الباحث القرآني
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الشورى ٢٤].
﴿أَمْ﴾ هنا قال المفسر: (بَلْ). يعني أنَّ (أمْ) بمعنى بلْ، ويسمُّونها منقطعة؛ لأنَّ (أمْ) تكون متصلة وتكون منقطعة، إذا صارت بمعنى (بلْ) فهي منقطعةٌ لأنها تُشْبه الإضرابَ عمَّا سبق، وإذا كانت بمعنى (أو) فهي متَّصلة؛ مثل أن أقول: أتُريد كتابًا أمْ ساعةً، هذه أيش؟
* الطلبة: متصلة.
* الشيخ: متصلة؛ لأنها بمعنى (أو)، ولا يستغني أحد الطرفين فيها عن الآخر.
وإذا قلت: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [يونس ٣٨] لا تجد فيه مقابلة، فهي منقطعة بمعنى (بل).
﴿يَقُولُونَ﴾ أي: الكفَّار من مشركي قريشٍ وغيرهم ﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي: اختلقَ على الله كذبًا، وذلك بقوله: إنَّ القرآن كلام الله، فقالوا: إنَّ القرآن ليس كلام الله، وإنَّ محمدًا كاذب، ولكنه ساحر، كاهن، مجنون، وما أشبهَ ذلك من الكلمات التي يرمون بها رسول الله ﷺ.
قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ﴾ [الشورى ٢٤].
﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ مفعول (يشأ) محذوف، ويُقدَّر بما يدلُّ عليه السياق؛ أي: فإنْ يشأ الله أن تفتري عليه كذبًا -وهذا شيءٌ محالٌ- ﴿يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ قال المؤلف: (يربط)، والصواب أنَّ الختم هنا بمعنى الطبع؛ يعني: إن افتريتَ على الله كذبًا طَبَع الله على قلبك. ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ الذي افتريتَه لو قُدِّر أنَّك افتريتَه، ﴿وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ (يُحِقُّه) أي: يُثبته ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ المنزلة على نبيِّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى ٢٤].
معنى الآية إجمالًا أنه لو قُدِّر أنك افتريتَ على الله كذبًا فلن يتركك الله، لا بدَّ أن يبيِّن الحقَّ، فيختم على قلبك؛ يطبع عليه، ثم يمحو الله الباطلَ ويُحِقُّ الحقَّ بكلماته إنَّه عليمٌ بذات الصدور.
ويُشْبه هذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ يعني: إذا قرأ ألقى الشيطانُ في قراءته ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج ٥٢].
وقوله: ﴿فَإِنْ يَشَإِ﴾ هل يَلْزم من هذا الشرط الوقوع؟ لا، يأتي الشرط أحيانًا في أعظم المستحيلات؛ أرأيت قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف ٨١]، وهل يمكن أن يكون لله ولد؟ لا يمكن، ومع هذا جاءت الشرطية.
وقال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر ٦٥] وهل هذا يستلزم جواز إشراك النبي ﷺ؟ لا يستلزم.
وقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس ٩٤] هل يمكن أن يكون في شك؟ لا.
إذَن ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ﴾ يعني: إنْ يشأ الله أن تفتري عليه كذبًا، لا يَلْزم من هذا الشرط جواز افتراء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الله كذبًا، ومن المعلوم أنَّ الله قد شهد لنبيِّه ﷺ بالرسالة فقال: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ [النساء ١٦٦].
قال: ﴿وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: بصاحبة الصدور. وما هي صاحبة الصدور؟ هي القلوب؛ كما قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦].
* في هذه الآية الكريمة فوائد منها: محاولة المشركين أن يُلبِّسوا على الخلْق حتى يُنكروا رسالةَ النبيِّ ﷺ؛ ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾، حتى يظن العوامُّ أنَّه مُفْترٍ على الله كذبًا فيُعرضوا عمَّا جاء به.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان شدَّة مُنابَذة الكفار لِمَا جاء به النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لقولهم: ﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾.
* ومن فوائدها: أنَّ مِثْل هذا الكلام قَدْحٌ في الله عز وجل، قَدْحٌ في القرآن، قَدْحٌ بالنبي ﷺ:
أمَّا كونُه قَدْحًا في الله فلأنَّه ليس من الحكمة أن يؤيِّد الله تعالى هذا الذي افترى عليه كذبًا، بل الحكمة أن يؤاخذه ويعاقبه ولا يؤيِّده، والله سبحانه وتعالى قد أيَّد نبيَّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالآيات الدالَّة على صِدْقه.
هو قَدْحٌ بالقرآن لأنَّه -على زَعْمهم- كلامٌ مفترى من عند الرسول عليه الصلاة والسلام، ولقد قالوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ فقال الله تعالى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل ١٠٣].
قَدْحٌ في الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يُجعَل أصدقُ الخلْق في مقام المفترِي على مَن؟ على الله، والافتراء على الله أشدُّ من الافتراء على غيره، ولهذا قال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام ٢١].
* ومن فوائد الآية: إثبات المشيئة لله عز وجل، من أين تؤخذ؟
* طالب: (...).
* الشيخ: من قوله: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ﴾.
وهل مشيئة الله مجرَّدة عن الحكمة أو لا يشاء شيئًا إلا لحكمة؟
الثاني؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٣٠]، فبيَّن أنَّه عز وجل له المشيئة التامَّة، وأردفَ ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ليتبيَّن أن مشيئة الله سبحانه وتعالى ليست مجرَّد مشيئةٍ عبثًا ولكنْ لحكمة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ النبيَّ ﷺ مربوبٌ لله يفعل به ما شاء، من أين تؤخذ؟
* طالب: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾.
* الشيخ: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ القلب محلُّ الإدراك والعقل والتصرُّف؛ لقوله: ﴿يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾، فدلَّ هذا على أنَّ مدار التصرُّف كله على القلب.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّ الطبع على القلب عقوبةٌ، سواءٌ كان طبعًا على العِلم أو طبعًا على القصد والإرادة، فإنه عقوبةٌ بلا شك، ولهذا كان من دعاء النبيِّ ﷺ: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ»[[أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ «يا مُقَلِّب القلوبِ ثبِّتْ قلبي على طاعتك»، وأخرجه الترمذي (٢١٤٠) وابن ماجه (٣٨٣٤) من حديث أنس بن مالكٍ بنحوه.]]، «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا إِلَى طَاعَتِكَ»[[أخرجه مسلم (٢٦٥٤ / ١٧)، والنسائي في الكبرى (٧٦٩٢) واللفظ له، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.]]، فالإنسان يجب ألَّا يعتمد على ما في قلبه من اليقين؛ فإنَّ هذا ربما يزول، بل عليه أن يسأل الله دائمًا التثبيت، يؤخذ من قوله: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾.
* من فوائد الآية الكريمة: حُسن أدلَّة القرآن الكريم؛ حيث استدلَّ بأمرٍ واضحٍ على ما زعمه هؤلاء، وهو أنَّه لو شاء الله أن يفتري الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الله كذبًا لَختم على قلبه وأنساه ما عنده، ثم محا اللَّهُ الباطلَ الذي افتراه، ثم أحقَّ الحقَّ بكلماته.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ الله تعالى لا يُقِرُّ على باطلٍ؛ ﴿يَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾، فلا يمكن أن يُقِرَّ اللَّهُ تعالى على باطلٍ.
ويتفرَّع على هذه الفائدة فائدةٌ عظيمةٌ، وهي: ما فُعِل في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم نعلم أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اطَّلع عليه، فهل نحكم بجوازه لأنَّ الله اطَّلع عليه وسكت عنه، أو لا نحكم به حتى نعلم أنَّ النبي ﷺ عَلِمه؟
الأول؛ لأنَّ الله لا يُقِرُّ على باطلٍ والوحيُ ما زال ينزل. ولهذا يُخطئ بعضُ العلماء -رحمهم الله- إذا استُدِلَّ بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقولون: إنَّ النبيَّ ﷺ لم يعلم. فنقول: هَبْ أنَّه لم يعلم، فإنَّ الله قد عَلِم.
مثال ذلك: قال بعض أهل العلم: إنَّه لا يصح أن يكون الإمامُ متنفِّلًا والمأمومُ مفترضًا؛ يعني لا يصح أن يصلِّي الفَجر خلف مَن يصلِّي النافلة، هذا هو المذهب عندنا. قيل لهم: هذا قولٌ مردودٌ؛ لأنَّ معاذ بن جبلٍ كان يصلي صلاة العِشاء مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاةَ في عهد النبيِّ ﷺ[[أخرج البخاري (٧٠١)، ومسلم (٤٦٥ / ١٧٨)، من حديث جابر بن عبد الله أنَّ معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله ﷺ العشاءَ الآخِرةَ، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم تلك الصلاة».]]. قالوا: لا حُجَّة في هذا؛ لأنَّنا لم نعلم أنَّ النبي ﷺ اطَّلع عليه. فما الجواب؟
الجواب: إذا لم يطَّلع عليه اطَّلع الله عليه، ولو كان باطلًا عند الله لَبَيَّنه كما بيَّن حال الذين يُبَيِّتون ما لا يرضى من القول ويكتمونه عن الناس فقال: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء ١٠٨]. إذَنْ دفعنا شُبهة هؤلاء الذين قالوا: لعلَّ النبي ﷺ لم يعلم به بأيش؟ بأنَّ الله عَلِمه، ولو كان باطلًا لم يُقِرَّه.
على أنَّنا نقول: يَبْعد أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يعلم به ومعاذٌ قد شُكِيَ إلى الرسول ﷺ بأنَّه يُطيل في الصلاة، لكنْ نُريد أن نتنَزَّل مع الخصم ونقول: هَبْ أنَّ الرسول لم يعلم به فإنَّ الله قد عَلِم به.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه لا يمكن أن يمكِّن الله تبارك وتعالى لأحدٍ كافرٍ تمكينًا مطلقًا، من أين نأخذها؟ مَن يعرف؟
* طالب: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾.
* الشيخ: لا.
* طالب: قول الله عز وجل: لو شاء الله لَطَبَع على قلوبهم.
* الشيخ: من كيسك هذه الآية؟!
* طالب: من قوله تعالى: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ﴾.
* الشيخ: لا.
* طالب: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾.
* الشيخ: إي نعم، ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ فلا يُمَكِّنك من الباطل.
وقولُنا: (التمكين المطْلق) خرج به ما لو مكَّن الله تعالى للكافر على وجهٍ لا يستقرُّ؛ كما حصل في غزوة أُحُدٍ، فإنَّ المشركين هَزموا المسلمين، لكنَّه ليس هزمًا مستقرًّا، بل هو من حكمة الله عز وجل أن يُمَكِّن للكفار حتى يتشجَّعوا على حرب المسلمين ثم يقضي المسلمون عليهم.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا محا الباطل جَعَل مكانه الحقَّ؛ لقوله: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الكلمات لله؛ لقوله: ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾.
والله سبحانه وتعالى متكلِّمٌ بكلامٍ حقيقيٍّ؛ بحروفٍ وأصواتٍ مسموعةٍ ومُحاورةٍ بينه وبين مَن شاء من خَلْقه، وهذا مذهب السلف الصالح، وعليه جَرَت المِحنةُ العظيمةُ على أئمة المسلمين من أُمَرَاء الجور والظُّلم وعلماءِ السوء؛ حيث ابتدعت الجهميةُ والمعتزلةُ القولَ بأن الله لا يتكلَّم وإنما يَخْلق كلامًا فقالوا: إنَّ الله عز وجل لا يتكلَّم لكنْ يَخْلق كلامًا، وكلامُه مخلوقٌ.
فيُقال: لو قلنا بأنَّ كلام الله مخلوقٌ لَبَطلت الشريعة؛ لأنَّه يستوي الأمرُ والنهيُ والخبرُ والاستخبار والقصص، تستوي لأنها مخلوقةٌ لا يمتاز بعضُها عن بعض، فهي باعتبار الصوت كزَمْجرة الرعد، وباعتبار الكتابة كنقوش الجدار؛ لأنها مخلوقة، وحينئذٍ لا أَمْر ولا نَهْي ولا خَبَر ولا استخبار ولا شيء.
وتلطَّفتْ طائفةٌ فلم تُوَفَّق وقالوا: إنَّ كلام الله غير مخلوقٍ، لكن كلامه هو المعنى القائم بنفسه، وما سُمِع منه فهو عبارةٌ عن كلام الله وهو مخلوق. فانظُر كيف ضلَّتْ هذه الطائفة حتى صارت أشدَّ ضلالًا من الذين قالوا: إنَّ الكلام مخلوقٌ.
ما معنى كلامهم؟ يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بنفسه؛ كما لو أنَّك في نفسك قدَّرتَ أن تتكلَّم بقولٍ ثم قُلتَ. هم يقولون: إنَّ الله تعالى أَضْمرَ الكلامَ في نفسه ثم خلق أصواتًا تدلُّ عليه، فيكون هذا الذي في المصحف ليس كلامَ الله، أليس كذلك؟ ليس كلام الله، لكنَّه مخلوقٌ خَلَقه الله ليُعبِّر عمَّا في نفس الله.
المعتزلة يقولون: الذي في المصاحف كلامُ اللهِ مخلوقٌ، والأشاعرة يقولون: ليس كلامَ الله وهو مخلوق، فأيُّهما أقربُ إلى الصواب؟ المعتزلة أقرب.
وهؤلاء يزعمون أنهم العُقَلاء -أعني الأشاعرة- وأنهم حاولوا الجمعَ بين المنقول والمعقول، ولكنَّهم أفسدوا المنقولَ والمعقولَ.
فنحن نقول: إنَّ الله يتكلَّم بكلامٍ مسموعٍ وبحروفٍ متتالية، والله يفعل ما يشاء؛ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس ٨٢].
* ومن فوائدها: عموم عِلْم الله عز وجل وبطون عِلْم الله؛ أنَّه عِلْمٌ عميقٌ يصل إلى أَخْفى شيءٍ، من أين؟ ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
* ومن فوائدها الفائدة المسلكية المهمَّة، وهي أنَّ الإنسان إذا عَلِمَ بأنَّ الله تعالى عليمٌ بما في قلبه فإنَّه سوف يُمْسِك عن كل إرادةٍ سيِّئةٍ ويُقدِم على كلِّ إرادةٍ حسنةٍ.
* ومنها: أنَّه يجب على العبد أن يصحِّح ما في قلبه لأنَّ المدار عليه؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ [العاديات ٩، ١٠].
واعلمْ يا أخي أنَّ الحُكم في الدنيا على الظاهر والحُكم في الآخرة على الباطن، فهل تُحسِّن ظاهرَك ليُحْكم عليك بالدنيا بما يقتضيه هذا الظاهر، أو تُحسِّن باطنَك ليُحْكم لك يوم القيامة بما يقتضيه هذا الباطن؟ أيُّهما؟ الثاني. ولهذا لا تغترَّ بكثرة الركوع والسجود وبُكاء العَيْن وما أشبهَ ذلك، بل انظُر إلى ما في القلب، وإنْ كانت هذه الأعمال التي ذكرتُها علامةً على صلاح القلب، لكنْ ثبِّت الإيمانَ في القلب، عليك بإصلاح القلب قبل كلِّ شيءٍ، اغرسْ في قلبك محبَّة الله ورسوله، اغرسْ في قلبك محبَّة الشريعة وإنْ ثَقُلتْ عليك؛ كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة ٢١٦]، اغرسْ في قلبك محبَّة المؤمنين، لا تكرهْ أيَّ مؤمنٍ وإنْ أساءَ إليك، إنْ أساءَ إليك المؤمن فاكرهْ إساءتَه، أمَّا هو شخصيًّا فلا تكرهه، اغرسْ في قلبك الولاية لكلِّ مسلمٍ، والعداوةَ لكلِّ كافرٍ ... وهلُمَّ جرًّا، المهم أن تعتني بصلاح قلبك؛ لأنه هو الذي عليه مدار الحساب يوم القيامة؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق ٨، ٩] أي: تُختبَر السرائر. اللهمَّ أصلحْ ظواهرَنا وبواطنَنا يا ربَّ العالمين.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّ المدار على القلوب وأنها في الصدور، القلوب في الصدور، وبها العقل؛ قال الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج ٤٦]، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦]، وعلى هذا فيجب علينا أن نؤمن بأنَّ العقل في القلب؛ لأنَّ الآية في هذا صريحة أو ظاهرة.
وأمَّا قول بعضهم: إنَّ العقل في الدماغ. فضعيفٌ مقابَلٌ بقول العالِم الخالق عز وجل، ولكن الدماغ لا شك أنه إذا اختلَّ اختلَّ تصرُّف الإنسان، وأصْل العقل في القلب بلا شك؛ قال الإمام أحمد رحمه الله: العقل في القلب وله اتصالٌ بالدماغ.
ونروي عن شيخنا رحمه الله -عبد الرحمن- أنَّ أحد المعتزلة حُكِم عليه بالقتل على حين اختلافٍ بين الناس في العقل أهو في الدماغ أمْ في القلب، فقال لهم: إذا قتلتموني فأَبِينوا رأسي، ثم إنْ كان العقل في قلبي حرَّكتُ يدي -أو قال: أصبعي- وإنْ كان في الدماغ راح مع الدماغ. ففعلوا، فلمَّا قتلوه حرَّك العضوَ الذي قال لهم على الوجه الذي قال لهم. وهذا دليلٌ حسِّيٌّ -إن ثبتت القصة- دليلٌ حسِّيٌّ على أنَّ العقل في القلب؛ لأنه حرَّك عضوَه -إمَّا أصبعه أو يده- على الوجه الذي ذكر لهم، وهذا يدلُّ على أنه استحضرَ في قلبه بعد أن بان رأسُه، استحضرَ في قلبه ما وَعَدهم به وأدَّاه كما وَعَدهم، فإنْ ثبتت هذه القصة فهي دليلٌ حسِّيٌّ، وإن لم تثبت فعندنا دليلٌ سمعيٌّ، وهو؟ ما هو السمعي يا جماعة؟ الدليلُ السمعيُّ عند العلماء هو الذي ثبت بالكتاب والسنة.
{"ayah":"أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰاۖ فَإِن یَشَإِ ٱللَّهُ یَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَیَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَـٰطِلَ وَیُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق