الباحث القرآني

﴿أوَلَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيانِ بُطْلانِ إنْكارِهِمُ البَعْثَ بَعْدَما شاهَدُوا في أنْفُسِهِمْ أوْضَحَ دَلائِلِهِ، وأعْدَلَ شَواهِدِهِ، كَما أنَّ ما سَبَقَ مَسُوقٌ لِبَيانِ بُطْلانِ إشْراكِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى بَعْدَما عايَنُوا فِيما بِأيْدِيهِمْ ما يُوجِبُ التَّوْحِيدَ والإسْلامَ. وَأمّا ما قِيلَ مِن أنَّهُ تَسْلِيَةٌ ثانِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِتَهْوِينِ ما يَقُولُونَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى إنْكارِهِمُ الحَشْرَ فَكَلّا، والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ والتَّعْجِيبِ، والواوُ لِلْعَطْفِ عَلى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ هي مُسْتَتْبَعَةٌ لِلْمَعْطُوفِ، كَما مَرَّ في الجُمْلَةِ الإنْكارِيَّةِ السّابِقَةِ، أيْ: ألَمْ يَتَفَكَّرِ الإنْسانُ، ولَمْ يَعْلَمْ عِلْمًا يَقِينِيًّا ﴿أنّا خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ﴾ ... إلَخْ؟ أوْ هي عَيْنُ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ أُعِيدَتْ تَأْكِيدًا لِلنَّكِيرِ السّابِقِ، وتَمْهِيدًا لِإنْكارِ ما هو أحَقُّ مِنهُ بِالإنْكارِ والتَّعْجِيبِ؛ لِما أنَّ المُنْكَرَ هُناكَ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِما يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ أسْبابِ مَعايِشِهِمْ، وهَهُنا عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِما يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ أنْفُسِهِمْ، ولا رَيْبَ في أنَّ عِلْمَ الإنْسانِ بِأحْوالِ نَفْسِهِ أهَمُّ، وإحاطَتَهُ بِها أسْهَلُ وأكْمَلُ، فالإنْكارُ والتَّعْجِيبُ مِنَ الإخْلالِ بِذَلِكَ أدْخَلُ، كَأنَّهُ قِيلَ: ألَمْ يَعْلَمُوا خَلْقَهُ تَعالى لِأسْبابِ مَعايِشِهِمْ، ولَمْ يَعْلَمُوا خَلْقَهُ تَعالى لِأنْفُسِهِمْ أيْضًا؟ مَعَ كَوْنِ العِلْمِ بِذَلِكَ في غايَةِ الظُّهُورِ ونِهايَةِ الأهَمِّيَّةِ، عَلى مَعْنى أنَّ المُنْكَرَ الأوَّلَ بَعِيدٌ قَبِيحٌ، والثّانِيَ أبْعَدُ وأقْبَحُ. وَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِعَطْفِ الجُمْلَةِ الإنْكارِيَّةِ الثّانِيَةِ عَلى الأُولى عَلى أنَّها مُتَقَدِّمَةٌ في الِاعْتِبارِ، وأنَّ تَقَدُّمَ الهَمْزَةِ عَلَيْها لِاقْتِضائِها الصَّدارَةَ في الكَلامِ، كَما هو رَأْيُ الجُمْهُورِ، وإيرادُ الإنْسانِ مَوْرِدَ الضَّمِيرِ؛ لِأنَّ مَدارَ الإنْكارِ مُتَعَلِّقٌ بِأحْوالِهِ مِن حَيْثُ هو إنْسانٌ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَلا يَذْكُرُ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ . وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ أيْ: شَدِيدُ الخُصُومَةِ والجِدالِ بِالباطِلِ، عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ المَنفِيَّةِ داخِلٌ في حَيِّزِ الإنْكارِ والتَّعْجِيبِ، كَأنَّهُ قِيلَ: أوَلَمَ يَرَ أنّا خَلَقْناهُ مِن أخَسِّ الأشْياءِ وأمْهَنِها فَفاجَأ خُصُومَتَنا في أمْرٍ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ وتَحَقُّقِهِ مَبْدَأُ فِطْرَتِهِ شَهادَةً بَيِّنَةً، وإيرادُ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدِّلالَةِ عَلى اسْتِقْرارِهِ في الخُصُومَةِ واسْتِمْرارِهِ عَلَيْها. رُوِيَ «أنَّ جَماعَةً مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ مِنهُمْ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الجُمَحِيُّ، وأبُو جَهْلٍ، والعاصُ بْنُ وائِلٍ، والوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، تَكَلَّمُوا في ذَلِكَ، فَقالَ لَهم أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ: ألا تَرَوْنَ إلى ما يَقُولُ مُحَمَّدٌ: إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الأمْواتَ، ثُمَّ قالَ: واللّاتِ والعُزّى لِأصِيرَنَّ إلَيْهِ ولَأخْصِمَنَّهُ، وأخَذَ عَظْمًا بالِيًا فَجَعَلَ يَفُتُّهُ بِيَدِهِ، ويَقُولُ: يا مُحَمَّدُ، أتُرى اللَّهُ يُحْيِي هَذا بَعْدَما رَمَّ؟! قالَ ﷺ: «نَعَمْ، ويَبْعَثُكَ ويُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ» فَنَزَلَتْ.» وَقِيلَ: مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ فَإذا هو بَعْدَما كانَ ماءً مَهِينًا رَجُلٌ مُمَيِّزٌ مِنطِيقٌ قادِرٌ عَلى الخِصامِ، مُبِينٌ مُعْرِبٌ عَمّا في نَفْسِهِ، فَصِيحٌ، فَهو حِينَئِذٍ مَعْطُوفٌ عَلى (خَلَقْناهُ) غَيْرُ داخِلٍ تَحْتَ الإنْكارِ والتَّعْجِيبِ، بَلْ هو مِن مُتَمِّماتِ شَواهِدِ صِحَّةِ البَعْثِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب