الباحث القرآني
قال: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ [النمل ٢٠] ﴿الطَّيْرَ﴾ (أل) هذه للعهد أو لعموم الجنس؟
أقول: إنها للعهد؛ لأنها تعود على الطير المذكور.
﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾ [النمل ١٧]، وعلى هذا فيكون تفقّده للطير في نفس هذه المسيرة.
﴿تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ يقول: (تفقد الطير ليرى الهدهد الذي يرى الماء تحت الأرض، ويدل عليه بنقره فيها لتستخرجه الشياطين لاحتياج سليمان إليه للصلاة فلم يره)، هذا من كيس المؤلف.
يقول: ﴿تَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ لأجل يدور الهدهد، الهدهد (...)؟ يرى الماء تحت الأرض، ولو رأى الأنهار تجري تحت الأرض نقر بمنقاره، يعني قال: احرثوا هنا، ثم يأمر الشياطين فتحفر.
* طالب: ما الدليل؟
* الشيخ: الدليل أنها (...)، هذا من يقول هذا؟ بل إن تفقده للطير لأنه -كما سلف- كان عليه الصلاة والسلام منظمًا لجنوده، وتفقد أين ذهب؟ ولهذا ما قال: تفقد الهدهد أو الهداهد، بل قال: تفقد الطير كله؛ لأنكم تعرفون أن الطيور تسبح في الهواء، فقد يشذ منها شيء، فهو عليه الصلاة والسلام تفقدها لأجل تكميل التنظيم.
ثم إن قولهم أو دعواهم أن الهدهد يرى اللي تحت الأرض، هذا ما هو بصحيح، ادفن حب أنه خلى الهداهد تيجي هنا، تراها ولَّا ما تراها؟ ما تراها بالتأكيد، وهذا شيء إذا لم ترَ الحب القريب كيف ترى المياه البعيدة؟ المهم أن الهدهد مثل غيره ينحجب نور عينيه بالكثافة، ولا يرى شيئًا.
ثم إن سليمان عليه الصلاة والسلام ليس بحاجة إلى هذا، بل إن سليمان من هذه الناحية كغيره من البشر، إن وجد ماءً انتفع به، وإن لم يجد فإن الله تعالى ييسر له الماء بأي وسيلة.
قال: ﴿تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ ﴿مَا﴾: اسم استفهام، وهل الغرض منه الاستخبار أو الاستنكار؟
* طالب: الاستخبار.
* الشيخ: قيل: الغرض الاستخبار أنه يسأل سؤالًا حقيقيًّا، يقول: أين الهدهد؟ وقيل: إنه استنكار، والظاهر أنه لا وجه له؛ لأن الأصل في الاستفهام الاستخبار.
قال بعضهم: وفي الآية قلب، وأن التقدير: ما للهدهد لا أراه، ولكن هذا ليس بصحيح، بل الآية على ترتيبها، فهو يسأل، يقول: ليش أني ما أشوف الهدهد؟ هل هناك مانع منعني من رؤيته أو أنه كان غير موجود؟ ولذلك أضرب عن الأول وقال: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾، و(أم) هذه منقطعة، و(أم) المنقطعة -كما مر علينا عدة مرات- تكون بمعنى: (بل)، والهمزة يعني: بل أكان من الغائبين؟ وحينئذٍ أضرب عن الكلام الأول، وعرف أنه لا علة في بصره، وإنما العلة غيبة هذا الهدهد.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ فلم أره لغيبته، فلما تحققها قال: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا﴾ [النمل ٢١] تعذيبًا شديدًا.
﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ الجملة هذه مؤكدة بثلاثة مؤكدات؛ وهي: اللام الموطئة للقسم، والقسم قبلها مُقدّر. هذان اثنان، والثالث: النون، ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾.
ويقول: ﴿عَذَابًا﴾ قال المؤلف: (تعذيبًا)، إشارة إلى أن عذابًا اسم مصدر؛ لأن عذَّب مصدرها (تعذيبًا)، واسم المصدر منها (عذابًا)، نظيرها: كلَّم مصدرها (تكليمًا)، واسم المصدر منها (كلامًا). سلَّم (تسليمًا)، واسم المصدر (سلامًا).
لأعذبنه تعذيبًا شديدًا، ما هو الشديد على رأي المؤلف؟ بنتف ريشه وذنَبه ورميه في الشمس فلا يمتنع من الهوام، هذا شيء عجيب، تقدير هذا التعذيب بهذا الشيء على أي دليل؟ ولهذا بعضهم قال: إن هذا التعذيب الشديد اللي قاله المؤلف، هذا النتف، ويخلى بالشمس مسكين ما عنده ريش ولا شيء.
بعضهم يقول: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ أحبسه مع شيء ليس من جنسه، أحط الهدهد مع العصافير، يقولون: من أشد العذاب على الحيوان أن يحشر في غير جنسه، لو يُحطّ الآدمي مع الجن يتعذب، أو الجن مع الآدمي يتعذّبون، ولكن هذا أيضًا ما هو بصحيح؛ لأننا نشاهد الآن أن أشياء تُجعل مع أجناسها ولا تتعذَّب، واحد عنده مواشي بقر وغنم وإبل والغنم ضأن ومعز، مين بيسوي ذلك بحوش واحد ولا تتعذب؟
فالصواب: أن هذا التعذيب الذي قاله سليمان غير معلوم لنا، إنما هو عذاب شديد، والله تبارك وتعالى لم يبيّنه، ولكن يكفي أن نعرف أنه شديد، هذا واحد.
﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ لأذبحن هذه للتنويع؛ يعني إما هذا أو هذا.
وقوله: ﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ يقول: بقطع حلقومه، هذا صحيح، يعني (...) للذبح إما بقطع الحلقوم والمريء؛ يعني من عند الرقبة.
الثالث: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ بنون مشددة مكسورة، أو مفتوحة يليها نون مكسورة، ﴿لَيَأْتِيَنِّي﴾ هذه واحدة. ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِي﴾ ، شوف بنون مشددة مكسورة: (يَأْتِيَنِّي)، أو مفتوحة ويش المفتوحة؟
* طالب: بنون أن يأتي.
* الشيخ: بنون، لا، نون مشددة مكسورة، أو مفتوحة يليها نون مكسورة.
* طالب: والياء.
* الشيخ: إي، (يَأْتِيَنَّنِي)، هذه القراءة الثانية. ﴿لَيَأْتِيَنِّي﴾، ﴿لَيَأْتِيَنَّنِي﴾ . ويش الفرق بينهما؟
* طالب: الإتمام.
* الشيخ: إي، فيها نون وقاية، إما تُحذف أو توجد، وإلا نون التوكيد موجودة، نون التوكيد هي مشددة، لكنها إن حُذفت للوقاية كُسِرت نون التوكيد (يأتينِّي)، وإن لم تُحذف: (يأتينَّني)، فإنها تبقى مفتوحة.
هذا أمر ثالث، فتوعده سليمان بواحد من أمرين إلا إذا أتى بشيء، ﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ ببرهان بيِّن ظاهر على عذره.
(سلطان) كلمة سلطان ترد كثيرًا في القرآن، ومعناها العام: هي السلطة التي يتمكن بها الإنسان من الوصول إلى غرضه، هذا معناها العام، السلطة التي يتمكن بها الإنسان من الوصول إلى غرضه، هذا السلطان، فتارة يكون المراد به الدليل، ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ﴾ [الصافات ١٥٦]، وتارة يُراد به القدرة: ﴿لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن ٣٣]، وتارة يُراد به البينة مثل هذا.
قوله: ﴿لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ يعني ببينة على عذره، والمعنى العام للسلطان ويش قلنا؟ السلطة التي يتمكن بها الإنسان أو صاحبها من الوصول إلى غرضه، سواء كان ذلك دفاعًا عن نفسه أو إثباتًا لأمر.
وقوله: ﴿مُبِينٍ﴾ فسّرها المؤلف ببيّن، ولا تصلح بمعنى (مُظهِر)، يعني ما تصلح متعدية؛ لأن المؤلف الآن فسرها بأنها لازمة، تصلح أيضًا متعدية، يعني بسلطان مُظهِر لعذره، ونحن إذا فسّرناها بهذا نكون أخذنا بالتفسير الذي فسر به المؤلف وزيادة.
﴿فَمَكَثَ﴾ بضم الكاف وفتحها؛ مكَث ومكُث، والفاعل مَنْ؟ الهدهد، ويحتمل أن يكون الفاعل سليمان؛ يعني: بقي غير بعيد؛ أي: يسيرًا من الزمان وحضر لسليمان.
قوله: (وحضر لسليمان) ويش الدليل عليه؟
* طالب: بحضرته.
* الشيخ: لأنه قال: إنه غائب في الأول: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾، والغائب ما يُخاطب إلا إذا حضر، ولكن قول المؤلف: متواضعًا برفع رأسه وإرخاء ذنبه وجناحيه، هذا من الأمور اللي ما ندري عنها.
* طالب: الظاهر المؤلف كان معه!
* الشيخ: إي، كأنه معه؛ يعني الهدهد جاء ووقف، ورفع رأسه، ونزَّل ذنبه وجناحيه.
* طالب: لا، هذا استنباط من الطيور المشاهدة.
* طالب آخر: فيها تقدير يا شيخ في المعنى.
* الشيخ: بس ما يمكن أن نقول هذا أبدًا، ما يمكن نصف كيف جاء، إنما يكفينا أن نقول ما قال الله تعالى في القرآن، ونحن ذكرنا قبل قاعدة: كل ما سبق فإنه لا طريق لنا إلا العلم به إلا من طريق الوحي: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم ٩] ما من طريق إلا الوحي؛ إما في القرآن أو في السنة الصحيحة.
﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ [النمل ٢٢]. ﴿أَحَطْتُ﴾ يعني: يتكلم عن نفسه. ﴿أحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ يخاطب من؟
* طالب: سليمان.
* الشيخ: سليمان، وفي الحقيقة أن هذا الهدهد قوي له ضلوع قوية جدًّا كما يقولون، كيف يخاطب سليمان وله هذا الملك العظيم ويقول: ﴿أحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾، ما قال: بما لم تحيطوا به، ما جاء بصيغة التعظيم، ونحن الآن بشر ونخاطب بعض الأحيان المدير ولَّا من فوقه، ونقول مثلًا: أنتم، سيادتكم، ولَّا سعادتكم، ولَّا حضرتكم، (...) أكبر من اللازم، من أنه مثلًا بشر، وكل هذه في الحقيقة كل هذه من الأمور الشكلية التي لا تنبئ عن شيء ولا تنبغي أيضًا، الصحابة يخاطبون الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب، وهو أشرف عندهم من كل بشر، وكذلك الخلفاء الراشدون ما كانوا يُخاطبون بمثل هذا.
ومن عجب الأمة أن بعض هؤلاء الذين يخاطبون بمثل هذه الألقاب تجد قلوبهم تغلي على هؤلاء المخاطَبين، فيكون هذا الخطاب كأنه تهكُّم بهم، ولو أن الناس تخاطبوا فيما بينهم على خطاب عادي، هذا الهدهد ويش مقامه مع سليمان؟ جند من جنده الأضعفين، ومع ذلك يقول بهذه الصراحة: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾، وهذا أول ما كلّمه بعد، على طول، لكن في الحقيقة إنه فيه نوع من الأدب، ما قال مثلًا: أنت جاهل ولا تعرف، وأنا عرفت ودورت ولقيت شيئًا ما تدري عنه، بل قال: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ يعني لأجل أن يعرف سليمان قدره، وأنه ليس محيطًا بكل شيء، فهذا الهدهد صار أشد إحاطة منه، والإنسان البشر ضعيف في كل شيء، حتى ما أحد علمنا كيف نقبر موتانا إلا؟
* طالب: الغراب.
* الشيخ: إلا الغراب مما يدل على أننا لسنا بشيء في الواقع.
﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ يشبهها قول إبراهيم لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ [مريم ٤٣] ما قال: يا أبتِ إنك جاهل، وهذا من اللطافة في الأسلوب، هنا قال: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ والكلمة شديدة؛ أي: اطلعت على ما لم تطلع عليه.
﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ [النمل ٢٢، ٢٣] إلى أن قال: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النمل ٢٧] سليمان قابله بعد (...)، وأكّد الخبر، ﴿جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾، ومع ذلك قال له: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾.
هذا بعد صدمة على الهدهد؛ لأن الهدهد كان متيقنًا، ومع ذلك قيل له: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، ليش قال سليمان هذا مع أنه يقول له: بنبأ يقين؟
لأن حقيقة الأمر أن كلام الهدهد في مقام الدفاع عن نفسه، مدافع؛ لأنه متوعَّد بالعذاب الشديد أو بالذبح، أو بخبر بسلطان مبين، فهو لما كان في مقام الدفاع احتاج أن يتثبت هذا ببينة، وقد وقع مثل ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، استأذن عليه أبو موسى ثلاث مرات ثم انصرف، فلما (...) في ذلك قال: هكذا أمرنا رسول الله ﷺ، قال: ائت ببينة على ما تقول مع أن أبا موسى صحابي ثقة، ما يمكن يتقوَّل على الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن المقام يقتضي؛ ويش يقتضي؟ زيادة التثبت؛ لأن الإنسان قد يفهم من النص ما ليس مرادًا، فلذلك طلب عمر من أبي موسى أن يأتي بشاهد.
هنا هذا الهدهد، سليمان عليه الصلاة والسلام مع أنه قد تيقن له الخبر؛ يقول: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، ثم أعطاه آية وقرينة: ﴿اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ [النمل ٢٨]. والقصة في الحقيقة عظيمة جدًّا فيها فوائد كثيرة.
﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ﴾ يقول: ﴿مِنْ سَبَإٍ﴾ بالصرف وتركه بالصرف ﴿مِنْ سَبَإٍ﴾، وتركه: (من سبأَ) كذا؟
* طالب: لا، عكس.
* الشيخ: عكس؟!
* الطالب: (مِنْ سَبَأَ) هذا ممنوع من الصرف.
* الشيخ: إي، هذا عدم الصرف، صح، و﴿مِنْ سَبَإٍ﴾ هذا الصرف، (مِن سَبَأَ) جُرَّ بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف و﴿مِنْ سَبَإٍ﴾ جُرَّ بالكسرة؛ لأنه اسم ينصرف، على أي اعتبار جعلناه إما مصروفًا أو عدمه؟
قال: قبيلة باليمن سميت باسم جد لهم باعتباره صُرف (...).
* * *
معناه لأن يعلم أهل الكتاب، فزيدت اللام توكيدًا؛ فالمؤلف يرى أن هذه الآية مثل الآية التي ذكرها شاهدًا لها وهي زيادة (لا)، ويرى آخرون من المفسرين خلاف ما رآه المؤلف، ويقولون: ﴿فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ انتهت الجملة، وأن قوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ [النمل ٢٥] بمعنى: هلَّا يسجدوا، وأنها للتقدير، ولكن هذا التقدير فيه إشكال أيضًا، وهي حذف النون من الأفعال الخمسة بدون ناصب ولا جازم؛ لأن (ألا) لا تنصب ولا تجزم.
وإذا قلنا: إن يسجدوا أن (ألا) للتحضيض، وهي لا تنصب ولا تجزم، ونظرنا إلى ﴿يَسْجُدُوا﴾ وجدنا أن فيها حذف النون نصبًا أو جزمًا، وهنا ليس فيه ناصب ولا جازم، فهو محل إشكال، ولكن الجواب عن هذا قد يكون سهلًا؛ لأن حذف نون الأفعال الخمسة لغير ناصب ولا جازم جائز، ووارد في اللغة العربية، ومنه قول النبي ﷺ: «وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا»[[أخرجه مسلم (٥٤ / ٩٣)، وأحمد في المسند (١٠٦٥٠) من حديث أبي هريرة واللفظ لأحمد.]].
«لَا تَدْخُلُوا» (لا) نافية ما تنصب ولا تجزم، ومع ذلك حُذفت النون، ولم يقل: لا تدخلون الجنة.
فالجواب على هذا أن يقال: إن نون الأفعال الخمسة قد تُحذف بدون ناصب ولا جازم لا سيما في مثل هذا التعبير: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ الدال على التحضيض، فإن حذف النون هنا يسهّله وجود هذا الحرف السابق للفعل.
وعلى كل حال، إذا كانت على تقدير المؤلف؛ فإن هذه الجملة بالنسبة لما قبلها كالمؤكدة، لما قال: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [النمل ٢٤] هذا يقتضي ألَّا يهتدوا إلى الحق وإلى أن يسجدوا لله سبحانه وتعالى.
وأما على القول الثاني: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ أن ﴿أَلَّا﴾ للتحضيض؛ بمعنى: هلّا، فإنه يدل على أن الهدهد انتقدهم بهذا الفعل، وبين أن الأولى بل الأوجب أن يكون السجود لله سبحانه وتعالى، وتكون الجملة منفصلة عما قبلها.
وقوله: ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات.
﴿فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ويعلم ما يخفون في قلوبهم وما يعلنون بألسنتهم.
﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ ﴿الْخَبْءَ﴾ بمعنى (المخبوء) كما قال المؤلف، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول، والمصدر بمعنى اسم المفعول وارد في اللغة العربية كثيرًا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ﴾ [الطلاق ٦] أي: محمول؛ لأن الحمل فعل المرأة، وأما المحمول فهو الجنين، وكذلك قوله: ﴿وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق ٤]، ومنه قول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٩٧)، ومسلم (١٧١٨ / ١٨) من حديث عائشة، واللفظ لمسلم. ]]؛ أي: مردود.
ومنه أيضًا قول الله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [لقمان ١١].
﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾ أي: مخلوقه وليس فعله، فالخبء هنا بمعنى المفعول، قال: من المطر، هذا باعتبار المخبوء في السماء، والنبات؟
* طالب: المخبوء في الأرض.
* الشيخ: هذا المخبوء في الأرض، فالله تبارك وتعالى هو الذي يخرج ما في هذا وما في هذا، في السماوات والأرض ويعلم ما يخفون في قلوبهم وما يعلنون بألسنتهم، ولم يُشر للمؤلف إلى القراءة الثانية، وهي سبعية في قوله: ﴿يُخْفُونَ وَيُعْلِنُونَ﴾ ، فإن الذي في المصحف قراءة عاصم ما هي؟
* طالب: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾.
* الشيخ: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ يخاطب بذلك سليمان.
وقوله: (ما تخفون في قلوبكم وما تعلنونه بألسنتكم) فيه نظر تقييده بالألسنة، لو قال: بألسنتكم وجوارحكم؛ لأن ما يُفعل بالجوارح معلن، كما أن ما ينطق به في اللسان مُعلن أيضًا.
﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾، وهذان الوصفان إخراج الخبء والعلم بما يخفي العبد وما يعلنه لا يكون لأحد من المخلوقين، لا للشمس ولا لغير الشمس، وإنما ذلك خاص بالله تبارك وتعالى، ولهذا جعله الهدهد جعله من الأسباب التي تستلزم أن تكون العبادة لله وحده؛ لأنه العالم بها، ولا يمكن يؤتى بوصف يستلزم العبادة إلا إذا كان خاصًّا بالله؛ لأنه يؤتى بهذا الوصف استدلالًا على بطلان عبادة ما سواه، ولو كان من ما يمكن أن يكون لله لم يكن ذلك دليلًا على اتصاف الله تعالى بالعبودية؛ إذ قد يقول العابد للشيء: وهذا وصف أيضًا موجود في معبودي فأنا أعبده.
فالمهم أنه لا يمكن أن تُقام الحجة إلا بدليل خاص في المحتج له؛ يعني بمعنى أنه ما يمكن أن تقوم الحجة بأن العبادة لله وحده إلا بوصف أيش؟
* طالب: خاص.
* الشيخ: خاص بالله، لأنك لو احتججت بوصف يكون لله ولغيره لكان العابد لغير الله يقول: وهذا وصف أيضًا ممكن بمعبودي، فلا يدل على أنه مما يختص به الله سبحانه وتعالى.
قال: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل ٢٦] استئناف جملة ثناء مشتمل على عرش الرحمن في مقابلة عرش بلقيس، وبينهما بون عظيم.
يقول هذا الهدهد: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، وهذه كلمة التوحيد، والمؤلف يقول: (إنها جملة استئنافية للثناء على الله تبارك وتعالى بما لا يكون لغيره)، فالأول ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿وَيَعْلَمُ﴾، هذا يتعلق بتوحيد الربوبية.
والثاني: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ بتوحيد الألوهية؛ أي: لا معبود سواه، لكن لا معبود بحق، إذ هناك معبودات سوى الله سبحانه وتعالى بغير حق، فإذن: أثنى على الله سبحانه وتعالى بصفة الربوبية وبصفة الألوهية، وربما نقول أيضًا: وبصفة الأسماء والصفات؛ لأن توحيد الربوبية مستلزم للأسماء والصفات؛ إذ إن التصرف في الخلق والتدبير والعلم كل هذا من الصفات.
قال: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ ﴿رَبُّ﴾ بمعنى صاحب ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: صاحبه، كما تقول: رب الدابة؛ أي: صاحب الدابة.
وقوله: ﴿الْعَرْشِ﴾ هذه (أل) للعهد الذهني؛ أي: العرش المعهود في أذهان الخلق العظيم، بخلاف عرش بلقيس، ولهذا قال: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ وهنا قال: ﴿الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ بـ(أل)، والتعبير ظاهر جدًّا في الفرق بينهما؛ لأن عرش نكرة، والعرش معرفة، فدل ذلك على أن هذا العرش عرش عظيم معلوم مفهوم في الأذهان، بخلاف الأول.
ويقول المؤلف: (إنه قاله في مقابلة عرش بلقيس) نعم، هذا صحيح، يعني واضح أنه قال لأجل أن يبين أن صاحب العرش العظيم هو المستحق؛ لأن يكون مالكًا، وأما هذه الملكة فإن لها عرشًا وليس لها العرش، فقال: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ﴾ يقوله سليمان، والسين -كما مر علينا- تدل على؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، تدل على التحقيق مع التراخي، لكنها تدل على التحقيق. ﴿سَنَنظُرُ﴾ أي: معناه أن نظرَنا هذا محقق، لكنه سيكون له مقدمات، فهي تدل على التأكيد.
﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ﴾ ولم يقبل كلامه من أول الأمر، لماذا؟ خشي أن يكون أتى بذلك دفاعًا عن نفسه، ونظير هذا ما سلكه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري حين استأذن ثلاثًا وانصرف، ثم حدثه أن النبي ﷺ أمر بذلك، فطلب منهم أن يشهدوا له.
فهنا يعني التُّهم أو عدم الثقة في القول لها أسباب؛ من جملتها: أن يكون المخبر على هذا الوصف يتضمن إخباره دفاعًا عن نفسه، فهنا مهما كان من الثقة تجد أنك تتردد في قبول هذا الخبر.
* طالب: سؤالي يا شيخ هو قوله: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ مع قوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ ما يقتضي مما قدم (...) كونهم لا (...)؟
* الشيخ: لا؛ لأن معنى قوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ يجب أن يفرد الله تعالى بالسجود (...) فيكون مناط الذنب كونهم يُخصِّصون الشمس بالسجود، وكذلك أيضًا لو أشركوا بها مع الله، (...) لهذا ولهذا؛ لأنه ما يمكن يزول الذنب إلا إذا خُصِّص السجود لله وحده.
* طالب: يا شيخ، قراءة: ﴿أَلَا يَا اسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ (...).
* الشيخ: قراءة قد تكون (ألا) أيضًا افتتاحية؛ لأن (يا) حرف نداء، والمنادى محذوف؛ يعني: ألا يا قوم اسجدوا لله، أو تكون (يا) للتنبيه، نظيرها قوله تعالى: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ [يس ٢٦]، ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ﴾ [النساء ٧٣] فإن (يا) هذه إما أن تكون للتنبيه؛ لأنها لا تدخل على الأفعال ولا على الحروف، وإما أن تكون للنداء والمنادى محذوف.
* طالب: سبعية؟
* الشيخ: ما أعرف ولَّا من الشواذ؟ قال: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾.
﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ﴾ فيما أخبرتنا به، ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾؛ أي: من هذا النوع، فهو أبلغ من أن كذَبْت فيه.
﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِين﴾ صريح؛ الأول أنه فعل، وهنا قال: ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾؛ أي: من هذا النوع، فهو أبلغ من أن كذبت؛ لأنه يدل على الوصف الدائم؛ من الكاذبين، فهو أبلغ من قوله: أم كذبت؛ لأن أم كذبت فعل، والفعل قد يكون مرة، لكن ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ هذا وصف يدل على استمرار الكذب فيه، هذا ما قرره المؤلف، وعندي أن فيه لباقة في تعبير سليمان للهدهد؛ لأن مصارحته ومقابلته بقوله: أم كذبت أشد وقعًا من قوله: ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، أشد؛ يعني معناه: أم كنت من الكاذبين أهون مما لو قال: أم كذبت، فهي في الحقيقة من جهة أشد في النظر إلى أن قوله: ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ وصف لازم، ومن جهة المخاطبة أهون من قوله: أم كذبت، فهذا وجه الاختلاف بين قوله: ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِين﴾.
يقول: ثم دلَّهم على الماء فاستُخرج وارتووا وتوضؤوا وصلوا، ثم كتب سليمان كتابًا صورته: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين، ثم طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد: ﴿اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا﴾.
كل هذه من (...) التي لا دليل عليها في القرآن، كونه دلّهم على الماء فاستخرجوه وارتووا، وتوضؤوا، وصلّوا أيضًا ما فيه..
* طالب: عودًا على بدء.
* الشيخ: وين؟
* الطالب: لأن (...) قرر في أول الأمر أنهم طلبوا (...).
* الشيخ: إي، تفقده لذلك، لا، بل لأنه يعلم محل الماء، ولكننا نقول: هذا لا دليل عليه، ولا يجوز لنا أن نعتقده، ولا أن نكذّبه، هذا إذا صح عن بني إسرائيل من بعد أيضًا؛ لأن فيه آفة، (...) بيننا وبين بني إسرائيل، من رواه عن بني إسرائيل؟ فإذا صح عن بني إسرائيل، وأنه مما حدثوا به هذه الأمة نقول فيه: إنه لا يُصدق ولا يُكذب؛ لأن ما فيه شيء يعارض كتابنا، ولا في كتابنا ما يؤيده، وإلا لو كان في كتابنا ما يؤيده قبلناه، ولو كان في كتابنا ما يعارضه رددناه.
* طالب: يا شيخ، قوله: ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، هل يحق لسليمان أن يصفه بمجرد الفعل هذا وصفًا مطلقًا؟
* الشيخ: لا، هو من الكاذبين الذين من دأبهم الكذب، ما وصفه، فكون هذا من الكاذبين إما أنه من دأبه الكذب، أو في جملتهم، وقد يكذب مرة واحدة، وهو أيضًا ما وصفه، هو ما وصفه؛ لأن قوله: ﴿أَصَدَقْتَ﴾ مقابل لقوله: ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، فلا يُعلم هل يكون متصفًا بقوله: أصدقت، أو بقوله: أم كنت من الكاذبين، ما وصفه، متردد ينظر.
* طالب: لا، لو ثبت، هل يحق أن يوصف؟
* الشيخ: لا، ما يحق أن يُوصف بأنه من الكاذبين المتصفين بها دائمًا، ولكنه -كما قلنا- هذا من باب التلطّف في الخطاب.
* طالب: إذن هذا يكون الأرجح؟
* الشيخ: هو أرجح، وكل واحد له وجه، يعني أصلًا ما بينهم تعارض حتى نقول بالترجيح، ما بينهم تعارض، فكونه من الكاذبين، هذا أشد إذا كان وصفه الكذب، وكونه لم يخاطبه قال: أم كذبت، يكون أهون، مثل قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام للضيوف: ﴿سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ﴾ [الذاريات ٢٥] ما قال: أُنكركم، لا أعرفكم، بل قال: ﴿سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ﴾، فهذا من باب التلطّف في التعبير.
قال: ثم قال للهدهد: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل ٢٨].
إذا قال قائل: قوله: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا﴾ يقتضي أنه صدقه، فهل هذا صحيح، أو هذا اختبار له؟
لأن قوله: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ﴾ ويش يدل عليه؟ على أنه صدَّقَه في ذلك، ولهذا كتب لهم، أو يقال: هذا من جملة الاختبار؟
يعني أنه إذا كان كاذبًا فسيقول: ما فيه أحد، ما وجدت أحدًا مثلًا، فيكون هذا من جملة وسيلة الاختبار العائدة على قوله: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ﴾.
وقد يقال: إن قوله: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ﴾ أن في الآية تقديرًا، فنظر وتحقق صدقه فأعطاه الكتاب، هو الآن الله أعلم بما جرى، فإما أن يكون هذا الكتاب من جملة اختباره، مثل ما لو أخبرك إنسان بخبر تقول مثلًا: روح جب لي منه ذكرًا، لو قال مثلًا: تباع السلعة الفلانية الآن في السوق، قلت: يا الله! ها جاء (...) خذ روح جب لي مثلًا منها شيئًا، ويش (...).
* طالب: أتحقق.
* الشيخ: أختبر هل هو صحيح ولَّا لا؟ وإن كان ظاهرًا فعلي لما أعطيته الفلوس ليشتري ظاهر فعلي أنني؟
* طالب: صدقته.
* الشيخ: صدقته، لكن قد يكون هذا من وسائل الاختبار.
فالحاصل إذا كان سليمان عليه الصلاة والسلام تحقق هذا الأمر، ثم أرسل بالكتاب فالأمر ظاهر، ولكن ليس في القرآن ما يدل على ذلك، فنقول: إن إعطاءه الكتاب من جملة الوسائل التي تبين صِدْقه.
وقوله: (﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا﴾ أشار إليه للتعيين؛ لأن سليمان يكتب لهم ولغيرهم، ولكنه عين الكتاب الذي كتبه لهم. ﴿فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ﴾ أي: بلقيس وقومها. ﴿ثُمَّ تَوَلَّ﴾ انصرف عنهم وقف قريبًا. ﴿فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ يردون من الجواب، فأخذه وأتاها وحولها جندها، وألقاه في حجرها، فلما رأته ارتعدت وخضعت خوفًا، ثم وقفت على ما فيه، ثم قالت لأشراف قومها: يا أيها الملأ).
ذهب به الهدهد فألقاه إليهم؛ أي: طرحه بين أيديهم، وتولى عنهم كما أرشده سليمان، ولكن هذا التولّي ليس بعيدًا بدليل قوله: ﴿فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾، فإن قوله: ﴿فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ يدل على أن هذا التولي يكون قريبًا منها، وفيه من الفوائد ما يأتي إن شاء الله.
ثم ﴿فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ أخذت الكتاب وقرأته، ثم قالت لأشراف قومها: ﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ﴾ [النمل ٢٩]، والملأ كما بين المؤلف: هم الأشراف، وهنا نادتهم: يا أيها الملأ، إشارة إلى علوّ مرتبتهم في دولتها؛ لأن ﴿يَا أَيُّهَا﴾ ما تكون إلا للبعيد، ما قالت: يا ملأ، بل قالت: ﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي﴾ بتحقيق الهمزتين الملأ إني، وتسهيل الثانية بقلبها واوًا، ﴿المَلَأُ وِنِّي﴾ بقلبها واوًا مكسورة؛ لأنه إذا جاءت الهمزة بعد الضم جاز أن تقلب واوًا، قاعدة في اللغة العربية، ومنه قول كثير من المؤذنين: (الله وكبر)؛ لأنه يجوز: الله أكبر، ويجوز: (الله وكبر)، فالهمزة إذا وقعت بعد ضم يجوز أن تُسهل إلى واو، وعلى حسب الحال: إن كان يقتضي الكسرة كُسرت، أو يقتضي الضم ضُمت أو الفتح.
قال: (بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية بقلبها واوًا مكسورة، ﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩] مختوم).
يعني: فسّر الكريم بالمختوم؛ يعني لأن ختمه دليل على أهميته، فالكتب والرسائل المختومة يعتنى بها، وحتى الآن إذا كان الشيء مهمًّا تجده يُختم بالشمع وما أشبه ذلك لئلا يُزوّر، ولكن تفسير الكريم بالمختوم ما هو بصحيح؛ لأن الختم دليل على كرمه، وليس هو معنى كرمه، فالكريم معناه المتضمن للمعاني العظيمة المؤثِّرة.
وفي قولها: ﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ﴾ ما قالت: ألقى الهدهد؛ لأن الظاهر أنه مر هكذا، ثم حذفه عليها، وليس معناه: أنه جاء ووقف بين يديها وأعطاها الكتاب، وهذا ربما يكون أبلغ في الهيبة أنه يعطيها وهو ماضٍ، بخلاف ما لو وقع بين يديها فإنه لا يكون هيبة، على أنه لو وقع بين يديها فمقتضى كونه هدهدًا أن تُمسكه، ولكنه ألقاه إلقاءً.
﴿إِنَّهُ﴾ أي: الكتاب. ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ ولم تنسبه إلى أبيه؛ لأنه كان معروفًا ومعلومًا عندهم؛ أنه عليه الصلاة والسلام رسول أعطاه الله تعالى من الملك ما لم يعطه غيره.
﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: مضمونه. ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل ٣٠، ٣١]، ولا فيه السلام على من اتبع الهدى ولا أما بعد، كما قال المؤلف.
* طالب: ويش (...)؟
* الشيخ: يمكن أنه من أخبار بني إسرائيل أو على العادة في الكتب، إنما سليمان أتى بأدنى ما يمكن فهمه والمقصود منه. ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ لكن قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ هل إن سليمان قال: من سليمان إلى بلقيس ولَّا لا؟
* طالب: هو أخر..
* الشيخ: لا، ما قال ذلك، ولكنه لعلها فهمته إما بتوقيع أو بكتابة على الظرف إن كان هناك ظرف، وإلا صُلب الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. هذا صلبه، وهذا هو الظاهر؛ لأنه لا يمكن أن يبدأ سليمان عليه الصلاة والسلام بقوله: من سليمان بسم الله الرحمن الرحيم، بل سيبدأ بأيش؟
* طالب: بالبسملة.
* الشيخ: بالبسملة قبل، فلما لم يذكر الله إلا البسملة دل هذا على أنه لم يأتِ بقوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾، ولكنه لا بد أن يكون في الكتاب ما يشير إلى ذلك، وإلا لما فهمته.
وقوله: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ المقصود: الخضوع لي؛ يعني: معناه ذُلُّوا لي؛ لأنهم هم ما كانوا يعلون عليه حتى يقول: ألا تعلوا علي، وإنما أراد أن يأتوا إليه أذلة مسلمين، لله ولّا له؟ المراد: مسلمين لله، ولَّا مسلمين له أي مستسلمين؟
* طالب: مسلمين له.
* الشيخ: فيه احتمال أنهم مسلمون لله، أو مستسلمون لي، ولكن هل يلزم من إتيانهم مستسلمين له أن يكونوا مسلمين لله؟
* طالب: ما يلزم.
* الشيخ: ما يلزم، لكن يلزم من كونهم مسلمين لله أن يستسلموا له، وأن يأتوا مطيعين غير مخالفين، ثم قالت: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾ إلى آخره [النمل: ٣٢].
(...) الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة؛ أولًا: سرعة رجوع الهدهد إلى سليمان، مما يدل على أن جنود سليمان يهتمون بشؤونهم، ولا يتأخرون عن أعمالهم؛ لقوله: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾.
* ويستفاد منها أيضًا: أن سليمان وإن كان قد أعطي ملكًا عظيمًا لم يعطه أحد؛ فإنه لا يحيط بكل شيء، فهو على سعة ملكه وقوته لا يحيط بكل شيء، فغيره من باب أولى.
* فيستفاد منه -الفائدة الثالثة-: وهي ضعف إدراك المرء -الإنسان- مهما بلغ من الملك ومن القوة، ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء ٢٨]، فإن هذا يبيِّن الإنسان ضعف الإنسان، ضعيف.. في كل شيء، في القوى العقلية والقوى الجسمية وكل ما يمكن أن يوصف بالقوة والضعف فإن حال الإنسان فيه الضعف.
* ومن فوائد الآية: أنه يجوز أن يخاطب الرئيس بمثل هذا الخطاب، فيقال مثلًا: علمت ما لم تعلم، أو فعلت ما لم تفعل، ومثله قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه: ﴿إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ [مريم ٤٣].
* ومن فوائدها أيضًا: أنه ينبغي للمتكلم أن يؤكد الخبر للمخاطب عند الحاجة إليه؛ لقوله: ﴿بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾.
فإذا قال قائل: ما فائدة تأكيده له وهو مصدر الخبر؛ لأن التأكيد إنما يفيد إذا جاء من طرف آخر يكون شاهدًا للمخبِر، فأما نفس المخبِر فكيف يقال: إن في تأكيده للخبر فائدة؟
فالجواب: أن المقصود من ذلك: زيادة طمأنينة المخبَر؛ لأنه أيضًا يدل على أن له فائدة: أنك إذا أخبرك المخبِر بخبر قد تقول له: هل أنت متأكد؟ فيقول: نعم أو لا، فإذن: تأكيد المخبِر لخبره لا يقال: إنه لا فائدة منه؛ لأنه هو مصدر الخبر، بل نقول: فيه فائدة، وهي رفع توهّم المخبِر في خبره، فيرفع هذا التوهم ويطمئن المخاطب، ولهذا قيل: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾.
* وفيه أيضًا؛ من فوائد الآية: أن استعمال ضمير الجمع للمخاطب المعظَّم ليس بلازم، وليس من شأن أيضًا خطاب الأنبياء والسلف، أنه مثلًا عندما يكون الإنسان معظَّمًا يقول: أتيتكم، جئتكم، وما أشبه ذلك كما هو المعتاد الآن عندنا، عندنا إذا كان المخاطب معظَّمًا، يقال: كما تريدون مثلًا سعادتكم أو سيادتكم أو سماحتكم أو فضيلتكم أو ما أشبه ذلك، لا، هذا ليس معتادًا فيما سبق، وإنما يخاطب الإنسان بما تقتضيه الحال، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام يرد السلام على المسلِّم بقوله: «عَلَيْكَ السَّلَامُ»[[أخرجه البخاري (٦٢٥١) من حديث أبي هريرة.]]، إذا سلَّم عليه أحد يقول: «عَلَيْكَ السَّلَامُ»، وإذا كانوا جماعة يقال: عليكم السلام.
* الفائدة هذه الأخيرة: أنه من عادة السلف أنهم يخاطبون أو يتكلمون مع المخاطب بما تقتضيه الحال.
﴿إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ امرأة تملكهم، الضمير جمع، والعائد عليه الضمير جمع ولَّا مفرد؟
* طالب: لا، مفرد.
* الشيخ: وين؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ (هم) ضمير جمع، والعائد على الضمير مفرد ولَّا جمع؟
* طالب: جمع.
* الشيخ: وين؟
* طالب: (...).
* الشيخ: إي، جمع، لكن مرجع الضمير هو مفرد ولَّا جمع؟
* طالب: مفرد.
* الشيخ: وين؟
* طالب: (...).
* الشيخ: إي، لكن لما كان المراد به القبيلة صح أن يعود الضمير إليه جمعًا، وهذا سبق لنا الشرح، وقلنا فيها: (سَبَإٍ)، و(سَبَأَ) باعتبار القبيلة والجد.
* فيستفاد من هذه الآية: ﴿وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ أن المرأة لا تصلح للملك؛ لأنه ما قال: ملكة، بل قال: ﴿تَمْلِكُهُمْ﴾، والشارح المفسر تقدم أنه يقول: أي هي ملكة لهم، وأن الغرض من تفسير ﴿تَمْلِكُهُمْ﴾ بملكة خوفًا من أن يقال: إنها تملكهم ملك استرقاق لا ملك تصرف، والمرأة هل يصح أن تكون ملكة؟
لا، ففي شرعنا لا يجوز أن تُولَّى المرأة على الرجال، فلا يمكن أن تكون ملكة، ولا يمكن أن تكون أميرًا، ولا يمكن أن تكون وزيرة، ولا يمكن أن تكون قاضية، كل هذا لا يجوز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»[[أخرجه البخاري (٤٤٢٥) من حديث أبي بكرة.]].
* طالب: (...)؟
* الشيخ: هذا اسم فقط، اسم ما هو أميرة اسم، يعني: أنها من الأمراء، من عائلة الأمراء فقط.
* طالب: وسيدة؟
* الشيخ: وسيدة مثل الآن السيدة رقيقة، كل الحي يسمونها سيدة؛ كل الناس يسمونها سيدة، وهذه قد نبهنا عليها في ما سبق وقلنا: إن هذه متلقاة من الغرب الذين يقدّسون المرأة، وأن هذا ما ينبغي، ولهذا حتى بعض الكتَّاب تجدهم يقولون: السيدة عائشة، السيدة خديجة، هذا ما ينبغي، بل يقال: المرأة والأنثى، وأما السيدة فلا يصح هذا الإطلاق، لا سيما وأنه متلقى من غير (...).
* وفي هذا: دليل على سعة ملك هذه المرأة، بل عظمة ملك هذه المرأة؛ لقوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾، والمراد ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من مقومات الملك كما قال المؤلف المفسر.
* وفيها أيضًا دليل على أنها ذات أبهة؛ لقوله: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾، وأما وصف العرش بما ذكره المفسر فلا دليل عليه.
﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾.
* يستفاد من هذه الآية: أن هؤلاء القوم مشركون بالله؛ لقوله: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ﴾.
* وفيه دليل على أن الشمس معبودة من قديم الزمان؛ لأن هؤلاء في زمن سليمان، وما زال إلى الآن يوجد من يعبد الشمس، ومن يعبد النار، ومن يعبد القمر، بل ومن يعبد البقر.
* وفيه دليل على أن الخلق مفطورون على إنكار الشرك؛ لأن الهدهد أنكر عليهم شركهم، مع أن الهدهد ليس من العقلاء، لكن جميع الحيوانات بل والمخلوقات غير الحيوانات مفطورة على توحيد الله عز وجل ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء ٤٤].
* فيستفاد من هذه فائدة: أن المشركين شر البرية كما قال الله عز وجل، يعني: إذا كانت البهائم والجمادات تسبح الله وتعرف حقه وبنو آدم هؤلاء يشركون به؛ صاروا شر الخليقة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة ٦].
* وفيه دليل على أن الإنسان يُذمّ على فعله أو يُمدح على فعله؛ لأن الهدهد ساق ذلك على سبيل الذم، والغرض من ذكر هذه الفائدة: الوصول إلى أن فعل الإنسان باختياره؛ إذ لو كان مجبرًا عليه لم يصح أن يكون محلًّا للذم أو للمدح؛ لأن الذي يُجبر على العمل ما يُمدح عليه إن كان خيرًا، ولا يُذمّ عليه إن كان سوءًا، ولكنه هو فعله، فهو إذن.
* وفيه دليل على إبطال قول من؟ الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله؛ لأنه إذا كان مجبرًا لم يكن أهلًا للثناء بالخير أو بالشر.
* وفي هذا دليل على أن الأعمال السيئة من تزيين الشيطان؛ لقوله: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾، فكيف يُجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل ٤] فأضاف الله التزيين إليه، وهنا أضافه إلى الشيطان، وفي آية ثالثة: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ [التوبة ٣٧] مبني للمجهول، لكن هذه ما تعارض الآيات الأخرى.
* طالب: التزيين المباشر من الشيطان، لكنه بتقدير الله عز وجل.
* الشيخ: يضاف إلى الله تقديرًا وإلى الشيطان مباشرة.
إذا قال قائل: إن الأعمال السيئة تُزين للناس في رمضان وقد ثبت في الحديث أن الشياطين تُصفّد فيه وتُغل، ومع ذلك نرى أن كثيرًا من الخلق يزين لهم سوء الأعمال في رمضان..
على أن سبيل الله سبحانه وتعالى واحد؛ لقوله: ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [النمل ٢٤]، وسبيل الشر، بل سبل الشر متعددة؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام ١٥٣].
ولهذا قال العلماء: الإسلام مِلّة، والكفر مِلَل: يهودية، نصرانية، وثنية، مجوسية، إلى آخره، ملل؛ يعني سبلًا متعددة، وأما الحق فسبيله واحد.
فإذا قال قائل: كيف تقولون ذلك؟ وقد قال الله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة ١٦]، كيف الجمع؟
* طالب: (...).
* الشيخ: إي نعم، ولهذا أُضيفت إلى السلام ﴿سُبُلَ السَّلَامِ﴾ ما قال السبل: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ﴾ إذا قُيِّدت فهي على حسب ما قُيِّدت به؛ يعني يصلح أن تقول: سبل الخير، ويكون المراد بذلك الفروع الموصلة إلى الخير، فالإسلام كما أنه كله سبيل واحدة، فهو كذلك أيضًا ذو شُعب، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً»[[متفق عليه؛ البخاري (٩)، ومسلم (٣٥ / ٥٨) واللفظ له، من حديث أبي هريرة.]]، فهو ذو شُعب، فهذا معنى قوله: ﴿سُبُلَ السَّلَامِ﴾، ثم إنه مما يزيل الإشكال أنه أضيفت إلى السلام، فعُلم أن المراد بذلك فروع الخير.
* وفيه دليل على أن من صُدّ عن السبيل -والعياذ بالله- فإنه لا يهتدي إذا زُيّن للإنسان سوء عمله فصد بذلك عن السبيل، فإنه يقل أن يهتدي؛ لقوله: ﴿فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾؛ أي: لا يسجدون لله، وهذا هو البلاء أن الإنسان يرى القبيح حسنًا، فهذا لا يكاد يقلع، لكن من كان يرى القبيح قبيحًا فإنه يمكنه أن يُقلع، ولذلك تجدون الآن مثل هؤلاء الذين يتعاملون بالحيل؛ الحيل الربوية وغير الربوية من المحرمات ما يكاد أن يقلعوا عنها؛ لأنهم يرون أنهم على حق؛ ولذلك لا يقلعون، لكن من فعل القبيح وهو يعتقده قبيحًا فإنه يوشك أن يُقلع عنه، ولهذا قال: ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل ٢٤].
﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾ [النمل ٢٥] على تفسير المؤلف يجب أن يوصل قوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ بقوله: ﴿لَا يَهْتَدُونَ﴾؛ لأنها متعلّقة بالجهة مفعول؛ لأن التقدير: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا.
* وفيه دليل على أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة وحده؛ لقوله: ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [النمل ٢٥]؛ إذ لا أحد يستطيع ذلك إلا الله، ما أحد يستطيع أن يخرج المخبوء في السماوات وفي الأرض إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا كان كذلك فيجب أن تكون العبادة له وحده؛ لأنه الرب وحده فيكون المعبود وحده كذلك.
* وبالآية دليل: - ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ - دليل على سعة علم الله؛ لقوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾.
واستدل به الشافعي على ثبوت القدر، ثبوت العلم لله بأفعال العبد دليل على تقديره لها، ولهذا قال الشافعي في القدرية: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا.
وهذا صحيح؛ لأننا نقول: إذا كنتم تقرون بأن الله عالم بأفعال الخلق فهل وقعت هذه الأفعال على حسب علمه أو على خلاف علمه؟ على حسب علمه؛ لأنكم تقرون أنه يعلمه.
إذن فقد وقعت على حسب علمه، فإذا كانت وقعت على حسب علمه لزم أن تكون بتقديره، وإلا لكان يمكن أن تقع على خلاف علمه إذا كانت من تقدير العبد واستقلال العبد فإنه لا يلزم أن تقع على حسب علمه، وأما إذا أنكروا العلم فإنهم يكفرون؛ لأن إنكار علم الله سبحانه وتعالى كفر.
وعندنا أيضًا حتى إنكار تقدير الله سبحانه وتعالى كفر؛ لأن الآيات والأحاديث صريحة بأن الله تبارك وتعالى مقدّر لأفعال العبد فإنكارها تكذيب للقرآن والسنة، وهذا هو الكفر.
ولكنه رحمه الله -الشافعيَّ- أراد أن يلزمهم بأمر متفق عليه، وهو أن إنكار علم الله كفر.
فقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾.
* نستفيد بها -بناء على تقدير الشافعي رحمه الله- على إثبات تقدير الله سبحانه وتعالى لأفعال العبد.
* وفي هذه الآية: تحذير العبد من المخالفة علنًا أو سرًّا، كيف ذلك؟ لأنك إذا علمت بهذا الأمر؛ بأن الله يعلم ما تخفي وما تعلن، ويش يلزم من ذلك؟ ألَّا تخالفه، لا تقل: أبغي أفعل هذا المحرم لأن الله ما يدري، أو أترك هذا الواجب لأن الله لا يدري، بل الله سبحانه وتعالى يعلم.
والإنسان لو علم أن المعظم عنده يعلم بأفعاله لترك ما لا يرضيه، لو علمت مثلًا أن أباك أو الرجل الذي تحترمه يعلم بما تفعل، هل تفعل ما يخالف رضاه؟ ما تفعل، لا سيما إذا كان محبوبًا لديك ومعظّمًا، فإذا كان كذلك فالرب سبحانه وتعالى من باب أولى، ولهذا ينبغي لك كلما دعتك نفسك إلى معصية، بل إلى مخالفة لترك أمر أو فعل نهي يجب عليك أن تتذكر هذا الأمر أن الله سبحانه وتعالى يعلم مخالفتك.
فيلزم من هذا أن ترتدع، ولهذا جاء في الحديث وإن كان فيه نظر: «أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ»[[أخرجه الطبراني في الأوسط (٨٧٩٦)، وفي مسند الشاميين (٥٣٥، ١٤١٦) من حديث عبادة بن الصامت.]]؛ لأنك إذا علمت هذا العلم أوجب لك الاستقامة والثبات على الأمر.
﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا﴾ فيها قراءتان: ﴿مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ و﴿مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ .
أما على قراءة: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ على حسب تفسير المؤلف فالمناسب: ﴿مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ .
وأما على القراءة الثانية قراءة الكسائي: ﴿أَلَا يَسْجُدُوا﴾ -وهي سبعية- تناسب ﴿مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾؛ لأن (اسجدوا) فعل أمر، وفعل الأمر للمخاطب، فيقتضي أن الحالة التي بعده تكون للمخاطب أيضًا، يعني ألا يا قومي اسجدوا، وهو هنا لا يخاطب سليمان؛ لأن سليمان يسجد لله، لكنه لقوة استحقارهم ما كانت عليه ملكة سبأ خاطبهم بقوله: ﴿أَلَا يَسْجُدُوا﴾ .
* وفي هذا دليل على إثبات عرش الله؛ لقوله: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل ٢٦].
والعرش: هو أعلى المخلوقات، وهو غير الكرسي، وليس هو الْمُلك كما قاله منكرو العلو الذين يقولون: إن المراد بالعرش الملك، فيقولون: استوى على العرش؛ أي: استولى على الْملك، هذا لا شك أنه ليس بصحيح، والعرش معروف عند العرب وفي اللغة العربية بأنه سرير الملك الخاص به.
* وفيه: إثبات انفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية؛ لقوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، فإذا قال قائل: هذا النفي أو الحصر حقيقي، ولا إضافي؟
* طالب: إضافي بالنسبة..
* الشيخ: إذا قلنا: حقيقي، فهذا يلزم أن يكون (إله) ليس بمعنى بمعبود، والمعروف أن (إله) بمعنى معبود، إذا كان بمعنى معبود لزم أن يكون الحصر إضافيًّا، إذ هناك معبود سوى الله وهي الأصنام.
مثل معنى لا إله إلا الله؛ أي: لا معبود بحق إلا الله، وحينئذٍ يكون الحصر إضافيًّا، وإن جعلناه حقيقيًّا فإننا يمكن أن نقول: إن لا إله إلا الله: أن المراد بالإله: الإله المستحق؛ يعني لا إله مستحق إلا الله، ولكن هذا التقدير يعود على الأول.
واعلم أن الله سبحانه وتعالى سمّى الأصنام آلهة، سماها آلهة في قوله تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود ١٠١]، فأثبت أنها آلهة، وفي آية أخرى نفى أن تكون آلهة فقال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [يوسف ٤٠]، والجمع بينهما ظاهر؛ أن إثبات كونها آلهة باعتبار هؤلاء العابدين لأنهم يعتقدونها آلهة، ونفي أن تكون آلهة وإن هي أسماء باعتبار حقيقة الأمر فإنها ليست بآلهة تستحق أن تعبد، ولهذا نفى أن تكون آلهة؛ لأنها ليس لها حق في أن تعبد.
* طالب: وضّح يا شيخ معنى (لا إله إلا الله) في (...) الحصر الإضافي؟
* الشيخ: الحصر الحقيقي والإضافي إذا قلنا: إنه لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله صار حصرًا إضافيًا؛ يعني باعتبار أن يكون بحق فلا إله إلا الله، أما بحق وباطل فيوجد آلهة سوى الله، وحينئذٍ يكون الحصر إضافيًّا؛ يعني بالإضافة للإله الحق، وإذا قلنا: حقيقي؛ فهو باعتبار الواقع أنه لا يوجد إله إلا الله، وأن هذه الآلهة مجرد أسماء يكون الحصر حقيقيًّا باعتبار الحقيقة والواقع.
* الطالب: (...).
* الشيخ: مؤداهم واحد، ولهذا أثبت الله الآلهة مرة، ونفاها مرة أخرى.
قال: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل ٢٦].
* فيه: إثبات الربوبية لقوله: ﴿رَبُّ﴾ ورب بمعنى خالق ولَّا بمعنى صاحب؟
* طلبة: خالق؟
* الشيخ: بمعنى خالق، وهو أيضًا مختص به؛ إذ إن العرش لله سبحانه وتعالى وحده.
قال سليمان للهدهد: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النمل ٢٧].
* يستفاد من هذه الآية: أنه ينبغي التثبت بالخبر لا سيما عند قيام الشبهة، ولا لَّا؟ ما هي الشبهة القائمة هنا؟
* الطلبة: المدافعة يا شيخ.
* الشيخ: أن الهدهد قال ذلك مدافعة وإن كان بعيدًا؛ لأنه قال: ﴿جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل ٢٢]، لكن لما كان هذا مقام دفاع فإنه ينبغي أن يتثبت الإنسان أكثر، ولهذا قال: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النمل ٢٧]، ما هو قال: ﴿بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾، وقلنا: إن هذا نظير ما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري «حيث استأذن عليه ثلاثًا وانصرف، فلما عاتبه بعد ذلك قال: هكذا أمرنا رسول الله ﷺ فقال: هات من يشهد لك». فشهد له مَنْ؟ محمد بن مسلمة[[متفق عليه؛ البخاري (٢٠٦٢)، ومسلم (٢١٥٣ / ٣٦) من حديث أبي موسى الأشعري، ولم نقف فيه على شهادة محمد بن مسلمة، وإنما هو أبو سعيد الخدري. ]].
فمثل هذه الحال وإن كان خبرًا متيقنًا، لكن لا مانع من أن الإنسان يتثبت في ذلك.
* وفي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يكون لبقًا في تعبيره حتى لغير الآدمي؛ لقوله: ﴿أَصَدَقْتَ﴾ فصارحه هنا بلفظ: الصدق؛ لأن الصدق صفة محبوبة محمودة، وفي الكذب ما قال: أم كذبت، قال: ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، فتحاشى أن يصارحه بوصف الكذب.
مع ما في ذلك بالنسبة للقرآن الكريم من مراعاة الفواصل ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فإن هذه فيها مراعاة للفواصل.
وقول المؤلف: (إن هذا أبلغ من أم كذبت) هذا له وجه؛ لأن قوله: ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾؛ أي: من المتصفين بالكذب دائمًا؛ يعني ممن وصفه الكذب، وليس من كذب مرة واحدة كمن كان الكذب وصفًا له، فيكون العدول هنا عن أن كذبت له ناحيتان:
الناحية الأولى: أنه ألطف من التصريح بالمخاطبة بالكذب أو لا؟ واحد يكلمني أقول: هل صدقت أم كذبت؟ هذه أشد وطأة عليه من أن أقول: صدقت أم كنت من الكاذبين.
ومن جهة أخرى هي أشد حيث إنها تدل على اتصاف المخاطب بالكذب لا أنه وقع منه مرة واحدة، فالمؤلف راعى وجهًا، وترك وجهًا آخر؛ الوجه الثاني، والصواب: أنه في كلا الوجهين، مراعًى فيه الوجهان جميعًا.
﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ﴾ في هذا دليل جواز تعظيم الإنسان نفسه إذا كان أهلًا لذلك على أنه يحتمل أن يكون سليمان أراد أنه ينظر ذلك لمن يستعين به من جنوده، لا أنه يريد أن يباشر هو بنفسه ذلك.
﴿سَنَنْظُرُ﴾ هذه لا شك أنه للجماعة، فهل هي جماعة حقيقة أم من باب التعظيم؟
لأن المعظّم نفسه معناه أنه نزل نفسه منزلة الجماعة، نقول: هذا فيه احتمال، فإن كان سليمان عليه الصلاة والسلام أراد تعظيم نفسه فهو أهلٌ لذلك؛ لأنه ملك ورسول، وإلا فإنه يريد ﴿سَنَنْظُرُ﴾ بجنودنا وأعواننا ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، وإن كان لا يريد أن يباشره بنفسه.
فالملك والوزير والأمير ومن أشبههم إذا قالوا: سنفعل كذا، فإما أن يكون بأنفسهم فيكون ذلك تعظيمًا لأنفسهم أو بواسطة الجنود والأعوان فيكون هذا مراعاة للجمع.
وقال: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل ٢٨].
* في هذه الآية دليل على أن الحيوانات تعقل ما يوجّه إليها من الأمر والنهي والاختبار والفحص؛ لقوله: ﴿اذْهَبْ﴾ ﴿فَأَلْقِهْ﴾، ثم ﴿انْظُرْ﴾ و﴿تَوَلَّ﴾ كل هذه أوامر للهدهد مما يدل على أن الحيوانات هذه تعقل، ولكن ليس معنى قولنا: أنها تعقل أن تكون عاقلة من كل أحد، صحيحٌ أنها تعقل عقلًا محدودًا بالنسبة لعامة الناس، ولهذا تزجر البهيمة؟
* طالب: فتنزجر.
* الشيخ: فتنزجر، وتدعوها فتُقبِل، ولكنه ليس هذا كمثل تسخيرها لسليمان عليه الصلاة والسلام، فإن تسخيرها لسليمان أنها تنزل منه منزلة الإنسان العاقل الفاهم من كل وجه.
قال: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾.
* وفيه أيضًا دليل على أنه ينبغي تحسس الأخبار عند الحاجة لذلك، وهذا ما يسمى بالمتابعة؛ لقوله: ﴿فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ فإنه إذا تولى، وجعل ينظر لا بد أن تبين له الأخبار؛ لأنه لو أنه ما تولّى عنهم لو ألقاه، وبقي يمكن ما يتكلمون بالأشياء التي يتكلمون بها إذا كان غير حاضر لديه، لكن إذا تولى عنهم حينئذٍ وجدوا لأنفسهم مكانًا في الكلام على ما يريدون، هذا من السياسة؛ لأنك عندما تعمل عملًا فإنك تتحسس الأخبار، فلا تباشر هذا؛ لأنه ما يأتي على المطلوب، ولا تعرض عنه إعراضًا كاملًا؛ لأن معنى ذلك أنك ما تابعت ولا اهتممت بالأمر، فالإنسان ينبغي له كلما عمل عملًا أن يكون متابعًا له وأن يتحسس.
مثلًا افرض أنك أمرت أهلك بأمر أنت راعٍ عليهم أمرتهم بأمر هل أنت تترك هذا الأمر ولا تلاحظه؟ تلاحظه، ولكن لا تلاحظه وأنت حاضر عن مباشرة؛ لأنه في هذه الحال سوف ينفذوه، لكن تلاحظه وأنت بعيد حتى يتبين لك هل نفذوه أم لم ينفذوه، وهذه من السياسة التي ينبغي سلوكها لأجل أن يعرف الإنسان مدى تقبّل الموجه إليه الأمر من عدمه، ولهذا قال: ﴿أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾، وهذا هو الذي حصل.
* طلبة: (...).
* * *
* الشيخ: (...) في قصة ملكة سبأ لما جاءها الكتاب من سليمان عليه الصلاة والسلام قالت لقومها: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾ [النمل ٣٢]، الملأ: بمعنى الأشراف، وذلك أن الملوك والرؤساء يكون جلساؤهم غالبًا أشراف الناس فوجهت إليهم الخطاب، وقالت: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾.
وسبق ذكر الفائدة في قولها: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ دون قولها: يا ملأ، إظهارًا لعلوّ شأنهم حيث نودوا بمناداة البعيد.
(﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي﴾ بتحقيق الهمزتين) ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي﴾ هذا تحقيق الهمز.
(وتسهيل الثانية) بأي شيء؟ بـ(قلبها واوًا) ﴿الْمَلَأُ وفْتُونِي﴾ ، وهذا مبني على؟
* طالب: القاعدة.
* الشيخ: القاعدة اللغوية: أنه إذا ضم ما قبل الهمزة فإنه يجوز قلبها واوًا.
وقلنا: من فائدة هذه اللغة تصحيح أذان كثير من الناس الذين يقولون في أذانهم؟
* طلبة: (الله وكبر).
* الشيخ: (الله وكبر)، بل حتى الصلوات بعض الناس حتى في تكبيرة الإحرام يقول: (الله وكبر).
(﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي﴾ أي: أشيروا عليّ ﴿فِي أَمْرِي﴾ ) واحد الأمور، وليس واحد الأوامر؛ لأن المراد بالأمر هنا الشأن ﴿فِي أَمْرِي﴾.
(﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا﴾ قاضيته ﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ تحضرون)، وهذا من كمال ذكائها أنها أشارت الملأ حتى إذا نتج عن تصرفها شيء لا يُرضى يكون اللوم على من؟ على هؤلاء الملأ الذين أشاروا، ولا يجعلون اللوم عليها، ولهذا قالت: ما تقطع أمرًا حتى تشهدونها أو حتى يشهدوها.
وقولها: ﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا﴾؛ أي: قاضية له. ﴿أَمْرًا﴾ هذه نكرة في سياق أيش؟
* طلبة: النفي.
* الشيخ: النفي، فتكون للعموم، لكن المراد بذلك الأمر المتعلق بالدولة بلا شك، وأما الأمر الخاص فإن لكل إنسان التصرف فيه.
وكذلك قول الله تعالى للنبي ﷺ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران ١٥٩]، هذا الأمر إنما هو في الأمور العامة التي للجميع، وليس الرسول عليه الصلاة والسلام ولا غيره مأمورًا أن يشاور الناس في كل أموره حتى لو أراد أن يتغدى أو يتعشى ذهب يقول للناس: أيش تقولون؟ لا، الأمور العامة التي يشترك فيها الناس هي التي يُؤمر فيها بالتشاور.
وقولها: ﴿قَاطِعَةً أَمْرًا﴾ هذا أبلغ مما فسره به المفسر بالقضاء؛ لأن القطع يدل على الإمرة والعزيمة والفعل، بخلاف القضاء فقد يراد به الحكم فقط بدون أن يُفعل.
وقولها: ﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ فيها إشكال لغوي، وهو ثبوت النون مع أن (حتى) ناصبة، فما هو الجواب؟
* طالب: الظاهر أن (حتى) لها شروطها في النصب.
* الشيخ: الشروط تامة.
* الطالب: تامة الشروط؟
* الشيخ: إي، تامة الشروط.
* الطالب: (...) حتى الصبح.
* طالب آخر: ما يخالف يجوز ثبوت (...).
* الشيخ: لا (...).
* طالب: ما بعدها ناصب يا شيخ.
* الشيخ: لا، النون هذه للوقاية، ولذلك تجدونها مكسورة، أو لا؟
﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ لو كانت نون الرفع لقال: (تشهدونها)، فالنون هذه للوقاية، وما كنت أظن أنها تشكل عليكم، وأنا قلت: فيها إشكال لغوي، وأنا (...)؛ لأني ما أرى أنها تُشكِل؛ لأنها مكسورة.
ومثل هذا قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الذاريات ٥٩]، ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ إذا وقفت عليها فتسكن النون، فيظن السامع أن النون هنا ثبتت مع وجود النهي ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾، وهي مع النهي تحذف، ولكن النون هنا للوقاية؛ ولذلك إذا وصلت تقول: ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ [الذاريات ٥٩، ٦٠].
* طالب: (...).
* الشيخ: أيش لون؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: صرف آيات؛ يعني قصدك استنباط الفوائد.
* الطالب: (...).
* * *
* الشيخ: يقول الله عز وجل: (﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [النمل: ٣٣] أي أصحاب شدة في الحرب) (أولو) بمعنى أصحاب، وهي -كما مر علينا في النحو- ملحقة بجمع المذكر السالم وهي الآن مرفوعة بالواو نيابة من الضمة؛ أي: أصحاب قوة وبأس، والبأس بمعنى: الشدة والصبر.
(﴿بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾؛ أي: أصحاب شدة في الحرب)، فكأنهم يعرِّضون بالمشورة عليها بالقتال بأن تقاتل سليمان ويقولون: نحن مستعدون للقتال؛ لأننا أصحاب قوة وأصحاب بأس شديد.
القوة هنا هل مراد القوة الجسمية أو القوة المادية؟
* طالب: كلاهما.
* الشيخ: كلاهما؛ يعني فعندنا من قوة الجسم، وعندنا من قوة العدة ما نستطيع أن (...).
وهذا من التأدب معها مع أنها هي التي طلبت منهم المشورة مع ذلك ردوا الأمر إليها، ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ وهذا يدل على أنها كانت أهلًا؛ لأن يسند إليها الأمر وعلى أنهم كانوا يعظمونها تعظيمًا بالغًا.
(﴿فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ نا نطعك)، هل المراد بالنظر هنا الانتظار أو المراد التفكير في الأمر؟
المراد التفكير في الأمر؛ يعني فكّري في أمركِ ماذا تأمرين فتكون (ما) هنا استفهامية معلّقة عن عمل الفعل؛ لأنه إذا كانت الجملة استفهامية، فإن الفعل وإن كان ينصب مفعولًا أو مفعولين يكون معلقًا عن العمل، وتكون الجملة في محل نصب.
أجابت: (﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ بالتخريب ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ -يعني بالأثر- ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ أي: مرسلو الكتاب).
كأنها لا تريد القتال، تقول: لو قاتلناهم فإن الغلبة عليهم بعيدة، ستكون الغلبة لهم، وحينئذٍ يدخلون قُرانا، والملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها؛ لأن عندهم من العلو والغلبة والاستكبار ما يوجب أن يخسفوا بأهل البلد التي يدخلونها.
وليس المراد هنا بالإفساد الإفساد المعنوي؛ يعني بإفساد الأخلاق مثلًا، المراد ما أشار إليه المؤلف: الإفساد (بالتخريب).
وجاء دور الجمهوريين، فإذا أشد وأعظم؛ لأنهم أقل حياءً من الملوك، لا لهم أصل تجد الإنسان ينتخب وهو من الشارع ليس من الملأ ولا من أشراف الناس، فيأتي وغالبهم ليس عنده دين ولا مروءة فيفسدون أكثر مما يفسد هؤلاء كما هو مشاهد في تخريب الروس وغيرهم في البلاد التي يدخلونها.
يقول: ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ بأي شيء بالأسر يأسرونهم ويسترقونهم أو يستخدمونهم بدون أسر، ولا استرقاق، وهذا من أبلغ ما يكون من الذلّة.
وقولها: ﴿أَعِزَّةَ أَهْلِهَا﴾ سواء كانت هذه العزة تعود إلى الملك أو تعود إلى الجاه والشرف أو إلى العلم أحيانًا فإنهم يسلطون على الأعزة؛ لأن لهم الكلمة فيما سبق، فهم الذين دبّروا هذه الحروب، ثم هزموا فتكون رحى الحرب عليهم.
قال: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ هل هذا من كلام الله سبحانه وتعالى تصديقًا لقولها أو هو من كلامها تقريرًا له؟
وتكون بالأول ذكرت قاعدة عامة، ثم أشارت إلى ما تتوقعه من سليمان فقالت: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ أي: كذلك يفعل هؤلاء الذين أرسلوا بالكتاب.
* طلبة: إيه العلاقة بأنه كلامها؟
* الشيخ: المؤلف يرى أنه من كلامها، ويكون ذلك تقريرًا للقاعدة التي ذكرتها: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾؛ لأن هذا عام.
ثم قالت: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ تقريرًا لهذه القاعدة وتطبيقًا لها على حال سليمان وجنوده، أما إذا قلنا بأنه من كلام الله عز وجل، فتكون الجملة مستأنفة؛ أي: أن الله يقرر ما قالته بأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.
وقولها: ﴿كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ كيف جاءت بصيغة الجمع مع أن الكتاب ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾؟
لأنها عرفت أن سليمان ملك، والملك لا بد له من أتباع وجنود وأعوان؛ فلهذا قالت: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.
وإعراب ﴿كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾، وما أكثر ما تأتي في القرآن ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾. وما أشبه يعني يأتي في القرآن كثيرًا ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد ١٧].
يقولون: إن الكاف هنا: بمعنى (مثل)، وأنها تقع في محل نصب مفعولًا مطلقًا مضافًا إلى اسم الإشارة؛ أي: ومثل ذلك الفعل يفعلون، في هذا تقدير الآية اللي عندنا مثل ذلك الفعل يفعلون.
﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: ومثل ذلك الضرب يضرب الله الأمثال، فصارت الكاف هنا اسم بمعنى (مثل) في محل نصب على أنها مفعول إيش؟ مطلق مضافًا إلى اسم الإشارة؛ أي: ومثل ذلك الفعل الذي ذكرت يفعلون، ومعلوم إذا قلنا: إنه مفعول مطلق، فإن المشار إليه يكون مصدرًا مناسبًا لسياق الآية.
﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ [الصافات ٣٤]، نقول: أي: مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين. ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ أي: مثل ذلك الضرب يضرب الله الأمثال، وعلى هذا فقيسوا، ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ [النمل ٣٥]، هذه المرأة ذكية لما جاءها الكتاب قالت: أبغي أمتحن الرجل، أبغي أرسل إليه هدية، فإن كان رجلًا يريد الدنيا كفته الهدية، وترك الحروب والقتال، وإن كان رجلًا يريد أمرًا آخر فإنه سيرد الهدية، وهذا بلا شك من الاختبار الذكي.
قالت: ﴿إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾، وطبعًا هي كما قلنا: قبل قليل هي ما رضيت ما أشار به الملأ؛ لأن الملأ أشاروا عليها بالحرب والقتال، وذلك بإبداء ما عندهم من القوة والبأس الشديد، ولكنها لم ترد، هذا فأرادت أن تمتحن سليمان.
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ﴾ ولم تقل إليه؛ لأنه -كما قلنا- ملك له جنود وأعوان وحواشي.
﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ (ناظرة) ليست من الانتظار، وإن كانت محتملة أن تكون من الانتظار؛ أي: فمنتظرة، ولكنها من النظر، يعني أنظر بعد إرسال هدية بما يرجع المرسلون، من هم المرسلون؟ رسولها بالهدية، وفي هذا إشارة إلى أن هذه الهدية كبيرة وعظيمة؛ لأنها لم ترسل بها واحدًا، وإنما أرسلت بها جماعة وأقل الجمع؟
* طلبة: ثلاثة.
* الشيخ: أقل الجمع ثلاثة.
﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ أي: بأي شيء يرجعون به.
و﴿بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ متعلقة بـ(ناظرة)، ولَّا متعلقة بـ(يرجع)؟
* طالب: بناظرة.
* الشيخ: بناظرة، وما رأيكم أنتم موافقون له؟ (ما) هنا ما هي استفهامية. ﴿بِمَ يَرْجِعُ﴾ (ما) استفهامية ولَّا موصولة؟
* طلبة: موصولة.
* الشيخ: موصولة؟ لا، استفهامية؛ لأن الموصولة تبقى ألفه مع حرف الجر، والاستفهامية تحذف ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ ١].
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ عشان ما فيها ألف، كذا؟ لكن لو تقول: هو مسؤول عما قال، تكون ألف ولا ما تكون؟
* طالب: تكون.
* الشيخ: تكون.
﴿بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة ١٠٥]، شوف ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ تبقى الألف ﴿بِمَ يَرْجِعُ﴾ تحذف الألف.
فـ(ما) الاستفهامية إذا سبقها حرف جر تُحذف ألفها.
* طالب: فيها لغتان؟
* الشيخ: على ما يرجع، لا ما فيها لغتان، ولهذا نقول: ﴿بِمَ يَرْجِعُ﴾ الجار والمجرور متعلّق بـ﴿يَرْجِعُ﴾، ولا يصح أن يكون متعلقًا بـ﴿نَاظِرَةٌ﴾ بناءً على القاعدة المشهورة عند النحويين: وهي أن اسم الاستفهام له الصدارة، بل الاستفهام كله سواء كان اسمًا أو حرفًا له الصدارة، وإذا كان له الصدارة لم يعمل ما قبله فيه؛ لأنه لو عمل ما قبله فيه ما كان له الصدارة، لكانت الصدارة لأي شيء؟
* طلبة: (...).
* الشيخ: للعامل الذي قبله، وعليه فنقول: ﴿بِمَ يَرْجِعُ﴾ الجار والمجرور متعلّق بـ﴿يَرْجِعُ﴾، وتكون الجملة إذن معلّقة عن العمل عن عمل. ﴿نَاظِرَةٌ﴾ معلقة لها عن العمل فهي في محل نصب.
(﴿بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ من قبول الهدية أو ردها إن كان ملكًا قبلها أو نبيًّا لم يقبلها).
كون المؤلف يحيل قبول الهدية وعدمها على أنه إن كان مَلِكًا قَبِل وإن كان نبيًّا لم يَقْبل، هذا لا دليل عليه، ولكن نقول: إنه إذا كان يريد القتال فإنه؟
* طالب: لن يقبل.
* الشيخ: لا، إذا كان يريد القتال فهو يقبل الهدية؛ يعني إذا كان هذا الرجل عنده طمع مادي فقط فإنه يقبل الهدية؛ لأن القتال ما يعلم هل تكون العاقبة له أم لا، والهدية غنيمة حاضرة فيقبلها ويدع المشكوك فيه، وإذا كان لا يريد الدنيا، وإنما يريد أمرًا آخر، وهو الدعوة للإسلام وكونهم مسلمين كما قال في الأول: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، فإنه حينئذٍ لن يقبل الهدية؛ لأن الذي يدعو إلى الله وإلى الإسلام لا يمكن أن يقبل هدية على حساب ما دعا إليه أبدًا، وأما مسألة النبوة وعدمها فالله أعلم بهذا، ما نجزم بما قال المؤلف، بل نقول: إنها تريد أن تختبره إذا كان يريد دنيا؛ فالهدية تمنعه من قتالها، وإذا كان لا يريد دنيا وإنما يريد أن يسلموا فالهدية ما تمنعه.
(فأرسلت خدمًا ذكورًا وإناثًا) الآن يبين المؤلف الهدية (خدمًا ذكورًا وإناثًا ألفًا بالسوية، وخمس مئة لبنة من الذهب، وتاجًا مكللًا بالجواهر، ومسكًا وعنبرًا، وغير ذلك مع رسولٍ بكتاب) التعيين هذا لا دليل عليه، ولهذا نقول: إنها هدية كبيرة بلا شك، ويدل على كبرها أن الذين أرسلوا بها جماعة، أما تعيينها بهذا الأمر فهذا لا نجزم به، فإن كان واردًا عن بني إسرائيل فإنه من الأخبار التي لا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب.
(فأسرع الهدهد إلى سليمان يخبره الخبر)؛ لأن سليمان قال له: ﴿أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾، أو لا؟ والظاهر أن الهدهد بقي حتى استقر أمرهم على شيء وقد استقر على إرسال الهدية.
يقول: (فأسرع الهدهد إلى سليمان يخبره الخبر فأمر -أي سليمان- أن تضرب لبنات الذهب والفضة، وأن تبسط من موضعه إلى تسعة فراسخ ميدانًا، وأن يبنوا حوله حائطًا مشرفًا من الذهب والفضة، وأن يؤتى بأحسن دواب البر والبحر مع أولاد الجن عن يمين الميدان وشماله).
* طلبة: هذا أشد من الأول.
* الشيخ: إي نعم، كل هذه ما عليها دليل، كل هذه الأشياء التي ذكر المؤلف ما عليها دليل؛ فهي من الغرائب يعني أن تطوف على المؤلف ويأتي بها.
* طالب: صعب.
* الشيخ: مع أنه مختصر، مع العلم بأنه ما في الآية دليل لهذه المسألة أبدًا أنهم يجعلون الذهب والفضة تبسط من مكانه إلى تسعة فراسخ، كم سَعَة تسعة فراسخ بالميل؟ ثلاثة في تسعة؟
* طلبة: سبعة وعشرون.
* الشيخ: سبعة وعشرون ميلًا.
* طالب: والميل: كيلو ونصف.
* الشيخ: والميل: كيلو ونصف.
* * *
(﴿فَلَمَّا جَاءَ﴾ الرسول بالهدية ومعه أتباعه ﴿سُلَيْمَانَ﴾ ) بالنصب، وجاء بمعنى أتى.
﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾.
المؤلف قال: (ومعه أتباعه)، والمرأة تقول: ﴿بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾، وسليمان يقول: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ (أتمدون) جمع فهو يخاطب جمعًا، والآتي واحد، والمرأة تقول: ترسل جماعة، فكيف نجمع بين هذه الأشياء؟ كلام المرأة يدل على أنها أرسلت جماعة.
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ﴾ يدل على أن الجائي واحد، وقول سليمان: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ يدل على أن المخاطب جماعة، والجمع بين هذا بسيط جدًّا، يكون هؤلاء الجماعة لهم رأي، والذي خاطب سليمان وقدّم هديةً هو الرئيس ومعه جماعته، فصار الذي تقدم إلى سليمان بالهدية واحدًا مع جماعته، ولهذا يقول المؤلف: (ومعه أتباعه).
* طالب: يا شيخ، لو جاء المرسل إليه؟
* الشيخ: لا؛ لأن ما ذكر الفاعل.
* الطالب: ما ذكر الفاعل دليل.
* الشيخ: إذا لم يذكر الفاعل فهو مستتر، ومعلوم أن (جاء) مفرد، لو كان المراد الجماعة لقال: فلما جاؤوا سليمان.
* طالب: ذكر الفاعل بما قبله.
* الشيخ: ما يصح هذه، (جاء) للمفرد الواحد، (جاء) للواحد ما فيها إشكال.
* طالب: لو الرسول؛ مثل ما يقول: لو جاء خالد جاء الرسول يجوز (...)؟
* الشيخ: لا، هو الأصل أنه واحد.
﴿قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ الياء هنا حُذفت لأيِّ شيء؟ حذفت للتخفيف، كما حذفت أيضًا للتخفيف في قوله تعالى فيما سبق: ﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾.
والاستفهام في قوله: ﴿أَتُمِدُّونَنِ﴾ للإنكار والتعجيب، يعني كيف تمدونني بمال وأنا عندي من المال ما ليس عندكم.
ولهذا قال: (﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ﴾ من النبوة والملك ﴿خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ من الدنيا)، وكذلك من المال؛ لأن عند سليمان من المال ما ليس عند هذه المرأة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده.
فالاستفهام في قوله: ﴿أَتُمِدُّونَنِ﴾ للتوبيخ والتعجيب، يعني: كيف تمدونني بمال! -وهو هذه الهدايا-
﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ﴾ من المال والملك والنبوة وغير ذلك مِن كل ما آتاه اللهُ ﴿خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾.
﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ يعني أنني لا أفرح بالهدية، ولا تهمني الهدية، ولكنكم أنتم الذين تفرحون بها وتفخرون بها.
هل المعنى تفرحون إذا أهدي إليكم أو تفرحون إذا أهديتم، وترون لكم فضلًا على المهدى إليه؟
* طالب: كل محتمل.
* الشيخ: نعم، كل محتمل، لكن الظاهر -والله أعلم- أنه يريد الأول؛ بمعنى أنه أنتم الذين تفرحون بالهدية، وتقع منكم موقعًا، تكثر عزيمتكم، وتوجب أن تعدلوا عما أنتم عليه، أما أنا فلا تهمني الهدية.
* طالب: ما قال: بهديَّتنا، بل: ﴿بِهَدِيَّتِكُمْ﴾.
* الشيخ: أي: إذا جاء إليكم؛ لأن (هدية) مصدر يجوز أن يضاف إلى الفاعل، ويجوز أن يضاف إلى المفعول ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾، والاحتمال الثاني: أن يكون بإهدائكم إلينا.
﴿تَفْرَحُونَ﴾ تفخرون؛ يعني أنكم تفخرون بها، ولكن المعنى الأول أليق بالسياق.
(﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ بما أتيت من الهدية) الخطاب الآن للرسول، وهذا من تعبير الأساليب بفائدة؛ لأن الذين حملوا الهدية هم الجماعة جميعًا فناسب أن يخاطبهم جميعًا بأنهم حملوا هذه الهدية، وهنا لما أراد أن يحملهم الإبلاغ، فإن تحميل الإبلاغ للجماعة تضيع فيه المسؤولية، حمَّل الإبلاغ من؟ رئيسهم فقط؛ لأنك إذا وصيت جماعة مثلًا لشخص من الناس ضاعت المسؤولية، وصار كل واحد منهم يتكئ على الآخر، فلا يحصل الإبلاغ، لكن إذا حملتها واحدًا حينئذٍ يتحمل ويؤدي، ولهذا حمَّل الرئيس فقال: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾؛ يعني إلى جماعتك الذين أرسلوك بما أتيت من الهدية.
(﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ﴾ لا طاقة ﴿لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا﴾ من بلدهم سبأ سميت باسم أبي قبيلتهم ﴿أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي: إن لم يأتوني مسلمين).
هكذا القوة؛ لأنه لا يريد المال، ولا يريد الدنيا وإلا لخضع وقنع لهذه الهدية الكبيرة التي أُرسل بها جماعة، لكنه لا يريد ذلك فخاطبهم بهذه العبارات القوية ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ﴾ واللام؟
* طالب: للقسم.
* الشيخ: موطِّئة للقسم، والنون ﴿نَأْتِيَنَّهُمْ﴾ النون للتوكيد، فعلى هذا فالجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات؛ القسم، واللام، والنون، ثم فيها من التعظيم.
﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ﴾ ولم يقل (فلآتينهم)؛ لأن هذا أبلغ في الهيبة سواء أراد تعظيم نفسه أو أراد بذلك آتيهم بجنود.
وقوله: ﴿لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ فيه استصغار هؤلاء الجماعة الذين أرسلوا بهذه الهدية، فهُم استصغرهم في الناحية المالية في قوله: ﴿مَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾.
ومن الناحية العسكرية في قوله: ﴿لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ لا طاقة لهم بها؛ لأن عنده من الجنود الجن والإنس بل والطير أيضًا، ما لهم طاقة بهذا الشيء، أيضًا: ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً﴾ نحتل بلادهم ونخرجهم منها أذلة.
﴿وَهُمْ صَاغِرُون﴾ الفرق بين الأذلة والصغار؛ الذل: في النفس، والصغار: في البدن، يعني يكون مستسلمًا ظاهرًا وباطنًا، مستسلمًا ظاهرًا بالصغار، ومستسلمًا باطنًا بالذل.
قال الله تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى ٤٥]، الخشوع بمعنى الصغار، والذل هو ذل النفس، والعياذ بالله.
وهذا دليل على أن سليمان عليه الصلاة والسلام عنده من قوة العزيمة وقوة السلطان ما استطاع أن يعبر بهذا التعبير لهؤلاء الذين أهدوا له هذه الهدية.
فإذا قال قائل: كيف يليق بسليمان عليه الصلاة والسلام أن يقابل جماعة أهدوا له هدية بهذا الأسلوب العنيف؟
الجواب: ظاهر في هذا، لأنه؟
* طالب: (...).
* الشيخ: أيهم؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: نعم، ما يخالف، ما قبل الهدية، لكن لماذا لم يجب بأسلوب لطيف ليس بعنيف؟
* طالب: إذا قاتلوه فهو لا يريد قتالًا، إنما يريد دخولهم في الإسلام فقط، إذا أجابهم بعنف خافوا ودخلوا دين الله تبارك وتعالى.
* الشيخ: إي نعم، نقول: الجواب على هذا أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يظهر لهم قوته، وأنه لا يهتم بشأنهم، ثم إن اختبارهم له مع أنه قال: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ اختبارهم له يدل على شك في دعوته، هو دعاهم إلى الإسلام، وهم شكوا في ذلك بإرسال الهدية، وظنوا أنه يريد دنيا، فيكونون هم الذين بدؤوا بالإساءة إليه حيث أرسلوا له هدية يختبرونه بها فكان رده هذا مناسبًا.
(فلما رجع إليها الرسول بالهدية جعلت سريرها داخل سبعة أبواب داخل قصرها وقصرها داخل سبعة قصور)؟
* طالب: لم يرد دليل.
* الشيخ: إي، عظيم. (وأغلقت الأبواب وجعلت عليها حرسًا، وتجهزت للمسير إلى سليمان لتنظر ما يأمرها به، فارتحلت في اثني عشر ألف فيل مع كل فيل ألوف كثيرة إلى أن قربت منه على فرسخ شعر بها قال: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا﴾ ).
غريب ما أدري منين يجيب المؤلف (...) هذه؟!
* طالب: عندنا يا شيخ: (اثني عشر ألف قيل، مع كل قيل).
* الشيخ: لا، اثني عشر ألف فيل.
* الطالب: يعني: قيل (...).
* الشيخ: حتى عندنا أنا عندي قيل، لكن ما هو بصحيح، (اثني عشر ألف فيل) الأفيال يمكن كثيرة في اليمن، ولهذا صاحب الفيل اللي أراد يهدم الكعبة جاء بفيل.
يقول: (مع كل فيل ألوف كثيرة) من الناس اثنا عشر ألفًا، ومع كل فيل ألوف كثيرة يعني عالم.
(إلى أن قربت منه على فرسخ شعر بها قال: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا﴾ ) إلى آخره.
الاقتصار على القصص التي في القرآن هو اللائق بالمصحف إلا ما صح عن النبي ﷺ، وذلك لأن الله يقول: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم ٩]، فعلم هذه الأمم إلى الله سبحانه وتعالى، فاللائق بنا ألا نتجاوز ما جاء به القرآن.
على أن كرم كل شيء بحسبه، فالكرم بالمال معناه: بذله بسخاء، والكرم أيضًا بالمال يطلق على الجيد منه، كما قال النبي ﷺ: «وَاتَّقِ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» أو «إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٩٦)، ومسلم (١٩/ ٣١) من حديث ابن عباس.]]، وكذلك أيضًا يُوصَف ما يتضمن الشيء المهم؛ يوصف بالكرم لما في هذا الوصف في كتاب سليمان عليه الصلاة والسلام.
* وفيه دليل على أن الأولى أن يبدأ الكاتب باسمه فيقول: من فلان، قبل أن يبدأ باسم المرسَل إليه أو المكتوب إليه. وهل هذا من باب التعبد أو من باب العادة؟
* طالب: من باب العادة.
* الشيخ: الظاهر أنه من باب العادة، ولكن مع ذلك العادة التي كان عليها السلف أولى من العادة التي اعتادها الناس اليوم، اعتاد الناس اليوم أنهم يبدءون بالمكتوب إليه: إلى فلان بن فلان، ولكن العادة الأُولى أَولى؛ لأن الإنسان إذا قرأ كتابًا يقرؤه من أوله، فإذا قرأ: من فلان، عرف الآن ما هذا وما قيمة الكتاب، قبل أن يقرأه كله.
ثم إن الترتيب الطبيعي يقتضي هذا؛ لأن الكتاب واردٌ من إلى، ولّا لا؟ فيقتضي أن يبدأ بالوارد منه قبل الوارد إليه.
فإذن نقول: الأولى أن يبدأ الإنسان باسمه إذا أرسل كتابًا إلى أحد؛ لأن هذه السنة المتّبَعة.
هل يؤخذ من هذا الكتاب أنه لا يحتاج إلى ذكر المكتوب إليه؛ لأنه قال: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ [النمل ٣٠]، ولا قال: إلى ملكة سبأ؟
* طالب: قد يكون ذكر.
* الشيخ: لكن اللي أمامنا الآن.
* طالب: (...).
* الشيخ: يحتمل هذا، أو نقول: إنه إذا دل الدليل على المكتوب إليه فلا حاجة إلى ذكره، مثلًا إذا أرسلت هذا الكتاب إلى شخص، ولا سيما في مثل قصة سليمان، أنه جاء به هذا الطائر إلى صاحبه، فهنا احتمال أن يصل الكتاب إلى غير المكتوب إليه ضعيف.
والمقصود ببيان المكتوب إليه المقصود به؟ أن يتعين ويصل إليه، وهنا إذا جاء الكتاب على هذا الوجه، فإنه يحصل به أكبر تعيين، فنقول: إنه لا حاجة إلى ذكره إذا كان الأمر يحصل بدونه، ولكن مع هذا ذكره أولى، لا سيما إذا كان يترتب عليه شيءٌ في المستقبل، فإنه إذا فرضنا أن صاحبه الذي أُرسل إليه عُلم وأخذه، لكن في المستقبل ما ندري لمن وجّه له هذا الخطاب، فذكره بلا شك أولى.
* وفي هذا دليل على استحباب البداءة ببسم الله الرحمن الرحيم في أول الرسائل؛ لقوله: ﴿وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* وفيه دليلٌ على استعمال الإيجاز إذا لم يكن فيه تقصير؛ لأن هذا الكتاب الذي كتبه سليمان في غاية ما يكون من الإيجاز؛ جملتان فقط ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل ٣١] ولكن بشرط ألا يكون الإيجاز مخلًّا بالمقصود، فإن كان مخلًّا بالمقصود صار تقصيرًا.
* وفيه دليلٌ على أن سليمان عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يريد التملك والسيطرة، وإنما يريد بذلك الدخول في الإسلام؛ لأن الهدهد لما أخبره أنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، فهذا كفر، فلا بد أن يخرجوا منه إلى الإسلام؛ لقوله: ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾.
* وفيه أيضًا دليل على قوة سليمان عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لم يقل: وأسلموا، بل قال: ائتوني مسلمين. فطلب منهم أن يأتوا إليه وهم على إسلام.
وهل المراد أن يأتوا جميعًا؟ لا، المراد أعيانهم وأشرافهم؛ لأن الأعيان والأشراف يقومون مقام العامة.
* وفيه دليلٌ على استحباب المشاورة في الأمور العامة؛ لقولها: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾ [النمل ٣٢]، فهي مع أنها ملكة ولها تمام السلطة، مع ذلك لم تستغن عن المشاورة ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾.
* وفيه دليل على حزم هذه المرأة، وأنها تريد أن تكون سياستها مبنية على المسؤولية على الجميع؛ لقولها: ﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾، وحينئذ لو حصل خلاف المقصود لم يكن عليها لوم، ما دامت تُشهد هؤلاء وتبين لهم.
* وفيه أيضًا دليل على أنه يجوز للمستشير أن يخالف المستشار إذا لم يرَ أنه مصيب في مشورته؛ لأنهم لما ذكروا ما يدل على أنهم يريدون قتاله وهي لا تراه خالفته، ولّا لا؟ فإنها قالت: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ [النمل ٣٤] إلى آخره.
* وفيه دليل على مكانة هذه المرأة من قومها؛ لأنها بعد أن استشارتهم وأبدوا رأيهم تأدبوا معها وقالوا: ﴿الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل ٣٣]، فهل يؤخذ من ذلك أيضًا أنه إذا قدّم المستشار مشورته لإنسان كبير أكبر منه قدرًا، أو فهمًا، أو علمًا، أن له أن يقول مثل هذا؟ نعم. يقول مثل هذا تأدبًا، وصاحبه بالخيار؛ إن شاء أخذ بمشورته، وإن شاء لم يأخذ.
* وفيه دليل على حزم هذه المرأة أيضًا من جهة أنها نظرت في العواقب ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾. وهكذا ينبغي للعاقل ألا يحكم على الأمور ببوادرها وظواهرها، وإنما يحكم على الأمور بعواقبها؛ فإن الشيء قد تكون بوادره وظواهره مفيدة في نظر الإنسان، ولكنه عند التأمل يكون الأمر بالعكس، لكن هل الأولى المبادرة أو التأني؟
في الأصل التأني أولى؛ لأن الإنسان إذا تأنى ما يندم ما فعل شيئًا، لكن إذا تسرّع فهو الذي يكون عرضة للندم، وكم من كلمة قال الإنسان: ليتني لم أقلها، وكم من فعل قال: ليتني لم أفعله.
ولكن مع هذا ينبغي استعمال الحزم في الأمور، لا يتأنى تأنيًا يطيل المقصود، ولا يتسرع تسرعًا يحصل به الندم، وأظن أني أنشدتكم بيتين في هذا المعنى، تحفظونهما؟
* طالب: في الحزم؟
* الشيخ: لا، في أنه قد يكون التسرع أولى وقد يكون التأني أولى.
* طالب: (...)
* الشيخ:
؎قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ∗∗∗ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ؎وَرُبَّمَا فَـــاتَ قَوْمًا جُــلُّأَمْرِهِـــــــــــمُ ∗∗∗ مَعَ التَّأَنِّي وَكَانَ الرَّأْيَ لَوْعَجِلُـوا
نعم وهذا صحيحٌ وواقعٌ، الأوَّل:
؎قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ∗∗∗ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِالزَّلَلُ
المهم أننا نقول: إذا دار الأمر بين الإسراع والتأني، ولم يترجح الإسراع عليه فالأولى التأني؛ لأن الإنسان يكون الأمر بيده ما دام لم يحدث شيئًا، لكن إذا أحدث شيئًا فاته الأمر ولم يتمكن من التخلص منه.
* طالب: يؤخذ من الآية؟
* الشيخ: إي نعم.
* طالب: كيف؟
* الشيخ: يؤخذ من الآية؛ لأنها ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ [النمل ٣٤] فهي نظرت في العواقب، والنظر في العواقب يستدعي إما التسرع وإما التأني، قد يكون مثلًا يرى الإنسان الرائي أنه إذا لم يُسرع فات المقصود، فيسرع أو إذا أسرع حصل الخلل فيتأنى، فهو مأخوذٌ من قولها: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ [النمل ٣٤].
* وفيها أيضًا: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل ٣٥].
* يستفاد من هذه الآية أولًا: ذكاء هذه المرأة وحنكتها.
* ثانيًا، يستفاد من ذلك: جواز الاختبار والامتحان، وأن ذلك لا يُعد خديعة، إذا أراد الإنسان أن يمتحن غيره بشيء من الأشياء ما يُعد هذا خديعة؛ لأنه يريد أن يستظهر به حاله، وهذا لا مانع منه.
* وفي الآية أيضًا الفائدة الثالثة وهي: العمل بالقرائن؛ لأنها أرادت أن ترسل هذه الهدية لتختبر مراد سليمان، هل يريد المال فقط، هل تكفيه هذه الهدية، أو يريد أنهم يسلمون فلا تنفع فيه هذه الهدية، ولا يكف عن طلبه الأول وهو ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل ٣١].
ففيها إذن ثلاث فوائد، وهل ورد مثل ذلك؟ نعم. في قصة سليمان في المرأتين اللتين احتكمتا إليه في ابن إحداهما، خرجت امرأتان إلى خارج البلد ومع كل واحدة لهما ابن، فأكل الذئب ابن الكبرى، فاحتكمتا إلى داود عليه الصلاة والسلام، فقضى بالابن الموجود لمن؟ للكبرى؛ بناءً على أن الصغرى يمكنها أن تلد فيما بعد، ولكنه لما تحاكمتا إلى سليمان عليه الصلاة والسلام قال: ليس هذا الحكم، الحكم أنا نأتي بالسكين ونشق الولد نصفين ويكون للكبيرة نصف وللصغيرة نصف، الكبيرة وافقت على أن يشق نصفين، ليش؟ ليس ولدًا لها، وتقول: مثلما تلف ابني يتلف ابنها، وأما الصغيرة فقالت: لا يا نبي الله، الولد.. فعلم بذلك أن الولد للصغرى، فحكم به لها[[متفق عليه؛ البخاري (٣٤٢٧)، ومسلم (١٧٢٠/٢٠) من حديث أبي هريرة.]]، فهذا من باب الاستظهار للحق بالقرائن، ولا مانع من ذلك، وقد كان القضاة يفعلونه.
فهذه المسألة -إرسال الهدية إلى سليمان عليه الصلاة والسلام- من هذا النوع؛ ليستظهر به حاله فيُعمل بالقرينة.
* طالب: (...) يؤخذ من فعلها.
* الشيخ: إي نعم؛ لأن هذا ما فيه مانع.
* طالب: ولو كانت كافرة؟
* الشيخ: ولو كانت كافرة؛ لأن الشيء إذا حكاه الله سبحانه وتعالى فقد قال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف ١١١] فإذا حكى الله تعالى عن كافر شيئًا ولم يرد إبطاله، فإنه على الأصل.
* الفائدة الرابعة من الآية: أن الهدية كانت كبيرة، من أين تؤخذ؟
* طالب: ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل ٣٥]
* الشيخ: ولا يُرسل جماعة بهدية إلا وهي كبيرة، وأيضًا ربما نقول مع كبرها: ثمينة؛ لأجل أن يدافع هؤلاء المرسلون عنها لو حاول أحدٌ أن يعتدي عليها، فيستفاد إذن عظم هذه الهدية كمية وكيفية، ولذلك احتاجت إلى أن ترسل بها جماعة.
وفي قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل ٣٦ - ٣٧].
* يستفاد من قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ﴾ أن من المستحسن أن يتقدم الرئيس -رئيس الوفد أو القوم- بالكلام أو بالفعل إذا كان مكلفًا بالفعل، المهم أن يكون المتقدم الرئيس؛ لأن تقدم الجميع دفعة واحدة غير لائق؛ لضياع المسؤولية، فلا بد أن يتقدم أحد، يتقدم واحدٌ، وكلما حُصر الأمر كان أقرب إلى الفهم وإلى حصول المقصود.
* وفيه أيضًا دليلٌ على توجيه الخطاب للجماعة، وإن كان المتقدم رئيسهم؛ لقوله: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ [النمل ٣٦].
* وفيه دليل على جواز الغلظة في القول إذا كانت المصلحة فيه؛ لأن هذا الأسلوب من سليمان عليه الصلاة والسلام أسلوب قوي؛ إذ إننا قلنا: إن الاستفهام في قوله: ﴿أَتُمِدُّونَنِ﴾ للتوبيخ والتعجيب، يعني أنه يوبخهم على فعلهم ويتعجب من فعلهم، كيف يمدونه بمال وهو ملك ومعروف ومشهور؟!
* وفيه دليل على جواز التحدث بنعمة الله.
* الفائدة الرابعة: أنه يجوز للإنسان أن يتحدث بنعمة الله؛ لقوله ﷺ: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾، ولكن هل يتحدث بهذه النعمة على سبيل الافتخار، وإلا على سبيل الافتقار والاستصغار؟ على حسب الحال، نرى أنه على حسب الحال.
فمع العدو يجوز أن يتحدث بها افتخارًا، ولذلك تجوز الخيلاء في الحرب، مع أن الخيلاء محرّمة ولّا لا؟ محرمة، من الكبائر، لكن في الحرب لإغارة العدو لا بأس بها، فسليمان عليه الصلاة والسلام تحدث هنا بنعمة الله افتخارًا فيما يظهر لي، افتخارًا على هؤلاء القوم، وهذا لا بأس به إذا كان أمام العدو، فأما إذا كان لإظهار النعمة فإنه لا يجوز إلا على سبيل الاستصغار والافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، لا على سبيل الافتخار والعلو على الخلق.
* الفائدة الخامسة: أنه يجوز للإنسان أن يصف غيره بما يبدو من حاله؛ لقوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾؛ إذ إن الفرح كما تعرفون أمر باطني، تظهر علاماته على ظاهر البدن، ولكنه في الأصل أمر باطني؛ لأن اللي يفرح ما يُسمع لفرحه صوت ولا يُرى له حركة، ولكن تظهر علاماته.
فلا بأس أن الإنسان يحكم على غيره بالقرائن لما يظهر من حاله، وقد مر عليكم كثيرًا مثل هذا الأمر، فقد قال الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان: «وَاللهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنِّي»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٣٦)، ومسلم (١١١١/ ٨١) من حديث أبي هريرة.]].
ومع هذا فإن هذا الرجل لم يطف بأبيات أهل المدينة ويفتشها حتى يعرف أن ما فيه أحد أفقر منه.
* وفيه أيضا دليل، الفائدة السادسة: دليلٌ على إظهار القوة للأعداء؛ لقوله: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ [النمل ٣٧]، وهذا داخلٌ في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال ٦٠] فإن (من قوة) نكرة تشمل كل ما يُمكن من القوى، سواءٌ كانت القوة قولية، أو مادية، أو معنوية، المهم أن جميع القوى في معاملة الأعداء ينبغي للمرء أن يستعملها، حتى إنه جاء في الحديث «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٠٢٩)، ومسلم (١٧٤٠/ ١٨) من حديث أبي هريرة.]].
لكن الخيانة هل تجوز ولّا ما تجوز؟
* طالب: لا تجوز.
* الشيخ: خيانة العدو ما تجوز، لا يجوز للإنسان أن يخون عدوه، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال ٥٨] ولا تخنهم، وكذلك إذا خانوا يكونون نقضوا العهد، وقد مر علينا أن هذه المسألة لها ثلاث حالات، المعاهدون لهم ثلاث حالات:
إما أن يستقيموا لنا ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة ٧].
وإما أن ينكثوا العهد، وحينئذ لا عهد ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْر﴾ ِ [التوبة: ١٢].
وإما ألا ينقضوا العهد وظاهرهم الاستقامة، لكن نخاف منهم الخيانة، فهنا ننبذ العهد إليهم، ونخبرهم بأننا قد أبطلنا العهد، حتى لو قالوا: سنبقى على العهد نقول: لا، نحن الآن كل منا حر.
هنا فيه قوة في الكلام ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ هذا التهديد والوعيد لا شك أنه مظهر قوة، فيكون داخلًا في قول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال ٦٠].
* طالب: كيف نجمع بين جواز خدع العدو وبين عدم جواز الخيانة؟
* الشيخ: إي نعم. الخيانة معناها: أنك تخدعه في مقام الأمانة، والخديعة تخدعه في غير مقام الأمانة، الحرب قائمة، وتحط كمينًا لهم مثلًا وما أشبه ذلك، تظهر مثلًا أن عندك كثرة عدد تخلي الناس مثلًا يترددون كما فعل القعقاع بن عمرو في حروبه مع الفرس وغير ذلك، فأنت الآن ما خنتهم؛ لأن ما بينك وبينهم عهد.
* طالب: بعض الصحابة (...) يخبره بأنه فلان يؤمّنه، ثم يقتله.
* الشيخ: ما يعتبر خيانة؛ لأن ذاك محارب، ما بينه وبينه عهد، ولهذا قال الرسول في قصة كعب بن الأشرف: «مَنْ لِي بِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٥١٠)، ومسلم (١٨٠١/ ١١٩) من حديث جابر بن عبد الله. ]].
* طالب: شيخ، النبي ﷺ فسّر القوة قال: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»[[أخرجه مسلم (١٩١٧/ ١٦٧) من حديث عقبة بن عامر.]] فهنا يكون القوة خاصة بالرمي؟
* الشيخ: إي نعم. الرسول عليه الصلاة والسلام وكذلك أيضًا ما يرد عن الصحابة في تفسير بعض الآيات يذكرون الشيء أحيانًا على سبيل التمثيل، والقوة في ذلك الوقت هي الرمي ولا تزال أيضًا، فإن الرمي الآن من أشد ما يكون من القوة، يعني هو أعلى أنواع القوة.
وسواء كان رمي الناس بالقوس فيما سبق، أو في البندقية أو في الصواريخ المهم أن الرمي في كل وقت تجد أنه هو ذروة القوة.
* طالب: (...).
* الشيخ: ما يكون هذا حصرًا، ولكن الرسول أراد أن يبيّن غاية القوة، فالقوة هذه هي الغاية في كل وقت.
* وفيه أيضًا دليل في قوله عليه الصلاة والسلام: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ على كثرة جنود سليمان؛ لأن هذه الملكة التي لها العقل العظيم، وعندها القوم المطيعون الذليلون لأوامرها يقول: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾، ولم يبيّن هذه الجنود، لكنه مر في أول القصة أن جنوده ثلاثة أصناف: الجن، والإنس، والطير. هذه كلها يمكن أن يسلطها عليهم، إذا سلّط الجن ما لهم قبل بها، ولئن سلّط الطيور تنقب عيونهم أيضًا لا قبل لهم بها.
فالحاصل أن الجنود التي لسليمان لا يمكن لهؤلاء أن يقابلوها، لا كمية ولا كيفية. فيه شيء بعد؟
* طالب: شيخ (...) إرسال الرسالة ينبغي (...) المرسل، طيب كيف كان (...) كان العمال يرسلون إلى أمير المؤمنين من عامل (...).
* الشيخ: وهذا يكون من باب التعجب والمبالغة، وإلا بلا شك أن الأول أولى، لكن مثلما قلت الآن، أنهم صارو يقولون: إلى فلان من فلان، ثم صاروا يقولون: إلى فلان ويأتون بالاسم في الآخر. يكون هذا من باب التعجب والإكرام مع الغير.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: ما أعرف هل هي (...) ولا أن الناس يقرؤونها تعبدًا، ولكن هذه من الأمور العادية مثلما قلنا غير عبادة.
* طالب: قبل التسمية أو بعدها، مع هذا، مع سليمان قبل التسمية؟
* الشيخ: لا، هي أخبرت ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ [النمل ٣٠] فهل كان سليمان كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان ألا تعلوا عليَّ وائتوني مسلمين؟ لأن هذا خبرٌ منها، ما هي تقرأ عليهم الخط الآن، يعني: ليست كالراوي كتاب حتى نقول: من سليمان بسم الله الرحمن الرحيم، ولهذا قالت: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ [النمل ٣٠ - ٣١]. حتى إننا أيضًا في أثناء التفسير (...) من أنها فهمت أنه من سليمان بغير هذا وإن لم يكتب.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: صحيح، الكافر ليس له حق في أرض الله ولا في مال الله، حتى المال ما له حق فيه.
* طالب: (...)
* الشيخ: إي نعم، وجه ذلك أنه لو لم يكن هكذا لكان تهديده بهذا الأمر محرمًا؛ إذ لا يجوز له أن يفعل هذا، لو كان لهم حق ما أجاز له أن يفعل ويخرجهم من أرضهم.
* طالب: شيخ، (...) قال: الصغار (...) فرق بين الذلة والصغار.
* الشيخ: لا ما يصير، (...) الذلة في النفس، والصغار في البدن.
* طالب: ﴿فلنأتينهم﴾ (...) على الجبرية.
* الشيخ: (...) يمكن يستدل بها، على أن الإنسان يفعل باختياره؛ لقوله: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ﴾ [النمل ٣٧].
{"ayahs_start":20,"ayahs":["وَتَفَقَّدَ ٱلطَّیۡرَ فَقَالَ مَا لِیَ لَاۤ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَاۤىِٕبِینَ","لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابࣰا شَدِیدًا أَوۡ لَأَا۟ذۡبَحَنَّهُۥۤ أَوۡ لَیَأۡتِیَنِّی بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ","فَمَكَثَ غَیۡرَ بَعِیدࣲ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإࣲ یَقِینٍ","إِنِّی وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةࣰ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِیَتۡ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِیمࣱ","وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا یَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِیلِ فَهُمۡ لَا یَهۡتَدُونَ","أَلَّا یَسۡجُدُوا۟ لِلَّهِ ٱلَّذِی یُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَیَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ","ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِیمِ ۩","۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ","ٱذۡهَب بِّكِتَـٰبِی هَـٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَیۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا یَرۡجِعُونَ","قَالَتۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمَلَؤُا۟ إِنِّیۤ أُلۡقِیَ إِلَیَّ كِتَـٰبࣱ كَرِیمٌ","إِنَّهُۥ مِن سُلَیۡمَـٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ","أَلَّا تَعۡلُوا۟ عَلَیَّ وَأۡتُونِی مُسۡلِمِینَ","قَالَتۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمَلَؤُا۟ أَفۡتُونِی فِیۤ أَمۡرِی مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ","قَالُوا۟ نَحۡنُ أُو۟لُوا۟ قُوَّةࣲ وَأُو۟لُوا۟ بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَیۡكِ فَٱنظُرِی مَاذَا تَأۡمُرِینَ","قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا۟ قَرۡیَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوۤا۟ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَاۤ أَذِلَّةࣰۚ وَكَذَ ٰلِكَ یَفۡعَلُونَ","وَإِنِّی مُرۡسِلَةٌ إِلَیۡهِم بِهَدِیَّةࣲ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ یَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ","فَلَمَّا جَاۤءَ سُلَیۡمَـٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالࣲ فَمَاۤ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَیۡرࣱ مِّمَّاۤ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِیَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ","ٱرۡجِعۡ إِلَیۡهِمۡ فَلَنَأۡتِیَنَّهُم بِجُنُودࣲ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَاۤ أَذِلَّةࣰ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ"],"ayah":"فَمَكَثَ غَیۡرَ بَعِیدࣲ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإࣲ یَقِینٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق