الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ [يس ٧٦] أي: لا يوقعك في الحزن، والحزن هو الندم والهم لما مضى، وضده الخوف؛ فإنه الهم لما يستقبل، ما الذي قالوه؟ قالوا أشياء كثيرة، قالوا مثلًا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص ٥]، وهذا طعن في الألوهية، وقالوا: ﴿لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ [الرعد ٤٣]، وهذا طعن في الرسالة، وقالوا: إن محمدًا ﷺ مجنون وشاعر وكاهن وساحر، وهذا أيضًا عيب في شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن المعلوم أن الإنسان بشرٌ سوف يتأثر إذا صُودِمَت دعوته في لبِّها وأصلها وقيل: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص ٥]، الإنسان إذا صودم قوله الفقهي -مثلًا- يحس في نفسه بلغط، لكن إذا كان سيهدم أصله يكون أشد وأعظم، وإذا عيب عيبًا ذاتيًّا يكون أشد وأشد، ولهذا يُسَلِّي الله نبيه محمدًا ﷺ في مثل التوجيهات.
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [يس ٧٦] الجملة استئنافية لبيان حال هؤلاء الذين يقولون ما يقولون في رسول الله ﷺ وما جاء به، وحالهم أنهم مهددون بماذا؟ بعلم الله عز وجل بما يسرون وما يعلنون؛ ما يسرونه فيما بينهم وما يعلنونه للناس، ما يسرونه في أنفسهم وما يبدونه لغيرهم، فعندنا إسراران؛ إسرار الإنسان ما في نفسه بحيث لا يعلم به أحد، الإسرار الثاني إسرار الأمر بينهم فلا يخرج لغيرهم.
ونضرب لهذا مثلًا: هؤلاء قوم عددهم عشرة يتحدثون فيما بينهم بأمر من الأمور لكن لا يخرج إلى غيرهم، هذا إسرار ولَّا لا؟ إسرار، أحد هؤلاء العشرة أضمر في نفسه شيئًا لم يخبر به زملاءه، هذا أيضًا إسرار.
فقوله: ﴿مَا يُسِرُّونَ﴾ يشمل هذا وهذا؛ أي: ما أسره كل إنسان في نفسه وما أسروه فيما بينهم دون أن يعلنوه لغيرهم، وفي هذا من التهديد ما هو ظاهر، فالله تعالى يعلم ما يسرونه وما يعلنونه وسوف يجازيهم على ذلك يوم القيامة.
ثم قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس ٧٧، ٧٨]، قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾، ﴿يَرَ﴾ بمعنى يعلم، ﴿أَوَلَمْ يَرَ﴾ أي: أولم يعلم؟ والاستفهام هنا للتقرير والمراد به التوبيخ، والواو حرف عطف، والمعطوف عليه إما مقدر بعد الهمزة، وإما ما سبق، وعلى الثاني تكون الهمزة منقولة عن مكانها، وأصلها على القول الثاني: وألم ير.
وقوله: ﴿الْإِنْسَانُ﴾ [يس ٧٧] قال المؤلف: (وهو العاص بن وائل)، وعلى رأي المؤلف تكون (أل) هنا للعهد الذهني، ولكن الصحيح أن (أل) للجنس؛ أي جنس الإنسان، ومنه العاص بن وائل؛ لأن الأصل في (أل) أنها لبيان الجنس، هذا الأصل فيها، ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر ١، ٢] يعني: جنس الإنسان، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر ٣].
ووجه كون ذلك هو الأصل أن العهد يحصرها في شيء معين، والأصل بقاء اللفظ على عمومه، فإذا قال قائل ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾: إنه فلان بن فلان، نقول: الله عز وجل قال: ﴿الْإِنْسَانُ﴾ وهو شامل، إذن فالصحيح أنه عام، لكن نجعل العاص بن وائل نجعله مثالًا لمن قال هذا القول أو لمن رأى هذا الرأي.
(﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ مَنِي إلى أن صيرناه شديدًا قويًّا، ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ شديد الخصومة لنا، ﴿مُبِينٌ﴾ بيَّنها في نفي البعث).
الإنسان خُلِق من نطفة، وهو هذا المني المهين كما وصفه الله عز وجل، هذا الماء المهين الذي خلق منه الإنسان، إذا رجع الإنسان إليه -إلى أصله- وجد أنه كالنخامة ليس بشيء، ثم بعد هذا ينشئه الله عز وجل حتى يعطيه الفصاحة والبلاغة وقوة الحجة بعد أن يتربى بنعم الله في بطن أمه، ثم في صدر أمه من الثديين، ثم بما أنعم الله عليه من أنواع الطعام والشراب يقوى ويشتد عقله وفكره وذهنه، فيكون خصيمًا.
﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ أي: شديد الخصومة؛ لأن (فعيل) بمعنى (فاعل) لكن تدل على المبالغة.
وقوله: ﴿مُبِينٌ﴾ أي: بين الذي يظهر أنها، ﴿مُبِينٌ﴾ بمعنى مظهر؛ يعني: مظهر لخصومته، لكونه شديد الخصومة قويها، وسيأتي -إن شاء الله- بيان نوع من جدل الإنسان وخصومته.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ سبق لنا أن هذا الاستفهام للتقرير الذي يراد به التوبيخ، وأن المراد بالإنسان ما هو أعم مما قاله المؤلف من تخصيصه بالعاص بن وائل.
قال الله عز وجل: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ أي: مظهِر للخصومة، خلافًا لقول المؤلف: (بين الخصومة).
قال: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا﴾ يعني: هذا الإنسان الذي كان خصيمًا مبينًا ضرب مثلًا لله عز وجل يريد التعجيز والإنكار، وتقدير نفيه هذا المثل بَيَّنه بقوله: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾، ولهذا جاءت الجملة مفصولةً عما سبق؛ لأنها وقعت بيانًا لمبهم في قوله: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا﴾.
﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ﴾ ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ يعني: ابتداء خلقه أنه خلق من ماء مهين، فكان هذا الإنسان الخصيم المبين، والجملة في قوله: ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ جملة يحتمل أن تكون جملة خبرية ويحتمل أن تكون جملة حالية؛ أي: وقد نسي خلقه؛ يعني أنه في ضرب المثل قد نسي أصله وهو أنه من مني ثم كان إنسانًا سويًّا خصيمًا مبينًا، المثل بيَّنه بقوله: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾.
يقول المؤلف رحمه الله: (﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ من الْمَنِي، وهو أغرب من مَثَلِه) كيف ذلك؟ لأن مَثَلَه الذي ضربه إعادة شيء كائن وخلقه من المني ابتداء خلقه، وأيهما أشد امتناعًا -لو كان فيه امتناع على الله-؟ الابتداء، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم ٢٧]، فإذا كان كذلك فإنه أي الإنسان الخصيم المبين يكون ضالًّا من وجهين:
الوجه الأول: استغرابه قدرة الله عز وجل على الإعادة.
والثاني: نسيانه أول الخلق؛ حيث نسي أنه خُلِق من ماء مهين حتى صار إنسانًا سويًّا خصيمًا مبينًا.
(﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ أي: بالية)، ﴿مَنْ﴾ ما نوعها؟ استفهامية، والمراد به النفي أو الإنكار؛ يعني: لا أحد يحيي العظام وهي رميم، الإنسان إذا مات ورم -أي ذهب لحمه وعصبه- وصارت عظامه تتفتت لقِدَمها، فهي إذن رميم، هذه العظام الرميم هي أبعد شيء عن الحياة؛ لأنها تشبه التراب فهي أبعد شيء عن الحياة، فكيف تحيى هذه العظام؟! هذا وجه استغراب هذا الرجل المنكِر.
(﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ أي: بالية، ولم يقل بالتاء؛ لأنه اسم لا صفة)، الرميم تارة يراد بها الصفة؛ يعني اسم المفعول أو اسم الفاعل؛ مرمومة أو رامة، وتارة يراد به الاسم؛ يعني أن العظم إذا بَلِي يُسَمَّى رميمًا، فلما قُصِدَ به الاسم لم يحتج إلى التاء؛ لأنه مثل أسد وحجر وشجر، وما أشبه هذا، لم يحتج إلى التاء لكن لو أريد الصفة لكان يؤنث؛ لأن العظام جمع، وكل جمع قابِلٌ للتأنيث لا سيما وأنه قال: ﴿وَهِيَ﴾ وهذه ضمير مؤنث.
قال: ﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ (وروي أنه أخذ عظمًا رميمًا ففته وقال للنبي ﷺ: أترى يحيي الله هذا بعدما بلي ورمَّ؟ فقال النبي ﷺ: «نَعَمْ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ»[[أخرجه عبد الرزاق في التفسير (٢٤٩٨) من حديث قتادة بن دعامة.]] ).
المؤلف ساق هذا الأثر بالتضعيف (رُوِي) وهو جدير بذلك؛ لأن هذا الرجل المنكِر سواء أنكر أمام النبي ﷺ أو خلف ظهره فإنه منكِر بكل حال، وليس من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعامل الناس بمثل هذا الأسلوب بقوله: «نَعَمْ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ»، فالأثر هذا يحتاج إلى نظر في سنده وفي صحته.
قال الله تعالى مبينًا قدرته على ذلك: ﴿قُلْ﴾ [يس ٧٩] والخطاب لمن؟ للرسول ﷺ، ﴿قُلْ﴾ يعني: لهذا الذي أنكر أن يحيي الله العظام وهي رميم، ﴿يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
واعلم أن الله عز وجل إذا قال للرسول عليه الصلاة والسلام: (قل) فهو أمر له بالإبلاغ، ومن المعلوم أن النبي ﷺ مأمور بإبلاغ القرآن عمومًا؛ لقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة ٦٧]، فإذا خص شيئًا من الأحكام أو من الأخبار بـ(قل) كان في ذلك عناية خاصة بهذا الذي أمر أن يقوله؛ لأنه أمر أن يبلغه على وجه الخصوصية، ومعلوم أن ما كان على وجه الخصوصية فهو أوكد مما دخل في العموم.
وخلاصة هذه القاعدة أن الله إذا أمر نبيه ﷺ أن يقول: (قل) فهذا أمر خاص بتبليغ هذه المسألة سواء كانت خبرًا أو كانت حكمًا.
﴿يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ لم يقل الرب عز وجل، لم يقل: يحييها الله بل قال: ﴿الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ليكون الجواب متضمنًا للدليل؛ لأنه لو قال: (قل يحييها الله) فَهِم الإنسان أن الله هو الذي يحييها، لكن إذا قال: ﴿الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ كان هذا الجواب متضمنا لأيش؟ للدليل ﴿الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، ومن الذي أنشأها أول مرة؟ الذي أنشأها أول مرة هو الله عز وجل، لم يخلق أحدٌ من الخلق هذه العظام ولم ينشئها أول مرة، فإذا كان الله عز وجل أنشأها أول مرة فهو قادر على إعادتها؛ لأن الإعادة أهون من الابتداء، وهذا دليل؛ يعني أن الله ذكر فيما بقي من الآيات الدالة على إمكان إحياء هذه العظام وهي رميم، هذا هو الدليل الأول ﴿الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وجه الاستدلال بهذا على أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة من باب أولى.
ثانيًا: قال: (﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ﴾ مخلوق، ﴿عَلِيمٌ﴾ مجملًا ومفصلًا، قبل خلقه وبعد خلقه)، هذه الجملة ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ﴾ قال المؤلف: إن (خلق) هنا بمعنى (المخلوق)، فجعل المصدر بمعنى اسم المفعول، والذي يظهر أن المراد بالمصدر نفس المصدر، ومن المعلوم أنه لا مخلوق إلا بخلقٍ، لكن إذا قال: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ صار في هذا نص على علمه بالخلق؛ أي كيف يخلق؟ وكيف ينشئ الخلق؟ فيكون أدل على قدرته على إحياء الموتى مما إذا قلنا: وهو بكل مخلوق؛ لأنك إذا قلت: (بكل مخلوق) صار علمه بالمخلوق متى؟ بعد خلقه، لكن إذا كانت الآية على ظاهرها ﴿بِكُلِّ خَلْقٍ﴾ يعني: أنه يعلم كيف يخلق، والعالم بكيفية الخلق إذا أراده لم يستعصِ عليه؛ لأنه إذا كان عالمًا لم يبق إلا الإرادة، إذا أراده وهو بكل خلق عليم صنع ما علم عز وجل، فكونه ﴿بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ دليل على أنه قادر على أنه يعيده؛ لأن الذي يعجز إما أن يكون لعجزه، وإما أن يكون بجهله، لو قلت لشخص: اصنع لنا مسجلًا وهو لا يعرف الصنعة، هل يصنع مسجلًا؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: لماذا؟ لجهله، لو قلت: اصنع لنا مسجلًا وهو يعلم كيف يصنع لكن ليس عنده قدرة؛ لا يصنع، هنا لما قال: هو ﴿الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ هذه القدرة.
﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ هذا انتفاء الجهل، فإذا انتفى العجز المستفاد من قوله: ﴿أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وانتفى الجهل المستفاد من قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ صار الخلق ممكنًا. هذان دليلان، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾.
(﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ﴾ [يس ٨٠] أي: في جملة الناس، ﴿مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾ المرخ والعفار أو كل شجر إلا العناب، ﴿نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ ).
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾ ﴿جَعَلَ﴾ بمعنى صيَّر، والذي جعل لنا من الشجر الأخضر نارًا هو الله عز وجل.
وقوله: (﴿جَعَلَ لَكُمْ﴾ في جملة الناس)، أراد المؤلف بقوله: (في جملة الناس) أن هذا الجعل ليس خاصًّا بالمخاطبين؛ أي برسول الله ﷺ وأصحابه بل هو عام لكل أحد، فهو جعل لهم في جملة الناس.
﴿مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾ المؤلف يقول: (من المرخ والعفار) وبناء على كلامه تكون (أل) للعهد الذهني ويكون عامًّا أريد به الخاص، ولكن سبق لنا أن هذا خلاف الظاهر وأن (أل) الأصل فيها أنها تفيد الجنس؛ أي العموم، فالصواب أن المراد ﴿مِنَ الشَّجَرِ﴾ أي: من كل شجر، كما قال.
وقوله: (إلا العناب) لا نعرف عن هذا شيئًا هل إنه مستثنى وأن العناب لا يمكن أن تأتي منه النار؟ الله أعلم، على كل حال نحن نقول: عندنا الأصل ﴿مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾ عامة.
﴿الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾ فيه الرطوبة، أليس كذلك؟ والرطوبة يلزم منها البرودة، والنار التي تخرج من هذا الشجر الرطب البارد يابسة وحارة، فهذا اليابس الحار متولد من رطب بارد، ولا يخفى ما بين الرطوبة والبرودة وبين الحرارة واليبوسة من التنافر العظيم، فإذا كان الله عز وجل يولِّد هذا الشيء الذي بينه وبين المولَّد منه من التنافر ما هو ظاهر فهو قادر على إحياء العظام وهي رميم؛ لأن كونه يخلق الضد من الضد أبلغ في القدرة من كونه يخلق الشيء من لا ضد، وهذا أمر ظاهر. إذن هذا دليل الثالث على إمكان إحياء العظام وهي رميم.
وقوله: ﴿فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ (الفاء) هنا عاطفة، (وإذا) فجائية؛ يعني أنه بمجرد ما أن تضرب عودًا بعود من هذا الشجر تنقدح النار فتوقد منه؛ يعني: لا يحتاج إلى كبير عناء بل إن الإيقاد أمر سهل مفاجئ للعملية، المفاجئة استدللناها من كلمة (إذا).
وفي قوله: ﴿أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ دليل على استمرارية هذا العمل؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار، وهذا أمر لا أحد ينكره؛ لا أحد ينكر أنه يتولد من الشجر الأخضر نار يوقد الناس منه، طيب ﴿فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾.
قال المؤلف رحمه الله: (تقدحون، وهذا دالٌّ على القدرة على البعث؛ فإنه جمع فيه بين الماء والنار والخشب، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تحرق الخشب).
قال: (﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ مع عظمهما، ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ أي: الأناسي في الصغر، ﴿بَلَى﴾ [يس ٨١]).
هذا أيضًا دليل رابع ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾؟ الجواب ﴿بَلَى﴾، أجاب الله نفسه بنفسه؛ بلى خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، كما قال الله تعال: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر ٥٧]، وهذا أمر معلوم بالحس والمشاهدة، البشر كلهم لا يساوون كوكبًا من الكواكب، فما بالك بهذه الكواكب والنجوم التي لا يحصيها إلا الله عز وجل، والسماوات العظيمة التي قال الله تعالى فيها: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات ٤٧]، الذي خلق السماوات والأرض أفلا يكون قادرًا على خلق الناس؟ الجواب: بلى واللهِ، بلى وأولى، فالذي خلق هذه الأجرام العظيمة بما أودعها من المصالح العظيمة أيضًا قادر على أن يخلق مثلهم بالأولى والأحرى. وهذا الدليل هو الدليل الرابع.
قال: ﴿بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ (﴿بَلَى﴾ أي: هو قادر على ذلك، أجاب نفسه عز وجل ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ الكثير الخلق، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بكل شيء).
﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ قال المؤلف: (الكثير الخلق)، فجعل فَعَّالًا من صيغة المبالغة، ولا شك أن الله عز وجل كثير الخلق، لكن ينبغي أن نقول أيضًا: من فعال هنا نسبة؛ يعني أنه موصوف بالخلق، ووصفه بالخلق أبلغ من وصفه بإيجاد الخلق أو بفعل الخلق؛ يعني أنه ذو (...)؛ يعني أننا لو قلنا: فلان نجار، ماذا يفيد قولنا بأنه نجار؟ إذا جعلناه من باب النسبة، وماذا يفيد إذا جعلناه من باب المبالغة؟ إذا جعلناه من باب المبالغة فالمعنى أنه كثير النجارة، نجار؛ يعني كثير النجارة، لكن هل هو مجيدها؟ وهل هو مستحق لأن يوصف بهذه المهنة فيقال: نجار؟ قد يكون، وقد لا يكون، قد يكون كثير النجارة لكن تطلع أبوابه ما تنفع أبدًا؛ مخرقة، تكسر المحامل ولا تنفع، وكل يوم يطلع لنا باب أو بابان ما شاء الله لكنه خراب، هذا نقول: صيغة مبالغة، لكن هل النجارة وصفه بمعنى أنه حاذق متقن لها؟ لا، لا يلزم، قد يكون، وقد لا يكون. أما إذا قلت: نجَّار على أنها نسبة -أي صاحب صنعة- فهو أبلغ في الوصف، والنجار أي بالصنعة المتقن لها سواء نجر كثيرًا أو قليلًا هو نجار متقن.
فهنا يمكن أن نقول: ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ نحملها على أيش؟ على النسبة المفيدة لوصف الله عز وجل بهذه الصفة العظيمة؛ أي: ذو الخلق المتقن على أكمل وجه، ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى اجتمع في حقه الوصف والفعل؛ يعني كثرة الخلق، لا شك أن خلق الله عز وجل لا يُحْصَى أجناسًا، فضلًا عن الأنواع، فضلًا عن الأفراد، من ذا الذي يحصي أجناس الخلق؟ من ذا الذي يحصي أنواع هذه الأجناس؟ ومن الذي يحصي أفراد هذه الأنواع؟ لا يستطيع أحد أن يحصي ذلك، إذن فقد اجتمع في حقِّ الله سبحانه وتعالى الأمران، ما هما؟ النسبة؛ يعني الوصفية، كمال الوصف، الثاني: الكثرة التي تفيدها صيغة المبالغة.
إذا كان الله سبحانه وتعالى خلَّاقًا؛ أي: من وصفه الخلق، الوصف اللازم له.
وكذلك كثير الخلق هل يعجز عن أن يُحيي العظام وهي رميم؟ لا، إذن خذ هذا دليلًا خامسًا.
﴿الْعَلِيمُ﴾ هذا أيضًا العلم دليل؛ لأنا قلنا: إن عدم الإعادة إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون للجهل، فكلما وصف الله نفسه بالعلم فإن ذلك يعني أنه قادر؛ لأنه لا يجهل كيف يخلق وكيف ينشئ، فيمكن أن نعدَّ هذا دليلًا سادسًا.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس ٨٢].
قال المؤلف: (﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ﴾ أي: شأنه) يعني: شأنه وحاله، ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ما يحتاج إلى إحضار آلات بناء -مثلًا- أو إلى جنود يساعدونه ولا إلى أن يعمل بيده عز وجل، بل يقول: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.
وقوله: (شأنه) قد يُنَازع فيها ويقال: إن المراد بالأمر أمر التكوين؛ يعني أمره أن يقول: (كنْ) بدون أن يكرر، كما في قوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر ٥٠]، فيجعل الأمر واحد أيش؟ الأمور ولَّا واحد الأوامر؟ واحد الأوامر، يجعل الأمر واحد الأوامر، والمؤلف يريد أن يجعل الأمر واحد الأمور، ويمكن أن نقول: بالأمرين جميعًا؛ نقول: شأنه عز وجل في تمام قدرته أن يقول للشيء: (كنْ) فيكون، وأمره إذا أراد الشيء أن يقول: (كنْ) بدون تكرار، ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات ١٣، ١٤].
إنما ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا﴾ قال المؤلف رحمه الله: (أي خلقَ شيءٍ، ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ).
الأولى ألا نقيد ﴿شَيْئًا﴾ بالخلق، بل نقول: إذا أراد شيئًا خلقًا أو إعدامًا؛ يعني أن الأشياء إما أن يريد الله إيجادها؛ أي خلقها، وإما أن يريد إعدامها، والإعدام إتلاف لا إيجاد، فالأولى إبقاء الآية على ظاهرها؛ على إطلاقها، ﴿شَيْئًا﴾ سواء كان خلقًا وإيجادًا أو إعدامًا وإتلافًا.
ولكن الذي حمل المؤلف رحمه الله على أن يقول: (خلق شيء)؛ لأن السياق بالاستدلال على الخلق وهو الإيجاد، فلهذا خصها به، ولكننا إذا قلنا: إنها على إطلاقها فإنها لا تمنع الخلق كما لا تمنع الإعدام، فالأولى أن يقال: ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا﴾ أي: إيجاد شيءٍ وخلقه أو إعدامه.
وقد يُعْتَذر عن المؤلف فيقال: إن الإعدام فيه نوع خلق؛ لأن إتلاف الشيء القائم خلق، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ [الملك ٢] مع أن الموت عدم وفناء، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود ٧]، والأمر في هذا سهل.
قال: ﴿شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿كُنْ﴾ هنا هل هي تامة أو ناقصة؟ تامة، هذا هو الظاهر، وإذا جعلناها ناقصة صار المعنى: كن كذا؛ أي تحوَّل إلى كذا، لكن إذا جعلناها تامة صارت أشمل لتشمل ما أراد الله تعالى تحويله من شيء إلى شيء وما أراد الله تعالى إيجاده أصلًا؛ يعني ﴿كُنْ﴾ أي: أوجد؛ يعني أن يوجد ويتكون، أو كن كذا؛ أي بأن يكون الطويل قصيرًا والقصير طويلًا، وما أشبه ذلك، فإذا جعلناها تامة صار هذا أشمل.
﴿فَيَكُونُ﴾ يقول: (فهو يكون، وفي قراءة بالنصب عطفًا على ﴿يَقُولَ﴾ ) قراءتان سبعيتان أو إحداهما شاذة؟
* طلبة: (...).
* الشيخ: لماذا؟ لأنه قال: (في قراءة)، واصطلاح المؤلف رحمه الله إذا كانت القراءتان سبعيتين أن يقول: وفي قراءة وإذا كانت إحداهما شاذة قال عن الشاذة: قُرِئ.
في قوله: ﴿فَيَكُونُ﴾ قراءتان: ﴿فَيَكُونَ﴾ و﴿فَيَكُونُ﴾، أما على قراءة الرفع فالفاء هنا للاستئناف، وجملة (يكون) خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فهو يكون.
وأما على قراءة النصب فهي معطوفة على ﴿أَنْ يَقُولَ﴾؛ إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول فيكونَ، يقول للشيء: كنْ فيكونَ.
و(الفاء) على كلا الوجهين دالة على الترتيب والتعقيب؛ يعني أن الشيء يكون فورًا بدون تأخير، وقد بيَّن الله تعالى سرعة هذه الفورية في قوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر ٥٠] لمح البصر ليس شيء أسرع منه، وأمر الله عز وجل واحد كلمح البصر.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هذا الدليل السابع.
وإذا كان هذا أمر الله وشأن الله فهل إذا قال للعظام الرميمة: كوني إنسانًا سويًّا، هل يمتنع عليه ذلك؟ لا، ولهذا قال الله تعالى في سورة النازعات: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات ١٣، ١٤]، وقال في هذه السورة: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس ٥٣].
قال: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يس ٨٣]، ﴿فَسُبْحَانَ﴾ بمعنى تنزيهًا، وهي اسم مصدر، والمصدر تسبيح، وهي ملازمة للنصب على المفعولية المطلقة دائمًا، وملازمة أيضًا للإضافة، حتى لو قُطِعت عن الإضافة لفظًا فهي مضافة تقديرًا.
و﴿فَسُبْحَانَ﴾ معناها التنزيه، التنزيه عن أي شيء؟ ذكرنا قريبًا أن الله يُنَزَّه عن النقص في صفاته وعن مماثلة المخلوقين، فمثلًا يُنَزَّه أن يكون وجهه كوجه المخلوق، ويُنَزَّه أن يعتري صفاته نقص بأي وجه، فمثلًا العِلم؛ علم البشر ناقص ابتداءً وانتهاءً وشمولًا، أليس كذلك؟
* طلبة: بلى.
* الشيخ: ابتداء؛ لأنه مسبوق بجهل، انتهاء ملحوق بالنسيان، شمولًا ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٨٥]، لكن علم الله عز وجل كامل من هذه الوجوه كلها ابتداءً وانتهاءًَ وشمولًا، فهو سبحانه وتعالى عالم بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا، وهو لا يَنْسى كما قال موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه ٥٢]، وعلمه شامل لكل شيء ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران ٥]، ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق ١٢].
إذن الله تعالى منزه عن النقص في صفاته الثابتة له، والثاني: عن مماثلة المخلوقين، مماثلة ما نقول: مشابهة، أو لا؟ مماثلة ولا نقول: مشابهة، الفرق واضح؛ أولًا: أن المماثلة هي التي جاء نفيها في القرآن ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١] ولم يقل: ليس كشبهه شيء، وقال: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل ٧٤].
ثانيًا: أنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما نوع من التشابه، ولولا ذلك ما فهمنا من صفات الله شيئًا، فمثلًا الوجود للمخلوق وللخالق بينهما تشابه في أصل المعنى وإن كان هذا يختلف، العلم؛ علم الخالق وعلم المخلوق بينهما تشابه من حيث أصل المعنى لكنهما يختلفان، فإذا نفيت المشابهة مطلقًا فهذا نفي للوجود في الواقع.
ثالثًا: أن المشابهة صار نفيها معناه عند كثير من الناس، صار نفيها نفيًا للصفات؛ لأن كثيرًا من أهل التعطيل يصفون من يثبتون الصفات بالمشبهة، فإذا قلت: من غير تشبيه؛ يعني من غير إثبات؛ لأن كل مُثْبِت عندهم مشبه، فلهذا كان التعبير لنفي التمثيل أولى من التعبير بنفي التشبيه من ثلاثة أوجه.
نقول: هو مُنَزَّه عن مماثلة المخلوقين، مماثلة المخلوق في الواقع نقص مجرد مماثلة الخالق للمخلوق يعتبر تنقصًا للخالق..
هذا ﴿مَلَكُوتُ﴾ [يس ٨٣] كما قال المؤلف: (أصلها مُلْك، لكن زيدت الواو والتاء للمبالغة)، المبالغة في ملك الله لكل شيء؛ لأن ملك الله لكل شيء ملك تام، لم يُسبَق بعدَم، ولا يُلْحق بزوال، بينما ملك غيره ملك ناقص؛ فأنت في الأصل لم تملك هذا الشيء، ثم ملكته بعد، ومع ملكك إياه فإن هذا الملك قابل للزوال، ثم إن ملكك إياه ليس ملكًا مطلقًا تفعل فيه ما شئت بل هو ملك مُقيَّد، أما ملك الله فهو تام؛ ولهذا جاءت الواو والتاء للمبالغة.
﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يس ٨٣] أي: ملك كل شيء. أهذا يمكن أن نجعله دليلًا؟ نعم، دليلًا ثامنًا.
أولًا: تنزيه الله عن كل نقص، هذا دليل؛ لأن عجزه عن إحياء العِظام وهي رميم نقص يُنافي التنزيه، فإذا ثبت أنه -عز وجل- مُنَزَّه عن كل نقص لزم من ذلك تنزيهه عن العجز عن إعادة هذه العظام.
أيضًا ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يس ٨٣] ربما نجعلها دليلًا، كيف؟ لأن الذي يملك كل شيء مُلكًا مطلقًا مبالغًا فيه بـ(الواو) و(التاء) قادر على أن يحول هذا المملوك إلى ما شاء؛ ولهذا المؤلف رحمه الله فسر الملكية هنا بالقدرة، قال: (القدرة على كل شيء)، ولكن كلامه فيه نظر بل نقولها: مالك لكل شيء، وإذا ملكه ملكًا مطلقًا فهو قادر على أن يتصرف فيه كما شاء، كم دليل هذا؟
* طالب: تسعة.
* الشيخ: العاشر: (قال: ﴿﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴾ تردون في الآخرة). ﴿إِلَيْهِ﴾ لا إلى غيره ﴿تُرْجَعُونَ﴾ تردون في الآخرة ليجازيكم، ووجه الدلالة من هذه الجملة أنه لا رجوع إلى الله في الآخرة إلا بعد إحياء هذه العظام الرميم، ولو قلنا بعدم القدرة لانتفى الرجوع إلى الله عز وجل، وإذا انتفى الرجوع إلى الله صار وجود الدنيا كلها عبثًا ولعبًا، وهذا لا شك أنه منافٍ لكمال الله عز وجل، فمجرد رجوعنا إلى الله يلزم منه القدرة على الإحياء، كذا؟ ولا يمكن أن نقول بعدم الرجوع؛ لأننا لو قلنا بعدم الرجوع لكان إيجاد الخلق عبثًا؛ وهذا ممتنع غاية الامتناع.
فهذه عشرة أدلة في هذه الآيات على قُدْرة الله عز وجل على إحياء الموتى، إحياء العظام وهي رميم، والله على كل شيء قدير، يعني لو لم يكن عندنا إلا هذه الجملة العامة (والله على كل شيء قدير) لكان كافيًا في بيان قدرته سبحانه وتعالى على إعادة، أو على إحياء العظام وهي رميم (...)
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ إلى آخره [يس: ٧٧]، ما المراد بالإنسان؟ الأخ.. فإننا نبدأ أظن من ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾.
* من فوائد الآية الكريمة: بيان أن الإنسان خُلِق من ضعف؛ لقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ وهو كذلك.
* ومن فوائدها أيضًا: أن هذا الإنسان الذي خلق من هذه المادة الضعيفة يترقى حتى يكون ذا خصومة مبينة؛ لقوله: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾.
* من فوائد الآية الكريمة أيضًا: النداء على الإنسان بالظلم، وجه ذلك: كيف يكون هذا الذي خُلِق من هذه النطفة يبلغ به الحد إلى أن يكون خصيمًا لله عز وجل بَيِّن الخصومة؛ لأن الإنسان يجب عليه إذا نظر إلى أصله أن يعرف قدر نفسه لا أن يكون مخاصمًا لربه عز وجل.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الخصومة بالباطل مذمومة، ووجه ذلك أن الآية سِيقت مساق الذم لا مساق المدح، أما الخصومة لإثبات الحق وإبطال الباطل فإنها ممدوحة؛ لقول الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل ١٢٥]، ولولا الجدال مع أهل الباطل ما تبين الحق ولا اندحض الباطل، فلا بد للإنسان من الجدال في إثبات الحق وإبطال الباطل، أما إذا كان الأمر بالعكس فإنه مذموم، من هنا يمكن أن نقسم الجدال إلى ثلاثة أقسام:
جدال محمود مأمور به؛ إما وجوبًا أو استحبابًا، وجدال مذموم منهي عنه، وجدال بين بين؛ أما الجدال الممدوح فهو الذي يقصد به إثبات الحق وإبطال الباطل، فهذا مأمور به، وهو كالجهاد في سبيل الله كما أن المجاهد مأمور بأن يحمل السلاح ضد عدوه ويقاتله، فطالب العلم مأمور بأن يحمل سلاح العلم وهو المجادَلة بالحق ليدحض به الباطل.
الثاني: بالعكس، وهذا مذموم منهي عنه، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى ١٦].
الثالث: بين بين؛ يعني لا يُؤمر به، ولا يُنهى عنه لكن لا شك أن تركه أولى؛ وهو الجدال في أمور لا تمس إلى الحق أو الباطل بصلة كما يحصل في كثير من المجالس من المجادلات، فهذا لا شك أنه لا خيرَ فيه، وأنه من المراء الذي ينبغي للإنسان تجنبه، ثم إن أفضى إلى مفسدة كان منهيًّا عنه، وإن أفضى إلى مصلحة كان مأمورًا به.
كيف يفضي إلى مفسدة؟ يكون مع الجدال والمراء والمحاورة عداوة بين المتجادلين أو تعصب لأحدهما من الحاضرين، ويحصل في ذلك تحزب، منفعة مثل أن يكون المجادِل مغرورًا بنفسه، ويرى أنه لا يغلبه أحد فتجادله من أجل أن تكسر حدة هذا الغرور، وإن كان لا يترتب على هذا شيء فائدة في حد ذاته لكن فيه فائدة لغيره وهي كسْر غرور هذا الشخص حتى لا يبقى زاهيًا بنفسه مُترفعًا على غيره.
ثم قال عز وجل: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس ٧٨].
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن المجادل بالباطل يأتي بالشبهات التي ينشر بها باطله؛ لقوله: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ فإن هذه شبهة تلبس على العامة؛ لأنه لم يقل: من يحي العظام فقط قال: ﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾، فكيف تُحيا بعد أن رمَّت؟ فأهل الباطل يأتون بالشبهات ليلبسوا على الناس.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا الإنسان استهان بربه حيث ضرب له الأمثال للتعجيز؛ لقوله: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا﴾ يعني قال: أنا أضرب لكم مثلًا بهذا الشيء الذي يعجز ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الْمُعارِض للحق قد يُصرِّح بالإنكار بدون مراوغة؛ لقوله: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ﴾ وأحيانًا يُراوِغ فأيهما أهون؟
* طالب: الذي يصرح.
* الشيخ: الذي يصرح ويبين؛ لأن هذا يمكن أن يتقى شره، أما المراوغ فإنه في الواقع خطر؛ ولهذا كان خطر المنافقين على الإسلام أكثر من خطر الكافرين الذين يصرحون بالعداوة؛ لأن المنافقين يغرون الناس، ولا يمكن التحرز منهم.
ثم قال عز وجل: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس ٧٩].
* من فوائد هذه الآيات: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا﴾ يعني الجواب على هذا المعترض؛ بيان قوة الإقناع في إقامة الحجة من كلام الله عز وجل؛ يعني أن أقوى ما يسوق الحجج ويبينها هو كلام الله، وهو كذلك؛ لأن كلام الله عز وجل أبلغ الكلام وأحسنه، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء ٨٧] فحديث الله عز وجل لا شك أنه أصدق الحديث وأتمه وأحسنه في الإقناع وإقامة الحجة.
* من فوائد الآية الكريمة: الاستدلال بالأشد على إمكان الأخف؛ لقوله: ﴿يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس ٧٩] فقد استدل بالأشد على إمكان الأخف، ما هو الأشد فيما نحن بصدده؟ الأشد إحياؤها أول مرة، والأخف الإعادة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي للمستدل المناظِر أن يأتي بالشيء الذي يُقر به خصمه من أجل أن تقوم عليه الحجة، كيف ذلك؟ لأنه قال: ﴿يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ والخصم هنا هل ينكر أن الله أنشأها أول مرة؟ لا، لا ينكر، فينبغي أن تأتي بالشيء الذي يقر به خصمك لتقيم الحجة عليه بإقراره، وهذا أدب من آداب المناظرة؛ لأنه أقرب إلى الإقناع وله نظائر؛ منها أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ناظَر الذي حاجَّه في ربه فقال إبراهيم: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة ٢٥٨] فعدل إبراهيم عن ذلك وقال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، وهذا يقر به الخصم فأتِ بها من المغرب، وهذا لا يمكن للخصم أن يقوم به؛ فالحاصل أنه ينبغي للإنسان أن يأتي خصمه من الوِجهة التي يُقر بها حتى يقيم عليه الحجة.
* من فوائد الآية الكريمة: تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بإنشاء هذه العظام لأول مرة؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يخلق هذه العظام ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج ٧٣] مع أن الذباب ليس فيه العظام القوية الصلبة، فإذا كانوا لا يقدرون على ذلك فهم على ما هو أعظم أعجز.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عِلْم الله سبحانه وتعالى بكل خلق، كذا؟ هل سبق لنا في التفسير هل الخلق هنا بمعنى المخلوق أو بمعنى الفعل؟ ذكرنا أنه يحتمل الأمرين لكنه احتمال الفعل أكثر؛ يعني كل خلق فالله عليم به، ومن المعلوم أن العالم بالخلق عالم بالمخلوق كما قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك ١٤].
* إذن يستفاد من ذلك: عموم عِلْم الله سبحانه وتعالى بكل خلق؛ أي بكل صنع يصنعه مما نتصور ومما لا نتصور، وبكل مخلوق؛ لأن العالم بالخلق عالم بالمخلوق.
ثم قال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس ٨٠].
* من فوائد هذه الآية الكريمة: بيان قدرة الله عز وجل، حيث يتولد من هذا الشيء الرطب البارد شيء حار يابس، فتولد الشيء من ضده دليل على كمال القدرة؛ لأن العادة أن الضدين متنافران لا يلتقيان أبدًا، وهنا صار أحدهما يتولد من الآخر.
* ومن فوائدها أيضًا: الاستدلال بالأشد على الأخف؛ لأن التناقض بين الرطب واليابس والحار والبارد أعظم من أن يُعاد الخلْق، أو تعاد العظام بعد رميمها، فالقادر على هذا الشيء قادر على إحياء الموتى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان نعمة الله علينا بهذا الْجَعل؛ أي: بجعله من هذا الشجر الأخضر نارًا، وجه الدلالة: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ﴾ [يس ٨٠] وإلا لكان يُكتفى فيقال: الذي جعل من الشجر الأخضر نارًا، لكن ذلك لمصلحتنا ففيه نعمة من الله عز وجل على عباده بهذه النار، وقد قرر الله هذه النعمة في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُون﴾ [الواقعة ٧١، ٧٢]، ولا أحد ينكر ما في الطاقة الحرارية من المنافع العظيمة للخلق فأنواعها بل أجناسها لا تحصى فضلًا عن أفرادها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تقرير الشيء بالواقع؛ يعني بدل أن نلقيه تصورًا في الذهن نذكر واقعه بالفعل، من أين تُؤخذ؟ من قوله: ﴿فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس ٨٠] فهو بَيَّنَ أنه جعل لنا من الشجر الأخضر نارًا، وهذا يعطينًا تصورًا بأن الله سبحانه وتعالى جعل لنا من الشجر الأخضر نارًا نستفيد منها، ثم بين ذلك بذكر الأمر أو حقَّق ذلك بذِكْر الأمر الواقع ﴿فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس ٨٠] تحسونه بواقعكم، وتلمسونه بأيديكم.
ثم قال الله عز وجل: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى﴾ [يس ٨١].
* هذه الآية من فوائدها: الاستدلال بالأشد على الأخف؛ لأن الله تعالى استدل بخلق السماوات والأرض أو بقدرته على خلق السماوات والأرض على قدرته على إحياء العظام وهي رميم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته، حيث خلق هذه السماوات والأرض بما فيهما من المصالح والمنافع والأجرام الثابتة وغير الثابتة، وهذا دليل على كمال قدرته سبحانه وتعالى، وفي كم يوم خلق السماوات والأرض؟ في ستة أيام ومع عظمتها وسعتها وكبرها قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق ٣٨] أي: من تعب وإعياء.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: الرد على الفلاسفة الذين يقولون: بقِدَم الأفلاك، وجه ذلك: أنه قال: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ أي: أوجدها من العدم، ومعلوم أن الْمُوجَد ليس بقديم، والقديم عندهم هو الأزلي الذي لا بداية له، فالسماوات والأرض كانت معدومة، ثم أُوجِدت بقدرة الله سبحانه وتعالى، وأما من قال بقدم الأفلاك، وأنه لم تزل ولا تزال هذه الطبيعة فإنه ضال لا يعلم عن هذا شيئًا؛ لأنه بنى الأمر على غير دليل عقلي ولا نقلي بل إن الدليل العقلي والنقلي يدل على إمكان حدوث هذه الأفلاك، وأنها حادثة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز إجابة السائل نفسه في الأمر الْمُحقَّق المتقرِّر؛ لقوله: ﴿بَلَى﴾؛ إذ قد يقول قائل: إن إجابة المتكلم نفسه لا معنى لها؛ لأن إجابته دعوى أو تقرير لدعوى ادَّعاها فيُقال: إذا كان الأمر ثابتًا واقعًا فإن إجابته نفسه لا تأتي بشيء جديد سوى أنه يقرر ما كان واقعًا معلومًا للمخاطب؛ ولهذا قال: ﴿بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس ٨١].
* وفي هذه الآية فائدة نحوية: وهي أن جواب الاستفهام المقرون بالنفي إذا أُريد إثباته يقال فيه: بلى، ولا يقال: نعم؛ لأنك لو أجبت بـ(نعم) لكان ذلك تقريرًا للمنفي؛ يعني تقريرًا لنفي المنفي، لو قلت: أليس زيد بقائم؟ فقلت: نعم. يعني قررت النفي ليس بقائم، فإن قلت: بلى، فقد أثبت القيام.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الخلق وصف الله عز وجل الذي هو متصف به أزلًا وأبدًا؛ لقوله: ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس ٨١] فهو موصوف بالخلق من قبل أن يخلق؛ لأن صفة الخلق أزلية والمخلوق حادث فهو عز وجل متصف بالخلق؛ ولهذا قلنا: إن النسبة في قوله: ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ أظهر من كونها للمبالغة.
* من فوائد الآية الكريمة: وصف الله تعالى بالعلم الأزلي؛ لقوله: ﴿الْعَلِيمُ﴾، ولا شك أن الله تعالى موصوف بالعلم أزلًا وأبدًا، فإنه لم يزل ولا يزال عالمًا، لم يسبق علمه جهل، ولا (...) نسيان كما قال موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾ [طه ٥٢].
ثم قال: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
* من فوائد هذه الآية: الاستدلال بعموم قدرته عز وجل وتمامها على قدرته على إحياء الموتى.
* ومن فوائدها أيضًا: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى التامة التي لا يضاهيها ولا يقاربها قدرة؛ لأنه إذا أراد شيئًا لم يتكلف لإحضار المواد أو غيرها مما يتكون به هذا الشيء وإنما يقول: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله: ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا﴾ [يس ٨٢]، وإرادة الله سبحانه وتعالى -كما قال أهل العلم- تنقسم إلى: شرعية وكونية؛ فالشرعية هي التي بمعنى المحبة، والكونية هي التي بمعنى المشيئة، والفرْق بينهما من حيث الأثر أن الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع المراد، هذا واحد.
والثاني: أن المراد فيها قد يكون محبوبًا لله، وقد يكون غير محبوب له، أما الإرادة الشرعية فقد يقع فيها المراد وقد لا يقع، ولا يكون المراد فيها إلا محبوبًا لله.
فإذا قال لك قائل: هل الله يريد الكفر؟
فقل له: أما شرعًا فلا، وأما كونًا فنعم.
ولو قال لك قائل: هل الله يريد الإيمان؟
تقول: نعم، يريده شرعًا وقدرًا إن وقع، إن كان واقعًا فقد أراده قدرًا وإلا إذا لم يقع فلا نعلم هل أراده قدرًا أو لا، بل نقول: إنه الآن لم يرده قدرًا.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، (...).
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس ٨٢].
* في هذه الآية الكريمة فوائد؛ منها: بيان قدرة الله عز وجل، وأنه إذا أراد شيئًا أي شيء يكون فإنما يقول له: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.
* ومنها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله: ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا﴾، وسبق لنا في التفسير أن إرادة الله تنقسم إلى قسمين: شرعية وكونية، وبينَّا الفرق بينهما.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات القول لله؛ لقوله: ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
* ومن فوائدها: أن كلام الله عز وجل يكون بحرف؛ لقوله: ﴿كُنْ﴾، فإن ﴿كُنْ﴾ كلمة مكونة من حرفين، وإثبات أنه بصوت؛ لقوله: ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فهذا خطاب مُوجَّه لما أراده الله، وهو يقتضي أن يكون هذا المراد سامعًا لهذا القول، ولا سماع إلا بصوت، فيكون في الآية رد على قول الأشاعرة في كلام الله عز وجل؛ حيث يقولون: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن ما يُسمع من الأصوات والحروف فهو عبارة عن كلام الله، ويرون أن هذا المسموع مخلوق؛ ولهذا قال بعض المحققين منهم أو المنصفين منهم: إنه في الحقيقة لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله؛ لأننا متفقون على أن ما بين دفتي المصحف فهو مخلوق، فإذا كانوا متفقين على هذا فإن قول المعتزلة قد يكون خيرًا من قولهم؛ لأن المعتزلة يقولون: إن ما بين دفتي المصحف كلام الله، كلهم يقولون: إنه مخلوق، لكن المعتزلة يقولون: إنه كلام الله، والأشاعرة يقولون: إنه عبارة عن كلام الله فإضافته إلى الله على رأي الأشعرية مجاز لا حقيقة.
على كل حال في الآية رد على الأشعرية في تفسيرهم لكلام الله عز وجل، وحقيقة الأمر أنهم لا يُثبتون الكلام؛ لأنهم إذا جعلوا الكلام هو المعنى القائم بالنفس فكأنما جعلوا الكلام هو العِلْم؛ لأن العلم هو المعنى القائم بالنفس، أما الكلام والقول فهو أمر زائد على ذلك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن أمر الله عز وجل إذا وُجِّه لشيء فإن هذا الشيء يكون كما أمر؛ لقوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي: فيكون على ما أمر الله به بالعين والوصف، فإذا أراد الله إيجاد شيء قال: ﴿كُنْ﴾ فكان على حسب ما أراده الله عز وجل.
ثم قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس ٨٣].
* في الآية الكريمة من الفوائد: تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل نقص وعيب، ويؤخذ من قوله: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يس ٨٣]، (سبحان)، ومر علينا في التفسير أن الذي ينزه الله عنه أمران: النقص في صفاته ومماثلة المخلوقين، فعِلْمه عز وجل لا يناله نقص، لا من حيث الشمول، ولا من حيث السبق، ولا من حيث اللحوق، ولا يماثل عِلْم المخلوقين، وهكذا بقية الصفات.
* من فوائدها: أن ملكوت السماوات والأرض، وكل شيء فهو بيد الله عز وجل؛ لقوله: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فهو مالك لكل شيء، ولا أحد يشركه في ملكه كما قال الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ ٢٢-٢٣].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن مرجع الخلائق إلى الله؛ لقوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس ٨٣]، وهذا الرجوع يشمل الرجوع إلى الله تعالى يوم القيامة والرجوع إلى الله تعالى في أحكام الخلق الكونية والشرعية كما قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ١٠]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء ٥٩].
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حِكمة الله سبحانه وتعالى؛ وذلك بكون الرجوع إليه، وأنه لا بد من الرجوع إلى الله؛ لأنه لولا هذا الرجوع لكان خلْق الخلْق عبثًا لا فائدة منه؛ إذ إنه لولا هذا الرجوع والمجازاة على العمل في هذا الرجوع لكانت الخليقة خُلِقَت ليُفسد في الأرض من يُفسد، ويحصل الفتن والشرور والنهاية لا شيء.
في هذه الآيات كلها إثبات قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء العظام وهي رميم وذلك من عشرة أوجه:
الأول: قوله: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس ٧٩]، فإن فيه استدلالًا بالأشد على الأخف.
الثاني: قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس ٧٩]، وعلمه بكل خلق يقتضي أنه سبحانه وتعالى قادر على إحياء العظام وهي رميم.
الثالث: قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾ [يس ٨٠]، فإن من جعل من هذا الأخضر البارد الرطب نارًا وهي يابسة محرقة قادر على أن يعيد الخلق؛ لأن هذا أبلغ في القدرة، أعني جعْل النار من الشجر الأخضر.
الرابع: خلق السماوات والأرض، قدرته على خلق السماوات والأرض دليل على قدرته على إحياء العظام وهي رميم؛ لأن خلق السماوات والأرض أعظم ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس ٨١].
الخامس والسادس: ﴿الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس ٨١] والخلاق صفة لازمة له، وكونه خلَّاقًا يشمل أن يخلق كل شيء، وكونه عليمًا يدل على أنه لا يخفى عليه شيء من الخَلْق حتى يعجز عنه.
السابع: أنه لا يستعصي عليه شيء بل إذا أمر بشيء كان في الحال؛ لقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس ٨٢].
الثامن: تنزيه الله عز وجل عن كل نقص، ومن المعلوم أن العاجز عن إعادة الخلق ناقص، فإذا كان مُنزَّهًا عن كل نقص كان من الممكن أن يقع ما وعد به من إحياء العظام وهي رميم.
والتاسع: أن بيده ملكوت كل شيء، ومن بيده ملكوت كل شيء يعني أنه مالك لكل شيء فإنه قادر على أن يُوجِد المعدوم ويعدم الموجود.
والعاشر: قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس ٨٣]، فإن هذا هو نتيجة الخلق؛ أن يُبعث الخلق ويُرجعون إلى الله ليُجازيهم بما عملوا.
* * *
ثم قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الكلام على البسملة يقول المؤلف: (سورة الصافات مكية، مئة وثنتان وثمانون آية)، المكية هي التي نزلت قبل الهجرة، فكل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي وإن نزل في غير مكة، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني وإن نزل في مكة، وعليه فإن قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة ٣] التي نزلت على النبي ﷺ وهو واقف بعرفة من المدني، هذا أصح الأقوال في المكي والمدني، أن ما نزل بعد الهجرة مدني وما نزل قبلها مكي.
أما البسملة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فإنها آية من كتاب الله مستقلة؛ ولهذا لا تحسب من آيات السورة التي بعدها حتى في الفاتحة على القول الراجح أنها ليست من السورة، وعلى هذا فالترقيم الموجود في المصاحف على خلاف القول الراجح، فإن الترقيم الموجود في المصاحف في الفاتحة عُدَّت فيه البسملة آية من آياتها، والصحيح أنها كغيرها من السور، أن البسملة فيها آية مستقلة لا تُحسَب من آياتها.
وهي مذكورة قبل كل سورة إلا سورة براءة، فإن سورة براءة لم يتقدمها بسملة، لماذا؟ قيل: لأنها نزلت بالسيف، والبسملة رحمة، فلا يناسِب أن يُذكر قبلها بسملة، ولكن هذا ليس بصحيح، بل الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم لما كتبوا المصحف أشكل عليهم هل براءة من الأنفال أو ليست من الأنفال فتركوها، تركوا البسملة، ووضعوا خطًّا فاصلًا بينها وبين سورة الأنفال دون أن يضعوا البسملة، ونحن نعلم أنها لو نزلت البسملة قبل سورة براءة لثبتت؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر ٩] فيكون اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم في ذلك مطابقًا للواقع؛ أي مطابقًا لكونها لم تنزل في أول هذه السورة.
أما من حيث معناها، فإن قول القائل: باسم الله يعني بكل اسم من أسماء الله، وإنما قلنا: بكل اسم من أسماء الله؛ لأن اسم مفرد مضاف فيكون للعموم، فليس قول القائل: باسم الله يعني اسمًا واحدًا من أسماء الله بل يعني جميع أسماء الله، وهذا يدلك على عظمة هذه البسملة أنك تبتدئ متبركًا ومستعينًا بكل اسم من أسماء الله عز وجل، والباء فيها للمصاحبة والاستعانة، للمصاحبة من أجل حصول بركتها، فإن البسملة فيها بركة؛ ولذلك إذا ذكرت على الذبيحة صارت الذبيحة حلالًا طاهرة، وإذا لم تُذكر صارت حرامًا نجسة، إذا ذُكِرت قبل الوضوء صار الوضوء صحيحًا، وإذا لم تُذكر صار الوضوء فاسدًا على قول من يرى أن البسملة من شروط الوضوء، أو من واجبات الوضوء ولكن القول الراجح في البسملة في الوضوء أنها سنة؛ لقول الإمام أحمد رحمه الله: لا يثبت في هذا الباب -أي: باب التسمية في الوضوء- شيء، إذا ذُكرت على الطعام طردت الشيطان عنه وإن لم تذكر فإن الشيطان يشارك الآكل والشارب.
المهم أنها بركة ولهذا نقول: الباء للمصاحبة أي أن المبسمل يصطحب ببسملته البركة والاستعانة؛ لأنها تعين الإنسان على مهماته.
وأما الله فهو العَلَم الخاص بالله سبحانه وتعالى، لا يُسمَّى به غير الله، ومعناه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، أي أن (إله) بمعنى (مألوه) أي معبود.
فإذا قال قائل: أين الهمزة، إذا قلت: إن أصله (إله)؟
فالجواب: أنها حُذفت للتخفيف لكثرة الاستعمال، كما حُذفت من (ناس)، وأصلها (أُناس)، وحذفت من (شر) و(خير)، وأصلها (أشر) و(أخير).
أما ﴿الرَّحْمَنِ﴾ فهو اسم من أسماء الله، و﴿الرَّحِيمِ﴾ كذلك اسم من أسمائه، والفرق بينهما أن الرحمن باعتبار الوصف، و﴿الرَّحِيمِ﴾ باعتبار الفعل؛ ولهذا جاءت ﴿الرَّحْمَنِ﴾ بهذه الصيغة الدالة على السعة، فرحمة الله تعالى واسعة شاملة لكل شيء، وأما ﴿الرَّحِيمِ﴾ فهو الموصل رحمته إلى خلقه، ويقسم الرحمة باعتبار اسم ﴿الرَّحِيمِ﴾ إلى قسمين: عامة وخاصة، أما ﴿الرَّحْمَنِ﴾ باعتبار الوصف فهو عام؛ لأنه (...)
والجار والمجرور معمول لا بد له من عامل، وهو المسمى بالمتعلَّق، أعني أن عامل الجار والمجرور هو الذي يسمى بالمتعلَّق، فيقال مثلًا: الجار والمجرور متعلق بكذا، فأين متعلق البسملة؟ قال أهل العلم: متعلق البسملة فِعْل مُقدَّر متأخر موافق للمبدوء به في مادته، فعل متأخر موافق للمبدوء به في مادته، فإذا كنت تريد أن تتوضأ كان تقدير هذا المحذوف باسم الله أتوضأ، وإذا كنت تريد أن تقرأ كان تقديره باسم الله أقرأ، وعلى هذا فقِسْ، قال النبي ﷺ: «وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»[[متفق عليه البخاري (٩٨٥)، ومسلم (١٦٩٠ / ١) من حديث جندب بن سفيان.]]. فقدَّر الفعل يقول: ذبحت باسم الله.
لماذا قدر فعلًا؟ لأنه الأصل في العمل؛ ولهذا كانت الأفعال تعمل بدون شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشروط كاسم الفاعل، واسم المفعول، وصفة المشبهة وغير ذلك، وقُدِّر متأخرًا لوجهين؛ الوجه الأول: تيمنًا بالبداءة باسم الله. وثانيًا: من أجل الاختصاص؛ لأن تأخير العامل عن المعمول يفيد الاختصاص والحصر، وقُدِّر موافقًا للمبدوء به في مادته؛ لأنه أخص وأدل على المقصود، فأنت إذا أردت تتوضأ وقلت: باسم الله أتوضأ، كان هذا أخص مما لو قدَّرْت باسم الله ابتدئ.
على كل حال إذا سُئلنا: كيف نُقدِّر العامل في البسملة؟ الجواب: نقدره فعلًا متأخرًا موافقًا للمبدوء به في مادته، إذا كان المبدوء به وضوءًا قلنا: أتوضأ، قراءة قلنا: أقرأ، دخولًا قلنا: أدخل، وهكذا.
قال الله عز وجل: ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾ إلى آخره [الصافات: ١، ٢] الواو هنا حرف قسم، والقسم تأكيد الشيء بذكر معظَّم بصيغة مخصوصة، هذا القسم.
فقولنا: تأكيد الشيء، هذه تأتي للقسم، أنه يفيد التوكيد، بذكر معظم وجهه كأن المقسم يقول: إنني أؤكد هذا كما أؤكد عظمة المحلوف به، ولا يمكن أن أحلف بهذا العظيم عندي إلا على أمر مؤكد.
وقولنا: بصيغة مخصوصة هي صيغة القسم، وحروف القسم ثلاثة: (الواو، والباء، والتاء) فالواو أكثرها استعمالًا، والباء أكثرها صيغة؛ يعني أن الباء يُحلَف بها مع وجود الفعل وحذفِه، وتدخل على الظاهر وعلى المضمَر، والتاء أخص من الواو، فإذن أعم أدوات القَسَم أو حروف القَسَم بالنسبة للاستعمال؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، أكثر، الباء؛ لأنها تستعمل مع وجود الفعل فتقول: أحلف بالله لتفعلن كذا، ومع حذفه فتقول: بالله لتفعلن كذا.
وتستعمل أيضًا مع الاسم الظاهر، مثل: أحلف بالله، ومع الاسم المضمر، مثل: إن الله وبه أحلف لعلى كل شيء قدير، فهنا دخلت الباء على الضمير، أما الواو فهي أكثرها استعمالًا لكنها لا تدخل إلا على الظاهر، ولا يُذكَر معها فِعْل القسم.
التاء هي أقلها استعمالًا، وتختص بالظاهر، وتختص أيضًا بأسماء معينة، وهي الله، ورب، قال ابن مالك:
؎........................ ∗∗∗ .......... وَالتَّــــــــــــاءُ لِلَّهِوَرَبّْ
فتقول: تالله لأفعلن كذا، وتقول: تَرَبِّ الكعبة لأفعلن كذا، أو تالربِّ لأفعلن كذا، ويذكر معها فعل القسم أو لا؟ لا يذكر معها فعل القسم، إذن فهي أضيقها استعمالًا.
الواو هنا حرف قسم ﴿الصَّافَّاتِ صَفًّا﴾ [الصافات ١] ﴿الصَّافَّاتِ﴾ اسم مجرور بالواو واو القسم؛ لأن حروف القسم تجر، ﴿الصَّافَّاتِ﴾ لها معنى، ولها مراد؛ فالمعنى في ﴿الصَّافَّاتِ﴾ يعني الأشياء القائمات على خط واحد مستقيم، كل شيء مُتعدِّد يقوم على خط واحد مستقيم يُسمَّى صافًّا ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ [الصف ٤] يعني على خط مستقيم، هذا المعنى للصافات، لكن ما المراد به؟
المراد به قال المؤلف: (الملائكة)، وأُنِّثت باعتبارها جماعات، وجماعات مؤنث، وقد أخذ الزائغون بهذا الاشتباه، أي: تأنيث الملائكة، وقالوا: إن الملائكة بنات الله؛ ولهذا تُذكَر بصيغة التأنيث، ولكن لا شك أن هذا من باب التلبيس والتشبيه، فإن الله تعالى ذكر الملائكة بصيغة المذكَّر: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى ٥] ولم يقل: يسبحن بحمد ربهم.
على كل حال أُنِّثت الملائكة باعتبارها جماعات؛ لأن الملائكة عليهم الصلاة والسلام جماعات مختلفة، كل جماعة لها وظيفة معينة، فمنها من وظيفتهم العبادة الخاصة لله من التسبيح والركوع والسجود وغير ذلك، ومنهم ملائكة موكلون بحفظ بني آدم، وملائكة موكلون بحفظ أعمالهم وكتابتها، وملائكة موكلون بأشياء أخرى منها ما نعلم ومنها ما لا نعلم.
فإذا قال قائل: من الملائكة؟
فالجواب: أنهم عالَم غيبي، خُلِقوا من نور، واستعبدهم الله سبحانه وتعالى في طاعته، فقاموا بها على أتم وجه، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمرون.
فإن قال قائل: هذا التعريف يرد عليه أن الملائكة قد تُرى؛ فإن «النبي ﷺ رأى جبريل على صورته التي خُلِقَ عليها وله ست مئة جناح قد سد الأفق»[[متفق عليه البخاري (٣٢٣٢)، ومسلم (١٧٤ / ٢٨٠) من حديث ابن مسعود.]]. وأحيانًا يأتي جبريل بصورة بشر؟
فالجواب: أن هذا على سبيل النُّدْرة، وما كان نادرًا فإنه لا يخرم القاعدة، أو لا يبطل التعريف، والنادر -كما يقول العلماء- ليس له حكم.
ما وجه كون الملائكة تُوصف بالصافات؟
قال المؤلف: (تَصُفُّ نُفُوسَهَا فِي الْعِبَادَة أَوْ أَجْنِحَتهَا فِي الْهَوَاء تَنْتَظِر مَا تُؤْمَر به) هذا الصافات وُصِفت بها الملائكة؛ لأنها تصف أنفسها للعبادة؛ يعني تهيئها لها، أو يصفون عند الله عز وجل كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ [الصافات ١٦٥، ١٦٦]، أو تصف أجنحتها في الهواء، تنتظر ما تُؤمر به كما قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك ١٩] فالطير إذا كان في الهواء وقد وضع أجنحته هكذا لا تتحرك يقال: إنه صافّ.
فإذا قال قائل: (أو) هنا للتنويع أو للشك أو ماذا؟
يحتمل أن هذه للتنويع؛ يعني أنها تصف هكذا وهكذا، أو أنها للشك يعني للتردد بين قولين قال بهما المفسرون، ولكن المعنى الأول أحسن؛ لأن هذا وصف للملائكة فهي تصف أنفسها للعبادة، وكذلك تصف أجنحتها في الهواء تنتظر ما تُؤمر به.
﴿فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾ [الصافات ٢] الملائكة تزجر السحاب؛ أي: تسوقه، إذن فالموصوف شيء واحد، الصافات هن الزاجرات.
وقوله: (تزجر السحاب أي تسوقه) لعل هذا على سبيل المثال من زَجْر الملائكة؛ لأن الملائكة تزجر السحاب؛ أي: تسوقُه، وكذلك تزجر الميت الكافر عند موته، تزجر نفسه لتخرُج، تقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، وكذلك أيضًا لعلها تزجر أشياء أخرى لا نعلمها، المهم أن المراد بالزاجرات من؟ الملائكة، وكيف كانت زاجرة؟ نقول: لهذا عدة أوجه؛ منها: زجْر السحاب، وزجر نفوس الكافر عند الموت، وغير ذلك مما يأمرها الله به أن تزجره.
﴿فَالتَّالِيَاتِ﴾ [الصافات ٣] (أي قُراء القرآن يتلونه ذكرًا مصدر من معنى التاليات).
قوله: (﴿﴿فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا﴾ ﴾)، عدل المؤلف بهذا الوصف عن الأول أي عن الموصوف الأول، فقال التاليات (...)
﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾ [الصافات ١ - ٤] تكلمنا أمس عن المكي والمدني، فما هو المكي؟ (...)
(﴿﴿ذِكْرًا﴾ ﴾ مصدر من معنى التاليات) فالمؤلف رحمه الله أعرب ﴿ذِكْرًا﴾ على أنها مصدر من معنى التاليات فاستفدنا من هذا فائدة نحوية، وهي أن المصدر قد يكون من اللفظ وقد يكون من المعنى، إذا كان من المعنى فهو مصدر معنوي، وإذا كان من اللفظ فهو مصدر لفظي، فإذا قلت: قعدت جلوسًا، فجلوسًا مصدر معنوي، قعدت قعودًا مصدر لفظي.
﴿التَّالِيَاتِ ذِكْرًا﴾ [الصافات ٣] يقول المؤلف: (إن التاليات أصلها الذاكرات ذكرًا)، التاليات ذكرًا يعني الذاكرات ذكرًا، فالتاليات عنده بمعنى الذاكرات، و﴿ذِكْرًا﴾ مصدر لها من معناها، ولكن الذي يظهر خلاف كلام المؤلف، وأن ﴿ذِكْرًا﴾ مفعول لـ﴿التَّالِيَاتِ﴾؛ لأن ﴿التَّالِيَاتِ﴾ اسم فاعل قد استوفى شروط العمل لكونه محلى بـ(أل)، و﴿ذِكْرًا﴾ مفعول به، أي: فالتاليات؛ يعني فاللاتي يتلين الذِّكْر، والمراد بالذكر القرآن، وسمي ذكرًا؛ لأنه ذكر لله عز وجل فإنه من أفضل الذِّكر، ولأنه يذكر الإنسان بربه، ولأنه يذكر الإنسان بأحكام ربه، ولأنه يذكر الإنسان بنِعَم ربه، ولأنه ذِكْر لمن عمل به؛ أي شرف ورِفْعة، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف ٤٤]، ولأنه يعظ صاحبه ويذكره، كما قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص ٢٩]، فالقرآن ذِكْر من هذه الوجوه الخمسة، تعيدونها؟
* طالب: (...).
* الشيخ: في أيش؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لمن مضى؟ طيب وبنعمت الله؟ وهو أيضًا نفسه ذكر لله من أفضل أنواع الذكر.
﴿فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾ [الصافات ٣، ٤] الجملة هذه جواب القسم؛ ولذلك كُسِرت النون هنا لوقوعها في جواب القسم؛ ولأنه اقترن خبرها بماذا؟ باللام، لواحد، وإذا وقعت (إن) جوابًا للقسم وجب كسرها، وإذا اقترن خبرها باللام، أو اسمها المؤخر، أو معمول أحدهما باللام وجب كسرها.
﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ﴾ الخطاب يقول المؤلف: (يا أهل مكة) ولكن الصحيح أنه عام يشمل كل مذكور، لكن الذي أوجب للمؤلف أن يجعله خاصًّا بأهل مكة؛ لأن هذه الآية مكية والمشركون هم أهل مكة، ولكن لا ينبغي أن يُقيَّد المعنى العام بمكان نزوله، وإذا كان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المكان، فالصواب أن ﴿إِلَهَكُمْ﴾ يعني أيها الناس ﴿لَوَاحِدٌ﴾ واحد يعني لا شريك له، الواحد والأحد وما أشبههما تدل على الانفراد؛ أي أنه عز وجل لا شريك له.
﴿إِلَهَكُمْ﴾ (فِعَال) بمعنى (مَفْعُول)؛ أي: مألوهكم، والمألوه هو الذي يُعبَد محبة وتعظيمًا، فبمحبته يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبتعظيمه ينتهي عن النواهي، إذن إن معبودكم أيها الناس لواحد لا شريك له، فالله عز وجل لا شريك له في ربوبيته، ولا شريك له في ألوهيته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، فمن يأتي بالدليل على أنه لا شريك له في ربوبيته.
* طالب: (...).
* الشيخ: وين إن ربكم لواحد؟ (...) إحنا نتكلم عن الربوبية.
* طالب: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ﴾ [الرعد ١٦].
* الشيخ: نعم، الألوهية: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد ١٩]، الأسماء والصفات: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى ١١]، فالله تعالى واحد في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
ثم قال: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الصافات ٥] ﴿رَبُّ﴾ هذه إما أن تكون عطف بيان، أو خبر مبتدأ محذوف؛ التقدير: هو رب السماوات والأرض، و﴿رَبُّ﴾ بمعنى خالق ومالك ومدبر، فهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يملك السماوات والأرض، وهو المدبِّر للسماوات والأرض، قال الله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف ٥٤]، وهذا انفراد بالخلق والتدبير، وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران ١٨٩]، وهذا انفراده بالملك، والسماوات جمع (سماء)، وهي معروفة وعددها سبع سماوات بنص القرآن: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [المؤمنون ٨٦] ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢]، الأرض كذلك سبع لظاهر القرآن وصريح السنة، أما ظاهر القرآن ففي قوله؟
* طالب: (...).
* الشيخ: إي، نحن قلنا: يدل ظاهر القرآن على أنها سبع الأرضين.
* الطالب: (...).
* الشيخ: قوله: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢] فالمثلية هنا في العدد؛ لأنه لا يمكن أن تكون الأرض مثل السماء في ذاتها، ولا في سعتها وعظمتها، فالسماء أوسع وأعظم، ومادتها غير مادة الأرض، إذن يتعين أن تكون مماثلة في العدد.
أما السنة فصريحة مثل قوله ﷺ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ طَوَّقَهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[[أخرجه مسلم (١٦١٠ / ١٣٧) من حديث سعيد بن زيد.]].
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [الصافات ٥] يعني ورب ما بينهما، فما الذي بينهما؟ لا شك أن الذي بينهما مخلوقات عظيمة؛ بدليل أنها جُعلت قسيمة وعديلة للسماوات والأرض، فلا بد أن تكون شيئًا عظيمًا، ليس هي مجرد ما نرى من السحاب المسخر بين السماء والأرض، بل هناك أشياء عظيمة بين السماء والأرض من آيات الله عز وجل، نعرف منها السحاب، فإنه بين السماء والأرض، النجوم بين السماء والأرض، الشمس بين السماء والأرض، القمر بين السماء والأرض؛ لقول الله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء ٣٣].
وما اشتهر عن علماء الفلك سابقًا من أن الشمس في السماء الرابعة، والقمر في السماء الدنيا، وعطارد وزحل والمشتري في السماوات الأخرى وهي على هذا الترتيب:
؎زُحَلٌ شَرَى مِرِّيخَهُ مِنْ شَمْسِهِ ∗∗∗ فَتَزَاهَرَتْ بِعُطَــــــــارِدَالْأَقْمَـــــــــارُ
كم هذه؟ سبعة مرتبة من الأعلى إلى الأدنى.
أعلاها (زحل) في السماء السابعة، (شرى) المشترى في السادسة، (مريخه) المريخ في السماء الخامسة، (من شمسه) الشمس في الرابعة، (فتزاهرت) الزهرة في الثالثة، (بعطارد) في السماء الثانية، (الأقمار) في السماء الدنيا، هذا هو المشهور عند علماء الفلك سابقًا، ولكن هذا خلاف الصواب؛ لأن ظاهر النصوص أن الشمس والقمر والنجوم كلها دون السماء ليست ملصقة في السماوات بل هي في فلك يدور بين السماء والأرض، والقمر هو أقربها إلى الأرض بدليل أنه يكسف ما فوقه كما شاهدناه وشاهده غيرنا أحيانًا تجده يمر من تحت النجمة فتغيب به، وهذا يدل على أنه تحت النجوم.
على كل حال نقول: ما بين السماوات السبع السحاب، الشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، وغيرها من أمور لا نعلمها، قد لا نعلم هذه الأمور، ويمكن العلم فيما بعد يطلعنا على شيء كثير منها.
قال: ﴿وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ [الصافات ٥] أي والمغارب للشمس، لها كل يوم مشرق ومغرب، قال: ﴿الْمَشَارِقِ﴾ قال: (أي: والمغارب)، فكأنه من باب الاكتفاء بذكر المقابل عن مقابله نظير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل ٨١] يعني والبرد، فإن السرابيل التي هي القمص وشبهها تقي الحر والبرد، هنا قال: ﴿وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ قال المؤلف: (يعني والمغارب).
على كل حال المشارق جمع (مشرق) فما المراد بالمشارق؟ هل المراد كما قال المؤلف: (مشارق الشمس)؛ لأنها كل يوم لها مشرق، أو نقول: إن المشارق أعم، فتشمل مشارق الشمس، ومشارق القمر، ومشارق النجوم، ومشارق كل شارق؟ أيهما؟ الثاني أعم، فنقول: رب المشارق، يعني مشارق الشمس، مشارق القمر، ومشارق النجوم، ومشارق كل ما يشرق، وذكر الله المشارق دون المغارب؛ لأن المشارق أدل على القدرة من المغارب؛ إذ إن الشروق ابتداء والغروب انتهاء، وفي الشروق أيضًا ولا سيما في شروق الشمس إضاءة ونور، يظهر فيه تمامًا كمال النعمة.
وقوله: ﴿الْمَشَارِقِ﴾ هنا بالجمع، في بعض الآيات جاءت بالتثنية مثل قوله تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن ١٧]، وفي بعض الآيات جاءت بالإفراد: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ كما قال تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ [المزمل ٩] فهل هذا تناقض أم ماذا؟
الجواب: لا، وليس في القرآن شيء من التناقض ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء ٨٢]، فالقرآن لا يمكن أن يتناقض بنفسه، ولا أن يتناقض مع صحيح السنة.
نقول: مع صحيح السنة؛ لأنه قد تأتي سنة ضعيفة تناقض القرآن، ومناقضة غير القرآن يدل على ضعفها، لكن مع صحيح السنة لا يمكن، فإن وُجِد شيء ظاهره التعارض فإنه لا بد أن يكون هناك وجه لتصحيح التعارض؛ إما بإمكان الجمْع، وهو المرتبة الأولى للعمل بالنصوص التي ظاهرها التعارض، وإما بالنسخ إن عُلِم التاريخ، وكان النص مما يدخله النسخ، والثالث: الترجيح يكون أحدهما أرجح من الآخر، ولا بد من هذه المراتب الثلاث، لكن أحيانًا قد لا يتسنى للناظر وجه من هذه الوجوه، قد يعجز عن الجمع، وقد لا يعرف النسخ، وقد لا يمكنه الترجيح، فماذا موقفه حينئذٍ؟ التوقف، أن يقول: الله أعلم، ولا يجوز أن يعتقد بأي حال من الأحوال أن في القرآن أو صحيح السنة تناقضًا أبدًا، لكن هل له أن يحاول معرفة هذه المراتب أو إذا أشكل عليه أول مرة وقف؟ يحاول، يجب أن يحاول النظر مرة بعد أخرى حتى يتبين لئلا يقع في نفسه شك فيزيغ والعياذ بالله.
فهذه الفائدة جاءت عرضًا وهي أنه ليس في القرآن تناقض لا في نفسه ولا مع صحيح السنة، فإن وجد شيء ظاهره التعارض والتناقض وجب أن نستعمل المراتب الثلاث: أولًا: الجمع، فإن لم يمكن فالنسخ، فإن لم يمكن فالترجيح، فإن لم نصل إلى ذلك فالتوقف لكن مع محاولة الوصول إلى مرتبة من هذه المراتب.
إذن بناءً على هذه القاعدة يمكن أن ننزل الاختلاف الوارد في المشرق والمغرب فنقول: المشرق باعتبار الجهة؛ يعني جهة الشرق ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [المزمل ٩] يعني جهة الشرق وجهة الغرب بدليل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة ١١٥]، أي: جهة الله على أحد التفسيرين، وأما المشرقان والمغربان ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن ١٧]، فالمراد مشرقا الصيف والشتاء، ومغربا الصيف والشتاء، فالشمس مثلًا لها منتهى في مشرقها صيفًا وهو مدار السرطان، ولها منتهى في مدارها شتاء وهو مدار الجدي، إذ الفرق بين المشرقين فرق كبير، لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يحول الشمس من مدار السرطان إلى مدار الجدي، ولا أن يزحزحها شعرة واحدة وكذلك نقول: بالنسبة للقمر؛ لأنه يدور على المشرقين والمغربين.
إذا قال قائل: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن ١٧] في أي موضع من القرآن وردت مثناة؟
* طالب: في سورة الرحمن.
* الشيخ: في سورة الرحمن، في غيرها؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ما هي؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، هذه ليست في الإسراء، هذه في سورة الـ..
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، في (هَلْ أَتَى) أظن.
* طالب: المزمل.
* الشيخ: المزمل نعم، أنا أريد التثنية، هل وردت في غير (الرحمن)؟ على كل حال المناسبة لذكرها مثناة في (الرحمن)؛ لأن السورة هذه خُوطِب بها صنفان أو لا؟ الإنس والجن، فكانت هذه مناسبة معنوية لسياق السورة كلها.
(المشارق والمغارب) الجمع فيها واضح إما باعتبار مشارق كل ما يشرق ومغارب كل ما يغرب من الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وإما أنها المشارق اليومية للشمس؛ لأن كل يوم لها مشرق، وهذه المرتبة مرتبة؛ المراتب الثلاث؛ مرتبة الجمع.
فالجمع بينها إذن أن نقول: المشارق باعتبار مشارق كل ما يشرق، أو باعتبار المشارق مشارق الشمس كل يوم. ﴿الْمَشْرِقَيْنِ﴾ [الرحمن ١٧] باعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، المشرق والمغرب الجهة.
قال: ﴿وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ (أي والمغارب) ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ [الصافات ٦] ﴿إِنَّا﴾ الضمير يعود على الله عز وجل، واستُعمِل ضمير الجمع عائدًا إلى الله من باب التعظيم وليس من باب التعدد؛ لأن الآية يقول: ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾ [الصافات ٤] لكن هذا من باب التعظيم.
وقوله: ﴿زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ﴾ [الصافات ٦] أي: جعلنا عليها ما يزينها..
{"ayahs_start":76,"ayahs":["فَلَا یَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّا نَعۡلَمُ مَا یُسِرُّونَ وَمَا یُعۡلِنُونَ","أَوَلَمۡ یَرَ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَـٰهُ مِن نُّطۡفَةࣲ فَإِذَا هُوَ خَصِیمࣱ مُّبِینࣱ","وَضَرَبَ لَنَا مَثَلࣰا وَنَسِیَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن یُحۡیِ ٱلۡعِظَـٰمَ وَهِیَ رَمِیمࣱ","قُلۡ یُحۡیِیهَا ٱلَّذِیۤ أَنشَأَهَاۤ أَوَّلَ مَرَّةࣲۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِیمٌ","ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارࣰا فَإِذَاۤ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ","أَوَلَیۡسَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّـٰقُ ٱلۡعَلِیمُ","إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ","فَسُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی بِیَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَیۡءࣲ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ"],"ayah":"أَوَلَمۡ یَرَ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَـٰهُ مِن نُّطۡفَةࣲ فَإِذَا هُوَ خَصِیمࣱ مُّبِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق