الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ ادْخُلُوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكم مِنَ الجِنِّ والإنْسِ في النّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتّى إذا ادّارَكُوا فِيها جَمِيعًا قالَتْ أُخْراهم لِأُولاهم رَبَّنا هَؤُلاءِ أضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولَكِنْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿وقالَتْ أُولاهم لِأُخْراهم فَما كانَ لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن بَقِيَّةِ شَرْحِ أحْوالِ الكُفّارِ وهو أنَّهُ تَعالى يُدْخِلُهُمُ النّارَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: (قالَ ادْخُلُوا) فَفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ ذَلِكَ. والثّانِي: قالَ مُقاتِلٌ: هو مِن كَلامِ خازِنِ النّارِ. وهَذا الِاخْتِلافُ بِناءً عَلى أنَّهُ تَعالى هَلْ يَتَكَلَّمُ مَعَ الكُفّارِ أمْ لا ؟ وقَدْ ذَكَرْنا هَذِهِ المَسْألَةَ بِالِاسْتِقْصاءِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْخُلُوا في أُمَمٍ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: التَّقْدِيرُ: ادْخُلُوا في النّارِ مَعَ أُمَمٍ، وعَلى هَذا القَوْلِ فَفي الآيَةِ إضْمارٌ ومَجازٌ: أمّا الإضْمارُ فَلِأنّا أضْمَرْنا فِيها قَوْلَنا: في النّارِ. وأمّا المَجازُ، فَلِأنّا حَمَلْنا كَلِمَةَ ”فِي“ عَلى ”مَعَ“ لِأنّا قُلْنا مَعْنى قَوْلِهِ: (في أُمَمٍ) أيْ: مَعَ أُمَمٍ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ لا يَلْتَزِمَ الإضْمارَ ولا يَلْتَزِمَ المَجازَ، والتَّقْدِيرُ: ادْخُلُوا في أُمَمٍ في النّارِ، ومَعْنى الدُّخُولِ في الأُمَمِ، الدُّخُولُ فِيما بَيْنَهم، وقَوْلُهُ: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكم مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ أيْ: تَقَدَّمَ زَمانُهم (p-٦١)زَمانَكم، وهَذا يُشْعِرُ بِأنَّهُ تَعالى لا يُدْخِلُ الكُفّارَ بِأجْمَعِهِمْ في النّارِ دُفْعَةً واحِدَةً، بَلْ يَدْخُلُ الفَوْجُ بَعْدَ الفَوْجِ، فَيَكُونُ فِيهِمْ سابِقٌ ومَسْبُوقٌ، لِيَصِحَّ هَذا القَوْلُ، ويُشاهِدُ الدّاخِلُ مِنَ الأُمَّةِ في النّارِ مَن سَبَقَها. وقَوْلُهُ: ﴿كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها﴾ والمَقْصُودُ أنَّ أهْلَ النّارِ يَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا فَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿الأخِلّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلّا المُتَّقِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٦٧] . والمُرادُ بِقَوْلِهِ: (أُخْتَها) أيْ: في الدِّينِ، والمَعْنى: أنَّ المُشْرِكِينَ يَلْعَنُونَ المُشْرِكِينَ، وكَذَلِكَ اليَهُودُ تَلْعَنُ اليَهُودَ، والنَّصارى النَّصارى، وكَذا القَوْلُ في المَجُوسِ، والصّابِئَةِ وسائِرِ أدْيانِ الضَّلالَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا ادّارَكُوا فِيها جَمِيعًا﴾ أيْ: تَدارَكُوا، بِمَعْنى تَلاحَقُوا، واجْتَمَعُوا في النّارِ، وأدْرَكَ بَعْضُهم بَعْضًا، واسْتَقَرَّ مَعَهُ ﴿وقالَتْ أُولاهم لِأُخْراهُمْ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَفْسِيرِ الأُولى والأُخْرى قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ مُقاتِلٌ: أُخْراهم يَعْنِي آخِرَهم دُخُولًا في النّارِ، لِأُولاهم دُخُولًا فِيها. والثّانِي: أُخْراهم مَنزِلَةً، وهُمُ الأتْباعُ والسَّفَلَةُ، لِأُولاهم مَنزِلَةً وهُمُ القادَةُ والرُّؤَساءُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ”اللّامُ“ في قَوْلِهِ: (لِأُخْراهم) لامُ أجْلٍ، والمَعْنى: لِأجْلِهِمْ ولِإضْلالِهِمْ إيّاهم قالُوا ﴿رَبَّنا هَؤُلاءِ أضَلُّونا﴾ ولَيْسَ المُرادُ أنَّهم ذَكَرُوا هَذا القَوْلَ لِأُولاهم؛ لِأنَّهم ما خاطَبُوا أُولاهم، وإنَّما خاطَبُوا اللَّهَ تَعالى بِهَذا الكَلامِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا هَؤُلاءِ أضَلُّونا﴾ فالمَعْنى: أنَّ الأتْباعَ يَقُولُونَ: إنَّ المُتَقَدِّمِينَ أضَلُّونا، واعْلَمْ أنَّ هَذا الإضْلالَ يَقَعُ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ لِلْمُتَأخِّرِينَ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: بِالدَّعْوَةِ إلى الباطِلِ وتَزْيِينِهِ في أعْيُنِهِمْ، والسَّعْيِ في إخْفاءِ الدَّلائِلِ المُبْطِلَةِ لِتِلْكَ الأباطِيلِ. والوَجْهُ الثّانِي: بِأنْ يَكُونَ المُتَأخِّرُونَ مُعَظِّمِينَ لِأُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ، فَيُقَلِّدُونَهم في تِلْكَ الأباطِيلِ والأضالِيلِ الَّتِي لَفَّقُوها ويَتَأسَّوْنَ بِهِمْ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِإقْدامِ أُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ عَلى الإضْلالِ. ثُمَّ حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ هَؤُلاءِ المُتَأخِّرِينَ أنَّهم يَدْعُونَ عَلى أُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ بِمَزِيدِ العَذابِ وهو قَوْلُهُ: ﴿فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النّارِ﴾ وفي الضِّعْفِ، قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ ”الضِّعْفُ“ هو مِثْلُ الشَّيْءِ مَرَّةً واحِدَةً. وقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما يُقارِبُ هَذا، فَقالَ في رَجُلٍ أوْصى، فَقالَ: أعْطُوا فُلانًا ضِعْفَ نَصِيبِ ولَدِي. قالَ: يُعْطى مِثْلَهُ مَرَّتَيْنِ. والقَوْلُ الثّانِي: قالَ الأزْهَرِيُّ: ”الضِّعْفُ“ في كَلامِ العَرَبِ المِثْلُ إلى ما زادَ ولَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلى المِثْلَيْنِ، وجائِزٌ في كَلامِ العَرَبِ أنْ تَقُولَ: هَذا ضِعْفُهُ أيْ مِثْلاهُ وثَلاثَةُ أمْثالِهِ؛ لِأنَّ الضِّعْفَ في الأصْلِ زِيادَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأُولَئِكَ لَهم جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا﴾ [سَبَأٍ: ٣٧] ولَمْ يُرِدْ بِهِ مِثْلًا ولا مِثْلَيْنِ، بَلْ أوْلى الأشْياءِ بِهِ أنْ يُجْعَلَ عَشْرَةَ أمْثالِهِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ [الأنْعامِ: ١٦٠] فَثَبَتَ أنَّ أقَلَّ الضِّعْفِ مَحْصُورٌ وهو المِثْلُ، وأكْثَرَهُ غَيْرُ مَحْصُورٍ إلى ما لا نِهايَةَ لَهُ. وأمّا مَسْألَةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فاعْلَمْ أنَّ التَّرِكَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحُقُوقِ الوَرَثَةِ، إلّا أنّا لِأجْلِ الوَصِيَّةِ صَرَفْنا طائِفَةً مِنها إلى المُوصى لَهُ، والقَدْرُ المُتَيَقَّنُ في الوَصِيَّةِ هو المِثْلُ، والباقِي مَشْكُوكٌ، فَلا جَرَمَ أخَذْنا المُتَيَقَّنَ وطَرَحْنا المَشْكُوكَ، فَلِهَذا السَّبَبِ حَمَلْنا الضِّعْفَ في تِلْكَ المَسْألَةِ عَلى المِثْلَيْنِ. (p-٦٢)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولَكِنْ لا تَعْلَمُونَ﴾ فِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: ”يَعْلَمُونَ“ بِالياءِ عَلى الكِنايَةِ عَنِ الغائِبِ، والمَعْنى: ولَكِنْ لا يَعْلَمُ كُلُّ فَرِيقٍ مِقْدارَ عَذابِ الفَرِيقِ الآخَرِ، فَيُحْمَلُ الكَلامُ عَلى كُلٍّ؛ لِأنَّهُ وإنْ كانَ لِلْمُخاطَبِينَ فَهو اسْمٌ ظاهِرٌ مَوْضُوعٌ لِلْغَيْبَةِ، فَحُمِلَ عَلى اللَّفْظِ دُونَ المَعْنى، وأمّا الباقُونَ فَقَرَءُوا بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، والمَعْنى: ولَكِنْ لا تَعْلَمُونَ أيُّها المُخاطَبُونَ ما لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنكم مِنَ العَذابِ، ويَجُوزُ: ولَكِنْ لا تَعْلَمُونَ يا أهْلَ الدُّنْيا ما مِقْدارُ ذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنْ كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾ أيْ: حَصَلَ لِكُلِّ أحَدٍ مِنَ العَذابِ ضِعْفُ ما يَسْتَحِقُّهُ، فَذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ لِأنَّهُ ظُلْمٌ، وإنْ لَمْ يَكُنِ المُرادُ ذَلِكَ، فَما مَعْنى كَوْنِهِ ضِعْفًا ؟ والجَوابُ: أنَّ عَذابَ الكُفّارِ يَزِيدُ، فَكُلُّ ألَمٍ يَحْصُلُ فَإنَّهُ يَعْقُبُهُ حُصُولُ ألَمٍ آخَرَ إلى غَيْرِ نِهايَةٍ، فَكانَتْ تِلْكَ الآلامُ مُتَضاعِفَةً مُتَزايِدَةً لا إلى آخِرَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ أُخْراهم كَما خاطَبَتْ أُولاهم، فَكَذَلِكَ تُجِيبُ أُولاهم أُخْراهم، فَقالَ: ﴿وقالَتْ أُولاهم لِأُخْراهم فَما كانَ لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ﴾ أيْ: في تَرْكِ الكُفْرِ والضَّلالِ، وإنّا مُتَشارِكُونَ في اسْتِحْقاقِ العَذابِ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذا مِنهم كَذِبٌ؛ لِأنَّهم لِكَوْنِهِمْ رُؤَساءَ وسادَةً وقادَةً قَدْ دَعَوْا إلى الكُفْرِ وبالَغُوا في التَّرْغِيبِ فِيهِ، فَكانُوا ضالِّينَ ومُضِلِّينَ. وأمّا الأتْباعُ والسَّفَلَةُ فَهم وإنْ كانُوا ضالِّينَ إلّا أنَّهم ما كانُوا مُضِلِّينَ، فَبَطَلَ قَوْلُهم أنَّهُ لا فَضْلَ لِلْأتْباعِ عَلى الرُّؤَساءِ في تَرْكِ الضَّلالِ والكُفْرِ. وجَوابُهُ: أنَّ أقْصى ما في البابِ أنَّ الكُفّارَ كَذَبُوا في هَذا القَوْلِ يَوْمَ القِيامَةِ، وعِنْدَنا أنَّ ذَلِكَ جائِزٌ، وقَدْ قَرَّرْناهُ في سُورَةِ الأنْعامِ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهم إلّا أنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنْعامِ: ٢٣] . أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ فَهَذا يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ القادَةِ، وأنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ اللَّهِ تَعالى لَهم جَمِيعًا. واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ التَّخْوِيفُ والزَّجْرُ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنِ الرُّؤَساءِ والأتْباعِ أنَّ بَعْضَهم يَتَبَرَّأُ عَنْ بَعْضٍ، ويَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا، كانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الخَوْفِ الشَّدِيدِ في القَلْبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب