ لِكُلٍّ عَنِ الإضافَةِ أوْ هي مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ أوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، فالعُمُومُ فِيها مُسْتَفادٌ مِن كَلِمَةِ كُلٍّ. وذِكْرُ ”كُلَّما“ في جانِبِ الإضاءَةِ و”إذا“ في جانِبِ الإظْلامِ لِدَلالَةِ كُلَّما عَلى حِرْصِهِمْ عَلى المَشْيِ وأنَّهم يَتَرَصَّدُونَ الإضاءَةَ، فَلا يُفِيتُونَ زَمَنًا مِن أزْمانِ حُصُولِها لِيَتَبَيَّنُوا الطَّرِيقَ في سَيْرِهِمْ لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ. وأضاءَ فِعْلٌ يُسْتَعْمَلُ قاصِرًا ومُتَعَدِّيًا بِاخْتِلافِ المَعْنى كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿فَلَمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ﴾ [البقرة: ١٧] وأظْلَمَ يُسْتَعْمَلُ قاصِرًا كَثِيرًا ويُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا قَلِيلًا والظّاهِرُ أنَّ أضاءَ هُنا مُتَعَدٍّ، فَمَفْعُولُ أضاءَ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ مَشَوْا عَلَيْهِ، وتَقْدِيرُهُ المَمْشى أوِ الطَّرِيقُ؛ أيْ أضاءَ لَهُمُ البَرْقُ الطَّرِيقَ وكَذَلِكَ أظْلَمَ أيْ وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمُ البَرْقُ الطَّرِيقَ بِأنْ أمْسَكَ ومِيضَهُ فَإسْنادُ الإظْلامِ إلى البَرْقِ مَجازٌ لِأنَّهُ تَسَبَّبَ في الإظْلامِ. ومَعْنى القِيامِ عَدَمُ المَشْيِ أيِ الوُقُوفُ في المَوْضِعِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ مَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الجَوابِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ شَأْنُ فِعْلِ المَشِيئَةِ والإرادَةِ ونَحْوِهِما إذا وقَعَ مُتَّصِلًا بِما يَصْلُحُ لِأنْ يَدُلَّ عَلى مَفْعُولِهِ مِثْلَ وُقُوعِهِ صِلَةً لِمَوْصُولٍ يَحْتاجُ إلى خَبَرٍ نَحْوَ: ما شاءَ اللَّهُ كانَ أيْ: ما شاءَ كَوْنَهُ كانَ، ومِثْلَ وُقُوعِهِ شَرْطًا لِلَوْ لِظُهُورِ أنَّ الجَوابَ هو دَلِيلُ المَفْعُولِ. وكَذَلِكَ إذا كانَ في الكَلامِ السّابِقِ قَبْلَ فِعْلِ المَشِيئَةِ ما يَدُلُّ عَلى مَفْعُولِ الفِعْلِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ [الأعلى: ٦] ﴿إلّا ما شاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى: ٧] (p-٣٢٢)قالَ الشَّيْخُ في دَلائِلِ الإعْجازِ: إنَّ البَلاغَةَ في أنْ يُجاءَ بِهِ كَذَلِكَ مَحْذُوفًا وقَدْ يَتَّفِقُ في بَعْضِهِ أنْ يَكُونَ إظْهارُ المَفْعُولِ هو الأحْسَنَ، وذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ الشّاعِرِ هو إسْحاقُ الخُرَيْمِيُّ مَوْلى بَنِي خُرَيْمٍ مِن شُعَراءِ عَصْرِ الرَّشِيدِ يَرْثِي أبا الهَيْذامِ الخُرَيْمِيَّ حَفِيدَهُ ابْنَ ابْنِ عِمارَةَ. ؎ولَوْ شِئْتُ أنْ أبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ عَلَيْهِ ولَكِنْ ساحَةُ الصَّبْرِ أوْسَعُ وسَبَبُ حُسْنِهِ أنَّهُ كَأنَّهُ بِدْعٌ عَجِيبٌ أنْ يَشاءَ الإنْسانُ أنْ يَبْكِيَ دَمًا، فَلَمّا كانَ كَذَلِكَ كانَ الأوْلى أنْ يُصَرِّحَ بِذِكْرِهِ لِيُقَرِّرَهُ في نَفْسِ السّامِعِ إلَخْ كَلامِهِ. وتَبِعَهُ صاحِبُ الكَشّافِ، وزادَ عَلَيْهِ أنَّهم لا يَحْذِفُونَ في الشَّيْءِ المُسْتَغْرَبِ إذْ قالَ: لا يَكادُونَ يُبْرِزُونَ المَفْعُولَ إلّا في الشَّيْءِ المُسْتَغْرَبِ إلَخْ. وهو مُؤَوَّلٌ بِأنَّ مُرادَهُ أنَّ عَدَمَ الحَذْفِ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَثِيرًا. وعِنْدِي أنَّ الحَذْفَ هو الأصْلُ لِأجْلِ الإيجازِ فالبَلِيغُ تارَةً يَسْتَغْنِي بِالجَوابِ فَيَقْصِدُ البَيانَ بَعْدَ الإبْهامِ، وهَذا هو الغالِبُ في كَلامِ العَرَبِ، قالَ طَرَفَةُ: ؎وإنْ شِئْتَ لَمْ تُرْقِلْ وإنْ شِئْتَ أرْقَلَتْ وتارَةً يُبَيِّنُ بِذِكْرِ الشَّرْطِ أساسَ الإضْمارِ في الجَوابِ نَحْوَ البَيْتِ وقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَوْ أرَدْنا أنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْناهُ﴾ [الأنبياء: ١٧] ويَحْسُنُ ذَلِكَ إذا كانَ في المَفْعُولِ غَرابَةٌ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ لِابْتِداءِ تَقْرِيرِهِ كَما في بَيْتِ الخُرَيْمِيِّ والإيجازُ حاصِلٌ عَلى كُلِّ حالٍ لِأنَّ فِيهِ حَذْفًا إمّا مِنَ الأوَّلِ أوْ مِنَ الثّانِي. وقَدْ يُوهِمُ كَلامُ أئِمَّةِ المَعانِي أنَّ المَفْعُولَ الغَرِيبَ يَجِبُ ذِكْرُهُ ولَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأنْزَلَ مَلائِكَةً﴾ [فصلت: ١٤] فَإنَّ إنْزالَ المَلائِكَةِ أمْرٌ غَرِيبٌ قالَ أبُو العَلاءِ المَعَرِّيُّ. ؎وإنْ شِئْتَ فازْعُمْ أنَّ مَن فَوْقَ ظَهْرِها ∗∗∗ عَبِيدُكَ واسْتَشْهِدْ إلَهَكَ يَشْهَدِ فَإنَّ زَعْمَ ذَلِكَ زَعْمٌ غَرِيبٌ. والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ﴿بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ ظاهِرُهُ أنْ يَعُودُوا إلى أصْحابِ الصَّيِّبِ المُشَبَّهِ بِحالِهِمْ حالُ المُنافِقِينَ؛ لِأنَّ الإخْبارَ بِإمْكانِ إتْلافِ الأسْماعِ والأبْصارِ يُناسِبُ أهْلَ الصَّيِّبِ المُشَبَّهِ بِحالِهِمْ بِمُقْتَضى قَوْلِهِ ﴿يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ وقَوْلِهِ ﴿يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ﴾ والمَقْصُودُ أنَّ الرَّعْدَ والبَرْقَ الواقِعَيْنِ في الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها هُما رَعْدٌ وبَرْقٌ بَلَغا مُنْتَهى قُوَّةِ جِنْسَيْهِما بِحَيْثُ لا يَمْنَعُ قَصِيفُ الرَّعْدِ مِن إتْلافِ أسْماعِ سامِعِيهِ ولا يَمْنَعُ ومِيضُ البَرْقِ مِن إتْلافِ أبْصارِ ناظِرِيهِ إلّا مَشِيئَةُ اللَّهِ عَدَمَ وُقُوعِ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ. وفائِدَةُ ذِكْرِ هَذا في الحالَةِ المُشَبَّهَةِ بِها أنْ يَسْرِيَ نَظِيرُهُ في الحالَةِ المُشَبَّهَةِ وهي حالَةُ المُنافِقِينَ فَهم عَلى وشْكِ انْعِدامِ الِانْتِفاعِ بِأسْماعِهِمْ وأبْصارِهِمُ انْعِدامًا تامًّا مِن كَثْرَةِ عِنادِهِمْ وإعْراضِهِمْ عَنِ الحَقِّ، إلّا أنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ اسْتِدْراجًا لَهم وإمْلاءً لِيَزْدادُوا (p-٣٢٣)إثْمًا أوْ تَلَوُّمًا لَهم وإعْذارًا لَعَلَّ مِنهم مَن يَثُوبُ إلى الهُدى، وقَدْ صِيغَ هَذا المَعْنى في هَذا الأُسْلُوبِ لِما فِيهِ مِنَ التَّوْجِيهِ بِالتَّهْدِيدِ لَهم أنْ يُذْهِبَ اللَّهُ سَمْعَهم وأبْصارَهم مِن نِفاقِهِمْ إنْ لَمْ يَبْتَدِرُوا الإقْلاعَ عَنِ النِّفاقِ، وذَلِكَ يَكُونُ لَهُ وقْعُ الرُّعْبِ في قُلُوبِهِمْ كَما وقَعَ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ لَمّا قَرَأ عَلَيْهِ النَّبِيءُ ﷺ ﴿فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ [فصلت: ١٣] فَلَيْسَ المَقْصُودُ مِنِ اجْتِلابِ ”لَوْ“ في هَذا الشَّرْطِ إفادَةَ ما تَقْتَضِيهِ ”لَوْ“ مِنَ الِامْتِناعِ لِأنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ الإعْلامَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلى ذَلِكَ بَلِ المَقْصُودُ إفادَةُ لازِمِ الِامْتِناعِ وهو أنَّ أسْبابَ إذْهابِ البَرْقِ والرَّعْدِ أبْصارَهُمُ الواقِعَيْنِ في التَّمْثِيلِ مُتَوَفِّرَةٌ وهي كُفْرانُ النِّعْمَةِ الحاصِلَةِ مِنهُما إذْ إنَّما رُزِقُوهُما لِلتَّبَصُّرِ في الآياتِ الكَوْنِيَّةِ وسَماعِ الآياتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمّا أعْرَضُوا عَنِ الأمْرَيْنِ كانُوا أحْرِياءَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ، إلّا أنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ إمْهالًا لَهم وإقامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَكانَتْ لَوْ مُسْتَعْمَلَةً مَجازًا مُرْسَلًا في مُجَرَّدِ التَّعْلِيقِ إظْهارًا لَتَوَفُّرِ الأسْبابِ لَوْلا وُجُودُ المانِعِ عَلى حَدِّ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمى بْنِ رَبِيعَةَ مِن شُعَراءِ الحَماسَةِ يَصِفُ فَرَسَهُ. ؎ولَوْ طارَ ذُو حافِرٍ قَبْلَها ∗∗∗ لَطارَتْ ولَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ أيْ تَوَفَّرَ فِيها سَبَبُ الطَّيَرانِ. فالمَعْنى: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ بِزِيادَةِ ما في البَرْقِ والرَّعْدِ مِنَ القُوَّةِ فَيُفِيدُ بُلُوغَ الرَّعْدِ والبَرْقِ قُرْبَ غايَةِ القُوَّةِ. ويَكُونُ لِقَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ مَوْقِعٌ عَجِيبٌ. وقَوْلُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تَذْيِيلٌ، وفِيهِ تَرْشِيحٌ لِلتَّوْجِيهِ المَقْصُودِ لِلتَّهْدِيدِ زِيادَةً في تَذْكِيرِهِمْ وإبْلاغًا لَهم وقَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب