الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ لما ذكر دليلاً من الآفاق على وجوب عبادته بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً﴾ [يس: 71] ذكر دليلاً من الأنفس فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ قيل: المراد بالإنسان أبيّ بن خلف الجُمَحِيّ «خَاصَمَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في إنكار البعث وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده وقال: أترى يُحْيِي اللُّهُ هذا العظمَ بعدما رَمَّ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نعم ويَبْعَثُكَ ويُدْخِلُك النار» . فأنزل الله هذه الآيات قال ابن الخطيب: وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ألا ترى قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [المجادلة: 1] نزلت في واحدة وأراد الحكم في الكل فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر هذه الآية ردّ عليه وقوله: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ﴾ أي جَدِلٌ بالباطل «مبين» بيّن الخصومة. وفي (هذه) الآية لطيفة وهي أن اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء النطفة آية ظاهرة ومع ذلك فهناك ما هو أظهر، وهو نُطْقُهُ وفَهْمُهُ لأن لانطفة جسم فهبْ أن جاهلاً يقول إنه استحال جسماً آخر لكن القوة الناطقة، والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو (إلى) إدراك القوة والاختيار منه أقرب فقوله: «خَصِيمٌ» أي ناطق، وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصماً لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه. قوله (تعالى) : ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ قرأ زيد بن علي: «ونَسِيَ خَالِقَهُ» بزنة اسم الفاعل. فصل المعنى: «ونَسِيَ خلقه» أي بَدْءَ أمره ﴿قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ قيل: فَعِيلٌ بمعنى فاعلٍ، وقيل: مفعول فعلى الأول عدم التاء غير مقس وقال الزمخشري: الرَّميم اسم لما بَلِيَ من العظام غير صفة كالرّمَة والرفات فلا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبراً لمؤنث ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول وقال البغوي ولم يقل: رميمة لأنه معدول من فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن يقل: رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله: ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ [مريم: 28] أسقط الهاء لأنها مصروفة عن «باغية» . فصل هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر، واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثر كقولهم: ﴿وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: 10] ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنين: 82] ﴿قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ على طريق الاستعباد، فأبطل استبعادهم بقوله: ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة (الأجزاء) ثم جعلنا لهم من النَّواصِيَ إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصّورة، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذي (ن) بهما استحوقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن مَحَلاًّ للحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه. واخْتَارُوا العَظْم بالذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البِلَى والتّفَتّت. والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً﴾ أي جعل قدرتنا كقدرتهم «ونسيَ خَلْقَهُ» العجيب وبدأه الغري. ومنهم من ذكر شبهة وإن في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين: الأول: أنه بعد العدم لن يبقى شيء فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود؟! فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله تعالى: ﴿الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكرواً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئياً مذكوراً. الثاني: أن من تَفَرَّقت أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها وصار بعضه في أبْدانِ السِّباع، وبعضه في حواصل الطيوب وبعض في جُدْرَان الرباع كيف يجمتع؟ وأبعد من هذا: لو أكل الإنسان إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل (فإن أعيدت أجزاء الآكل) فلا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاء وإما أن تُعَاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء. فأبطل الله تعالى هذه الشبهة بقوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ ووجهه: أن في الأكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسانً إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فاللَّه بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحاً وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البِقَاع المتبددة بحكمته وقدرته. ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال نكارهم فقال: ﴿الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً﴾ هذه قراءة العامة، وقرئ الخَضْرَا اعتباراً بالمعنى، وقد تقدم أنه يجوز تذكر اسم الجنس وتأنيثه قال تعالى: ﴿نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: 20] ﴿نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: 7] وتقدم أن بني تميم ونَجْد يذكِّرونه، والحجاز يؤنثونه إلا ألفاظاً اسْتُثْنِيَتْ. فصل قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ وللأخرى العفار فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خَصْراوان يقطران الماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى. وتقول العرب: فِي كُلّ شَجَرٍ نَارٌ واستمجد المَرْخُ العَفَار. وقالت الحكماء: في كل شجرنا إلا العنّاب. قوله: ﴿فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ﴾ أي تَقْدحُون وتُوقدون النار من ذلك الشجر، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال ﴿أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾ هذه قراءة العامة ودخلت الباء زائدة على اسم الفاعل، والجَحْدَرِيّ وابن أبي إسحاق والأعرج «يَقْدر» فعلاً مضارعاً والضمير لتضمنهم مَنْ يعقل ثم قال: «بلى» (أي قل بلى) هو قادر على ذلك ﴿وَهُوَ الخلاق العليم﴾ (يخلق خلقاً بعد خلق) العليم بجميع ما خلق و «بَلَى» جواب «للَيْسَ» وإن دخل عليها الاستفهام لتصيرها إيجاباً والعامة على «الخَلاَّقُ» صيغة مبالغة، والجَحْدَريّ والحَسَن ومالكُ بن دينَارٍ «الخَالِقُ» اسم فاعل. قوله: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ تقدم الخلاف في «فيكون» نصباً ورفعاً وتوجيه ذلك في البقرة. قوله: ﴿فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قرأ طلحةُ والأعمش مَلَكَةُ بزنة شَجَرَةٍ. وقرئ مَمْلَكَة بزنة مَفْعَلَةٍ وقرئ مُلْكُ والملكوت أبلغ الجميع، والعامة على «تُرْجَعُونَ» مبنياً للمفعول، وزيدُ بن عليِّ مبنيًّا للفاعل وتقدم الكلام على قوله «سُبْحَانَ» والتسبيحُ التنزيه، والمكوتُ مبالغة في المُلْك كالرَّحَمُوت والرَّهَبُوت، وهو فَعَلُول أو فَعلَلُوت فيه كلام، قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» وقال عليه (الصلاة و) السلام: «لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ، وإنَّ قَلْبَ القُرآنِ سُورَةُ يس وَمنْ قَرَأ يس كَتَب اللَّهُ لَهُ بقراءَتِهَا قِرَاءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرَّات» وعن عائشة قالت: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إنَّ فِي القرآن سُورَةً تَشْفَعُ لقَارِئها ويُغْفَر لمُسْتَمِعِها أَلاَ وِهِيَ سُورَة يس» وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يس تُدْعَى المُعِمَّة قيل: يا رسول الله: وما المُعمَّة؟ قال: تَعُمّ صاحبها خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَة وتُدْعَى الدافِعَة القَاضِيَة تَدْفَعُ عَنه كُلَّ سُوءٍ وتَقْضِي له كُلَّ حَاجَةٍ، وَمَنْ قَرَأهَا عَدَلَتْ لَهُ عِشْرينَ حَجّةً ومَنْ سَمِعَهَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِينَارٍ في سَبِيل اللَّهُ وَمَنْ كَتَبَهَا وَشَربَهَا أدْخَلَتْ جَوْفَه ألفَ دَواء وألْفَ يَقين وألفَ رَأْفَةٍ ونُزعَ منه كُلُّ دَاءٍ وغِلّ، وعن أبي أُمامَةَ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ قَرَأ يس يُريدُ بها وَجْهَ - عَزَّ وَجَلَ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وأعْطِيَ منَ الأَجْر كَأَنَّما قَرَأ القُرْآنَ اثْنَتَي عَشْرَةَ مَرَّةً، وأَيُّمَا مَرِيض قُرئَ عنءدَه سورةُ يٍ نَزَلَ عَلَيْهِ بِقَدْر كُلِّ حَرْف عَشْرَة أمْلاك، يَقُومُون بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفاً فيصَلُّون عَلَيْهِ ويَسْتَغْفِرون علَيه ويَشْهَدونَ قَبْضَهُ وغُسْلَهُ وَيتّبِعُونَ جَنَازَتُه ويُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَشْهَدُون دَفْنَهُ وأَيُّما مَريض قَرَأ سُورَةَ يس وَهُو فِي سَكَرَاتِ المَوْتِ لَمْ يَقْبضْ مَلَكُ الموتِ رُوحَه حَتَّى يَجِيئَهُ رَضْوَانُ خَازنُ الجِنَانِ بشَرْبةٍ مِن الجَنَّة فَيَشْرَبُها وهُوَ عَلَى فِرَاشِه فَيموتُ وَهُو رَيَّانُ ويُبْعَثُ وَهُوَ رَيَّانُ، وَيُحَاسَبُ وَهُو رَيَّانُ وَلاَ يَحْتَاج إلَى حَوْضٍ مِنْ حياض الأنْبِيَاء، حَتَّة يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَهُوَ رَيَّان» وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ دَخَلَ المَقَابِرَ فَقَرأ سُورة يس خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ وعن يحيى بن أبي كثير قال: بَلَغَنا» مَنْ قَرَآَ يس حِين يُصْبحُ لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحٍ حَتَّى يُمْسِي وَمَنْ قَرَأها حِينَ يُمْسِي لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحِ حَتَّى يُصْبح» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب