الباحث القرآني

ولَمّا أثْبَتَ أنَّهُ أنْزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ إلى أنْ خَتَمَ بِنَفْيِ الغَرَضِ في البَلاغِ فَحَصَلَ القَطْعُ بِمَضْمُونِ الخَبَرِ، كانَ كَأنَّهُ قِيلَ إنْكارًا عَلَيْهِمْ وتَوْبِيخًا لَهُمْ: هَلْ عَمِلُوا بِما نَبَّهْناهم عَلَيْهِ مِمّا يَدَّعُونَ أنَّهم عَرِيقُونَ فِيهِ مِن صِلَةِ الرَّحِمِ والإقْبالِ عَلى مَعالِي الأخْلاقِ بِاجْتِنابِ السَّيِّئاتِ وارْتِكابِ الحَسَناتِ، والبُعْدُ عَنِ الكَذِبِ والمُكابَرَةِ والبُهْتانِ، فاعْتَقَدُوا أنَّهُ حَقٌّ وأنَّهُ وحْيٌ مِن عِنْدِ اللهِ بِما قامَ عَلى ذَلِكَ مِنَ البُرْهانِ: ﴿أمْ يَقُولُونَ﴾ عِنادًا: ﴿افْتَرى﴾ أيْ تَعَمُّدٍ أنْ يَقْطَعَ، وقَدَّمَ ذِكْرَ المَلِكِ الأعْظَمِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لا أفْظَعَ مِنَ الكَذِبِ عَلى مَلِكِ المُلُوكِ مَعَ فَهْمِ المَفْعُولِ بِهِ مِن لَفْظِ الِافْتِراءِ فَقالَ: ﴿عَلى اللَّهِ﴾ الَّذِي أحاطَ بِصِفاتِ الكَمالِ، فَلَهُ العِلْمُ الشّامِلُ بِمَن يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ والقُدْرَةُ التّامَّةُ عَلى عِقابِهِ ﴿كَذِبًا﴾ حِينَ زَعَمَ أنَّ هَذا القُرْآنَ مِن عِنْدِهِ وأنَّهُ أرْسَلَهُ لِهَذا الدِّينِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ قَطْعًا: إنَّهم لَيَقُولُونَ ذَلِكَ وكانَ قَوْلُهم لَهُ قَوْلًا مَعْلُومَ البُطْلانِ لِأنَّهُ تَحَدّاهم بِشَيْءٍ مِن مِثْلِهِ في زَعْمِهِمْ أنَّ لَهُ مَثَلًا لِيَعْلَمَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ فَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ وهم وإنْ كانُوا قَدْ يَدَّعُونَ أنَّهُ يَمْنَعُهم مِن ذَلِكَ أنَّهم لا يَسْتَجِيزُونَ الكَذِبَ مُبْطِلُونَ لا يَمْتَرِي عاقِلٌ (p-٣٠١)فِي بُطْلانِ ذَلِكَ مِنهم أيْضًا لِأنَّهم لَمْ يَكْلُبْ مِنهم أنْ يَنْسَوْا ما يَأْتُونَ بِهِ إلى اللهِ عَلى أنَّهُ لَوْ طَلَبَ مِنهم ذَلِكَ لَمّا كانَ عُذْرًا، لِأنَّهُ لا يَتَوَقَّفُ أحَدٌ في أنَّ الضَّرُوراتِ تُبِيحُ المَحْذُوراتِ، وأنَّهُ يَرْتَكِبُ أخَفَّ الضَّرَرَيْنِ لِدَفْعِ أثْقَلِهِما، فالإتْيانُ بِكَلامٍ يَسِيرٍ يَسْكُنُ بِهِ فِتَنٌ طِوالٌ وتَنْقَطِعُ بِهِ شُرُورٌ كِبارٌ في غايَةِ الحَسَنِ لِأنَّ الخَطْبَ فِيهِ سَهْلٌ، والأمْرُ يَسِيرُ، فَكانَ ذَلِكَ وهم يَرْتَكِبُونَ أكْبَرَ مِنهُ مِن قَطْعِ الأرْحامِ وتَفْرِيقِ الكَلِمَةِ لِقَتْلِ النُّفُوسِ وتَخْرِيبِ الدِّيارِ وإتْلافِ الأمْوالِ دَلِيلًا قاطِعًا عَلى أنَّهم إنَّما يَتْرُكُونَهُ عَجْزًا، تَسَبَّبَ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذا وهو نِسْبَتُهم لَهُ إلى تَعَمُّدِ الكَذِبِ أنْ قالَ تَعالى رَدًّا عَلَيْهِمْ بِبَيانِ كَذِبِهِمْ فِيما قالُوا بِبَيانِ ما لَهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن نُورِ القَلْبِ اللّازِمِ عَنِ اسْتِقامَةِ القَوْلِ: ﴿فَإنْ﴾ وأظْهَرَ الجَلالَةَ ولَمْ يُضْمِرْ تَعْظِيمًا لِلْأمْرِ بِأنَّ الخَتْمَ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا المُتَّصِفُ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ عَلى الإطْلاقِ مِن غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِقَيْدٍ أصْلًا فَقالَ: ﴿يَشَأِ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِالكَمالِ ﴿يَخْتِمْ﴾ وجَرى عَلى الأُسْلُوبِ السّابِقِ في الخِطابِ لِأعْظَمِ أُولِي الألْبابِ فَقالَ مُعَبِّرًا بِأداةِ الِاسْتِعْلاءِ: ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ فَيَمْنَعُهُ مِن قَبُولِ رُوحِ هَذا (p-٣٠٢)الوَحْيِ كَما خَتَمَ عَلى قُلُوبِ أعْدائِكَ مِن قَبُولِ ذَلِكَ، فَتَسْتَوِي حِينَئِذٍ مَعَهم في عَدَمِ القُدْرَةِ عَلى الإتْيانِ بِشَيْءٍ مِنهُ وتَصِيرُ لَوْ قُلْتَ وقَدْ أعاذَكَ اللهُ عَمّا يَقُولُونَ مِمّا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلى الباطِلِ لَمْ تَقُلْهُ إلّا ومَعَهُ الأدِلَّةُ قائِمَةٌ عَلى بُطْلانِهِ كَما أنَّهم هم كَذَلِكَ لا يَزالُونَ مَفْضُوحِينَ بِما عَلى أقْوالِهِمْ مِنَ الأدِلَّةِ قائِمَةً عَلى بُطْلانِها، وكانَ الأصْلُ في الكَلامِ: أمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ وأنَّهم لَكاذِبُونَ فِيهِ بِسَبَبِ أنَّ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَكَ وأنارَ قَلْبَكَ فَلا تَقُولُ قَوْلًا إلّا كانَتِ الأدِلَّةُ قائِمَةً عَلى صِدْقِهِ، ولَكِنَّهُ ساقَ الكَلامَ هَكَذا لِأنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أنْصَفَ دالٌّ عَلى تَعْلِيقٍ بِالِافْتِراءِ عَلى خَتْمِ القُلُوبِ، وذَلِكَ دالٌّ قَطْعًا عَلى أنَّهم هُمُ الكاذِبُونَ لِما عَلى قُلُوبِهِمْ مِنَ الخَتْمِ المُوجِبِ لِأنَّها تَقُولُ ما الأدِلَّةُ قائِمَةٌ عَلى كَذِبِهِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ كَما دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ: ولَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، بَلْ شاءَ جَعْلُهُ قابِلًا لِرُوحِ الوَحْيِ واعِيًا لِفُنُونِ العِلْمِ فَهو يَقْذِفُ بِأنْواعِ المَعارِفِ، ويَهْتِفُ بِتَلَقِّي أعاجِيبَ اللَّطائِفِ، ويُثْبِتُ اللهُ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن غَيْرِ (p-٣٠٣)مانِعٍ ولا صارِفٍ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ويَمْحُ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ ﴿الباطِلَ﴾ وهو قَوْلُهُمُ ”افْتَرى“ وكُلُّ كَذِبٍ فَلا يَدَعُ لَهُ أثَرًا، وهُنالِكَ يَظْهَرُ خُسْرانُ الجاحِدِ ويَنْقَطِعُ لِسانُ الألَدِّ المُعانِدِ، ولَمْ يُذْكَرْ أنَّ آلَةَ المَحْوِ الكَلِماتِ وغَيْرِها اسْتِهانَةٌ بِهِ بِالإشارَةِ إلى أنَّهُ تارَةً يَمْحُوهُ بِنَفْسِهِ بِلا سَبَبٍ وتارَةً بِأضْعَفِ الأسْبابِ وتارَةً بِأعْلى مِنهُ، وحُذِفَتْ واوُهُ في الخَطِّ في جَمِيعِ المَصاحِفِ مَعَ أنَّهُ اسْتِئْنافٌ غَيْرُ داخِلٍ في الجَوابِ لِأنَّهُ تَعالى يَمْحُو الباطِلَ مُطْلَقًا إيماءً إلى أنَّهُ سُبْحانَهُ يَمْحَقُ رَفْعَهُ وعُلُوَّهُ وغَلَبَتَهُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْها الواوُ مُطابَقَةً بَيْنَ خَطِّهِ ولَفْظِهِ، ومَعْناهُ تَأْكِيدًا لِلْبِشارَةِ يَمْحُوهُ مَحْوًا لا يَدْعُ لَهُ عَيْنًا ولا أثَرًا لِمَن ثَبَتَ لِصَوْلَتِهِ: وصَبَرَ كَما أمَرَ لِحُولَتِهِ، اعْتِمادًا عَلى صادِقِ وعْدِ اللهِ إيمانًا بِالغَيْبِ وثِقَةً بِالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي الحَذْفِ أيْضًا تَشْبِيهٌ لَهُ بِفِعْلِ الأمْرِ إيماءً إلى أنَّ إيقاعَ هَذا المَحْوِ أمْرٌ لا بُدَّ مِن كَوْنِهِ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ وأحْكَمِها وأعْلاها وأتْقَنِها كَما يَكُونُ المَأْمُورُ بِهِ مِنَ المَلِكِ المُطاعِ، وأمّا الحَقُّ فَإنَّهُ ثابِتٌ شَدِيدٌ مُضاعَفٌ فَلِذا قالَ: ﴿ويُحِقُّ﴾ أيْ يَثْبُتُ عَلى وجْهٍ لا يُمْكِنُ زَوالُهُ ﴿الحَقَّ﴾ أيْ كُلٍّ مِن شَأْنِهِ الثَّباتُ (p-٣٠٤)لِأنَّهُ أذِنَ فِيهِ وأقَرَّهُ، وعَظُمَ الحَقُّ وإحْقاقُهُ بِذِكْرِ آلَةِ الفِعْلِ فَقالَ: ﴿بِكَلِماتِهِ﴾ أيِ الَّتِي ﴿لَوْ كانَ البَحْرُ مِدادًا﴾ [الكهف: ١٠٩] الآيَةُ الَّتِي يَقُولُونَ إنَّ ما أتاهم مِنَ العِبارَةِ عَنْها افْتِراءٌ لِلْكَذِبِ، والحاصِلُ أنَّهُ سُبْحانَهُ أثْبَتَ صَفاءَ لُبِّهِ ونُورانِيَّةَ قَلْبِهِ وسِدادَ قَوْلِهِ وصابَ أمْرِهِ، وظَلامَ قُلُوبِهِمْ وبُطْلانَ أقْوالِهِمْ إثْباتًا مَقْرُونًا بِدَلِيلِهِ أمّا لِأهْلِ البَصائِرِ فَبِعَجْزِهِمْ عَنْ مُعارَضَتِهِ، وأمّا لِلْأغْبِياءِ فَإثْباتُ قَوْلِهِ ومَحْوُ قَوْلِهِمْ. ولَمّا كانُوا يَعْلَمُونَ أنَّهُ عَلى حَقٍّ وهم عَلى باطِلٍ، وكانَ مَن أحاطَ عِلْمُهُ بِشَيْءٍ قَدَرَ عَلى ما يُرِيدُهُ مِن ذَلِكَ الشَّيْءِ، بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مُعَلِّلًا عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ لِأنَّ عَمَلَهم عَمَلَ مَن يَظُنُّ أنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ مَكْرَهُمْ: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ﴾ أيْ بالِغٌ ﴿بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ أيْ ما هو فِيها مِمّا يَعْلَمُهُ صاحِبُهُ ومِمّا لا يَعْلَمُهُ فَيُبْطِلُ باطِلَهُ ويُثْبِتُ حَقَّهُ وإنْ كَرِهَ الخَلائِقُ ذَلِكَ ﴿ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: ٨٨] ولَقَدْ صَدَقَ اللهُ فَأثْبَتَ بِبَرَكَةِ هَذا القُرْآنِ كُلُّ ما كانَ يَقُولُهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأبْطَلَ بِسَيْفِ (p-٣٠٥)هَذا البُرْهانُ كُلُّ ما كانُوا يُخالِفُونَهُ فِيهِ، ومَن أصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب