الباحث القرآني

* اللغة: (ادَّارَكُوا) : أي: تداركوا، بمعنى تلاحقوا في النار، وأصله تداركوا، فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل، وسيأتي في باب الفوائد كيفية ذلك. (أخراهم وأولاهم) : يحتمل أن تكون «فعلى» أنثى «أفعل» الدال على المفاضلة، والمعنى على هذا أخراهم منزلة، وهم الأتباع والسفلة، لأولاهم منزلة، وهم القادة والسادة والرؤساء. ويحتمل أن تكون «أخرى» بمعنى آخرة، تأنيث «آخر» ، مقابل «أول» ، لا تأنيث «آخر» الذي للمفاضلة، ومنها قوله تعالى: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» . ولعلها الأظهر في الآية. (الضِّعْفِ) : قال أبو عبيدة الضعف مثل الشيء مرة واحدة، وقال الأزهري: هو ما يستعمله الناس في مجاري كلامهم. والضعف في كلام العرب: المثل إلى ما زاد، ولا يقتصر به على مثلين، بل تقول: هذا ضعفه أي: مثلاه وثلاثة أمثاله، لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى: «فأولئك لهم جزاء الضعف» ، لم يرد به مثلا ولا مثلين، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله، كقوله تعالى: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» فأقلّ الضعف محصور وهو المثل، وأكثره غير محصور. وفي القاموس: «وضعف الشيء بالكسر مثله، وضعفاه مثلاه، والضعف المثل إلى ما زاد، ويقال: لك ضعفه، يريدون مثليه، وثلاثة أمثاله، لأنه زيادة غير محصورة» . (يَلِجَ) : في المصباح: «ولج الشيء في غيره يلج، من باب وعد، ولوجا، وأولجته إيلاجا أدخلته» . (سَمِّ) السم: بتثليث السين، وفي المصباح: «السم ما يقتل، بالفتح في الأكثر، وجمعه سموم وسمام مثل: فليس وفلوس، وسمام أيضا، مثل: سهم وسهام. والضم لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم ... والسم: ثقب الإبرة، وفيه اللغات الثلاث، وجمعه سمام» . وهو المراد في الآية، ولكن السبعة على الفتح، وقرئ شاذا بالكسر والضم. وسم الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرت الإبرة، وقالوا للدليل الماهر: خرّيت، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر، والجمل مثل في عظم الجرم، قال حسان ابن ثابت: لا بأس في القوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير أي: لا بأس ولا ضرر يعتري هؤلاء من جهة الطول والغلظ. وفيه تهكم بهم، فأجسامهم كأجسام البغال، وعقولهم كعقل العصافير، ان كان لها عقول، يعني أنهم لا عقل لهم. (غَواشٍ) : جمع غاشية، وهي الغطاء. * الإعراب: (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) الكلام مستأنف لحكاية قول الله لهم يوم القيامة. وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو، وجملة ادخلوا في محل نصب مقول القول، وفي أمم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي كائنين في جملة أمم، وفي غمارهم مصاحبين لهم، وقيل: هما متعلقان بادخلوا، والمعنى في جملة أمم، وجملة قد خلت صفة لأمم، ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية، ومن الجن والإنس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثالثة، وفي النار جار ومجرور بدل من قوله: «في أمم» ، والظروف مجاز، وسيأتي الحديث عنها. وقال أبو حيان: وفي النار جار ومجرور متعلقان ب «خلت» ، على أن المعنى تقدم دخولها، أو بمحذوف صفة الأمم، أي في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجن والإنس، كائنة في النار، وأطال أبو حيان فيما لا طائل تحته (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط، وجملة دخلت أمة في محل جر بالإضافة أو لا محل لها إذا اعتبرنا «ما» موصولا حرفيا، وجملة لعنت أختها لا محلّ لها لأنها جواب شرط غير جازم والجملة الظرفية من تتمة مقول القول (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) حتى حرف غاية وجر، أو ابتدائية، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب، أي: بقالت الآتية، وجملة اداركوا في محل جر بالإضافة، وفيها جار ومجرور متعلقان باداركوا، وجميعا حال (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا، ولأولاهم اللام حرف جر للتعليل أي: لأجلهم، أو للتبليغ، والجار والمجرور متعلقان بقالت (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء، واسم الاشارة مبتدأ، وجملة أضلونا خبره، وجملة ربنا هؤلاء في محل نصب مقول القول فآتهم الفاء الفصيحة، وآتهم فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والهاء مفعول به، وعذابا مفعول به ثان، وضعفا صفة ل «عذابا» ، من النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية (قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) جملة القول مستأنفة، ولكل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وضعف مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول قوله تعالى، ولكن الواو حالية، أو استئنافية، ولكن حرف استدراك مهمل، ولا نافية، وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطف على ما تقدم، والفاء عاطفة، عطفت ما بعدها من الكلام على قول الله تعالى للسفلة: لكل ضعف، فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وما نافية، وكان فعل ماض ناقص، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان الناقصة، ومن حرف جر زائد، وفضل مجرور لفظا اسم كان محلا، وعلينا جار ومجرور، أي: إنا وإياكم سيان في الضلال واستحقاق العذاب (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا تبين لكم وعلمتموه ثم أصررتم على موقفكم المغاير فذوقوا، والعذاب مفعوله، وبما الباء سببية جارّة، وما مصدرية، أي بسبب كسبكم، وجملة تكسبون خبر كنتم (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد مصير الكافرين، وإن واسمها، وجملة كذبوا بآياتنا صلة الموصول لا محل لها، وجملة استكبروا عطف على جملة كفروا، وعنها جار ومجرور متعلقان باستكبروا، وجملة لا تفتح خبر إن، ولهم جار ومجرور متعلقان بتفتح، وأبواب السماء نائب فاعل، (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) هذه الجملة معطوفة على جملة لا تفتح لهم، وحتى حرف غاية وجر، وفي سم الخياط جار ومجرور متعلقان بيلج (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) الواو استئنافية، وكذلك نعت لمصدر محذوف، أي: جزاء مثل ذلك، والمجرمين مفعول به (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) الجملة الاسمية تحتمل الحالية والاستئنافية، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومهاد مبتدأ مؤخر، ومن جهنم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لجهنم (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) عطف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وغواش مبتدأ مؤخر، والضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، وسيأتي مزيد من الكلام عنه في باب الفوائد. * البلاغة: في قوله تعالى: «حتى يلج الجمل سم الخياط» فن بلاغي يسمى المذهب الكلامي. ويقول ابن المعتز في كتابه البديع: إن الجاحظ سماه هذه التسمية، وعرفوه بأنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تفلّ سلاح المعاند المكابر، وتقطع بينته، على طريقة علماء الكلام. لأن علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بحجج عقلية وبراهين قاطعة تدحض اللجاج، ومنه نوع منطقي تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة. وفي الآية التي نحن بصددها وجه استنتاج النتيجة من المقدّمتين أن يقال: إن الكفار لا يدخلون الجنة أبدا حتى يلج الجمل في خرم الابرة، والجمل لا يدخل في خرم لإبرة أبدا، فهم لا يدخلون الجنة أبدا، لأن تعليق الشرط على مستحيل يلزم منه استحالة وقوع المشروط. وسيرد الكثير منه في القرآن الكريم. المذهب الكلامي في الشعر: وقد جاء هذا الفن في كثير من الشعر العربي، ولهم فيه روائع فمن ذلك قول أبي تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود والقطعة التالية لبهاء الدين زهير حافلة بضروب من هذا الفن، وتجتزئ بإيرادها: يا من أكابد فيه ما أكابده ... مولاي أصبر حتى يحكم الله سمّيت غيرك محبوبي مغالطة ... لمعشر فيك قد فاهوا بما فاهوا أقول زيد، وزيد لست أعرفه ... وإنما هو لفظ أنت م عناه وكم ذكرت مسمّى لا اكتراث به ... حتى يجرّ إلى ذكراك ذ كراه أتيه فيك على العشاق كلهم ... قد عزّ من أنت يا مولاي مولاه والناس فينا ببعض القول قد لهجوا ... لو صحّ ما ذكروا ما كنت آباه كادت عيونهم بالبغض تنطق لي ... حتى كأنّ عيون الناس أفواه فإن جميع هذه العلل المذكورة ضمن هذه الأبيات علل حقيقية أصلية يسلم بها الخصم المعاند عند سماعها من غير مجادلة، ولا لجوء إلى اللجاج والمكابرة، وذلك لا يخفى على من له مسكة من ذوق. * الفوائد: 1- إبدال التاء: في ادّكر: وجهان: أولهما: أن الأصل تداركوا، كما ذكرنا في باب اللغة. وما كانت فاؤه ثاء أو ذالا أو دالا أو زايا أو صادا أو ضادا أو طاء أو ظاء مما هو على وزن تفاعل أو تفعّل أو تفعلل، بحيث تجتمع التاء وهذه الأحرف جاء فيه إبدال التاء حرفا من جنس ما بعدها مع إدغامها فيه، وذلك نحو: اثّاقل وادّكر وازّيّن واصتبر واضّرع واطّرب واظّلم، والأصل: تثاقل وتذكّر وتزيّن وتصبّر وتضرّع وتطرّب وتظلّم، فأبدلت التاء حرفا من جنس ما بعدها، ثم أسكن لإدغامه. فتعذر الابتداء بالساكن، فأتي بهمزة الوصل تخلصا من ذلك. وثانيهما أنه إذا أبدلت تاء افتعل إلى حرف مجانس لما بعدها تلفظ في الوزن بأصل تاء الافتعال، ولا تلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال، فنقول وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل، فكذلك نقول هنا وزن ادّاركوا اتفاعلوا لا افّاعلوا، فلا فرق بين تاء الافتعال والتفاعل في ذلك. 2- الجمع المنقوص على وزن مفاعل: للنحاة في الجمع الذي على وزن مفاعل- إذا كان منقوصا- مذهبان، فبعضهم قال: هو منصرف، لأنه قد زالت عنه صيغة منتهى الجموع، فصار وزنه وزن جناح، وقد زال فانصرف. وقال الجمهور: هو ممنوع من الصرف، والتنوين تنوين عوض، وقد تقدم بحثه. واختلفوا في المعوض عنه ماذا؟ فالجمهور على أنه عوض عن الياء المحذوفة، وذهب المبرد إلى أنه عوض عن حركتها، والكسر ليس كسر إعراب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب