قوله تعالى: {في أُمَمٍ} : يجوز أن يتعلَّق قولُه «في أمم» وقوله: «في النار» كلاهما بادخلوا فيجيء الاعتراضُ المشهور: وهو كيف يتعلَّق حرفا جر متحدا اللفظ والمعنى بعاملٍ واحد؟ فيُجاب بأحد وجهين: إمَّا أنَّ «في» الأولى ليست للظرفية بل للمعيَّة، كأنه قيل: ادخلوا مع أممٍ أي: مصاحبين لهم في الدخول، وقد تأتي «في» بمعنى مع كقوله تعالى: {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة} [الأحقاف: 16] . وقول الشاعر:
2193 - شموسٌ وَدُوْدٌ في حياءٍ وعفةٍ ... رخيمةُ رَجْع الصوتِ طيبةُ النَّشْر
وإمَّا بأنَّ «في النار» بدلٌ من قوله «في أمم» وهو بدلُ اشتمال كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الأخدود، النار} [البروج: 4] فإن «النارِ» بدلٌ من «الأخدود» ، كذلك «في النار» بدلٌ من «أممٍ» بإعادة العامل بدل اشتمال، وتكونُ الظرفيةُ في «في» الأولى مجازاً؛ لأن الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة، وإنما المعنى: ادخلوا في جملةِ أممٍ وغمارِهم. ويجوز أن تتعلق «في أمم» بمحذوفٍ على أنه حال أي: كائنين في جملة أمم. و «في النار» متعلق بخَلَتْ أي: تسبقكم في النار.
ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأمم فتكون «أمم» قد وُصِفَتْ بثلاثة أوصاف، الأول: الجملةُ الفعليةُ وهي قولُه «قد خَلَتْ» ، والثاني: الجار والمجرور وهو قوله {مِّن الجن والإنس} ، والثالث: قولُه «في النار» ، والتقدير: في أمم خاليةٍ من قبلكم كائنةٍ من الجن والإِنس ومستقرةٍ في النار.
ويجوز أن تتعلَّق «في النار» بمحذوفٍ أيضاً لا على الوجه المذكور، بل على كونِه حالاً مِنْ «أمم» ، وجاز ذلك وإن كانَتْ نكرة لتخصُّصها بالوَصْفَيْن المشارِ إليهما. ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في «خَلَتْ» إذ هو ضميرُ الأمم. وقُدِّمَتْ/ الجنُّ على الإِنس لأنهم الأصلُ في الإِغواء.
وقوله «حتى» هذه غاية لما قبلها، والمعنى: أنهم يدخلون فوجاً فوجاً لاعناً بعضُهم لبعض إلى انتهاء تداركهم فيها. والجمهور قرؤوا «إذا ادَّاركوا» بوصل الألف وتشديد الدال، والأصلُ: تداركوا، فلما أريد إدغامُه فُعِل به ما فُعِل بادَّارَأْتم. وقد تقدَّم تحقيقُ تصريفه في البقرة.
قال مكي: «ولا يُسْتطاع اللفظُ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تَرُدُّ الزائد أصلياً فتقول: افَّاعلوا، فتصير تاء تفاعَل فاءَ الفعل لإِدغامها في فاء الفعل، وذلك لا يجوز فإنْ وَزَنْتَها على الأصل فقلت: تَفَاعلوا جاز» . قلت: هذا الذي ذَكَر مِنْ كونه لا يمكن وزنُه إلا بالأصل وهو تفاعلوا ممنوع. قوله: «لأنك تَرُدُّ الزائدَ أصلياً» قلنا: لا يلزم ذلك لأنَّا نَزِنُه بلفظِه مع همزةِ الوصل ونأتي بتاء التفاعل بلفظها فنقول: وزنُ ادَّاركوا اتْفاعَلوا فيُلْفَظُ بالتاءِ اعتباراً بأصلها لا بما صارت إليه حالَ الإِدغام.
وهذه المسألةُ نَصُّوا على نظيرها وهو أن تاءَ الافتعال إذا أُبْدلت إلى حرف مجانس لما قبلها. . . تُبْدَلُ طاءً أو دالاً في نحو: اصطبر واضطرب وازدجر وادَّكر، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا: يُلْفَظُ في الوزن بأصل تاء الافتعال، ولا يُلْفَظُ بما صارَتْ إليه من طاء أو دال، فتقول: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدَجَر افتعل لا افدعل، فكذلك تقول هنا: وزن ادَّاركوا اتْفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرقَ بين تاء الافتعال والتفاعل في ذلك.
وقرأ ابن مسعود والأعمش، ورُوِيت عن أبي عمرو: تداركوا وهي أصلُ قراءة العامة. وقرأ أبو عمرو: «إذا ادَّاركوا» بقطع همزة الوصل. قال ابن جني: «هذا مُشْكِلٌ، ومثلُ ذلك لا يفعله ارتجالاً، وكأنه وَقَفَ وِقْفة مستنكرٍ ثم ابتدأ فقطع» . قلت: وهذا الذي يُعْتقد من أبي عمرو، وإلا فكيف يَقْرأ بما لا يَثْبت إلا في ضرورة الشعر في الأسماء؟ كذا قال ابن جني، يعني أَنَّ قَطْع ألف الوصل في الضرورة إنما جاء في الأسماء.
وقرأ حميد «أُدْرِكوا» بضم همزة القطع، وسكون الدال وكسر الراء، مثل «أُخْرِجوا» جعله مبنياً للمفعول بمعنى: أُدْخِلوا في دَرَكاتها أو أدراكها، ونُقِل عن مجاهد بن جبر قراءتان: فَرَوى عنه مكي «ادَّارَكوا» بوصل الألف وفتح الدال مشددة وفتح الراء، وأصلُها «ادْتَرَكوا» على افتعلوا مبنياً للفاعل ثم أدغم كما أدغم ادَّان من الدَّيْن. وروى عنه غيره «أَدْرَكوا» بتفح الهمزة مقطوعةً وسكونِ الدال وفتح الراء أي أدرك بعضهم بعضاً. وقال أبو البقاء: «وقرئ: إذا ادَّاركوا» بألفٍ واحدة ساكنة بعدها دالٌ مشددة وهو جمعٌ بين ساكنين، وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل، وقد قال بعضهم «اثنا عْشر» بإثبات الألف وسكون العين «، قلت: يعني بالمتصل نحو: الضالِّين وجانّ، ومعنى المنفصل أن ألف» إذا «من كلمة، والساكن الثاني من كلمة أخرى. وادَّاركوا بمعنى تلاحقوا. وتقدَّم تفسيرُ هذه المادة.
و {جَمِيعاً} حالٌ من فاعل» ادَّاركوا «. وأُخْراهم وأُولاهم: يحتمل أن تكونَ فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشري:» أُخْراهم منزلةً، وهم الأتباع والسَّفَلة، لأُولاهم منزلةً وهم السَّادة والرؤساء «، ويحتمل أن تكون» أخرى «بمعنى آخِرة تأنيث آخِر مقابل لأوَّل، لا تأنيث» آخَر «الذي للمفاضلة كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] .
والفرقُ بين أخرى بمعنى آخِرة وبين أخرى تأنيث آخَر بزنة أفعل للتفضيل أنَّ التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء كما لا يَدُلُّ عليه مذكَّرها، ولذلك يُعْطف أمثالُها عليها في نوعٍ واحد تقول: مررت بامرأةٍ وأخرى وأخرى، كما تقول: برجل وآخر وآخر، وهذه تدلُّ على الانتهاء كما يدلُّ عليه مذكَّرها ولذلك لا يُعْطَفُ أمثالُها عليها، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة» غير «، وهذه لا تفيد إفادةَ» غير «.
والظاهرُ في هذه الآيةِ الكريمة أنهما ليستا للتفضيل بل لِما ذكرت لك/.
وقوله: {لأُولاَهُمْ} اللامُ للتعليل أي لأجل، ولا يجوز أن تكون التي للتبليغ كهي في قولك: قلت لزيدٍ افعل. قال الزمخشري: «لأنَّ خطابَهم مع الله لا معهم» وقد بَسَط القولَ قبله في ذلك الزجاج فقال: «والمعنى: وقالت أخراهم: يا ربَّنا هؤلاء أضلونا، لأولاهم» فَذَكَرَ نحوه. قلت: وعلى هذا فاللامُ الثانيةُ في قوله «أُولاهم لأخراهم» يجوز أن تكون للتبليغ، لأنَّ خطابَهم معهم بدليل قوله: «فما كان لكم علينا مِنْ فضلٍ، فذوقوا بما كنتم تَكْسِبون» .
وقوله «ضِعْفاً» قال أبو عبيدة: «الضِّعْفُ: مثلُ الشيء مرةً واحدة» قال الأزهري: «وما قاله أبو عبيدة هو ما يَسْتعمله الناس في مجاز كلامهم، وقد قال الشافعي قريباً منه فقال في رجل أوصى:» أَعْطوه ضِعْف ما يُصيب ولدي «قال:» يُعطَى مثله مرتين «. قال الأزهري:» الوصايا يُستعمل فيها العُرْف وما يتفاهمه الناس، وأما كتاب الله فهو عربي مبين، ويُرَدُّ تفسيرُه إلى لغة العرب وموضوعِ كلامِها الذي هو صنعةُ ألسنتها. والضِّعْف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد، ولا يُقتصر به على مِثْلين بل تقول: هذا ضِعْفه أي مِثْلاه وثلاثةُ أمثاله، لأنَّ الضِّعْفَ في الأصل زيادةٌ غيرُ محصورة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف} [سبأ: 37] لم يُرِدْ به مِثْلاً ولا مِثْلين، وأَوْلى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثالِه كقوله تعالى: «مَنْ جاء بالحسنةِ فله عشرُ أمثالِها» فأقلُّ الضعف محصورٌ وهو المِثْل وأكثرُه غير محصور «. ومثلُ هذه المقالةِ قال الزجاج أيضاً فإنه قال:» أي عذاباً مضاعفاً لأن الضِّعْفَ في كلام العرب على ضربين أحدهما: المثل، والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء «أي زاد به إلى ما لا يَتناهَى. وقد تقدم طرفٌ من هذا في البقرة.
و» ضِعْفاً «صفة ل» عذاباً «. و» من النار «يجوز أن يكون صفة ل» عذاباً «وأن يكون صفةً ل» ضِعْفاً «، ويجوز أن يكونَ ضعفاً بدلاً من» عذاباً «.
وقوله» لكلٍّ «أي: لكل فريق من الأخرى والأولى. وقوله:» ولكن لا تعلمون، قراءةُ العامة بتاء الخطاب: إمَّا خطاباً للسائلين، وإمَّا خطاباً لأهل الدنيا أي: ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالغيبة، وهي تحتمل أن يكون الضميرُ عائداً على الطائفة السائلة تضعيفَ العذاب أو على الطائفتين أي: لا يعلمون قَدْر ما أَعَدَّ لهم من العذاب.
{"ayah":"قَالَ ٱدۡخُلُوا۟ فِیۤ أُمَمࣲ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ فِی ٱلنَّارِۖ كُلَّمَا دَخَلَتۡ أُمَّةࣱ لَّعَنَتۡ أُخۡتَهَاۖ حَتَّىٰۤ إِذَا ٱدَّارَكُوا۟ فِیهَا جَمِیعࣰا قَالَتۡ أُخۡرَىٰهُمۡ لِأُولَىٰهُمۡ رَبَّنَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ أَضَلُّونَا فَـَٔاتِهِمۡ عَذَابࣰا ضِعۡفࣰا مِّنَ ٱلنَّارِۖ قَالَ لِكُلࣲّ ضِعۡفࣱ وَلَـٰكِن لَّا تَعۡلَمُونَ"}