الباحث القرآني
﴿يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ اسْتِئْنافٌ آخَرُ بَيانِيٌّ كَأنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ حالُهم مَعَ ذَلِكَ البَرْقِ؟ فَقالَ: يَكادُ إلَخْ، وفي البَحْرِ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ جَرٍّ لِذَوِي المَحْذُوفَةِ فِيما تَقَدَّمَ، (ويَكادُ) مُضارِعُ (كادَ) مِن أفْعالِ المُقارَبَةِ، وتَدُلُّ عَلى قُرْبِ وُقُوعِ الخَبَرِ، وأنَّهُ لَمْ يَقَعْ، والأوَّلُ لِوُجُودِ أسْبابِهِ، والثّانِي لِمانِعٍ، أوْ فَقْدِ شَرْطٍ عَلى ما تَقْضِي العادَةُ بِهِ، والمَشْهُورُ أنَّها إنْ نُفِيَتْ أُثْبِتَتْ، وإنْ أُثْبِتَتْ نَفَتْ وألْغَزُوا بِذَلِكَ، ولَمْ يَرْتَضِ هَذا أبُو حَيّانَ، وصَحَّحَ أنَّها كَسائِرِ الأفْعالِ في أنَّ نَفْيَها نَفْيٌ وإثْباتَها إثْباتٌ، واللّامُ في البَرْقِ لِلْعَهْدِ إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ، نَكِرَةٌ، وقِيلَ: إشارَةٌ إلى البَرْقِ الَّذِي مَعَ الصَّواعِقِ، أيْ بَرْقُها وهو كَما تَرى، وإسْنادُ الخَطْفِ وهو في الأصْلِ الأخْذُ بِسُرْعَةٍ أوِ الِاسْتِلابُ إلَيْهِ، مِن بابِ إسْنادِ الإحْراقِ إلى النّارِ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَحْقِيقُهُ قَرِيبًا، والشّائِعُ في خَبَرِ كادَ أنْ يَكُونَ فِعْلًا مُضارِعًا، غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِأنِ المَصْدَرِيَّةِ الِاسْتِقْبالِيَّةِ، أمّا المُضارِعُ فَلِدِلالَتِهِ عَلى الحالِ المُناسِبِ لِلْقُرْبِ، حَتّى كَأنَّهُ لِشِدَّةِ قُرْبِهِ وقَعَ، وأمّا أنَّهُ غَيْرُ مُقْتَرِنٍ بِأنْ فَلِمُنافاتِها لِما قَصَدُوا، ونَحْوُ: وأُبْتُ إلى فَهْمٍ، وما كِدْتُ آيِبًا، وكادَ الفَقْرُ أنْ يَكُونَ كُفْرًا، وقَدْ كادَ مِن طُولِ البِلى أنْ يُمَحِّصا، قَلِيلٌ، وقَرَأ مُجاهِدٌ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ (يَخْطِفُ) بِكَسْرِ الطّاءِ، والفَتْحُ أفْصَحُ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (يَخْتَطِفُ)، وعَنِ الحَسَنِ (يَخَطِّفُ) بِفَتْحِ الياءِ والخاءِ، وأصْلُهُ يَخْتَطِفُ فَأدْغَمَ التّاءَ في الطّاءِ، وعَنْ عاصِمٍ وقَتادَةَ والحَسَنِ أيْضًا (يَخِطِّفُ) بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الخاءِ والطّاءِ المُشَدَّدَةِ، وعَنِ الحَسَنِ أيْضًا، والأعْمَشِ (يِخِطِّفُ) بِكَسْرِ الثَّلاثَةِ، والتَّشْدِيدِ، وعَنْ زَيْدٍ (يُخَطِّفُ) بِضَمِّ الياءِ، وفَتْحِ الخاءِ، وكَسْرِ الطّاءِ المُشَدَّدَةِ، وهو تَكْثِيرُ مُبالَغَةٍ لا تَعْدِيَةٍ، وكَسْرُ الطّاءِ في الماضِي لُغَةُ قُرَيْشٍ، وهي اللُّغَةُ الجَيِّدَةُ.
﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا﴾ اسْتِئْنافٌ ثالِثٌ كَأنَّهُ لَمّا قِيلَ: إنَّهم مُبْتَلَوْنَ بِاسْتِمْرارِ تَجَدُّدِ خَطْفِ الأبْصارِ فُهِمَ مِنهُ أنَّهم مَشْغُولُونَ بِفِعْلِ ما يَحْتاجُ إلى الإبْصارِ ساعَةً فَساعَةً، وإلّا لَغَطَّوْها كَما سَدُّوا الآذانَ، فَسُئِلَ وقِيلَ: ما يَفْعَلُونَ في حالَتَيْ ومِيضِ البَرْقِ وعَدَمِهِ؟ فَأُجِيبَ: بِأنَّهم حُرّاصٌ عَلى المَشْيِ كُلَّما أضاءَ لَهُمُ اغْتَنَمُوهُ، ومَشَوْا، وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ تَوَقَّفُوا مُتَرَصِّدِينَ، وكُلَّما في هَذِهِ الآيَةِ وأمْثالِها مَنصُوبَةٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، وناصِبُها (ما) هو جَوابٌ مَعْنًى، و(ما) حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ أوِ اسْمٌ نَكِرَةٌ بِمَعْنى وقْتٍ، فالجُمْلَةُ بَعْدَها صِلَةٌ أوْ صِفَةٌ، وجُعِلَتْ شَرْطًا لِما فِيها مِن مَعْناهُ، وهي لِتَقْدِيرِ ما بَعْدَها بِنَكِرَةٍ تُفِيدُ عُمُومًا بَدَلِيًّا، ولِهَذا أفادَتْ كُلَّما التَّكْرارَ، كَما صَرَّحَ بِهِ الأُصُولِيُّونَ، وذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ النُّحاةِ، واللُّغَوِيِّينَ، واسْتِفادَةُ التَّكْرارِ مِن (إذا) وغَيْرِها مِن أدَواتِ الشَّرْطِ مِنَ القَرائِنِ الخارِجِيَّةِ عَلى الصَّحِيحِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ:
؎إذا وجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ مِن كَبِدِي أقْبَلْتُ نَحْوَ سِقاءِ القَوْمِ أبْتَرِدُ
وزَعَمَ أبُو حَيّانَ أنَّ التَّكْرارَ الَّذِي ذَكَرَهُ الأُصُولِيُّونَ وغَيْرُهم في كُلَّما إنَّما جاءَ مِن عُمُومِ كُلٍّ، لا مِن وضْعِها، وهو مُخالِفٌ لِلْمَنقُولِ، والمَعْقُولِ، وقَدِ اسْتُعْمِلَتْ هُنا في لازِمِ مَعْناها كِنايَةً أوْ مَجازًا، وهو الحِرْصُ والمَحَبَّةُ لِما دَخَلَتْ عَلَيْهِ (p-176)ولِذا قالَ مَعَ الإضاءَةِ كُلَّما، ومَعَ الإظْلامِ إذا، وقَوْلُ أبِي حَيّانَ: إنَّ التَّكْرارَ مَتى فُهِمَ مِن كُلَّما هُنا لَزِمَ مِنهُ التَّكْرارُ في إذا، إذِ الأمْرُ دائِرٌ بَيْنَ إضاءَةِ البَرْقِ والإظْلامِ، ومَتّى وُجِدَ ذا فُقِدَ ذا، فَلَزِمَ مِن تَكْرارِ وُجُودِ ذا تَكْرارُ عَدَمِ ذا غَفْلَةً عَمّا أرادُوهُ مِن هَذا المَعْنى الكِنائِيِّ والمَجازِيِّ، وأضاءَ إمّا مُتَعَدٍّ كَما في قَوْلِهِ:
؎أعِدْ نَظَرًا يا عَبْدَ قَيْسٍ لَعَلَّما ∗∗∗ أضاءَتْ لَكَ النّارُ الحِمارَ المُقَيَّدا
والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيْ كُلَّما أضاءَ لَهم مَمْشًى مَشَوْا فِيهِ، وسَلَكُوهُ، وإمّا لازِمٌ، ويُقَدَّرُ حِينَئِذٍ مُضافانِ أيْ كُلَّما لَمَعَ لَهم مَشَوْا في مَطْرَحِ ضَوْئِهِ، ولا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ، إذْ لَيْسَ المَشْيُ في البَرْقِ، بَلْ في مَحَلِّهِ ومَوْضِعِ إشْراقِ ضَوْئِهِ، وكَوْنُ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ، والمَعْنى مَشَوْا لِأجْلِ الإضاءَةِ فِيهِ، يَتَوَقَّفُ فِيهِ مَن لَهُ ذَوْقٌ في العَرَبِيَّةِ، ويُؤَيِّدُ اللُّزُومَ قِراءَةُ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ (ضاءَ) ثُلاثِيًّا، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَدَلَ ﴿مَشَوْا فِيهِ﴾ مَضَوْا فِيهِ، ولِلْإشارَةِ إلى ضَعْفِ قُواهم لِمَزِيدِ خَوْفِهِمْ ودَهْشَتِهِمْ، لَمْ يَأْتِ سُبْحانَهُ بِما يَدُلُّ عَلى السُّرْعَةِ، ولَمّا حَذَفَ مَفْعُولَ أضاءَ، وكانَتِ النَّكِرَةُ أصْلًا أشارَ إلى أنَّهم لِفَرْطِ الحَيْرَةِ كانُوا يَخْبِطُونَ خَبْطَ عَشْواءَ، ويَمْشُونَ كُلَّ مَمْشًى، ومَعْنى ﴿أظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾ اخْتَفى عَنْهُمْ، والمَشْهُورُ اسْتِعْمالُ أظْلَمَ لازِمًا، وذَكَرَ الأزْهَرِيُّ وناهِيكَ بِهِ في التَّهْذِيبِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن أوْصافِ الظُّلْمِ يَكُونُ لازِمًا ومُتَعَدِّيًا، وعَلى احْتِمالِ التَّعَدِّي هُنا، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ زَيْدِ بْنِ قُطَيْبٍ والضَّحّاكِ (أُظْلِمَ) بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ مَعَ اتِّفاقِ النُّحاةِ عَلى أنَّ المُطَّرِدَ بِناءُ المَجْهُولِ مِنَ المُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ، يَكُونُ المَفْعُولُ مَحْذُوفًا، أيْ إذا أظْلَمَ البَرْقُ بِسَبَبِ خَفائِهِ مُعايَنَةَ الطَّرِيقِ قامُوا، أيْ وقَفُوا عَنِ المَشْيِ، ويُتَجَوَّزُ بِهِ عَنِ الكَسادِ، ومِنهُ قامَتِ السُّوقُ، وفي ضِدِّهِ يُقالُ: مَشَتِ الحالُ، ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ عَطْفٌ عَلى مَجْمُوعِ الجُمَلِ الِاسْتِئْنافِيَّةِ، ولَمْ يَجْعَلُوها مَعْطُوفَةً عَلى الأقْرَبِ، ومِن تَتِمَّتِهِ لِخُرُوجِها عَنِ التَّمْثِيلِ، وعَدَمِ صَلاحِيَّتِها لِلْجَوابِ، وعَطْفُ ما لَيْسَ بِجَوابٍ عَلى الجَوابِ لَيْسَ بِصَوابٍ، وجَوَّزَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ إذْ لا بَأْسَ بِأنْ يُزادَ في الجَوابِ ما يُناسِبُهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَخْلٌ فِيهِ، بَلْ قَدْ يُسْتَحْسَنُ ذَلِكَ، إذا اقْتَضاهُ المَقامُ كَما في ﴿وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى﴾ الآيَةَ، وكَوْنُها اعْتِراضِيَّةً أوْ حالِيَّةً مِن ضَمِيرِ قامُوا، بِتَقْدِيرِ المُبْتَدَإ، أوْ مَعْطُوفَةً عَلى الجُمْلَةِ الأُولى مَعَ تَخَلُّلِ الفَواصِلِ اللَّفْظِيَّةِ والمُقَدَّرَةِ فُضُولٌ عِنْدَ ذَوِي الفَضْلِ، والقَوْلُ بِأنَّهُ أتى بِها لِتَوْبِيخِ المُنافِقِينَ حَيْثُ لَمْ يَنْتَهُوا، لِأنَّ مَن قَدَرَ عَلى إيجادِ قَصِيفِ الرَّعْدِ ووَمِيضِهِ، وإعْدامِهِما قادِرٌ عَلى إذْهابِ سَمْعِهِمْ، وأبْصارِهِمْ، أفَلا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلالِهِمْ مَحَلٌّ لِلتَّوْبِيخِ، إذْ لا يَصِحُّ عَطْفُ المُمَثَّلِ بِهِ، ومَفْعُولُ شاءَ هُنا مَحْذُوفٌ وكَثِيرًا ما يُحْذَفُ مَفْعُولُها إذا وقَعَتْ في حَيِّزِ الشَّرْطِ، ولَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرَبًا، والمَعْنى ولَوْ أرادَ اللَّهُ إذْهابَ سَمْعِهِمْ بِقَصِيفِ الرَّعْدِ وأبْصارَهم بِوَمِيضِ البَرْقِ لَذَهَبَ، ولِتَقَدُّمِ ما يَدُلُّ عَلى التَّقْيِيدِ مِن (يَجْعَلُونَ) (ويَكادُ) قَوِيَ دِلالَةُ السِّياقِ عَلَيْهِ، وأخْرَجَهُ مِنَ الغَرابَةِ، ولَكَ أنْ لا تُقَيِّدَ ذَلِكَ المَفْعُولَ، وتُقَيِّدَ الجَوابَ كَما صَنَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أوْ لا تُقَيِّدَ أصْلًا، ويَكُونُ المَعْنى لَوْ أرادَ اللَّهُ إذْهابَ هاتِيكَ القُوى أذْهَبَها مِن غَيْرِ سَبَبٍ، فَلا يُغْنِيهِمْ ما صَنَعُوهُ، والمَشِيئَةُ عِنْدَ المُتَكَلِّمِينَ كالإرادَةِ سَواءٌ، وقِيلَ: أصْلُ المَشِيئَةِ إيجادُ الشَّيْءِ، وإصابَتُهُ وإنِ اسْتُعْمِلَ عُرْفًا في مَوْضِعِ الإرادَةِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ (لَأذْهَبَ اللَّهُ بِأسْماعِهِمْ)، وهي مَحْمُولَةٌ عَلى زِيادَةِ الباءِ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ أوْ عَلى أنَّ أذْهَبَ لازِمٌ بِمَعْنى ذَهَبَ، كَما قِيلَ بِنَحْوِهِ في ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ﴾ إذِ الجَمْعُ بَيْنَ أداتِي تَعْدِيَةٍ لا يَجُوزُ، وبَعْضُهم يُقَدِّرُ لَهُ مَفْعُولًا أيْ لَأذْهَبَهُمْ، فَيُهَوِّنُ الأمْرَ، وكَلِمَةُ (لَوْ) لِتَعْلِيقِ حُصُولِ أمْرٍ ماضٍ هو الجَزاءُ، بِحُصُولِ أمْرٍ مَفْرُوضٍ، هو الشَّرْطُ لِما بَيْنَهُما مِنَ (p-177)الدَّوَرانِ حَقِيقَةً، أوِ ادِّعاءً، ومِن قَضِيَّةٍ مَفْرُوضَةٍ الشَّرْطُ دِلالَتُها عَلى انْتِفائِهِ قَطْعًا، والمُنازِعُ فِيهِ مُكابِرٌ، وأمّا دِلالَتُها عَلى انْتِفاءِ الجَزاءِ فَقَدْ قِيلَ وقِيلَ، والحَقُّ أنَّهُ إنْ كانَ ما بَيْنَهُما مِنَ الدَّوَرانِ قَدْ بُنِيَ الحُكْمُ عَلى اعْتِبارِهِ، فَهي دالَّةٌ عَلَيْهِ بِواسِطَةِ مَدْلُولِها ضَرُورَةَ اسْتِلْزامِ انْتِفاءِ العِلَّةِ لِانْتِفاءِ المَعْلُولِ، أمّا في الدَّوَرانِ الكُلِّيِّ كالَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى شَأْنُهُ: ﴿ولَوْ شاءَ لَهَداكُمْ﴾ وقَوْلِكَ: لَوْ جِئْتَنِي لَأكْرَمْتُكَ، فَظاهِرٌ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يُساقُ الكَلامُ لِتَعْلِيلِ انْتِفاءِ الجَزاءِ بِانْتِفاءِ الشَّرْطِ كَما في المِثالَيْنِ، وهو الِاسْتِعْمالُ الشّائِعُ في لَوْ، ولِذا قِيلَ: إنَّها لِامْتِناعِ الثّانِي لِامْتِناعِ الأوَّلِ، وقَدْ يُساقُ لِلِاسْتِدْلالِ بِانْتِفاءِ الثّانِي لِكَوْنِهِ ظاهِرًا، أوْ مُسَلَّمًا عَلى انْتِفاءِ الأوَّلِ لِكَوْنِهِ بِعَكْسِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ و﴿لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إلَيْهِ﴾ واللُّزُومُ في الأوَّلِ حَقِيقِيٌّ، وفي الثّانِي ادِّعائِيٌّ، وكَذا انْتِفاءُ المَلْزُومَيْنِ، ولَيْسَ هَذا بِطَرِيقِ السَّبَبِيَّةِ الخارِجِيَّةِ، بَلْ بِطَرِيقِ الدِّلالَةِ العَقْلِيَّةِ الرّاجِعَةِ إلى سَبَبِيَّةِ العِلْمِ بِانْتِفاءِ الثّانِي لِلْعِلْمِ بِانْتِفاءِ الأوَّلِ، ومَن لَمْ يَتَنَبَّهْ زَعَمَ أنَّهُ لِانْتِفاءِ الأوَّلِ لِانْتِفاءِ الثّانِي، وأمّا في مادَّةِ الدَّوَرانِ الجُزْئِيِّ كَما في قَوْلِكَ: لَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَوُجِدَ الضَّوْءُ، فَلِأنَّ الجَزاءَ المَنُوطَ بِالشَّرْطِ لَيْسَ وُجُودٌ أيْ ضَوْءٌ بَلْ وُجُودُ الضَّوْءِ الخاصِّ النّاشِئِ مِنَ الطُّلُوعِ، ولا رَيْبَ في انْتِفائِهِ بِانْتِفائِهِ، هَذا إذا بُنِيَ الحُكْمُ عَلى اعْتِبارِ الدَّوَرانِ، وإنْ بُنِيَ عَلى عَدَمِهِ، فَإمّا أنْ يُعْتَبَرَ تَحَقُّقُ مَدارٍ آخَرَ لَهُ، أوْ لا، فَإنِ اعْتُبِرَ فالدِّلالَةُ تابِعَةٌ لِحالِ ذَلِكَ المَدارِ، فَإنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الِانْتِفاءِ الأوَّلِ مُنافاةٌ تَعَيَّنَ الدِّلالَةُ، كَما إذا قُلْتَ: لَوْ لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ لَوُجِدَ الضَّوْءُ، فَإنَّ وُجُودَ الضَّوْءِ مُعَلَّقٌ في الحَقِيقَةِ بِسَبَبٍ آخَرَ هو المَدارُ، ووُضِعَ عَدَمُ الطُّلُوعِ مَوْضِعَهُ لِكَوْنِهِ كاشِفًا عَنْهُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لَوْ لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ لَوُجِدَ الضَّوْءُ بِالقَمَرِ مَثَلًا.
ولا رَيْبَ في أنَّ هَذا الجَزاءَ مُنْتَفٍ عِنْدَ انْتِفاءِ الشَّرْطِ لِاسْتِحالَةِ الضَّوْءِ القَمَرِيِّ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما مُنافاةً تَعَيَّنَ عَدَمُ الدِّلالَةِ، كَحَدِيثِ: «(لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي في حِجْرِي ما حَلَّتْ لِي إنَّها لابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضاعَةِ)،» فَإنَّ المَدارَ المُعْتَبَرَ في ضِمْنِ الشَّرْطِ أعْنِي كَوْنَها ابْنَةَ الأخِ غَيْرُ مُنافٍ لِانْتِفائِهِ الَّذِي هو كَوْنُها رَبِيبَتَهُ، بَلْ مُجامِعٌ لَهُ، ومِن ضَرُورَتِهِ مُجامَعَةُ أثَرَيْهِما، أعْنِي الحُرْمَةَ النّاشِئَةَ مِن هَذا وهَذا، وإنْ لَمْ يُعْتَبَرْ تَحَقُّقُ مَدارٍ آخَرَ بَلْ بُنِيَ الحُكْمُ عَلى اعْتِبارِ عَدَمِهِ فَلا دِلالَةَ لَها عَلى ذَلِكَ أصْلًا، ومَساقُ الكَلامِ حِينَئِذٍ لِبَيانِ ثُبُوتِ الجَزاءِ عَلى كُلِّ حالٍ بِتَعْلِيقِهِ بِما يُنافِيهِ لِيُعْلَمَ ثُبُوتُهُ عِنْدَ وُقُوعِ ما لا يُنافِيهِ بِالأوْلى، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إذًا لأمْسَكْتُمْ﴾ فَإنَّ الجَزاءَ قَدْ نِيطَ بِما يُنافِيهِ إيذانًا بِأنَّهُ في نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَجِبُ ثُبُوتُهُ مَعَ فَرْضِ انْتِفاءِ سَبَبِهِ، أوْ تَحَقُّقِ سَبَبِ انْتِفائِهِ، فَكَيْفَ إذا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلى طَرِيقَةِ لَوِ الوَصْلِيَّةِ، «(ونِعَمَ العَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ)،» إنْ حُمِلَ عَلى تَعْلِيقِ عَدَمِ العِصْيانِ في ضِمْنِ عَدَمِ الخَوْفِ بِمَدارٍ آخَرَ كالحَياءِ مِمّا يُجامِعُ الخَوْفَ كانَ مِن قَبِيلِ حَدِيثِ الرَّبِيبَةِ، وإنْ حُمِلَ عَلى بَيانِ اسْتِحالَةِ عِصْيانِهِ مُبالَغَةً كانَ مِن هَذا القَبِيلِ، والآيَةُ الكَرِيمَةُ وارِدَةٌ عَلى الِاسْتِعْمالِ الشّائِعِ مُفِيدَةٌ لِفَظاعَةِ حالِهِمْ وهَوْلِ ما دَهَمَهُمْ، وأنَّهُ قَدْ بَلَغَ الأمْرُ إلى حَيْثُ لَوْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعالى بِإزالَةِ قُواهم لَزالَتْ لِتَحَقُّقِ ما يَقْتَضِيهِ اقْتِضاءً تامًّا، وقِيلَ: كَلِمَةُ لَوْ فِيها، لِرَبْطِ جَزائِها بِشَرْطِها مُجَرَّدَةً عَنِ الدِّلالَةِ عَلى انْتِفاءِ أحَدِهِما لِانْتِفاءِ الآخَرِ بِمَنزِلَةِ أنْ، ذَكَرَ جَمِيعَ ذَلِكَ مَوْلانا مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ، وأظُنُّهُ قَدْ أصابَ الغَرَضَ، إلّا أنَّ كَلامَ مَوْلانا السّالِيكُوتِيِّ يُشْعِرُ بِاخْتِيارِ أنَّ (لَوْ) مَوْضُوعَةٌ لِمُجَرَّدِ تَعْلِيقِ حُصُولِ أمْرٍ في الماضِي بِحُصُولِ أمْرٍ آخَرَ فِيهِ مِن غَيْرِ دِلالَةٍ عَلى انْتِفاءِ الأوَّلِ، أوِ الثّانِي، أوْ عَلى اسْتِمْرارِ الجَزاءِ (p-178)بَلْ جَمِيعُ هَذِهِ الأُمُورِ خارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِها، مُسْتَفادَةٌ بِمَعُونَةِ القَرائِنِ كَيْلا يَلْزَمَ القَوْلُ بِالِاشْتِراكِ أوِ الحَقِيقَةِ والمَجازِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وبِهِ قالَ بَعْضُهُمْ، وما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الحاجِبِ مِن أنَّها لِلدِّلالَةِ عَلى انْتِفاءِ الأوَّلِ لِانْتِفاءِ الثّانِي مِن لَوازِمِ هَذا المَفْهُومِ، وكَوْنُهُ لازِمًا لا يَسْتَلْزِمُ الإرادَةَ في جَمِيعِ المَوارِدِ، فَإنَّ الدِّلالَةَ غَيْرُ الإرادَةِ، وذَكَرَ أنَّ ما قالُوهُ مِن أنَّها لِتَعْلِيقِ حُصُولِ أمْرٍ في الماضِي بِحُصُولِ أمْرٍ آخَرَ فَرْضًا مَعَ القَطْعِ بِانْتِفائِهِ، فَيَلْزَمُ لِأجَلِ انْتِفائِهِ انْتِفاءُ ما عُلِّقَ بِهِ، فَيُفِيدُ أنَّ انْتَفاءَ الثّانِي في الخارِجِ، إنَّما هو بِسَبَبِ انْتِفاءِ الأوَّلِ فِيهِ، مَعَ تَوَقُّفِهِ عَلى كَوْنِ انْتِفاءِ الأوَّلِ مَأْخُوذًا في مَدْخُولِها، وقَدْ عَرَفْتَ أنَّهُ يَسْتَلْزِمُ خِلافَ الأصْلِ يَرُدُّ عَلَيْهِ أنَّ المُسْتَفادَ مِنَ التَّعْلِيقِ عَلى أمْرٍ مَفْرُوضِ الحُصُولِ إبْداءُ المانِعِ مِن حُصُولِ المُعَلِّقِ في الماضِي، وأنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ العَدَمِ الأصْلِيِّ إلى حَدِّ الوُجُودِ، وبَقِيَ عَلى حالِهِ لِارْتِباطِ وُجُودِهِ بِأمْرٍ مَعْدُومٍ، وأمّا أنَّ انْتِفاءَهُ سَبَبٌ لِانْتِفائِهِ في الخارِجِ فَكَلّا، كَيْفَ والشَّرْطُ النَّحْوِيُّ قَدْ يَكُونُ مُسَبَّبًا مُضافًا لِلْجَزاءِ، نَعَمْ أنَّ هَذا مُقْتَضى الشَّرْطِ الِاصْطِلاحِيِّ، وما اسْتَدَلَّ بِهِ العَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ عَلى إفادَتِها السَّبَبِيَّةَ الخارِجِيَّةَ مِن قَوْلِ الحَماسِيِّ:
؎ولَوْ طارَ ذُو حافِرٍ قَبْلَها ∗∗∗ لَطارَتْ ولَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ
لِأنَّ اسْتِثْناءَ المُقَدَّمِ لا يَنْتُجُ، فَفِيهِ أنَّ اللّازِمَ مِمّا ذُكِرَ أنْ لا تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً لِلِاسْتِدْلالِ بِانْتِفاءِ الأوَّلِ عَلى انْتِفاءِ الثّانِي، ولا يَلْزَمُ مِنهُ أنْ لا تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً لِمُجَرَّدِ التَّعْلِيقِ، لِإفادَةِ إبْداءِ المانِعَ مَعَ قِيامِ المُقْتَضِي، كَيْفَ ولَوْ كانَ مَعْناها إفادَةَ سَبَبِيَّةِ الِانْتِفاءِ كانَ الِاسْتِثْناءُ تَأْكِيدًا وإعادَةً، بِخِلافِ ما إذا كانَ مَعْناها مُجَرَّدَ التَّعْلِيقِ، فَإنَّهُ يَكُونُ إفادَةً وتَأْسِيسًا، وهَذا مُحَصَّلُ ما قالُوهُ، رَدًّا وقَبُولًا، وزُبْدَةُ ما ذَكَرُوهُ إجْمالًا وتَفْصِيلًا، ومُعْظَمُ مُفْتِي أهْلِ العَرَبِيَّةِ أفْتَوْا بِما قالَهُ مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ، ولا أُوجِبُ عَلَيْكَ التَّقْلِيدَ، فالأقْوالُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فاخْتَرْ مِنها ما تُرِيدُ.
﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كالتَّعْلِيلِ لِلشَّرْطِيَّةِ، والتَّقْرِيرِ لِمَضْمُونِها النّاطِقِ بِقُدْرَتِهِ تَعالى عَلى إذْهابِ ما ذَكَرَ، لِأنَّ القادِرَ عَلى الكُلِّ قادِرٌ عَلى البَعْضِ، والشَّيْءُ لُغَةً ما يَصِحُّ أنْ يُعْلَمَ، ويُخْبَرَ عَنْهُ، كَما نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، وهو شامِلٌ لِلْمَعْدُومِ والمَوْجُودِ، الواجِبِ والمُمْكِنِ، وتَخْتَلِفُ إطْلاقاتُهُ، ويُعْلَمُ المُرادُ مِنهُ بِالقَرائِنِ، فَيُطْلَقُ تارَةً، ويُرادُ بِهِ جَمِيعُ أفْرادِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ بِقَرِينَةِ إحاطَةِ العِلْمِ الإلَهِيِّ بِالواجِبِ، والمُمْكِنِ، المَعْدُومِ والمَوْجُودِ، والمُحالِ المَلْحُوظِ، بِعُنْوانٍ ما، ويُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ المُمْكِنُ مُطْلَقًا كَما في الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِقَرِينَةِ القُدْرَةِ الَّتِي لا تَتَعَلَّقُ إلّا بِالمُمْكِنِ، وقَدْ يُطْلَقُ، ويُرادُ بِهِ المُمْكِنُ الخارِجِيُّ المَوْجُودُ في الذِّهْنِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مُتَصَوَّرًا مَشِيئًا فِعْلُهُ غَدًا، وقَدْ يُطْلَقُ، ويُرادُ بِهِ المُمْكِنُ المَعْدُومُ الثّابِتُ في نَفْسِ الأمْرِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ بِقَرِينَةِ إرادَةِ التَّكْوِينِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالمَعْدُومِ، وقَدْ يُطْلَقُ، ويُرادُ بِهِ المَوْجُودُ الخارِجِيُّ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ أيْ مَوْجُودًا خارِجِيًّا لِامْتِناعِ أنْ يُرادَ نَفْيُ كَوْنِهِ شَيْئًا بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ الأعَمِّ الشّامِلِ لِلْمَعْدُومِ الثّابِتِ في نَفْسِ الأمْرِ، لِأنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَهو في الأزَلِ شَيْءٌ، أيْ مَعْدُومٌ ثابِتٌ في نَفْسِ الأمْرِ، وإطْلاقُ الشَّيْءِ عَلَيْهِ قَدْ قُرِّرَ، والأصْلُ في الإطْلاقِ الحَقِيقَةُ ولا يُعْدَلُ عَنْهُ إلّا لِصارِفٍ ولا صارِفَ، وشُيُوعُ اسْتِعْمالِهِ في المَوْجُودِ لا يَنْتَهِضُ صارِفًا إذْ ذاكَ، إنَّما هو لِكَوْنِ تَعَلُّقِ الغَرَضِ في المُحاوَراتِ بِأحْوالِ المَوْجُوداتِ أكْثَرَ لا لِاخْتِصاصِهِ بِهِ لُغَةً، وما ذَكَرَهُ مَوْلانا البَيْضاوِيُّ مِنِ اخْتِصاصِهِ بِالمَوْجُودِ لِأنَّهُ في الأصْلِ مَصْدَرُ شاءَ، أُطْلِقَ بِمَعْنى شاءَ تارَةً، وحِينَئِذٍ يَتَناوَلُ البارِيَ تَعالى، وبِمَعْنى مُشِيءٍ أُخْرى، أيْ مُشِيءٍ وُجُودَهُ، إلَخْ، فَفِيهِ مَعَ ما فِيهِ أنَّهُ يَلْزَمُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ اسْتِعْمالُ المُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ، لِأنَّهُ إذا كانَ بِمَعْنى الشّائِيِ (p-179)لا يَشْمَلُ نَحْوَ الجَماداتِ عِنْدَهُ، وإذا كانَ بِمَعْنى المُشِيءِ وُجُودَهُ، لا يَشْمَلُ الواجِبَ تَعالى شَأْنُهُ، وفي اسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ خِلافٌ، ولا خِلافَ في الِاسْتِدْلالِ بِالآيَةِ عَلى إحاطَةِ عِلْمِهِ تَعالى، وأمّا ما ذُكِرَ في شَرْحَيِ المَواقِفِ والمَقاصِدِ فَجَعْجَعَةٌ ولا أرى طَحْنًا، وقَعْقَعَةٌ ولا أرى سِلاحًا تَقِنًا، وقَدْ كَفانا مُؤْنَةَ الإطالَةَ في رَدِّهِ مَوْلانا الكُورانِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ، والنِّزاعُ في هَذا، وإنْ كانَ لَفْظِيًّا، والبَحْثُ فِيهِ مِن وظِيفَةِ أصْحابِ اللُّغَةِ، إلّا أنَّهُ يَبْتَنِي عَلى النِّزاعِ في أنَّ المَعْدُومَ المُمْكِنَ ثابِتٌ أوَّلًا، وهَذا بَحْثٌ طالَما تَحَيَّرَتْ فِيهِ أقْوامٌ، وزَلَّتْ فِيهِ أقْدامٌ.
والحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ العارِفُونَ الأوَّلُ، لِأنَّ المَعْدُومَ المُمْكِنَ أيْ ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذا المَفْهُومُ يُتَصَوَّرُ ويُرادُ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، وكُلُّ ما هو كَذَلِكَ فَهو مُتَمَيِّزٌ في نَفْسِهِ مِن غَيْرِ فَرْضِ الذِّهْنِ، وكُلُّ ما هو كَذَلِكَ فَهو ثابِتٌ ومُتَقَرِّرٌ في خارِجِ أذْهانِنا مُنْفَكًّا عَنِ الوُجُودِ الخارِجِيِّ، فَما هو إلّا في نَفْسِ الأمْرِ، والمُرادُ بِهِ عِلْمُ الحَقِّ تَعالى بِاعْتِبارِ عَدَمِ مُغايَرَتِهِ لِلذّاتِ الأقْدَسِ، فَإنَّ لِعِلْمِ الحَقِّ تَعالى اعْتِبارَيْنِ أحَدُهُما أنَّهُ لَيْسَ غَيْرًا، الثّانِي أنَّهُ لَيْسَ عَيْنًا، ولا يُقالُ بِالِاعْتِبارِ الأوَّلِ العِلْمُ تابِعٌ لِلْمَعْلُومِ، لِأنَّ التَّبَعِيَّةَ نِسْبَةٌ تَقْتَضِي مُتَمايِزَيْنِ، ولَوِ اعْتِبارًا، ولا تَمايُزَ عِنْدَ عَدَمِ المُغايَرَةِ، ويُقالُ ذَلِكَ بِالِاعْتِبارِ الثّانِي لِلتَّمايُزِ النِّسْبِيِّ المُصَحِّحِ لِلتَّبَعِيَّةِ، والمَعْلُومُ الَّذِي يَتْبَعُهُ العِلْمُ هو ذاتُ الحَقِّ تَعالى بِجَمِيعِ شُئُونِهِ، ونِسَبِهِ، واعْتِباراتِهِ، ومِن هُنا قالُوا: عِلْمُهُ تَعالى بِالأشْياءِ أزَلًا عَيْنُ عِلْمِهِ بِنَفْسِهِ، لِأنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِن نِسَبِ عِلْمِهِ بِالِاعْتِبارِ الأوَّلِ، فَإذا عَلِمَ الذّاتَ بِجَمِيعِ نِسَبِها فَقَدْ عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ مِن عَيْنِ عِلْمِهِ بِنَفْسِهِ، وحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الشَّرِيكُ مِن نِسَبِ العِلْمِ بِالِاعْتِبارِ الأوَّلِ إذْ لا ثُبُوتَ لَهُ في نَفْسِهِ مِن غَيْرِ فَرْضٍ، إذِ الثّابِتُ كَذَلِكَ هو أنَّهُ تَعالى لا شَرِيكَ لَهُ، فَلا يَتَعَلَّقُ بِهِ العِلْمُ بِالِاعْتِبارِ الثّانِي ابْتِداءً، ومَتى كانَ تَعَلُّقُ العِلْمِ بِالأشْياءِ أزَلِيًّا لَمْ تَكُنْ أعْدامًا صِرْفَةً، إذْ لا يَصِحُّ حِينَئِذٍ أنْ تَكُونَ طَرَفًا، إذْ لا تَمايُزَ، فَإذا لَها تَحَقُّقٌ بِوَجْهٍ ما، فَهي أزَلِيَّةٌ بِأزَلِيَّةِ العِلْمِ، فَلِذا لَمْ تَكُنِ الماهِيّاتُ بِذَواتِها مَجْعُولَةً لِأنَّ الجَعْلَ تابِعٌ لِلْإرادَةِ، التّابِعَةِ لِلْعِلْمِ، التّابِعِ لِلْمَعْلُومِ، الثّابِتِ، فالثُّبُوتُ مُتَقَدِّمٌ عَلى الجَعْلِ بِمَراتِبَ، فَلا تَكُونُ مِن حَيْثُ الثُّبُوتُ أثَرًا لِلْجَعْلِ، وإلّا لَدارَ، وإنَّما هي مَجْعُولَةٌ في وُجُودِها لِأنَّ العالَمَ حادِثٌ، وكُلُّ حادِثٍ مَجْعُولٌ، ولَيْسَ الوُجُودُ حالًّا حَتّى لا تَتَعَلَّقَ بِهِ القُدْرَةُ، ويَلْزَمَ أنْ لا يَكُونَ البارِي تَعالى مُوجِدًا لِلْمُمْكِناتِ، ولا قادِرًا عَلَيْها، لِأنَّهُ قَدْ حُقِّقَ أنَّ الوُجُودَ بِمَعْنًى ما، بِانْضِمامِهِ إلى الماهِيّاتِ المُمْكِنَةِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْها آثارُها المُخْتَصَّةُ بِها مَوْجُودٌ، أمّا أوَّلًا فَلِأنَّ كُلَّ مَفْهُومٍ مُغايِرٌ لِلْوُجُودِ، فَإنَّهُ إنَّما يَكُونُ مَوْجُودًا بِأمْرٍ يَنْضَمُّ إلَيْهِ، وهو الوُجُودُ، فَهو مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ، لا بِأمْرٍ زائِدٍ، وإلّا لَتَسَلْسَلَ، وامْتِيازُهُ عَمّا عَداهُ بِأنَّ وُجُودَهُ لَيْسَ زائِدًا عَلى ذاتِهِ، وأمّا ثانِيًا، فَلِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ أصْلًا، لِأنَّ الماهِيَّةَ المُمْكِنَةَ قَبْلَ انْضِمامِ الوُجُودِ مُتَّصِفَةٌ بِالعَدَمِ الخارِجِيِّ، فَلَوْ كانَ الوُجُودُ مَعْدُومًا كانَ مِثْلَها مُحْتاجًا لِما تَحْتاجُهُ، فَلا يَتَرَتَّبُ عَلى الماهِيَّةِ بِضَمِّهِ آثارُها، لِأنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَعْدُومًا لَيْسَ فِيهِ بَعْدَ العَدَمِ إلّا افْتِقارُهُ إلى الوُجُودِ، وهَذا بِعَيْنِهِ مُتَحَقِّقٌ في الماهِيَّةِ قَبْلَ الضَّمِّ، فَلا يَحْدُثُ لَها بِالضَّمِّ وصْفٌ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ، فَلَوْ كانَ هَذا الوُجُودُ المُفْتَقِرُ مُفِيدًا لِتَرَتُّبِ الآثارِ لَكانَتِ الماهِيَّةُ مُسْتَغْنِيَةً عَنِ الوُجُودِ حالَ افْتِقارِها إلَيْهِ، واللّازِمُ باطِلٌ لِاسْتِحالَةِ اجْتِماعِ النَّقِيضَيْنِ، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ الوُجُودُ مَوْجُودًا بِوُجُودٍ هو نَفْسُهُ، وإلّا لَتَسَلْسَلَ أوِ انْتَهى إلى وُجُودٍ مَوْجُودٍ بِنَفْسِهِ، والأوَّلُ باطِلٌ والثّانِي قاضٍ بِالمَطْلُوبِ، نَعَمِ الوُجُودُ بِمَعْنى المَوْجُودِيَّةِ حالٌ، لِأنَّهُ صِفَةٌ اعْتِبارِيَّةٌ، لَيْسَتْ بِعَرَضٍ، ولا سَلْبٍ، ومَعَ هَذا يَتَعَلَّقُ بِهِ الجَعْلُ، لَكِنْ لا ابْتِداءَ، بَلْ بِضَمِّ حِصَّةٍ مِنَ الوُجُودِ المَوْجُودِ إلى الماهِيَّةِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ اتِّصافُ الماهِيَّةِ بِالمَوْجُودِيَّةِ، وظاهِرٌ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ تَعَلُّقِ القُدْرَةِ بِالوُجُودِ بِمَعْنى المَوْجُودِيَّةِ ابْتِداءً أنْ لا تَتَعَلَّقَ بِهِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وإذا تَبَيَّنَ (p-180)أنَّ الماهِيّاتِ مَجْعُولَةٌ في وُجُودِها، فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنَ حَقِيقَتِهِ، بِمَعْنى أنَّ ما صَدَقَ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ مِنَ الأُمُورِ الخارِجِيَّةِ هو بِعَيْنِهِ ما صَدَقَ عَلَيْهِ وُجُودُهُ، ولَيْسَ لَهُما هُوِيَّتانِ مُتَمايِزَتانِ في الخارِجِ كالسَّوادِ والجِسْمِ، إذِ الوُجُودُ إنْ قامَ بِالماهِيَّةِ مَعْدُومَةً لَزِمَ التَّناقُضُ، ومَوْجُودَةً لَزِمَ وُجُودانِ مَعَ الدَّوْرِ، أوِ التَّسَلْسُلِ، والقَوْلُ بِأنَّ الوُجُودَ يَنْضَمُّ إلى الماهِيَّةِ مِن حَيْثُ هي لا تَحْقِيقَ فِيهِ، إذْ تَحَقَّقَ في مَحَلِّهِ أنَّ الماهِيَّةَ قَبْلَ عُرُوضِ الوُجُودِ مُتَّصِفَةٌ في نَفْسِ الأمْرِ بِالعَدَمِ قَطْعًا، لِاسْتِحالَةِ خُلُوِّها عَنِ النَّقِيضَيْنِ فِيهِ، غايَةُ الأمْرِ أنّا إذا لَمْ نَعْتَبِرْ مَعَها العَدَمَ لا يُمْكِنُ أنْ نَحْكُمَ عَلَيْها بِأنَّها مَعْدُومَةٌ، وعَدَمُ اعْتِبارِنا العَدَمَ مَعَها حِينَ عُرُوضِ الوُجُودِ لا يَجْعَلُها مُنْفَكَّةً عَنْهُ في نَفْسِ الأمْرِ، وإنَّما يَجْعَلُها مُنْفَكَّةً عَنْهُ بِاعْتِبارِنا، وضَمُّ الوُجُودِ أمْرٌ يَحْصُلُ لَها بِاعْتِبارِ نَفْسِ الأمْرِ، لا مِن حَيْثُ اعْتِبارُنا، فَخُلُوُّها عَنِ العَدَمِ بِاعْتِبارِنا لا يُصَحِّحُ اتِّصافَها بِالوُجُودِ مِن حَيْثُ هي هي في نَفْسِ الأمْرِ سالِمًا عَنِ المَحْذُورِ، فَإذًا لَيْسَ هُناكَ هُوِيَّتانِ تَقُومُ إحْداهُما بِالأُخْرى، بَلْ عَيْنُ الشَّخْصِ في الخارِجِ عَيْنُ تَعَيُّنِ الماهِيَّةِ فِيهِ، وهو عَيْنُ الماهِيَّةِ فِيهِ أيْضًا، إذْ لَيْسَ التَّعَيُّنُ أمْرًا وُجُودِيًّا مُغايِرًا بِالذّاتِ لِلشَّخْصِ مُنْضَمًّا لِلْماهِيَّةِ في الخارِجِ مُمْتازًا عَنْهُما فِيهِ مُرَكَّبًا مِنها، ومِنَ الفَرْدِ، بَلْ لا وُجُودَ في الخارِجِ إلّا لِلْأشْخاصِ، وهي عَيْنُ تَعْيِيناتِ الماهِيَّةِ وعَيْنُ الماهِيَّةِ في الخارِجِ لِاتِّحادِهِما فِيهِ، وعَلى هَذا، فَلا شَكَّ في مَقْدُورِيَّةِ المُمْكِنِ إذْ جَعْلُهُ بِجَعْلِ حِصَّتِهِ مِنَ الوُجُودِ المُطْلَقِ المَوْجُودِ في الخارِجِ مُقْتَرِنَةٌ بِأعْراضٍ وهَيْئاتٍ يَقْتَضِيها اسْتِعْدادُ حِصَّتِهِ مِنَ الماهِيَّةِ النَّوْعِيَّةِ، فَيَكُونُ شَخْصًا، وإيجادُ الشَّخْصِ مِنَ الماهِيَّةِ عَلى الوَجْهِ المَذْكُورِ عَيْنُ إيجادِ الماهِيَّةِ، لِأنَّهُما مُتَّحِدانِ في الخارِجِ جَعْلًا ووُجُودًا، مُتَمايِزانِ في الذِّهْنِ فَقَطْ، وهَذا تَحْقِيقُ قَوْلِهِمُ: المَجْعُولُ هو الوُجُودُ الخاصُّ ولا يَسْتَعِدُّ مَعْدُومٌ لِعُرُوضِهِ إلّا إذا كانَ لَهُ ثُبُوتٌ في نَفْسِ الأمْرِ، إذْ ما لا ثُبُوتَ لَهُ، وهو المَنفِيُّ لا اقْتِضاءَ فِيهِ لِعُرُوضِ الوُجُودِ بِوَجْهٍ، وإلّا لَكانَ المُحالُ مُمْكِنًا، واللّازِمُ باطِلٌ فالثُّبُوتُ الأزَلِيُّ لِماهِيَّةِ المُمْكِنِ هو المُصْطَلَحُ لِعُرُوضِ الإمْكانِ المُصَحِّحُ لِلْمَقْدُورِيَّةِ، لا أنَّهُ المانِعُ كَما تَوَهَّمُوهُ، هَذا والبَحْثُ طَوِيلٌ، والمَطْلَبُ جَلِيلٌ، وقَدْ أشْبَعْنا الكَلامَ عَلَيْهِ في الأجْوِبَةِ العِراقِيَّةِ عَنِ الأسْئِلَةِ الإيرانِيَّةِ عَلى وجْهٍ رَدَدْنا فِيهِ كَلامَ المُعْتَرِضِينَ المُخالِفِينَ، لَمّا تَبِعْنا فِيهِ ساداتِنا الصُّوفِيَّةِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهُمْ، وهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تَنْفَعُكَ في تَفْسِيرِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، فاحْفَظْها، فَلا أظُنُّكَ تَجِدُها في تَفْسِيرٍ، وحَيْثُ كانَ الشَّيْءُ عامًّا لُغَةً واصْطِلاحًا عِنْدَ أهْلِ اللَّهِ تَعالى، وإنْ ذَهَبَ إلَيْهِ المُعْتَزِلَةُ أيْضًا، فَلا بُدَّ في مِثْلِ ما نَحْنُ فِيهِ مِن تَخْصِيصِهِ بِدَلِيلِ العَقْلِ بِالمُمْكِنِ.
والقُدْرَةُ عِنْدَ الأشاعِرَةِ صِفَةٌ ذاتِيَّةٌ ذاتُ إضافَةٍ تَقْتَضِي التَّمَكُّنَ مِنَ الإيجادِ والإعْدامِ والإبْقاءِ لا نَفْسَ التَّمَكُّنِ، لِأنَّهُ أمْرٌ اعْتِبارِيٌّ، ولا نَفْيَ العَجْزِ عَنْهُ تَعالى لِأنَّهُ مِنَ الصِّفاتِ السَّلْبِيَّةِ، ولَعَلَّ مَنِ اخْتارَ ذَلِكَ اخْتارَهُ تَقْلِيلًا لِلصِّفاتِ الذّاتِيَّةِ، أوْ نَفْيًا لَها، والقادِرُ هو الَّذِي إنْ شاءَ فَعَلَ، وإنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَفْعَلْ، ولِكَوْنِ المَشِيئَةِ عِنْدَنا صِفَةً مُرَجِّحَةً لِأحَدِ طَرَفَيِ المَقْدُورِ، وعِنْدَ الحُكَماءِ العِنايَةَ الأزَلِيَّةَ، ساغَ لَنا أنْ نُعَرِّفَهُ بِما ذُكِرَ دُونَهم خِلافًا لِمَن وهِمَ فِيهِ، والقَدِيرُ هو الفَعّالُ لِما يَشاءُ عَلى قَدْرِ ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، وقَلَّما يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ تَعالى، والمُقْتَدِرُ إنِ اسْتُعْمِلَ فِيهِ تَعالى فَمَعْناهُ القَدِيرُ أوْ في البَشَرِ فَمَعْناهُ المُتَكَلِّفُ والمُكْتَسِبُ لِلْقُدْرَةِ، واشْتِقاقُ القُدْرَةِ مِنَ القَدْرِ بِمَعْنى التَّحْدِيدِ، والتَّعْيِينِ، وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُمْكِنَ الحادِثَ حالَ بَقائِهِ مَقْدُورٌ، لِأنَّهُ شَيْءٌ، وكُلُّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ لَهُ تَعالى، ومَعْنى كَوْنِهِ مَقْدُورًا أنَّ الفاعِلَ إنْ شاءَ أعْدَمَهُ، وإنْ شاءَ لَمْ يُعْدِمْهُ، واحْتِياجُ المُمْكِنِ حالَ بَقائِهِ إلى المُؤَثِّرِ مِمّا أجْمَعَ عَلَيْهِ مَن قالَ: إنَّ عِلَّةَ الحاجَةِ هي الإمْكانُ ضَرُورَةَ أنَّ الإمْكانَ لازِمٌ لَهُ حالَ البَقاءِ، وأمّا مَن قالَ: إنَّ عِلَّةَ الحاجَةِ الحُدُوثُ وحْدَهُ، أوْ مَعَ الإمْكانِ قالَ بِاسْتِغْنائِهِ إذْ لا حُدُوثَ حِينَئِذٍ، وتَمَسَّكَ في ذَلِكَ بِبَقاءِ البِناءِ بَعْدَ فَناءِ البِناءِ، ولَمّا رَأى بَعْضُهم شَناعَةَ ذَلِكَ قالُوا: إنَّ الجَواهِرَ لا تَخْلُو عَنِ الأعْراضِ، وهي لا تَبْقى زَمانَيْنِ، فَلا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِغْناءُ عَنِ القادِرِ سُبْحانَهُ بِحالٍ، وهَذا مِمّا ذَهَبَ إلَيْهِ الأشْعَرِيُّ (p-181)ولِما فِيهِ مِن مُكابَرَةِ الحِسِّ ظاهِرًا أنْكَرَهُ أهْلُ الظّاهِرِ، نَعَمْ يُسَلِّمُهُ العارِفُونَ مِن أهْلِ الشُّهُودِ، وناهِيكَ بِهِمْ، حَتّى إنَّهم زادُوا عَلى ذَلِكَ فَقالُوا: إنَّ الجَواهِرَ لا تَبْقى زَمانَيْنِ أيْضًا، والنّاسُ في لَبْسٍ مِن خَلْقٍ جَدِيدٍ، وأنا أُسَلِّمُ ما قالُوا، وأُفَوِّضُ أمْرِي إلى اللَّهِ الَّذِي لا يَتَقَيَّدُ بِشَأْنٍ، وقَدْ كانَ ولا شَيْءَ مَعَهُ، وهو الآنَ عَلى ما عَلَيْهِ كانَ، ثُمَّ المُرادُ مِن هَذا التَّمْثِيلِ تَشْبِيهُ حالِ المُنافِقِينَ في الشِّدَّةِ، ولِباسِ إيمانِهِمُ المُبَطَّنِ بِالكُفْرِ المُطَرَّزِ بِالخِداعِ حَذَرَ القَتْلِ بِحالِ ذَوِي مَطَرٍ شَدِيدٍ فِيهِ ما فِيهِ، يُرَقِّعُونَ خُرُوقَ آذانِهِمْ بِأصابِعِهِمْ حَذَرَ الهَلاكِ إلى آخِرِ ما عُلِمَ مِن أوْصافِهِمْ، ووَجْهُ الشَّبَهِ وُجْدانُ ما يَنْفَعُ ظاهِرُهُ، وفي باطِنِهِ بَلاءٌ عَظِيمٌ، وقِيلَ: شَبَّهَ سُبْحانَهُ المُنافِقِينَ بِأصْحابِ الصَّيِّبِ وإيمانَهُمُ المَشُوبَ بِصَيِّبٍ فِيهِ ما تَلى مِن حَيْثُ إنَّهُ وإنْ كانَ نافِعًا في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَمّا وُجِدَ كَذا، عادَ نَفْعُهُ ضُرًّا، ونِفاقُهم حَذَرًا عَنِ النِّكايَةِ بِجَعْلِ الأصابِعِ في الآذانِ مِمّا دَها حَذَرَ المَوْتِ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا يَرُدُّ مِنَ القَدَرِ شَيْئًا، وتَحَيُّرَهم لِشِدَّةِ ما عَنى، وجَهْلَهم بِما يَأْتُونَ ويَذَرُونَ بِأنَّهم كُلَّما صادَفُوا مِنَ البَرْقِ خَفْقَةً انْتَهَزُوها فُرْصَةً مَعَ خَوْفِ أنْ يَخْطِفَ أبْصارَهُمْ، فَخَطَوْا يَسِيرًا، ثُمَّ إذا خَفِيَ بَقُوا مُتَقَيِّدِينَ لا حِراكَ لَهُمْ، وقِيلَ: جَعَلَ الإسْلامَ الَّذِي هو سَبَبُ المَنافِعِ في الدّارَيْنِ كالصَّيِّبِ الَّذِي هو سَبَبُ المَنفَعَةِ، وما في الإسْلامِ مِنَ الشَّدائِدِ، والحُدُودِ بِمَنزِلَةِ الظُّلُماتِ والرَّعْدِ، وما فِيهِ مِنَ الغَنِيمَةِ والمَنافِعِ بِمَنزِلَةِ البَرْقِ، فَهم قَدْ جَعَلُوا أصابِعَهم في آذانِهِمْ مِن سَماعِ شَدائِدِهِ، وإذا لَمَعَ لَهم بَرْقُ غَنِيمَةٍ مَشَوْا فِيهِ، وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ بِالشَّدائِدِ قامُوا مُتَحَيِّرِينَ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وما تَقْتَضِيهِ جَزالَةُ التَّنْزِيلِ وتَسْتَدْعِيهِ فَخامَةُ شَأْنِهِ الجَلِيلِ غَيْرُ خَفِيٍّ عَلَيْكَ، إذا لَمَعَتْ بَوارِقُ العِنايَةِ لَدَيْكَ، (ومِنَ البُطُونِ) تَشْبِيهُ مَن ذُكِرَ في التَّشْبِيهِ الأوَّلِ بِذَوِي صَيِّبٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّما أضاءَ﴾ إلَخْ، إشارَةً إلى أنَّهم كُلَّما وجَدُوا مِن طاعَتِهِمْ حَلاوَةً وعَرَضًا عاجِلًا مَشَوْا فِيهِ، وإذا حُبِسَ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الكَراماتِ تَرَكُوا الطّاعاتِ، وقالَ الحُسَيْنُ: إذا أضاءَ لَهم مُرادُهم مِنَ الدُّنْيا في الدِّينِ أكْثَرُوا مِن تَحْصِيلِهِ، وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا مُتَحَيِّرِينَ،
{"ayah":"یَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ یَخۡطَفُ أَبۡصَـٰرَهُمۡۖ كُلَّمَاۤ أَضَاۤءَ لَهُم مَّشَوۡا۟ فِیهِ وَإِذَاۤ أَظۡلَمَ عَلَیۡهِمۡ قَامُوا۟ۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَـٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق