الباحث القرآني
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ : في أمرك، ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾: حافظًا لك. هذا مبتدأ درس اليوم، ﴿تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ التوكل بمعنى الاعتماد مع الثقة، ولهذا فَسَّرُوه بأنه صِدْق الاعتماد على الله في جَلْب المنافع ودَفْع المضارّ، مع الثقة بالله عز وجل بأن يكون القلب معتمدًا على الله لا على غيره في جلب المنافع، وفي دفع المضارّ، مع ثقته بالله سبحانه وتعالى، يعني: واثقًا بأن الله تعالى سيكفيه، ولهذا قال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق ٣]: كافيه، فإذا صدقتَ الله عز وجل في أنه سبحانه وتعالى سيكفيك فهذا هو تمام التوكل.
وقوله: ﴿تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ جاءت هذه في القرآن في عدة مواضع، ومنها قوله تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود ١٢٣]، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا﴾ [المائدة ٢٣]، وعلى هذا فيكون التوكل من العبادة؛ لأن الله تعالى أمر به، وما أمر الله به شرعًا فهو من العبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الفوائد أقسام التوكل.
وقوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب ٣]، الباء يقول أهل الإعراب: إنها زائدة لتحسين اللفظـ، وأن لفظ الجلالة هو الفاعل، والتقدير: وكفى اللهُ وكيلًا، ووكيلًا حال من الفاعل، والمعنى: ما أعظم كفاية الله تعالى في هذا الشيء، إن كان ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء ٧٩]، فهو: ما أعظم كفاية الله تعالى في شهادته.
أقول: فيه آيات، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ المعنى: ما أعظم كفاية الله في شهادته، ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾: ما أعظم كفاية الله في وكالته.
وقوله: ﴿وَكِيلًا﴾ يقول المؤلف: حافظًا لك، وعلى هذا ففَعِيل هنا بمعنى فاعل، وليست بمعنى مفعول؛ لأن الوكيل إذا قلت: وَكَّلْتُ هذا الوكيل، فإن وكيلًا بمعنى مفعول؛ لأنه الْمُوَكَّل، لكن هنا بمعنى فاعل، أي أنه حافظ، فالاعتماد من الإنسان، والحماية والحفظ من الله.
ويدل لتفسير المؤلف قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق ٣] أي: كافيه، وسوف يقوم سبحانه وتعالى بحفظه، وبتحقيق ما توكل به عليه.
قال المؤلف: (وأمته تبع له في ذلك كله)، إنما قال هذا؛ لأن الخطاب في الآيات موجَّه لمن؟ للنبي ﷺ، فأُمَّتُه تَبَعٌ له، من أين علمنا أن أمته تبعٌ له؟
علمنا ذلك من طريقين، أو من أحد طريقين:
الطريق الأول: أن الله أمرنا بالتأسي به، فكل أَمْر مُوَجَّه للرسول ﷺ لا يدل الدليل على تخصيصه به فهو لنا أيضًا، نحن مأمورون باتباعه، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ [الأحزاب ٢١].
ثانيًا: أنه من المعروف في الخطاب أن الخطاب الموجَّه إلى المتبوع خطاب له ولتابعه، ولهذا يقول –مثلًا- يقول القائد لضابط في الجيش: اذهب إلى المكان الفلاني، هل هو يريد: اذهب أنت بنفسك، ولَّا أنت بِمَن تَبِعك ؟ أنت بمن تبعك.
فالخطاب في اللغة العربية إذا وُجِّه للمتبوع فهو له وللتابع، فصار وجه كَوْن الأمة تبعًا للرسول ﷺ في هذه الأوامر، وما تضمنته من النهي، وجه ذلك، أو له طريقان:
الطريق الأول: أننا أُمِرْنَا باتباع الرسول ﷺ.
والطريق الثاني: أن الخطاب الموجَّه للمتبوع له ولتابعه.
ثم قال الله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب ٤]، ﴿ما﴾ نافية، ولفظ الجلالة فاعل، و﴿مِنْ قَلْبَيْنِ﴾ مفعول ﴿جَعَلَ﴾، الأول ولَّا الثاني ؟ الأول مؤخَّر، ومفعولها الثاني قوله: ﴿لِرَجُلٍ﴾، و﴿مِنْ﴾ هنا نقول: إنها زائدة من حيث الإعراب، فنعرب ﴿قَلْبَيْنِ﴾ على أنها مفعول به منصوب، وعلامة نصبه -هذه المشكلة- الفتحة ما يمكن، ياء مقدَّرة على هذه الياء التي جُلِبَت لماذا؟ جُلِبَت للحرف؛ لأن عَمَل الأداة الظاهرة أقوى من عمل الأداة الباطنة، يعني –مثلًا- ﴿جَعَلَ﴾ تنصب ﴿قَلْبَيْنِ﴾، لكن تعرَّض لها -أو عَارَضها بالأصح- عارضها عامل أقوى مباشر وهو حرف الجر، فيقولون: إن الياء هذه ليست ياء النصب، لكنها ياء حرف الجر الزائد.
وعلى هذا فنقول: علامة نصبه ياء مقدَّرة في مكان الياء الموجودة التي اجتُلِبَت من أجل حرف الجر الزائد.
قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ﴾، هذا الجعل كوني أو شرعي؟ هذا الجعل كوني؛ لأن الْجَعْل الذي يضاف إلى الله ينقسم إلى قسمين: جَعْل شرعي، بمعنى: ما شرع، وجَعْل كوني، بمعنى: ما خَلَق.
مثال الجعل الشرعي: قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ﴾ [المائدة ١٠٣]، هذا جعل شرعي، ويش الدليل؟ الدليل أنه كونًا واقع مجعول، لكنه شرعًا لم يُجْعَل، ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ﴾.
وأما الْجَعْل الكوني فهو كثير، مثل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء ٦]، ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ١٠ ١١].
وفي هذه الآية الكريمة: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ﴾ من أيهما؟ من الكوني، ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ﴾، وأكَّد الله هذا النفي بحرف الجر الزائد؛ لأن الحروف الزوائد من أدوات التوكيد.
إذن محال أن يكون في الإنسان قلبان، في الإنسان الواحد قلبان محال، ولكن هل هذه الجملة مرادة لذاتها أو مرادة لغيرها؟
يرى المؤلف وجماعة من علماء التفسير أنها مرادة لذاتها، وأنها نفي لأمر قد ادُّعِيَ، ولهذا قال ردًّا على مَن قال من الكفار: إن له قلبين يعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد ﷺ، هذا ما ذهب إليه جماعة من أهل العلم، يعني أن هذا نفيٌ لأمر ادُّعِيَ، وهو رجل من الكفار، يقول: إن له قلبين، وإذا كان له قلبان كان له عقلان، وإذا كان له عقلان كان أفضل من النبي ﷺ؛ لأنه ما له إلا قلب واحد.
وذهب بعض المفسرين، وعلى رأسهم الزهري رحمه الله، إلى أن هذه الجملة ليست مقصودة لذاتها؛ لأنها أمر معلوم؛ لأنه ليس لإنسان قلبان، لكنها توطئة وتمهيد لما يأتي بعدها؛ لأنه ذُكِرَ في الآية الكريمة ثلاثة أشياء: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾، فكما أنكم تُقِرُّون بأنه لا قلبين لرجل في جوفه، فكذلك ليست الزوجة أمًّا؛ لأن الله لم يجعل للإنسان أُمَّين، كما أنه ليس له قلبان، وكذلك ليس هناك ابن غير حقيقي، يعني ليس للإنسان ابن خُلِق من مائه وابن نُسِب إليه ولم يُخْلَق من مائه، بل إن ابنك مَن خُلِقَ من مائك، واضح؟
وهذا ما اختاره ابن كثير رحمه الله، على أن هذه الجملة توطئة؛ لأن انتفاء القلبين في الجوف الواحد أمر معلوم، والقصة التي ذَكَرُوها يُنْظَر في صحتها، وحتى لو صحَّت فإن هذا الذي يقول: إن له قلبين، ادعاؤه أن له قلبين يدل على أنه لا قلب له؛ لأن هذا أمر مستحيل.
يقول الله عز وجل: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾، فهل قوله: ﴿فِي جَوْفِهِ﴾ قَيْد، يُعْتَبر قيدًا شرطيًّا له مفهوم، فيقال لك: إن له قلبين خارج جوفه؟ لا، ولكنها لبيان الواقع؛ لأن من المعلوم أن القلوب في الأجواف، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام ٣٨]؛ لأن قوله: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ كقول الإنسان: ولا ماشٍ يمشي برجلين، لبيان الواقع.
وإن كان بعض المتأخرين في قوله: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ قال: إنها قَيْد شرطي لتُخْرِج الطائر المعروف؛ لأنها تطير بغير جناحين، وقد يقال: إن هذا ليس بصحيح، حتى الطائرة الآن تطير بجناحيها، أين النفاثات التي تطير بها؟ في الجناحين، والمراوح اللي كانت في الأول هي نفس الجناحين، لكن لا شك أن الطائرة ما هي من الأمم التي هي أمثالنا، بل هي من صنعنا.
إذن قوله تعالى: ﴿فِي جَوْفِهِ﴾ لبيان الواقع، ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي﴾، يقول: (بهمز وياء وبلا ياء)، بهمز وياء (اللائي)، وبلا ياء يعني بهمز بلا ياء، فتكون (اللاءِ) و(اللاءِ) كما نعرف جميعًا جَمْع لأيش؟ جمع (التي)، ولَّا لا؟ فهي مثل (الذين) في الذكور، جمع؟ نعم.
(اللائي) يقول: عندي (﴿تَظَّهَّرُونَ﴾ بلا ألف قبل الهاء، وبها والتاء الثانية في الأصل مُدْغَمَة في الظاء) ﴿تَظَّهَّرُونَ﴾ هذه قراءة، والثانية يقول: بلا ألف قبل الهاء، (وبها) يعني: بألف قبل الهاء، أيش تكون: ﴿تَظَّاهَرُونَ﴾ ، هذه قراءتان، وإلى الآن ما جاء المؤلف بالقراءة المشهورة عندنا وهي ﴿تُظَاهِرُونَ﴾، فيكون في الآية ثلاث قراءات: ﴿تَظَّهَّرُونَ﴾ ﴿تَظَّاهَرُونَ﴾ والثالثة ﴿تُظَاهِرُونَ﴾ و﴿تَظَّاهَرُونَ﴾ ﴿وتَظَّهَّرُونَ﴾ يقول: إن التاء مُدْغَمَة في الظاء، وأصلها: تَتَظَاهَرُون أو: تَتَظَهَّرُون، لكن صارت ﴿تَظَّهَّرُونَ﴾ ، أُدْغِمَت التاء في الظاء.
ما معنى ﴿تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ﴾، أي: تقولون: إنهنّ عليكم كظهور أمهاتكم، وهذه صيغة طلاق في الجاهلية، إذا أراد الإنسان أن يطلق امرأته طلاقًا بائنًا قال لها: أنتِ عليَّ كظهر أمي، فتطلق طلاقًا بائنًا؛ لأن ظهر أمه لا يحل له بحال من الأحوال، وخَصَّ الظهر؛ لأنه محل الركوب، والإنسان يركب زوجته أو تركبه؟ إي نعم يركبها؛ لأنها فراش، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذن ﴿تَظَّاهَرُونَ﴾ ، أيش معنى ﴿تَظَّاهَرُونَ﴾ ؟ أي: تقولون لهن: أنتن علينا كظهر أُمِّنَا، وهذه الجملة يعتبرها أهل الجاهلية طلاقًا بائنًا، أما في الإسلام فليست بطلاق، ما هي في الإسلام؟ ظِهَار، يعني أنها مُوجِبَة لتحريم المرأة حتى يفعل الإنسان ما أمره الله به، كما في سورة المجادلة.
﴿تَظَّاهَرُونَ مِنْهُنَّ﴾ بقول الواحد –مثلًا- لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، ويمكن أن يقول غير هذه العبارة؟ يمكن أن يقول: أنتِ عليَّ كظهر أختي، ويمكن أن يقول: أنتِ عليَّ كبطن أمي، فالعبرة بالمعنى لا بالصيغة، وقد مر علينا في كتاب الظِّهَار أن يُشَبِّه الرجلُ زوجتَه بمن تَحْرُم عليه تحريمًا مؤبَّدًا بنسب أو سبب مباح، المهم تحريمًا مؤبدًا، هذا هو الظهار عند أهل العلم، وسبق الخلاف فيما لو حرَّمها أو لو ظاهَر منها وشبَّهَها بمن تحرُم عليه تحريمًا إلى أَمَد.
* الطالب: (...).
* الشيخ: القراءة السبعية تارة يحيل لها على هذا وهذا بدون ما يقولون: وفي قراءة، وتارة يقولون: وفي قراءة، يقول: (بقول الرجل –مثلًا- لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي).
﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ ويش اللي نصبها؟ ﴿جَعَلَ﴾، أين المفعول الأول ؟ ﴿أَزْوَاجَكُمُ﴾، و﴿اللَّائِي﴾ صفتها، و﴿تُظَاهِرُونَ﴾ صلة للموصول، و﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ المفعول الثاني، و﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ أي: كالأمهات في تحريمها بذلك المُعَدّ في الجاهلية طلاقًا، وإنما تجب به الكفارة بشرطه كما ذُكِرَ في سورة المجادلة.
في الإسلام ليس بطلاق، ولكنه تحريم تجب به الكفارة بشرطه، وهو العَوْد؛ لقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المجادلة ٣]. (...)
﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾، ما أخذنا من الفوائد، أو لا؟
* طالب: ما كملنا الآية.
* الشيخ: أيها؟
* الطالب: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾.
* الشيخ: ما كمَّلنا، نكمل.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾، نحن ما كملنا المناقشة، ما هي المظاهَرة في القراءة التي فيها الزيادة؛ لأن فيها زيادة حرف، والحرف فيه عشر حسنات، عرفتم؟ فعلى هذا القول أيّ القراءات الثلاثة تختارون؟
* طالب: ﴿تَظَّاهَرُونَ﴾ .
* الشيخ: ﴿تَظَّاهَرُونَ﴾ ؛ لأن هذه أكثرها حروفًا، ومن العلماء من يقول: الأفضل أن تقرأ بكل قراءة، أن تأخذ بكل قراءة، تقرأ بهذه مرة وبهذه مرة، أيهما أرجح؟ الصحيح الأخير أنك تقرأ بهذه مرة وبهذه مرة إذا كنت تعرف؛ لأن كل قراءة فقد صحَّت عن النبي ﷺ فينبغي أن تقرأ بها لفائدتين، ما ذكرنا إلا واحدة، لفائدتين:
الفائدة الأولى: العمل بكل السُنَّتَيْن.
الفائدة الثانية: حِفْظ هذه القراءات، ولذلك نحن الآن لما كنا نعتمد على القراءة التي عندنا ما نعرف القراءات الأخرى، فإذا قيل للإنسان: ينبغي لك أن تقرأ بكل قراءة صحّت، فإن هذا يكون فيه حفظ للقراءات، ولهذا ينبغي للصغار منا، ولَّا عاد الكبار صعب عليهم الحفظ، لكن الصغار ينبغي لهم أن يحرصوا على القراءات، وأن يتعلموها من أجل أن يعملوا بالسنة هذه ما تبقى مهجورة، إي نعم.
قوله: ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ إعرابها؟ (...)
﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾ قال المؤلف: (جمع دعِيٍّ، وهو مَن يُدْعَى لغير أبيه ابنًا له)، أدعياء جمع دَعِيّ، كأغنياء جمع غني، وأَكْفِيَاء جمع كَفِيّ، ولها أمثلة، و(دَعِيّ) فعيل بمعنى مفعول، وأصلها دَعِيُو، بالواو، لكن قُلِبَت الواو ياءً لعلة تصريفية.
إذن (دَعِيّ) بمعنى مدعو، والدعاء في الأصل طلب الإقبال، والمراد بادِّعاء هنا النسبة، بأن يُنْسَب إلى غير أبيه، فيقال: هذا ابن فلان، وليس ابنًا له حقيقةً، هؤلاء الأدعياء ما جعلهم الله تعالى أبناءً، شرعًا أو قدرًا؟ لا شرعًا ولا قدرًا، أما لا قدرًا فواضح؛ أنه ما هو بأبناء قدرًا، وأما شرعًا فهنا نفى الله عنهم، نفاه، قال: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾، فإذا كان الأدعياء ليسوا أبناءً لا قدرًا ولا شرعًا فإنه لا يَرِد الذهنُ أو لا يتوجَّه الذهن إليهم شرعًا.
هذه الكلمة التي أقولها يتبين بها ضعف قول مَن يقول (...) في قوله تعالى: ﴿وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ﴾ [النساء ٢٣] يقول: إن قوله: ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ إنها قَيْد يُحْتَرَز به عن ابن التبني؛ لأننا نقول: ابن التبني لا يدخل في الابن أصلًا، فلا يذهب إليه الوهم حتى نقول: إنه يحتاج إلى قيد يُحْتَرَز به عنه، وسبق أن بحثنا هذه المسألة في باب المحرَّمات في النكاح.
المهم أن الأدعياء ما جعلهم الله أبناء، لا شرعًا ولا قدرًا، وكانوا في الجاهلية يَدْعُون الإنسان لغير أبيه، يكون هذا الرجل شريفًا وذا نسب، وهذا الدَّعِيّ وضيعًا نسبُه عند الناس ليس بذاك الشيء، أو ليس له نسب معلوم، فيُدْعَى إلى هذا الأب من أجل رفعته، فأبطل الله ذلك؛ لأن دعوة الإنسان إلى غير أبيه يترتب عليها أمور، كل ما يترتب على النسب من تحريم وتحليل وإرث ونفقات وغيرها كلها ربما تنتقل إلى هذا الدَّعِيّ بسبب أنه دُعِيَ إلى هذا الرجل، فلذلك منع الله تعالى ذلك شرعًا؛ لأن تسمية الشيء باسمٍ بعيد عن حقيقته هذا يوجِب أن تنقلب الأوضاع، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى صَلَاتِكُمُ الْعِشَاءِ، يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَهِيَ تُعْتِم بِإِبِلِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ فِي كِتَابِ اللهِ الْعِشَاءُ»[[أخرجه مسلم (٢٢٨ /٦٤٤) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ]].
فكل الأشياء التي ربما إذا سُمِّيَت باسم آخر ربما تختلف أحكامها فإن الشرع نهانا.
﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ حقيقةً، حقيقة تفسير لأبناء، يعني: ما جعلهم أبناء على وجه الحقيقة.
﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾، أي: اليهود والمنافقين، ﴿ذَلِكُمْ﴾ المؤلف يريد أن يكون الخطاب هنا لليهود والمنافقين، والصواب أنه عائد لكل مَن دعا شخصًا لغير أبيه من الأدعياء سواء كان من المنافقين أو من اليهود أو من المشركين، أو من المسلمين، فإن هذا قول يقوله الإنسان بفيه، وليس حقيقةً، هو نفسه يعلم أن هذا الدَّعِيَّ ليس ابنًا لهذا المدعو إليه، فكيف يقول ما يعتقد أن الأمر بخلافه؟
وقوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾ أتى بضمير الجمع في الخطاب؛ لأن المخاطَبِين جماعة، وقد مَرَّ علينا في اسم الإشارة أن اسم الإشارة يراعَى به المشار إليه، والكاف يراعى بها المخاطب، هنا المشار إليه مفرد مُذَكَّر، وهو دعوة الرجل إلى غير أبيه، والمخاطَبُون جماعة ذكور.
* طالب: (...).
* الشيخ: هذه نبغي نتكلم عليها في الفوائد إن شاء الله.
﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ يعني: تقولونه بألسنتكم وأنتم تعرفون الحقيقة أنها ليست كذلك.
قال المؤلف رحمه الله: أي اليهود والمنافقين، ليش جعلها بالياء؟ لأنها تفسير لقوله: ﴿قَوْلُكُمْ﴾ بالكاف وهي مجرورة، قالوا: لَمَّا تزوج النبي ﷺ زينب بنت جحش التي كانت امرأة زيد بن حارثة الذي تَبَنَّاه النبي ﷺ قالوا: تزوَّج محمد امرأة ابنه، فأَكْذَبَهُم الله تعالى في ذلك.
* طالب: (...).
* الشيخ: قالوا: تزوج -أي اليهود والمنافقين- كلام المؤلف بعيد من ظاهر الآية؛ إذ إن كلام المؤلف يقول: إنهم بعد أن تزوَّج النبي عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش، وكانت في الأول عند زيد بن حارثة قالوا هذا القول، والآية ما فيها إشارة للقصة إطلاقًا، إنما الآية يتحدث الله فيها عن أيش؟ عن ابن التبني، ما تحدَّث الله تعالى ولا أشار إلى تزوُّج الرجل بزوجة ابنه الذي تَبَنَّاه، لكن هذه ستأتينا إن شاء الله في الآية، فالصواب أن الآية إنما هي في نسبة الإنسان إلى غير أبيه تبنيًا.
(﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ﴾ في ذلك، ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾: سبيل الحق).
﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ﴾، المؤلف قيده فقال: (في ذلك)، والصواب عدم القيد، حتى وإن كان السبب هو هذا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ما هو الحق الذي يقوله الله عز وجل فيما يقوله؟ فسَّره الله تعالى في القرآن نفسه، فقال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام ١١٥]، هذا هو الحق الذي يقوله الله عز وجل، صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام، فكل ما قاله الله عز وجل فهو دائر بين أمرين؛ إما خبر، وإما حكم، الخبر أَحَقِّيَّتُه الصدق، والحكم أحقيته العدل، خير ما يُفَسَّر به القرآن القرآن، ولهذا إذا قال قائل: ما هو الحق في قول الله ؟ نقول: الحق في قول الله هو ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾.
وقوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾، لم يقل: ويهدي السبيل؛ لأن الجملة الثانية تتعدى للغير، فهناك هادٍ ومَهْدِيّ ومَهْدِيٌّ فيه ولَّا إليه ؟ إليه وفيه أيضًا، هناك هادٍ وهو الله، ومَهْدِيّ وهو الإنسان –مثلًا-، ومَهْدِيٌّ إليه وفيه أيضًا، وهو الدين، السبيل الْمُوصِل إلى الله عز وجل، مَهْدِيٌّ إليه هذه هداية الدلالة، ومَهْدِيٌّ فيه هذه هداية التوفيق؛ لأنك تقول: دَلَلْتُه إلى كذا، وهديته في كذا، بمعنى: جعلته عاملًا فيه، وهذا هو الحكمة في أن الله عز وجل قال في سورة الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة ٦]، ولم يقل: إلى الصراط، ليش؟ لأجل يعم الهداية إليه بالدلالة إليه وبيانه، والثاني: هداية فيه بالعمل به، وهذا هو مقصود كل داعٍ يدعو الله عز وجل بالهداية أن الله يهديه إلى الشيء فيعرفه ويعلمه، ويهديه فيه فلا يضل عنه، واضح؟
﴿يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ أيّ سبيل يراد بهذه الآية؟ ﴿السَّبِيلَ﴾ (أل) هذه للعهد الذهني، والمراد سبيل الله عز وجل، ويش الدليل لمراد سيبل الله؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام ١٥٣].
إذن السبيل التي يهدي الله إليها هي سبيل الله عز وجل، وهي طريق الحق، ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾، ومن جملة ذلك أنه سبحانه وتعالى لم يجعل الزوجات التي يظاهرون منهن أزواجُهن لم يجعلهن أمهات، ولم يجعل الأدعياء أبناء، فقال الحق في ذلك، وهدانا السبيل في ذلك، فالزوجة زوجة، والابن الدَّعِيّ ليس ابنًا، والله يقول: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ [الأحزاب ٥]، قال المؤلف في التفسير: (لكن ادعوهم لآبائهم )، لماذا أتى بالاستدراك: (لكن ادعوهم لآبائهم)، في ظني أنه لا حاجة للاستدراك، وأن الجملة استئنافية، لَمَّا أبطل الله سبحانه وتعالى أن يكون هؤلاء الأدعياء أبناءً أَمَرَ بأن ندعوهم لآبائهم، وكأن المؤلف رحمه الله لما كانت الآية الثانية: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ لَمَّا كانت غير مقابلة لما نَفَاه الله في الأول، يعنى: ما جعل أدعياءكم أبناءكم، لكن جعلهم أبناء آبائهم، فادعوهم لآبائهم، رأى رحمه الله أن هذا هو وجه الاستدراك، ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾، لكن جعلهم أبناءً لآبائهم فادعوهم لآبائهم.
نقول: هذا لا حاجة إليه، فالجملة استئنافية ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾، أي: انسبوهم لآبائهم، فقولوا: يا ابن فلان، وكلمة (آبائهم) جمع أبٍ، هل المراد بالجمع هنا باعتبار الْمَدْعُوِّين، يعني لأن الناس كثيرون، أو أن المراد آباؤهم بالنسبة لكل شخص، بمعنى أن الإنسان يُنْسَب إلى أبيه وجده وأبي جده، وهكذا، أو شامل للأمرين؟
هو شامل للأمرين، فالإنسان يُدْعَى إلى أبيه يقال: فلان ابن فلان ابن فلان، الرسول عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بل إنه عليه الصلاة والسلام قال: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣١٥)، ومسلم (١٧٧٦ / ٧٨) عن البراء بن عازب رضي الله عنه. ]]، ومحمد عندنا الألفية: قال محمد، وهو ويش اسمه؟ محمد بن عبد الله، أبوه عبد الله، فهو فيما يظهر أنه شامل، يعني أنه جُمِعَ باعتبار أفراد الناس، وجُمِعَ باعتبار الآباء؛ لأن الآباء أبٌ أدنى وأب فوق.
قال: ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ﴾، ﴿هُوَ﴾ الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: ﴿ادْعُوهُمْ﴾، أي: ﴿هُوَ﴾ أي: دعاؤهم، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة ٨]، ﴿هُوَ﴾ أي: العدل المفهوم من الفعل، فهنا ﴿هُوَ﴾ أي: دعاؤهم لآبائهم، ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ﴾ أي: أعدل.
فسَّرها بعضهم باسم الفاعل، اسم الفاعل هو قاسط عند الله، يعني: هو العدل عند الله عز وجل، وإنما لجأ إلى ذلك؛ لأن المعروف أن اسم التفضيل يشترك في أصل معناه المفضَّل والمفضَّل عليه، فإذا قلت: فلان أشجع من فلان، فكلاهما شجاع، لكن هذا أشجع، فهنا إذا جعلنا اسم التفضيل على بابه وقلنا: دعاؤهم لآبائهم أقسط عند الله من دعائهم لمن تبنَّاهم، صار في دعائهم لمن تبنَّاهم عدل، مع أنه لا عدل فيه.
ولذلك قال بعض المفسرين: إن أفعل التفضيل هنا بمعنى اسم الفاعل، حتى لا يكون في الطرف الثاني منه شيء.
وقال بعض المفسرين: هو على بابه، واللغة العربية تأتي باسم التفضيل دائمًا فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء، ومنه قوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان ٢٤]، ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾، مع أن أصحاب النار لا خير في مستقرهم، وعلى هذا فنقول: إبقاء الآية على ظاهرها يكون أَوْلَى، فإذا قيل ذلك فإنه يَرِدُ علينا سؤال: لماذا عَبَّرَ بأفعل التفضيل في طرف ليس في الطرف الآخر منه شيء؟
قلنا: لبيان أن هذا غاية ما يكون من العدل، انتبه، فتكون فائدتها أن دعاءهم لآبائهم أعدل شيء، وهو غاية ما يكون من العدل، فاسم التفضيل هنا باعتبار المعنى، أي أن هذا أعدل شيءٍ.
وكلمة ﴿أَقْسَطُ﴾ اسم تفضيل من الثلاثي ولَّا من الرباعي؟ من الثلاثي؛ لأن اسم التفضيل ما يُصَاغ إلا من الاسم الثلاثي:
؎وَصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلَاثٍ صُرِّفَا ∗∗∗ ...................
ثم إن الرباعي من هذه المادة ليس بمعنى العدل، بل بمعنى الجور، كذا؟ الرباعي بمعنى الجور؟ انتبه، إذن بالعكس؛ القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، أو لا؟
قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن ١٥]، وقال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات ٩].
إذن يَرِدُ علينا إشكال في مسألة ﴿أَقْسَطُ﴾ هنا، ﴿هُوَ أَقْسَطُ﴾، فنقول في الجواب عنه: إن في هذا دليلًا على صحة مذهب الكوفيين الذين يقولون بجواز صيغة اسم التفضيل من غير الثلاثي، يقولون: ﴿أَقْسَطُ﴾ من باب الإقساط، يعنى أن ذلك أعدل.
وقوله: ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ يعني: في حكمه؛ لأن الحكم حكم الله عز وجل يضاف إليه، وهذا نظير قوله تعالى في الذين يرمون المحصنات، يقول: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور ١٣]، شوف تأمل قوله: ﴿فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ﴾، إحنا انتقلنا الآن عن الآية، إذا قذف رجل امرأة بالزنا فهو باعتبار الواقع قد يكون حقًّا، وقد يكون كذبًا، أو لا؟ يعني: قد يكون حقًّا إنها زنت، وقد يكون كذبًا، لكنها في حكم الله؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، في حكم الله كذب، ولهذا قال: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ﴾، ما قال: فأولئك هم الكاذبون؛ لأنه قد يكون حقيقة باعتبار الواقع، لكن في شرع الله كاذبون، ﴿فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، ولهذا يجب عليهم حد القذف إذا لم يأتوا بأربعة شهداء.
﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ [الأحزاب ٥]، إن لم تعلموا آباء مَن؟ أباء هؤلاء الأدعياء، ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾، يعني: وليسوا أبناءهم، يعني حتى في الحال التي لا يُعْرَف لهذا الرجل أبٌ فإنه لا يجوز أن يُنْسَب إلى غير أبيه، ولكن يكون أخًا لنا في الدين، ومولًى لنا إذا كان قد دخل في ملكنا ثم حررناه مثلًا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في قصة اختصام علي وجعفر وزيد بن حارثة، قال لزيد: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا»[[أخرجه البخاري (٢٦٩٩) عن البراء بن عازب رضي الله عنه. ]]، فهو أخي في الدين وليس ابنًا لي، وهو أيضًا مولاي إذا كنت قد أعتقته، ولو لم أعرف أباه فإنه لا يُنْسَب إلَيَّ.
ولهذا تجدون العلماء رحمهم الله الذين يكتبون أسماء الرجال عندما ينسبون أحدًا من الموالي إلى مَن أعتقه يقول: القرشي مولاهم –مثلًا-، التميمي مولاهم، لأنه لو يقال: القرشي فقط أيش يظن الظان؟ أنه قرشي حقيقة، فإذا قال: مولاهم، يعني أنه نُسِبَ إليهم؛ لكونه مولًى لهم، ومولى القوم منهم، حتى إن العلماء قالوا في الصدقة قالوا: إنها تَحْرُم على موالي بني هاشم؛ لأن مولى القوم منهم، لكنه لا يُنْسَبُون إليهم نسبًا حقيقيًّا، بل لا بد من أن يقيد.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: بنو عمكم (...).
* الشيخ: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾.
* الطالب: (...).
* الشيخ: ما له وجه.
* الطالب: (...) أن أبا زيد بن حارثة قَدِم للنبي من (...) فقال (...) فخيَّره النبي ﷺ (...)؟
* الشيخ: إي هذا لَمَّا قَدِم أبوه وعمه؟
* الطالب: فعُرِف أبوه وطلبه أبوه.
* الشيخ: سبب تَبَنِّيه، هذا كان في أول الإسلام ثم أُبْطِل، منسوخة. (...) ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ لكن بس (...).
وهي وجوب تقديم الوحي على الرأي؛ لقوله: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ [الأحزاب ٢]، فإن هذا الخطاب موجَّه إلى رسول الله ﷺ وإلى أُمَّته بالأَوْلَى، فيفيد وجوب تقديم الوحي على الرأي.
وتقديم الرأي على الوحي له أقسام، منها ما يصل إلى الكفر، ومنها ما هو دون ذلك، فالذين يُقَدِّمُون الرأي على الوحي مع علمهم بالوحي معتقدين أن غير الوحي مساوٍ له، أو أكمل منه، أو أنه يجوز الحكم بالرأي المخالف للوحي مع العلم به، هؤلاء يعتبرون كفارًا.
في هذه الأحوال الثلاث إذا اعتقدوا أن الرأي أكمل وأنفع من الوحي، أو أنه مساوٍ له، أو أنه يجوز تقديمه على الوحي مع العلم به، فهؤلاء كفار؛ لأنهم حَكَمُوا بغير ما أنزل الله، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة ٤٤].
وأما مَن قَدَّمُوه بتأويلٍ ظنًّا منهم أن ذلك لا يخالف الوحي، أو أنه طريق يُوصِلُهم إلى الوحي، فهؤلاء لا يصلون إلى درجة الكفر، وذلك مثل كثير من المتعصبين للمذاهب، فإنهم لا يرون أن هذه المذاهب خارجة عن الوحي، وإنما يرون أن ذلك طريق إلى العمل بالوحي، فيقولون: هذا إمامنا أعلم منا وأفهم، فنتبعه ونتهم رأينا بالنسبة إلى رأيه، وإلا فنحن متمسكون بشريعة الله، ومُحَكِّمُون لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
هؤلاء نقول: إنه إذا تَبَيَّن لهم الحق وجب عليهم اتباعه، ولو خالف متبوعهم من الأئمة، وذلك لأن الحق لا يخطئ، والأئمة يخطؤون، ولا يمكن أن يَدَّعِي العصمة لأحد من البشر إلا رسولَ الله ﷺ، لا يمكن أن يدَّعِي العصمة إلا رجل ضالّ، الذي يدَّعي العصمة لغير الرسل رجل ضالّ، كما يفعل الرافضة بأئمتهم، وهذا ضلال بَيِّن؛ لأن أئمتهم قد يخطؤون كما يخطئ غيرهم.
وقد مر علينا ما وقع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو إمام الأئمة بالنسبة لأولئك القوم أنه أخطأ حين أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام حُلَّة من حرير فلبسها، فقال:« «إِنَّنِي مَا أَعْطَيْتُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، وَإِنَّمَا تُعْطِيَهَا الْفَوَاطِمَ»[[أخرجه الطبراني في الكبير (١٠٦٩) بلفظ: «إني لم أكسكها لتلبسها، إنما كسوتكها لتجعلها خمرًا بين الفواطم». ]]، وكذلك ما هو مشهور عنه من أن المرأة إذا كانت حاملًا وتُوُفِّي عنها زوجها فإنها تَعْتَدّ بأطول الأجلين، وهذا مخالف للسنة الصحيحة الصريحة.
والحاصل أننا نقول: إن في الآية الكريمة: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الأحزاب ٢] وجوب تقديم الوحي على الرأي، وأنه يجب الحكم بما جاء به الشرع مطلقًا، سواء خالف رأي متبوعيك أم لم يخالف.
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأحزاب ٣]، هذا مبتدأ الفوائد؟
في هذا دليل على وجوب التوكل على الله، وقد ذكرنا في كتاب التوحيد أن التوكل ينقسم إلى أقسام:
أحدها: توكل العبادة، وهو شعور الإنسان بافتقاره إلى المتوكَّل عليه وذُلِّه بين يديه، وهذا لا يجوز صرفه لغير الله، وصرفه لغير الله شرك؛ لأنه إشراك بالله فيما لا يستحقه إلا الله، وهو شرك أكبر ولَّا أصغر؟ شرك أكبر.
والثاني: الاعتماد على الغير الذي جعلته نائبًا عن نفسك، فهذا جائز، وقد وقع حتى من الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه وَكَّلَ عروة بن الجعد على أن يشتري له أضحية، وكان له وكيل في خيبر، وكذلك وَكَّلَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذبح ما بقي من الهدي، وهو جائز ولا إشكال فيه، ووَكَّل علي بن أبي طالب حين ذهب إلى تبوك أن يكون خليفة له في أهله، وموسى عليه الصلاة والسلام وَكَّل هارون حين ذهب إلى الطور، وقال: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ [الأعراف ١٤٢].
إذن هذا جائز ولا إشكال فيه؛ لوقوعه من الأنبياء، ولأنه عقد من العقود، والأصل في العقود الحِلّ إلا ما قام الدليل على منعه.
والثالث: أن يعتمد على مَن لا يصح الاعتماد عليه، على قوة سرية نعلم أنه لا أثر لها في هذا الاعتماد، وهذا شرك قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، مثل اعتماد أولئك الذين يتوسَّلون بالأموات، ويعتقدون أن في الاعتماد عليهم خيرًا، هؤلاء قد يصل بهم الأمر إلى الشرك الأكبر، وإلا فمجرد اعتمادهم عليهم شرك ولا يحل.
الرابع: أن يعتمد على قوة ظاهرة مؤثِّرة، لكنه يعتمد عليها لا باعتبار أنها نائبة عنه، بل باعتبار أنها مُجْدِيَة له، وأنها مصدر سعادته وفلاحه ورزقه، وما أشبه ذلك، فهذا مكروه، وقد يصل إلى درجة التحريم، كاعتماد الإنسان على الراتب وعلى المعاش من الوزارة التي يعمل فيها والإدارة والرئاسة، وما أشبه ذلك، فإن هذا فيه نوع من الشعور بالافتقار إلى هذا الشيء والتذلُّل له.
ولذلك تجد الذين ابتُلُوا بهذا النوع تجدهم يحابون من كانوا يعتمدون عليه، يحابون كبراءهم من الوزراء وغير ذلك، يحابونهم في أمر لا يجوز، أما مجاملتهم فيما هو جائز فهذا أمر لا بأس به، لكن محاباتهم في المحرَّم هذا لا يجوز، لكن هذا قد يقع؛ لأنهم يشعرون بأنهم مفتقرون إلى هؤلاء، فهذا أقل أحواله الكراهة، والإنسان ينبغي له أن يكون عزيز النفس، لا يعتمد إلا على ربه سبحانه وتعالى.
* ويستفاد من الآية الكريمة: أن كفاية الله عز وجل فوق كل كفاية؛ لقوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب ٣] ، زعم بعض أهل العلم أن مثل هذا التركيب يفيد التعجب، يعني: ما أعظم من كفاية الله! وتوكَّل على الله فما أعظم كفاية الله سبحانه وتعالى! وهذا ليس ببعيد؛ أنّ كَوْن هذه الصيغة تُحَوَّل من: وكفى الله وكيلًا إلى: ﴿وكفى بالله وكيلًا﴾ لا يبعد أن يكون المراد بذلك بيان المبالغة في كفايته سبحانه وتعالى، ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق ٣].
ثم قال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأحزاب ٤].
يستفاد من هذا السياق أن القرآن قد بلغ الغاية القصوى في الإقناع وإقامة البرهان.
وجه ذلك أنه قَدَّمَ الدليل على المدلول بصورة لا يَمْتَرِي فيها أحد، ما هي؟ ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾، فإن هذا أمر معلوم ولا يتنازع فيه اثنان؛ أنه ليس للإنسان إلا قلب واحد، ما فيه قلبان، لماذا؟ لأن هذين القلبين إن اتفقا على أمر واحد صار القلب الثاني لا فائدة منه، أو لا؟ وان اختلفَا تناقضَا في عين واحدة، فماذا يصنع الإنسان، هل يتبع القلب الأيمن ولَّا يتبع القلب الأيسر؟ يبقى محتارًا، لذلك ما جعل الله لرجل من قلبين، ما فيه إلا قلب واحد فقط؛ لأنه في جسم واحد.
وتأمل قوله: ﴿فِي جَوْفِهِ﴾ يستفاد منها فائدة غير أنها بيان للواقع، يستفاد أن الجوف الواحد لا يتناسب معه إلا قلب واحد، وإلا لكان القلبان في جوفين لا في جوف واحد، فصار فيها فائدة غير ما سبق، وهي أنها بيان للواقع، بأن الجوف الواحد لا يمكن أن يديره إلا قلب واحد.
في الآية الكريمة سياق الشيء بالبرهان، أو إثبات الشيء بالبرهان الذي يكون قاطعًا لا يَمْتَرِي فيه أحد.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المرأة المظاهَر منها ليست أمًّا؛ لقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾.
* يتفرع على هذه الآية: أن جَعْلَها أُمًّا في الظهار كذب وزور ومنكر، ولهذا قال الله تعالى في آية الظهار: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾ [المجادلة ٢]، فهو منكر لمخالفة الشرع، وزُور لمخالفة الواقع والحقيقة.
* يستفاد من الآية الكريمة: الإشارة أو التنبيه على تحريم الظهار؛ لقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ﴾ ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾، فإذا كان الله ما جعل ذلك فإنه لا يحل لنا أن نجعل شيئًا لم يجعله الله؛ لأن الأمر إلى الله وحده.
* ويستفاد من الآية ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾: أن الأبناء الأدعياء ليسوا بأبناء حقيقةً ولا شرعًا، فهم ليسوا أبناء قدرًا، وليسوا أبناء شرعًا، ولهذا قال: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾.
* ويستفاد منها: أنه إذا لم يكن الابن الدَّعِيّ ابنًا لا شرعًا ولا حقيقة فإنه لا يحتاج إلى قَيْد يُخْرِجُه من معنى البنوة، لماذا لا يحتاج؟ لأنه غير داخل فيها أصلًا حتى نحتاج إلى قيد نخرجه به.
* ويتفرع على هذه الفائدة: بيان ضعف قول مَن يقول: إن الاحتراز في قوله تعالى: ﴿وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ﴾ [النساء ٢٣] إن الاحتراز في قوله: ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ﴾ عن ابن التبني؛ لأننا نقول: إنه أصلًا لم يدخل حتى يحتاج إلى قيد يُخْرِجُه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان قد يقول قولًا لا يعتقده، ﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ [الأحزاب ٤].
* ويستفاد منها: أنه ليس من الرجولة، وليس من العقل أن يقول الإنسان قولًا بِفِيه وهو لا يعتقده بقلبه؛ لأن المراد من قوله تعالى: ﴿قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ المراد به التنديد بهم والتوبيخ لهم، كيف تقولون شيئًا بأفواهكم وأنتم تعترفون بقلوبكم أنه ليس موافقًا للواقع؟ ﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾.
* ويستفاد من الآية الكريمة: أن قول الله عز وجل كله حق ليس فيه باطل؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ﴾ [الأحزاب ٤]، والحق سبق أنه في كلام الله هو الصدق والعدل؛ لقوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام ١١٥]، وهو باعتبار الخبر صدق وباعتبار الحكم عدل.
* ويستفاد من الآية الكريمة: أن كلام الله عز وجل ليس فيه تناقض؛ لقوله: ﴿يَقُولُ الْحَقَّ﴾، والتناقض ما يكون إلا في الباطل، فالحق لا يمكن أن يتناقض، واضح؟
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن ما وصف الله به نفسه في كتابه فهو على حقيقته، وليس فيه تحريف أو تأويل؛ لأنه لو كان على خلاف ظاهره لكان ظاهره يدل على أيش؟ على باطل، إذا قلنا: إنه على خلاف الظاهر لزم أن يكون دالًّا على باطل، إذا كان المراد بآيات الصفات خلاف ظاهرها صار ظاهرها يدل على حق ولَّا على باطل؟
إذا قلنا: إن المراد بآيات الصفات خلاف الظاهر، صار الظاهر باطلًا؛ لأنه خلاف المراد، وهذا ينافي قول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ﴾، فهو سبحانه وتعالى لا يقول إلا الحق.
* ويستفاد من الآية: أنه مع ظهور أن الله يقول الحق فإن الناس لا يتفقون عليه؛ لقوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب ٤]، يعني حتى مع أن الله لا يقول إلا الحق فليس كل أحد يهتدي لذلك، بل الهداية بيد الله عز وجل.
* ويستفاد من الآية الكريمة: أنه يجب على المرء أن يلجأ إلى ربه سبحانه وتعالى في سؤاله الهداية؛ لقوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾، وتأمل تغيير الصيغة حيث قال: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ﴾، ثم قال: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾، ولم يقل: ويهدي السبيل، لأجل أن تكون الجملة الثانية مستقلة بركنيها بمبتدئها وخبرها؛ لأن قوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي﴾، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَهْدِي﴾ خبره، فكانت الجملة مستقلة عن الأولى؛ لأن ذلك أبلغ في بيان أن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن طريق الحق واحد؛ لقوله: ﴿السَّبِيلَ﴾، وهو مفرد، وهكذا تجدون أن السبل تأتي جمعًا فيما يخالف الحق، كذا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: مثل؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: ﴿مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ [الأنعام ١٥٣]، فالصراط أَفْرَدَه، أما الصراط الآخر أو المخالف لصراط الله فهو جمع، ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾، وإذا جاء طريق الحق مجموعًا فالمراد تنوُّع شرائعه، وكذلك الوَلِيّ، الكفار ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة ٢٥٧]؛ لأن سبل غير الحق متنوعة كل نوع منها عليه طاغوت يدعو إليه.
* ومن فوائد الآية الكريمة التي بعدها: وجوب دعوة الإنسان إلى أبيه ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾، يعني: انسبوهم لآبائهم لفظًا وحقيقةً، أما لفظًا فتقول: يا فلان بن فلان، انسبه إلى أبيه، وأما حقيقة أن تعتقد أن البنوة الحق إنما هي لِمَن؟ للأب الحقيقي الذي وُلِدَ الإنسان من صلبه، لا للأب الذي ادُّعِيَ أنه أب.
* ويستفاد من الآية الكريمة: أنه لا ينبغي أن يُدْعَى الإنسان لغير أبيه، وهذا نوعان:
أحدهما: أن يُدْعَى لغير أبيه لفظًا وحقيقة، فهذا لا يجوز، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل ذلك من الكفر، إذا ادَّعَى الإنسان إلى غير أبيه وهو يعلمه فإن ذلك كفر، «فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٧٦٨)، ومسلم (٦٢ / ١١٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر».]].
الثاني: أن يَدَّعِيَ إلى غير أبيه لفظًا، ولكن لا تثبت أحكام البنوة إطلاقًا إلى مَن ادعى إليه، فهذا نقول: إنه خلافُ ما أمر الله به.
ولكن أهل العلم يقولون: إن الإنسان إذا اشتهر به مع عدم الالتفات إلى أحكامه ومقتضياته فإنه جائز، وذكروا لذلك مثل المقداد بن الأسود، فإن المقداد بن الأسود ليس أبوه هو الأسود، ولكن الأسود كان قد تَبَنَّاه، واشتهر بهذه الكنية، واستمر عليه حتى أبطل الله التبني، ولكن بقي مشهورًا بذلك، قالوا: فهذا لا يضر؛ لأنه انتفت عنه أحكام التبني ولم يَبْقَ إلا اللفظ.
ومع هذا فإن الأفضل بلا شك هو أن يُدْعَى إلى أبيه، لكن المشكل أن الشيء إذا اشتهر فوصفته بغير ما اشتهر به حصل بذلك الالتباس، الآن لو قلنا: عن عبد الرحمن بن صخر، أن النبي ﷺ قال كذا وكذا، يمكن أن كثيرًا من الناس لا يدري من هو، لكن إذا قلت: عن أبي هريرة كلنا يعرفه.
وفي الآية الكريمة دليل على أن الأعمال تتفاضل عند الله؛ لقوله: ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، يعني: أبلغ في العدل، ووجه ذلك أن هذا الرجل الدَّعِيّ كوننا ننسبه إلى غير أبيه هو باعتبار أبيه ظلم ولَّا لا؟ ظلم، كيف تنسبه إلى شخص ما أتى من صلبه وتَحْرِم مَن أتى من صلبه من دعوته إليه؟ هذا لا شك أنه جور، ولهذا قلنا في الدرس الماضي: إن اسم التفضيل هنا ليس في الطرف الآخر منه شيء؛ لأنه ليس فيه أي عدل في أن تنسب الإنسان إلى غير أبيه، وقلنا: إن فائدة التفضيل هنا بيان أن هذا الشيء قد بلغ الغاية في العدل؛ لأن هذا جِيءَ به باسم التفضيل، ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ﴾، هل أخذنا الجملة التي بعدها؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: له أب فإنه يُدْعَى بأُخُوَّة الدين، والولاية في الدين؛ لقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ [الأحزاب ٥]، أما كونهم إخوانًا لنا في الدين فظاهر، وأما كونهم موالي فإن كان عتيقًا للمرء فهو مولى له بالعتق، وإن لم يكن عتيقًا فهو مولى له في الدين؛ لأن المؤمنين كما قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ﴾ [التوبة ٧١]، فهم إخوانكم ومواليكم، فتدعوه بـ: يا أخي، لو قلت: يا ابن أخي، يصح؟ يصح.
المؤلف يقول: (﴿وَمَوَالِيكُمْ﴾: بنو عمكم)، فجعل الولاية هنا ولاية النسب وليست ولاية الدين، لكن في النفس من هذا من الشيء، فالولاية إما ولاية دين وإما ولاية عتق، فأما ولاية العتق فواضح أن العتيق مولًى لمن أعتقه، وأما ولاية الدين فظاهر أيضًا أن كل مؤمن وليٌّ لأخيه المؤمن، أما ولاية النسب كقوله: بنو عمكم، فهذه إن كانت اللغة العربية يأتي فيها مثل هذا التعبير فنحن نقبل ذلك؛ لأن القرآن عربي، ولا مانع من أن يكون للفظ الواحد عدة معانٍ إذا كانت لا تناقض بينها، الآن انتهى الوقت.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayahs_start":3,"ayahs":["وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا","مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلࣲ مِّن قَلۡبَیۡنِ فِی جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَ ٰجَكُمُ ٱلَّـٰۤـِٔی تُظَـٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَـٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِیَاۤءَكُمۡ أَبۡنَاۤءَكُمۡۚ ذَ ٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَ ٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ یَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ یَهۡدِی ٱلسَّبِیلَ","ٱدۡعُوهُمۡ لِـَٔابَاۤىِٕهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوۤا۟ ءَابَاۤءَهُمۡ فَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَمَوَ ٰلِیكُمۡۚ وَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحࣱ فِیمَاۤ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمًا","ٱلنَّبِیُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَ ٰجُهُۥۤ أُمَّهَـٰتُهُمۡۗ وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضࣲ فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ إِلَّاۤ أَن تَفۡعَلُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕكُم مَّعۡرُوفࣰاۚ كَانَ ذَ ٰلِكَ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَسۡطُورࣰا","وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مِیثَـٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحࣲ وَإِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّیثَـٰقًا غَلِیظࣰا","لِّیَسۡـَٔلَ ٱلصَّـٰدِقِینَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابًا أَلِیمࣰا"],"ayah":"ٱدۡعُوهُمۡ لِـَٔابَاۤىِٕهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوۤا۟ ءَابَاۤءَهُمۡ فَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَمَوَ ٰلِیكُمۡۚ وَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحࣱ فِیمَاۤ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق